عادل عبد الله تهامي السيد علي - رؤية نقدية لقصة "الشمس تحترق أحيانا" الكاتب المغربي حسن أجبوه

القصة

"الشمس تحترق أحيانا"


وحيد أنت في هذا المكان النتن والمقفر، ولا أحد يراك .. تتلحف البرد والأرق، تعانق أربعة حيطان هجرتها أشعة الشمس.. تنتحب دون صوت، تذرف دموعا من مقل جاحظة.. تتمنى أن تسارع القوارض المنتشرة بالزنزانة بنهش لحمك.. فتأبى! رائحتك العفنة وجسمك النحيل تعافه الأنفس... كل من حولك يبغضك ويتمنى نفوقك...
أنت الابن المستهتر الذي قضى حياته مدللا بعد وفاة أبيه. عشت كطاووس نافخا ريشك، لا يرفض لك أمر.. الآن تتجرع مرارة النسيان فتأتيك صورتها محلقة لتطبطب على صدرك المتورم بهواء التبغ الرخيص المتراكم بين دفتيه.. تنبش صور الماضي وتتساءل:
-ماذا حدث ليلتها؟
أهو المخدر اللعين؟ أم تخاطر لقرينك الشيطاني؟
كل ما تتمناه اللحظة، هو رؤية قبرها و النوم الأبدي بقربها..
- لم أكن أنا من قتلها !
دموع التماسيح لن تنفعك في استعادتها، وقضاء ما تبقى لروحك الجانحة بين ذراعيها!
-- كان عليها تمكيني من الدراهم اللعينة، أنا... أنا فقط سحبتهم منها.. لكنها سقطت...

حسن أجبوه - المغرب


(الرأي)

العنوان لافت لما فيه من معنى يتناقض
مع الواقع فقد صاغ الكاتب العنوان كجملة إسمية :
الشمس : مبتدأ
تحترق أحيانا : جملة فعلية في محل رفع ( خبر ).
التناقض في طبيعة الشمس ؛ فهي مصدر الحرارة والضوء وبدونها يحل الظلام وتسود البرودة القاتلة ..!
يدخلنا هذا المعنى في كم لا حصر له من التساؤلات :
- ما هو المغزى الذي يرمي إليه الكاتب ؟!
- هل الشمس التي يقصدها الكاتب هي ذاتها التي نعرفها ؟!
- هل هو حلم يتكرر في منامه فيرى الشمس تأكل نفسها وتتلاشى؟!
- هل هو تعبير بلاغي يعبر عن شيء يمثل بالنسبة له ذات المكانة ؟!
المعنى يتشظى والكاتب بحرفيته يتركنا للتخمينات والتساؤلات كنوع من التشويق يمثل بداية الإبداع القصصي.

(الإستهلال)
بصيغة الخطاب وبضمير المخاطب (أنت)، مما يستدعي تساؤل جديد عن كنية المتحدث..!
يصور لنا الكاتب المكان بدقة:
هذا المكان النتن المقفر، لا أحد يراك
هذا : أداة إشارة للقريب مما يجعلنا نخمن تقارب المتحدثان ،ولكن الجملة التالية تزيد حيرتنا :
لا أحد يراك وتعيدنا للتساؤل من جديد:
وجودهما معا في ذات المكان النتن والمقفر فلماذا يوجه له الحديث بصورة التهكم ولا يقول: نحن ويخصه وحده بالمكان وضيقه ووصفه الذي تشمئز منه النفس..!
هل هو سجانه، أم زائره ..!
الحيرة تجعلنا نظل على حالنا في تشوق لمعرفة حقيقة الأمر. كنوع من التكثيف لحال المكان،وحال المخاطب يسترسل الكاتب في الوصف:
تتلحف البرد والأرق صيغة بلاغية مؤداها عدم وجود الغطاء الذي يقي الجسد وهو عنصر مادي محسوس وصف بشعور ينتابنا من إنخفاض درجة الحرار فنحتاج لما نتدسر به ليقينا البرودة، والجمال في الوصف أن الغطاء هو ذاته الموثر الذي نسعى لتحييده ..! والدسار الآخر معنوي (الأرق)، وهو عدم القدرة على النوم لوجود قضايا كثيرة تشغل عقلنا تصل في درجتها لمنع النوم بصورة كلية .. الوصف غاية في الجمال إلى جانب ظاهره فمضمونه يعبر عن القهر والمعاناة داخل مكان ضيق يفتقر لأسباب الحياة.

(بناء الشخصية)
تمت الإشارة إلى المعاناة التي يواجهها داخل الزنزانة او هكذا نتصور المكان من الوصف : مكان مغلق، نتن، جدرانه تهجرها الشمس، والبرد والأرق غطاءه ..!
شخصية مقهورة، حبيسة أربعة جدران لا تملك إرادتها.
الحالة النفسية غاية في السوء لدرجة البكاء الشديد، والرغبة في التخلص من الحياة وهي حالة يأس بلغت ذروتها. لدرجة تمني أن تأتي القوارض وما أكثرها لتأكل جسده.
(من يتحدث؟!)
يشغلنا ذلك الصوت الذي يوجه كلماته اللاذعة دون رحمة ومدى قربه والاستمرار في صيغة التخاطب بالمفرد ولا يتحدث بضمير المتكلمين( نحن ) إذا كان التواجد ، والحالة النفسية، والمكان والزمان يجمعهما ، هنا نستطيع أن نقر بأن النفس تحدث صاحبه ، وتلومه،وتجلده لأنه وضعها معه في هذا الموقف العصيب دون ذنب غير أنها خلقت معه ولا يستطيع هو أو هي الفكاك وترك الآخر يواجه مصيره .
(الحدث)
يشير الكاتب دون أن يصرح بجريمة كانت عقوبتها الزج به في زنزانة ؛لينتظر العقوبة المناسبة لما إقترفه من جرم ..!
ويبدو الإبداع في شعورنا بالحدث رغم أن الكاتب لازال يخفيه بمهارة فائقة، ولكننا على يقين بوجوده ..!
(تكثيف وتشويق)
يستمر الكاتب في حوار ابتدعه بين الشخص ونفسه ،خطاب في زمن الحاضر رغم أن الزمن في الماضي وهنا مهارة الدمج بين الحاضر والماضي وإمتزاجهما معا والكلمات المؤلمة تنهال تهكما وتوبيخا وعقابا حتى يفصح الكاتب عن السبب الذي ظل يخفيه طيلة السياق ..!

(الضحية )
خمنا أن الحدث جريمة وللجريمة عنصرين أحدهما الفاعل والآخر مفعول به (الضحية). تأتيك صورتها ؛ لتطبطب على صدرك المتورم .
وهو إستدعاء من الماضي بضمير الغائبة
(هي).
لغز آخر يصف الضحية بمشاعر الحنو والعطف.
العبارة السابقة تنعته بالإبن المدلل كالطاووس؛ فتفك شيفرة الضحية التدليل للطفل بعد وفاة أبيه تأتي من الأم ،شيء مرعب وقاسي أن تكون الضحية هي أمه ..!
(قاتل أمه لايستحق الحياة)
بكلماته الساحرة يجعل النفس تحاكم دون هوادة والشخص يخضع لحكمها يستدعي لحظة تنفيذ جريمته النكراء بندم وما يفيد الندم بعد أن فقد أعز الحبايب..!
يحاول تبرئة نفسه من العمد والقصد فقط أردت الدراهم، ولكنها سقطت موت خطأ لايعفيه من العقاب حتى لوفنده القاضي بهذا التوصيف فلن يسامح نفسه أبدا .

(الخاتمة)
أجاد الكاتب تصوير المحاكمة الذاتية ورأينا النفس قاضيا والشخص متهما والدفاع لايجد مبررا للدفاع عن متهم غاب عقله وغيبته المخدرات ففقد أعز ما يملك، فكان جلد الذات أقسى من العقوبة التي يسنها القانون، فماذا يفعل بالحياة بعد أن غابت نبع الحياة..!



عادل عبد الله تهامي السيد علي
مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...