بالرغم من اختلاف عصري كل من المفكرين الكبيرين (أوريليوس أوغسطين) قديس المسيحية، و (الغزالي) حجة الإسلام وزين لدين؛ فإن بين الرجلين تشابهاً يكاد يكون عجيباً. تشابهاً في الحياة الخاصة، وتشابهاً في الحياة العامة وفي التفكير والإبداع، حتى في الشخصية تكاد تلامس روحاً واحدة في جسمين مختلفين. عاش أحدهما وهو القديس (أوغسطين) في شمالي أفريقية بين سنة 354 وسنة 430 الميلاديتين. وعاش الثاني في بلاد الشرق الأدنى بين سنة 1058 وسنة 1111 الميلاديتين أيضاً وبين الرجلين كما ترى عدة مئات من السنين.
انتقل (أوغسطين) من حياة الشك إلى حياة اليقين، وانتقل حجة الإسلام (الغوالي) من عالم الشك إلى عالم اليقين كذلك، وكان القديس (أوغسطين) في آخر حياته صوفياً ناسكاً، وكان (الغزالي) في رأس قائمة متصوفي المسلمين. وقد درس (أوغسطين) الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان ومعارف عصره؛ ولكنه لم يجد في كل هذه الأمور لذة ولا سعادة، بل وجد لذته في القناعة والزهد والدين الحق، ووجد (الغزالي) نفس ذلك أيضاً.
لم ينحصر وجه التشابه في طراز معيشة كل من الرجلين العظيمين ولا في أسلوب الدراسة واختيار الدروس فقط، بل ظهر ذلك حتى في طريقة إبراز المعلومات من عالم الفكر إلى عالم الوجود. ألّف (أوغسطين) كتاباً مهماً سمَّاه (مملكة الله) ذاع خبره في جميع العالم المسيحي، وألفّ كتباً آخر سمّاه (العقائد) وألّف (الغزالي) عدة كتب في مواضيع تكاد تكون نفس المواضيع التي عالجها القديس (أوغسطين)، ومن جملة كتبه كتاب (المنقذ من الضلال)؛ وبكاد يكون هذا الكتاب نفس كتاب (العقائد) لأوغسطين في مضمونه واصطلاحاته وأغراضه التي من أجلها وضع هذا الكتاب.
وقد انتبه إلى هذا التشابه المستشرق فريك الذي قارن بين الكتابين وإذا بينهما تشابه عظيم في الترتيب والأسلوب والفصول والأدلة، بل حتى في بعض العبارات يكاد يكون عجيباً. وقد بحث هذا المستشرق عن نقاط الاختلاف الكائنة بين الكتابين أيضاً واحداً اتفقا في ك شيء عدا الزمن والديانة. وقد دل المستشرق بصورة خاصة على ناحية التصوف والزهد في حياة كل من الرجلين، وهي الناحية الحساسة التي أثرت على مزاج كل منهما، ومزاج كل من أوغسطين والغزالي واحد.
وهذا التشابه غريب في بابه حقاً إذ لم يكن الغزالي يعرف اللاتينية حتى نقول إنه اطلع على مؤلفات أوغسطين، ولم يرد في الرواية أيضاً أن أحداً من علماء المسلمين أو المترجمين كان قد ترجم كتاباً من كتب هذا القديس إلى العربية حتى نقول إن الغزالي اطلع على كتب القديس واقتبس منها. لم يقل بذلك أحد حتى المستشرقون إلى هذا اليوم.
يحدثنا البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام أن الغزالي كان كثيراً ما يورد كلام العالم الإسكندري الشهير يحيى النحوي
لاسيما في كتابه تهافت الفلاسفة حيث يقول البيهقي: (وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام رحمه الله في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي) ويذكر الشهير زوري في كتابه (نزهة الأرواح) أن الغزالي أخذ اأورده في التهافت من كتب يحيى النحوي وقد اشتهر يحيى النحوي هذا بردّه على الفيلسوف برقلس (410 - 485م) رئيس المدرسة الأفلاطونية الحديثة في أثينا وصاحب كتاب (مبادئ تعاليم اللاهوت)، وكتاب شرح محاورات أفلاطون في إبطال نظرية قدم العالم.
وهل يستطيع القارئ استنتاج شيء عن هذه الرواية؟ والظاهر منها أن الغزالي كان قد اطلع على كتب الفيلسوف يحيى النحوي وكتب هذا الأفلاطوني المتفلسف كما يقول ابن القفطي كثيرة.
تعالج مواضيع فلسفية متنوعة وتعالج مواضيع تخص الكنيسة والعقيدة وهو أحد رجالها فهل توصل الغزالي إلى آراء أوغسطين عرضاً بواسطة كتب يحيى النحوي؟ ولكن هل كانت آراء يحيى أو يوحنا النحوي هذا مستمدة من منبع آخر هو أوغسطين بالنقل دراية أو رواية أو بتشابه الفكرة وتوافق العقيدة فانتقلت هذه عرضاً أو دارية إلى الإمام الغزالي بالنقل أو بطريقة الاطلاع؟ لا أدري. وعلى كل فهنالك مشاكل علمية كثيرة لا يمكن للمؤرخ أن يجيب عنها أجوبة قاطعة أبداً.
وخلاصة ما يمكن قوله هو أن الحجتين تشابهاً عظيماً جداً يكاد يكون محيراً؛ وأن هذا التشابه هو الذي جعل لكتب الغزالي رواجاً عظيماً بين فلاسفة أوربا المدرسيين المسيحيين وشهرة كبيرة أثرت على آراء بعض علماء اللاتين مثل توماس الأكويني وباسكال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى يمكن أن نقول إنه كان حجة لدى المسيحيين كما كان حجة لدى المسلمين.
أدرك علماء من المسلمين هذا التشابه بين آراء الغزالي وبين آراء يحيى النحوي فقالوا بأن الغزالي كان يقرر ما كان يحيى قد سبقه به. وأدرك بعض المستشرقين ما بين كتاب (المنقذ من الضلال) وما بين كتاب أوغسطين (العقائد) من الاتصال فقالوا قولاً ل يجزموا أنفسهم بما قالوه جزماً. وأدرك المستشرقون أيضاً ما بين (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانته الشهير (1266 - 1321م) وما بين بعض القصص الإسلامية من الاتصال مثل قصة الإسراء. وقالوا إن دخول هذه العناصر إلى الكوميديا الدينية كان إما عن طريق مباشر وإنا عن طريق الأساطير الأوربية التي سبق عهدها عهد الكوميديا الإلهية. وتظهر هذه الروح الإسلامية في كثير من مواضع الكوميديا. وقد أيد بحث بعض المستشرقين أمثال سنوك هور كرونيه وإيتالو بيتزي هذا الرأي. وقد كتب العالم الشهير عن هذا الموضوع كتاباً خاصاً حلل فيه الكوميدية تحليلاً دقيقاً مظهراً أثر القصة العربية فيه.
وقال آخرون إن هذا التشابه أمر واقعي؛ ولكنه لا يعود إلى مصدر عربي أصلاً بل يعود سببه إلى التقارب الكائن فيما بين العقليتين الرومانية والعربية. بينما يرى إسن أن لرسالة الغفران للشاعر المتشائم أبي العلاء المعري، وهو شاعر فيلسوف يوافق تفكيره التفكير الغربي أثر لا ينكر على كوميدية دانته هذه. وهذا رأي ذهب إله مستشرقون آخرون وقد تعودنا سماعه، ولكنه يحتاج إلى بحث علمي دقيق لنرى وجه التشابه، وسبب هذا التقارب في الأفكار.
وعلى كل فهنا مثالان نسوقهما للقارئ من أمثلة كثيرة، ليرى إلى أي مدى يصل التشابه الفكري بين الناس أحياناً وهو موضوع مهم أكثر ما يسقط فيه المستشرقون. يحتاج إلى درس عميق ومقارنة بين العقليات البشرية، وخصوصاً فيما يطلق عليه (الأفكار البشرية العامة) وهي الأفكار التي تخطر على بال كل أحد وتمر على فكر كل إنسان.
جواد علي
مجلة الرسالة - العدد 447
بتاريخ: 26 - 01 - 1942
انتقل (أوغسطين) من حياة الشك إلى حياة اليقين، وانتقل حجة الإسلام (الغوالي) من عالم الشك إلى عالم اليقين كذلك، وكان القديس (أوغسطين) في آخر حياته صوفياً ناسكاً، وكان (الغزالي) في رأس قائمة متصوفي المسلمين. وقد درس (أوغسطين) الفلسفة والمنطق وعلوم اليونان ومعارف عصره؛ ولكنه لم يجد في كل هذه الأمور لذة ولا سعادة، بل وجد لذته في القناعة والزهد والدين الحق، ووجد (الغزالي) نفس ذلك أيضاً.
لم ينحصر وجه التشابه في طراز معيشة كل من الرجلين العظيمين ولا في أسلوب الدراسة واختيار الدروس فقط، بل ظهر ذلك حتى في طريقة إبراز المعلومات من عالم الفكر إلى عالم الوجود. ألّف (أوغسطين) كتاباً مهماً سمَّاه (مملكة الله) ذاع خبره في جميع العالم المسيحي، وألفّ كتباً آخر سمّاه (العقائد) وألّف (الغزالي) عدة كتب في مواضيع تكاد تكون نفس المواضيع التي عالجها القديس (أوغسطين)، ومن جملة كتبه كتاب (المنقذ من الضلال)؛ وبكاد يكون هذا الكتاب نفس كتاب (العقائد) لأوغسطين في مضمونه واصطلاحاته وأغراضه التي من أجلها وضع هذا الكتاب.
وقد انتبه إلى هذا التشابه المستشرق فريك الذي قارن بين الكتابين وإذا بينهما تشابه عظيم في الترتيب والأسلوب والفصول والأدلة، بل حتى في بعض العبارات يكاد يكون عجيباً. وقد بحث هذا المستشرق عن نقاط الاختلاف الكائنة بين الكتابين أيضاً واحداً اتفقا في ك شيء عدا الزمن والديانة. وقد دل المستشرق بصورة خاصة على ناحية التصوف والزهد في حياة كل من الرجلين، وهي الناحية الحساسة التي أثرت على مزاج كل منهما، ومزاج كل من أوغسطين والغزالي واحد.
وهذا التشابه غريب في بابه حقاً إذ لم يكن الغزالي يعرف اللاتينية حتى نقول إنه اطلع على مؤلفات أوغسطين، ولم يرد في الرواية أيضاً أن أحداً من علماء المسلمين أو المترجمين كان قد ترجم كتاباً من كتب هذا القديس إلى العربية حتى نقول إن الغزالي اطلع على كتب القديس واقتبس منها. لم يقل بذلك أحد حتى المستشرقون إلى هذا اليوم.
يحدثنا البيهقي في كتابه تاريخ حكماء الإسلام أن الغزالي كان كثيراً ما يورد كلام العالم الإسكندري الشهير يحيى النحوي
لاسيما في كتابه تهافت الفلاسفة حيث يقول البيهقي: (وأكثر ما أورده الإمام حجة الإسلام رحمه الله في تهافت الفلاسفة تقرير كلام يحيى النحوي) ويذكر الشهير زوري في كتابه (نزهة الأرواح) أن الغزالي أخذ اأورده في التهافت من كتب يحيى النحوي وقد اشتهر يحيى النحوي هذا بردّه على الفيلسوف برقلس (410 - 485م) رئيس المدرسة الأفلاطونية الحديثة في أثينا وصاحب كتاب (مبادئ تعاليم اللاهوت)، وكتاب شرح محاورات أفلاطون في إبطال نظرية قدم العالم.
وهل يستطيع القارئ استنتاج شيء عن هذه الرواية؟ والظاهر منها أن الغزالي كان قد اطلع على كتب الفيلسوف يحيى النحوي وكتب هذا الأفلاطوني المتفلسف كما يقول ابن القفطي كثيرة.
تعالج مواضيع فلسفية متنوعة وتعالج مواضيع تخص الكنيسة والعقيدة وهو أحد رجالها فهل توصل الغزالي إلى آراء أوغسطين عرضاً بواسطة كتب يحيى النحوي؟ ولكن هل كانت آراء يحيى أو يوحنا النحوي هذا مستمدة من منبع آخر هو أوغسطين بالنقل دراية أو رواية أو بتشابه الفكرة وتوافق العقيدة فانتقلت هذه عرضاً أو دارية إلى الإمام الغزالي بالنقل أو بطريقة الاطلاع؟ لا أدري. وعلى كل فهنالك مشاكل علمية كثيرة لا يمكن للمؤرخ أن يجيب عنها أجوبة قاطعة أبداً.
وخلاصة ما يمكن قوله هو أن الحجتين تشابهاً عظيماً جداً يكاد يكون محيراً؛ وأن هذا التشابه هو الذي جعل لكتب الغزالي رواجاً عظيماً بين فلاسفة أوربا المدرسيين المسيحيين وشهرة كبيرة أثرت على آراء بعض علماء اللاتين مثل توماس الأكويني وباسكال بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حتى يمكن أن نقول إنه كان حجة لدى المسيحيين كما كان حجة لدى المسلمين.
أدرك علماء من المسلمين هذا التشابه بين آراء الغزالي وبين آراء يحيى النحوي فقالوا بأن الغزالي كان يقرر ما كان يحيى قد سبقه به. وأدرك بعض المستشرقين ما بين كتاب (المنقذ من الضلال) وما بين كتاب أوغسطين (العقائد) من الاتصال فقالوا قولاً ل يجزموا أنفسهم بما قالوه جزماً. وأدرك المستشرقون أيضاً ما بين (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانته الشهير (1266 - 1321م) وما بين بعض القصص الإسلامية من الاتصال مثل قصة الإسراء. وقالوا إن دخول هذه العناصر إلى الكوميديا الدينية كان إما عن طريق مباشر وإنا عن طريق الأساطير الأوربية التي سبق عهدها عهد الكوميديا الإلهية. وتظهر هذه الروح الإسلامية في كثير من مواضع الكوميديا. وقد أيد بحث بعض المستشرقين أمثال سنوك هور كرونيه وإيتالو بيتزي هذا الرأي. وقد كتب العالم الشهير عن هذا الموضوع كتاباً خاصاً حلل فيه الكوميدية تحليلاً دقيقاً مظهراً أثر القصة العربية فيه.
وقال آخرون إن هذا التشابه أمر واقعي؛ ولكنه لا يعود إلى مصدر عربي أصلاً بل يعود سببه إلى التقارب الكائن فيما بين العقليتين الرومانية والعربية. بينما يرى إسن أن لرسالة الغفران للشاعر المتشائم أبي العلاء المعري، وهو شاعر فيلسوف يوافق تفكيره التفكير الغربي أثر لا ينكر على كوميدية دانته هذه. وهذا رأي ذهب إله مستشرقون آخرون وقد تعودنا سماعه، ولكنه يحتاج إلى بحث علمي دقيق لنرى وجه التشابه، وسبب هذا التقارب في الأفكار.
وعلى كل فهنا مثالان نسوقهما للقارئ من أمثلة كثيرة، ليرى إلى أي مدى يصل التشابه الفكري بين الناس أحياناً وهو موضوع مهم أكثر ما يسقط فيه المستشرقون. يحتاج إلى درس عميق ومقارنة بين العقليات البشرية، وخصوصاً فيما يطلق عليه (الأفكار البشرية العامة) وهي الأفكار التي تخطر على بال كل أحد وتمر على فكر كل إنسان.
جواد علي
مجلة الرسالة - العدد 447
بتاريخ: 26 - 01 - 1942