سعد محمود شبيب - فراقد السعد : شاعرة بسحنة قصيدة...

قد يجوزُ لنا القولُ إنّ للشاعر المتميِّز موضوعَهُ، وإنّ موضوعَ الشاعر هو البؤرةُ التي تنطلقُ منها مواضيعُ قصائده، أو بكلمة ٍثانية ٍ هو الهمُّ الأساسيُّ أو المحوريُّ الذي تتفرّعُ منه همومٌ كثيرةٌ ومتعدِّدة، بكثرة القصائد وتعدُّدها. وقد يصحُّ القول إنّ موضوعَ الشاعر هو المساحة التي تتقاطعُ فيها مواضيعُ قصائده، أي هو النقطة المشتركة، أو العنصر المشترك بين هذه المواضيع.
إذاً، نحن نفرِّقُ هنا بين موضوع الشاعر وموضوع القصيدة. ولْنُسارِعْ إلى مثال ٍيساعدُ في توضيح الفكرة. الشاعرة العراقية المتميزة فراقد رمضان السعد ، تناولَت في قصائدها مواضيعَ كثيرةً، بعدد القصائد أو أكثر، إذْ يمكنُ للقصيدة الواحدة أنْ تتّسعَ لأكثر من موضوع ٍواحد.

وقد نظَمَت قصائدَها في أغراض ٍمتعدِّدة، كالتفاخر بالوطن وبعراقيتها والغزل بالأصالة والوصف والحماسة ونصرة المراة وسواها، والأغراض ليست بعدد المواضيع، بل هي أقلُّ عدداً ، إذْ يمكنُ للشاعر أنْ يتناولَ موضوعات ٍعدّة في غرض ٍواحد.
فالقصائد التي مدح بها المتنبي سيفَ الدولة- على سبيل المثال،-، هي ذات غرض واحد وموضوعاتها متعدِّدة. ولكنْ وراء تلك المواضيع والأغراض همٌّ أساسيٌّ تنطوي عليه قصائدُ المتنبي كلُّها هو موقفُ الشعور بالتفوُّق.

اما شاعرتنا السعد ، فأرادت التعبير عن ذاتها المتميِّزة في كلِّ ما نظَمَهته من قصائد، وهنا يمكنن لنا القول انها تمتلك «الأنا» المتفوّقة، الأنا الخلاقة القادرة على الإبداع باحاسيس ومشاعر تفيض روعة وجمالا.
وان قصائدها المختلفة ما كانت أساسا أو منطلَقٌا لموضوع واحد، بل لمواضيع شتى كلِّها التي نظمتها ؟ ألا يصحُّ عند ذلك القولُ إنّ موضوع الشاعر البارع ماثلٌ في مواضيع قصائده كلِّها، أو بكلمة ٍثانية إنّهُ مشترَكٌ بينها؟
نعم، يمكن القولُ من وجهة نظري إنّ الشاعرَ المتميِّزَ هو صاحبُ موضوع، قد لا يكون مختصّاً به دون غيره، وإنما يختصُّ عن غيره بطريقته المتميِّزة في تناوله لكي يصبحَ مرتبطاً به فيُعَدُّ موضوعَهُ.
فالشاعرة تناولت
موضوع الحبّ مثلاً والذي لم يكنْ حِكْراً على عمر بن أبي ربيعة أو جميل بثينة أو (حديثاً) نزار قباني، ولكنها قد تميّزَت بطريقتها في تناولها لهذا الموضوع بكل مافي هذه العبارة من طهر وطيب بعيدا عن كل مجون او إسفاف لا ينجو من براثنه الشعراء الكبار ، فاستحقّت أنْ تعد متميزة بطروحاتها المختلفه، فقد تنوعت المواضيع كما الاغراض التي تدفعها لتنسج قصيدة سواء اكانت عمودا أم قصيدة نثر.
لم تساير السعد أبا نواس في مجون سكراته ، ولم يتملكها تشاؤم ابي العتاهية في كثرة ذكره الموت، فجعلت من الموت قضية، وان الحياة بلا قضية هي الموت ، وتناولت موضوعات العقل والشكّ والبحث عن المعرفة بجمال أخاذ يخلو من الخطل والتخلخل الذي ينتاب شعرنا الحديث.
لقد شاعت مواضيعُ أو قضايا عامة تناولَها الكثيرون من كُتّاب الشعر، ولكنّ القليلَ منهم استحقّوا أنْ يكونوا أصحابَ هذا الموضوع أو ذاك، ومن شاء فليطالع للشاعرة قصيدة (سأكتفي بك قيامة) ، ليجد مصداقا لكلامنا في تميزها عن سواها :
أوَ تدري أنَّ للناي شجونا تتبارى
إلا الربابات.. أوتار حزن لا تُجارى
أنا يا ليليَ الأشهى.. ذات الجفن
يُجفيني النعاس بالشعر..
أَستحضركَ والذكريات
أمتثِلني وأيّاكَ..
جناحان على صهوة الفراشات
ليس لي التحليق بعيداً
ولا أَمكنَني أن أُمسِكَ يداً سواكَ
عصّبتُ عيناي دون أبجدية وجهكَ
فأن كنتَ للشعر رسولاً
وعلى إثر الأنبياء.. نبوءةً
هَبني دروشة المطر برقصة سما
أُبحِرُ شعراً، ما شاء الهوى
وأقتفي خُطاكَ كالخطايا الغاويات
فأنا يا سيدي
أنسية تتلبسُني روح برزخكَ القاصي
أختلسُ الجنانَ.. فأُرجَمُ بقاطرِ الشعرِ
حتى يغلبني شيء من النعاس
لأتوسدَ ضفاف دجلة سُكنى
وأُقبِّلُ الفرات نبعاً
يا آخرَ الطعم الجنوبيّ
وآخر إيقاع الفجر
اخترتكَ زمناً أبديا
وسأكتفي بكَ.. قيامةَ
إن من يطالع دواوينها الستة : أسطورة عشق، هالات الانجم العارشات، مريميات،
اتصوفك مليكا لروحي،
وطني المتبل بالآهات، أغدا بلا انت، سيجد الابداع نفسه لا يتكرر بل ينمو وينمو حتى يبلغ القمة، ونكاد نجدها تبدع في كل قضية من قضايا الشعر وبشكل يدعو إلى الإعجاب حقا.
انا اذا اردنا ان نضرب مثلا لتميز شاعرتنا العراقية هذه ، فسنأخُذْ مثلاً القضية الفلسطينية والثورة ، فكم من شاعر تناولها بشكل او بآخر؟ تناولوها على نحْو ٍأو آخَر؟ لكن من يمكننا ان نعده شاعر القضية الفلسطينية هو محمود درويش دون سواه ، مع وجود قلة قليلة هم كذلك اصحاب القضية، لكن دون مستواه.
إن الشاعرة فراقد بقيت ذات موضوع قضية وجمال ، ومن هنا تكتسب الشاعرة أهميتَهُا، فشعرها وبعد ان شق طريقه بالهوية، صار يحظى بالأهميةَ إذْ يعيدُ ابتكارَ وصف القضية، أية قضية، بصيغة جديدة لم يتناولها من قبل في قصيدة سابقة ، أو بالأحرى تبتكرُ طريقتَها الخاصةَ في تناولها.
من الناحية الفنية
فالقيمةُ الفنيةُ الأساس هي في الكيفية التي يتجلّى بها الموضوع، أي في طريقة الشاعر. فموضوعُ حبّ الوطن مثلاً، لا يُعْطي قيمةً فنيّةً لكلِّ من يتناولُهُ، ولكنَّ كلَّ تناول ٍجيِّد ٍله يُضْفي عليه قيمةً فنيّةً جديدة.
والشاعرَ الذي يستحقُّ أنْ يكون صاحبَ موضوع ٍ ليس مفروضاً عليه أنْ يكونَ أسيرَهُ، بل هو غالباً ما يكونُ حرّاً وقادراً على تناول ِما يحلو له من المواضيع، وإنْ ظلَّ في باله ِما يشدُّهُ دائماً إلى همِّه ِالأساسيّ، الذي يمنحُ شعرَهُ نكهتَهُ الخاصةَ وشخصيتَهُ المميَّزة، وذلك هو ما صنع من الشاعرة السعد شاعرة نادرة لربما يصعب تكرارها، بل وتقليدها، لانها وضعت بصمة ابداعية خاصة بها، والبصمات لا تتكرر، مثل الشخوص، الافذاذ منهم على وجه الخصوص.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...