المخاض رواية تاريخية اجتماعية تسجل أحداث التاريخ المعاصر في السنوات الأخيرة لمصر، عبر متوالية سردية اجتماعية شاهدة على الأحداث برمتها. يلج الروائي أحمد عبد الله إسماعيل عالم الرواية من باب واسع، فالتاريخ مادة خصبة لإمداد الكتاب بكثير من الأفكار الجيدة التي تصلح أن تكون مادة للعمل الروائي، شريطة أن يفرق الكاتب بين الرواية كعمل أدبي يعتمد الخيال وسيلة والتاريخ كمادة جامدة تبات في بطون كتب المؤرخين وتتناول حقائق ثابتة يؤرخ لها المؤرخ وفق رؤيته وما لديه من مستندات تثبت صحة أقواله، فمن أراد تسجيل أحداث تاريخية صادقة يقرأ أعمال الشعراء والروائيين والمسرحيين والمقاميين في فترة محددة. فإذا ما قرأت تاريخ فترة معينة عند المؤرخين المتخصصين ربما وجدت ميلا أو غبنا لتحديد ملامح هذه الفترة من مؤرخ لآخر، ومن هنا تباينت الكتابة التاريخية من شخص لآخر طبقا لأهوائه وميوله. أما أعمال المبدعين مجتمعة فإنها تكون أكثر قربا من الحقيقة.
والتاريخ المعاصر يمكن أن يقرأ بأكثر من وجه، لكن أحمد عبد الله إسماعيل استجلب مادته من لغة الصحافة، الإعلام، ومن المشاهدات الحقيقية لأحداث عاصرها بنفسه، فحشد مادته هذه مزيدا عليها رؤيته هو وثقافة عصره في الحوار والمشاهدات، وامتدت المشاهدات لتشمل أثر الثورة المصرية الأخيرة على الإخوة العرب، ومدى تفاعلهم مع الأحداث من جانب اجتماعي سياسي.
اختلفت لغة الرواية عن لغة التاريخ في رواية المخاض، فجمع الروائي بين الفصحى والعامية، ولا سيما فيما يتعلق بالحوار، ويؤخذ على هذا الحوار أنه لم يراع الفروق الفردية في الثقافة والفكر بين المتحاورين. فسارة فتاة مثقفة طبيبة، وآدم شاب واع مثقف، خلق الروائي بينهما حوارا عاميا، لم يرق إلى المستوى الفكري للشاب والفتاة، لا على مستوى العاطفة ولا على مستوى الثقافة، فبدا الحوار أقل مما هو متوقع بين اثنين متعلمين تعليما عاليا. والأمر نفسه وقعت فيه الرواية عندما خلق الروائي حوارا بالعامية بين أم سارة وزوج ابنتها آدم، فأم سارة لم تكن على درجة عالية من التعليم والثقافة والفكر، على عكس آدم الذي تثاقف على حماته وأشار إلى مصطلحات يصعب إدراكها من جانب حماته، حيث حدثها عن ترسيم الحدود، وفكر الإخوان التطرفي، فبد الحوار غير مقنع للقارئ.
تلاعب الروائي بالزمن صعودا وهبوطا، عاد إلى الوراء باستخدام تقنية الفلاش باك أو أسلوب الارتداد وعبر عن فترات سابقة لأحداث يناير 2011م، وامتلك أداته الزمنية بمهارة، كما أنه تلاعب بالمكان وذهب به إلى البلاد العربية وشاهد العادات والتقاليد، وأدرك أن الصداقة والإخوة لم تكن بين المصريين وبعضهم البعض فحسب، بل قد تمتد إلى خارج الحدود، ليعبر بذلك عن أواصر القربى بين أفراد الشعب العربي الواحد.
أثقل الروائي أحمد عبد الله إسماعيل كاهل المتلقي بذكر عدد كبير من الشخصيات، ومد أمد السرد في غير موضع، وكان يمكنه الإشارة فقط، حتى لا يذهب بالمتلقي بعيدا عن أحداث الرواية.
وظف أحمد إسماعيل لغته توظيفا جيدا، بيد أنه يجب أن يفرق بين لغة الواقع اليومي، ولغة الرواية، فلغة الواقع الحياتي يتجاور فيها الحدث مع اللهجة، والمباشرة في الوصف والحوار، أما لغة الرواية فهي أعمق بكثير من لغة اليومي المعيش، فهي لغة تعتمد على الإيحاء والترميز والتكثيف واعتماد ظلال المعاني، فانظر مثلا إلى قوله:
انطلق الأستاذ إبراهيم سائق السيارة الملاكي الذي رتبت معه اصطحابي إلى المطار مقابل مئتي جنيه، وكانت هذه هي المرة الثانية التي ألتقيه فيها بعدما اصطحبنا بالسيارة في مشوار خصوصي إلى القاهرة للكشف على والدتي.
فهذه لغة بسيطة التركيب، هشة الدلالة، لأنها تبتعد كثيرا عن لغة التكثيف والتركيز واعتماد ظلال المعاني والإيحاء. قارن مثلا هذه اللغة المباشرة بلغة محفوظ "وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ لا شيء. كالطريق والمارة والجو المنصهر... استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوض في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص" .
فأنت أمام لوحة لغوية تكاد تقترب من لغة الشعر في الإيحاء واعتماد ظلال المعاني، وهذه اللغة هي سر أسرار بقاء نجيب محفوظ لأمد بعيد، وليس من عيب أن نهتدي إلى لغته ونتمثلها في أعمالنا المعاصرة.
ومع ذلك فقد وجدت لغة طريفة عن طريق استخدام الرسائل بين سارة وأدم، سواء كانت هذه الرسائل مسموعة عبر الهاتف، أو مقروءة عبر الرسائل التقليدية، فهي لغة يمكن أن توصف بالطرافة والجدة.
"خلاص؟! خلصت الحكاية؟ هيبطل قلبك يدق؟ هو ينفع المشاعر اللي طالعة من القلب تتبخر؟ هتعرفي تحسي بنفس المشاعر مع واحد غيري؟ ولا هتحرمي نفسك من السعادة، وتمشي ورا خوف أمك ؟ هل ممكن أحب بنت تانية بنفس الأسلوب والشغف والجنون؟ هل ممن إنك تلاقي حد يحبك قد ما أنا بحبك؟ هل ممكن إنك تلاقي وطن زي قلبي؟ هل وصلنا للنهاية؟"
فهذه لغة أحمد إسماعيل، في رسالة مكتوبة إلى محبوبته سارة، وفيها من المباشرة، والابتعاد عن الإيحاء، هي باختصار لغة حياتية يومية يكتبها أي محب "عادي"لمحبوبته. وربما تساءل أحد الفرق بين اللغتين كبير، فهذه لغة عامية وتلك لغة فصحى، الإجابة لن تتغير لأنه لافرق بين الاستخدامين طالما امتلك الأديب قدرا من التحول السريع من لغة الحياة الطبيعية إلى لغة الأدب التي تعتمد الخيال والإيحاء والتركيز والرمز غير الصريح. فإليك نصا بالعامية وفيه ما في لغة محفوظ من جمال وسحر.
"وتردد رمضان ثم أسلمه تردده إلى سكون راح يخلص نفسه من حرجه ويتملص منه ليقول:
مش.. مش أحسن أخلص ذمتي من الله و....
وحين نظرت إليه في كسل وبشائر ضحكة تكاد تهب منه لحديثه المتعثر..استمر هو يتهته.
أحسن.. أحسن أطلقك يا نعيمة..
واعتدلت المرأة حتى واجهته .. ودبت على صدرها وقد اربدت ملامحها، وبان فيها عتب كثير.
يا عيب الشوم يا رمضان .. ايه الكلام ده .. دا أنت أبويا وأخويا وتاج راسي ..دانت في عيني من جوه .. هو أنا أسوي الأرض اللي بتمشي عليها .. دانا خدامتك يا حبيبي.. بقى ده كلام.. مقصوصي شاب .. وشعرك ابيض.. ونعمل زي العيال..دا.. دا يصح.. يا ابو سيد.
ثم التفتت إلى ابنها سيد قائلة:
سيد .. يا سيد.. اقعد هنا جنبي.. أيوه كده .. يا ابني يا حبيبي.. باسم الله ما شاء الله.. وكبرت يا سيد .. بقيت طولي .. حليني أبوسك يا سيد .. هه .. كمان مرة .. يا ابني.. أنت كنت فين .. وأنا فين .. وكبرت يا سيد.. وحتبقى راجل.. وأجوزك يا سيد .. سيد.. هجوزك واحدة حلوة .. لا .. أربعة حلوين عشان خاطرك.. وتبقى راجلهم.. فاهم يا سيد.. معلش .. كرة حتفهم وتخلف.. سامع يا سيد حتخلف.. وأشيل خلفتك بايدي.. يا سيد .. بايدي دي.. فاهم يا سيد" .
وهنا يبدو الفارق جليا بين لغة الواقع المعيش، وتسجيل الأحداث الجارية بلغة الصحافة والإعلام، ولغة الأدب، اللغة الثانية أكثر بقاء وخلودا، وتأثيرا في النفس، وتجعل المتلقي منجذبا إلى العمل وبصاحبه بشكل لافت.
ومما يحسب للروائي إسماعيل أن روايته لا تعتمد على حبكة فنية قوية، فهو يزاوج بين مخاض الجمهورية الجديدة، ومخاض الابن المنتظر من رحم المعاناة، ويكمن جمال الرواية عند أحمد عبد الله إسماعيل من متعة الإثارة والدهشة التي يمر بها البطل عبر عدة أحداث متتالية مختلف بعضها عن بعض، غير أنها تثير الدهشة في نفوس المتلقين، وتبعث على التواصل والتفاعل مع البطل، الذي يتعرض غالبا لمزالق ومطبات وأزمات ينجو منها غالبا، تاركة في نفوس المتلقين المتعة والإثارة. وهذا غير الحبكة الفنية في الرواية التي يرى بعض النقاد فيها أنها مظهر من مظاهر الضعف في الفنان الذي عجز عن اجتذاب الناس بأفكاره فاعتمد أو عمد إلى هذه الطرق المصطنعة لبلوغ غاياته .
ويجدر الإشارة إلى تزاوج لغة السرد عند إسماعيل بين العامية والفصحى، فهي تارة بالفصحى في حواراتها ، وتارة بالفصحى فيما ينقله الأديب من مشاهد وأحداث ووصف. "وكثير من الأعمال الروائية العربية حازت على الانتشار بسبب قدرة كاتبها على تهذيب لغة السرد بالكلام المفصح، تارة في استدعاء الأمثال الشعبية والأغاني الفولكلورية، وتارة ثانية في التناصات المستلهمة للحكايات التي مؤلفها المجموع الشعبي، وتارة ثالثة في المخزون اللغوي الذي يستدعيه الكاتب من معايشة عميقة لتجربة واقعية فيمزجه بمخيلة شعرية صانعاً معجماً خاصاً به من الألفاظ المفصحة ماسكاً بأطراف الاستعارات والمجازات اللفظية التي هي بمثابة ابتكارات يوظفها لغوياً، فتعطي لعمله خصوصية إبداعية" .
يمكن أن تقرأ "المخاض"بدلالاتها الاجتماعية المتشعبة فتتجلى ملامح الريف المصري والمدن، والمدن الأكبر عربية كانت أم مصرية، فتستلخص عادات الشعوب العربية وتقاليدها من الرواية، ولعله في ذلك يرمي إلى توحيد المصير العربي، فما يحدث في مصر يمكنه أن ينتقل إلى الأمم العربية الشقيقة. وهذا يحسب للروائي ومدى قدرته على النفاذ إلى استشراف المستقبل. ولم تنته الرواية نهاية تقليدية بل جعلها نهاية مفتوحة تحتمل كثيرا من التأويلات . فالرواية على صغر حجمها تبدو مقنعة للقارئ، وتنفتح عبر مسارات متدفقة إلى عالم خصب من التعبير عن حياة المجتهدين، واستنطاق النفس الإنسانية عبر التجول في دهاليزها الرحبة، للكشف عن عوالم أخرى تسير جنبا إلى جنب مع الحدث الروائي نفسه. يبقى أن أشير إلى أهمية ما لاحظت من ملاحظات حتى يتمكن الأديب من صقل موهبته والوصول بها إلى مدارات النبوغ والتميز.
أحمد عبدالله إسماعيل
والتاريخ المعاصر يمكن أن يقرأ بأكثر من وجه، لكن أحمد عبد الله إسماعيل استجلب مادته من لغة الصحافة، الإعلام، ومن المشاهدات الحقيقية لأحداث عاصرها بنفسه، فحشد مادته هذه مزيدا عليها رؤيته هو وثقافة عصره في الحوار والمشاهدات، وامتدت المشاهدات لتشمل أثر الثورة المصرية الأخيرة على الإخوة العرب، ومدى تفاعلهم مع الأحداث من جانب اجتماعي سياسي.
اختلفت لغة الرواية عن لغة التاريخ في رواية المخاض، فجمع الروائي بين الفصحى والعامية، ولا سيما فيما يتعلق بالحوار، ويؤخذ على هذا الحوار أنه لم يراع الفروق الفردية في الثقافة والفكر بين المتحاورين. فسارة فتاة مثقفة طبيبة، وآدم شاب واع مثقف، خلق الروائي بينهما حوارا عاميا، لم يرق إلى المستوى الفكري للشاب والفتاة، لا على مستوى العاطفة ولا على مستوى الثقافة، فبدا الحوار أقل مما هو متوقع بين اثنين متعلمين تعليما عاليا. والأمر نفسه وقعت فيه الرواية عندما خلق الروائي حوارا بالعامية بين أم سارة وزوج ابنتها آدم، فأم سارة لم تكن على درجة عالية من التعليم والثقافة والفكر، على عكس آدم الذي تثاقف على حماته وأشار إلى مصطلحات يصعب إدراكها من جانب حماته، حيث حدثها عن ترسيم الحدود، وفكر الإخوان التطرفي، فبد الحوار غير مقنع للقارئ.
تلاعب الروائي بالزمن صعودا وهبوطا، عاد إلى الوراء باستخدام تقنية الفلاش باك أو أسلوب الارتداد وعبر عن فترات سابقة لأحداث يناير 2011م، وامتلك أداته الزمنية بمهارة، كما أنه تلاعب بالمكان وذهب به إلى البلاد العربية وشاهد العادات والتقاليد، وأدرك أن الصداقة والإخوة لم تكن بين المصريين وبعضهم البعض فحسب، بل قد تمتد إلى خارج الحدود، ليعبر بذلك عن أواصر القربى بين أفراد الشعب العربي الواحد.
أثقل الروائي أحمد عبد الله إسماعيل كاهل المتلقي بذكر عدد كبير من الشخصيات، ومد أمد السرد في غير موضع، وكان يمكنه الإشارة فقط، حتى لا يذهب بالمتلقي بعيدا عن أحداث الرواية.
وظف أحمد إسماعيل لغته توظيفا جيدا، بيد أنه يجب أن يفرق بين لغة الواقع اليومي، ولغة الرواية، فلغة الواقع الحياتي يتجاور فيها الحدث مع اللهجة، والمباشرة في الوصف والحوار، أما لغة الرواية فهي أعمق بكثير من لغة اليومي المعيش، فهي لغة تعتمد على الإيحاء والترميز والتكثيف واعتماد ظلال المعاني، فانظر مثلا إلى قوله:
انطلق الأستاذ إبراهيم سائق السيارة الملاكي الذي رتبت معه اصطحابي إلى المطار مقابل مئتي جنيه، وكانت هذه هي المرة الثانية التي ألتقيه فيها بعدما اصطحبنا بالسيارة في مشوار خصوصي إلى القاهرة للكشف على والدتي.
فهذه لغة بسيطة التركيب، هشة الدلالة، لأنها تبتعد كثيرا عن لغة التكثيف والتركيز واعتماد ظلال المعاني والإيحاء. قارن مثلا هذه اللغة المباشرة بلغة محفوظ "وسناء إذا خطرت في النفس انجاب عنها الحر والغبار والبغضاء والكدر. وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر. ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها؟ لا شيء. كالطريق والمارة والجو المنصهر... استعن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران، جاءكم من يغوض في الماء كالسمكة، ويطير في الهواء كالصقر، ويتسلق الجدران كالفأر، وينفذ من الأبواب كالرصاص" .
فأنت أمام لوحة لغوية تكاد تقترب من لغة الشعر في الإيحاء واعتماد ظلال المعاني، وهذه اللغة هي سر أسرار بقاء نجيب محفوظ لأمد بعيد، وليس من عيب أن نهتدي إلى لغته ونتمثلها في أعمالنا المعاصرة.
ومع ذلك فقد وجدت لغة طريفة عن طريق استخدام الرسائل بين سارة وأدم، سواء كانت هذه الرسائل مسموعة عبر الهاتف، أو مقروءة عبر الرسائل التقليدية، فهي لغة يمكن أن توصف بالطرافة والجدة.
"خلاص؟! خلصت الحكاية؟ هيبطل قلبك يدق؟ هو ينفع المشاعر اللي طالعة من القلب تتبخر؟ هتعرفي تحسي بنفس المشاعر مع واحد غيري؟ ولا هتحرمي نفسك من السعادة، وتمشي ورا خوف أمك ؟ هل ممكن أحب بنت تانية بنفس الأسلوب والشغف والجنون؟ هل ممن إنك تلاقي حد يحبك قد ما أنا بحبك؟ هل ممكن إنك تلاقي وطن زي قلبي؟ هل وصلنا للنهاية؟"
فهذه لغة أحمد إسماعيل، في رسالة مكتوبة إلى محبوبته سارة، وفيها من المباشرة، والابتعاد عن الإيحاء، هي باختصار لغة حياتية يومية يكتبها أي محب "عادي"لمحبوبته. وربما تساءل أحد الفرق بين اللغتين كبير، فهذه لغة عامية وتلك لغة فصحى، الإجابة لن تتغير لأنه لافرق بين الاستخدامين طالما امتلك الأديب قدرا من التحول السريع من لغة الحياة الطبيعية إلى لغة الأدب التي تعتمد الخيال والإيحاء والتركيز والرمز غير الصريح. فإليك نصا بالعامية وفيه ما في لغة محفوظ من جمال وسحر.
"وتردد رمضان ثم أسلمه تردده إلى سكون راح يخلص نفسه من حرجه ويتملص منه ليقول:
مش.. مش أحسن أخلص ذمتي من الله و....
وحين نظرت إليه في كسل وبشائر ضحكة تكاد تهب منه لحديثه المتعثر..استمر هو يتهته.
أحسن.. أحسن أطلقك يا نعيمة..
واعتدلت المرأة حتى واجهته .. ودبت على صدرها وقد اربدت ملامحها، وبان فيها عتب كثير.
يا عيب الشوم يا رمضان .. ايه الكلام ده .. دا أنت أبويا وأخويا وتاج راسي ..دانت في عيني من جوه .. هو أنا أسوي الأرض اللي بتمشي عليها .. دانا خدامتك يا حبيبي.. بقى ده كلام.. مقصوصي شاب .. وشعرك ابيض.. ونعمل زي العيال..دا.. دا يصح.. يا ابو سيد.
ثم التفتت إلى ابنها سيد قائلة:
سيد .. يا سيد.. اقعد هنا جنبي.. أيوه كده .. يا ابني يا حبيبي.. باسم الله ما شاء الله.. وكبرت يا سيد .. بقيت طولي .. حليني أبوسك يا سيد .. هه .. كمان مرة .. يا ابني.. أنت كنت فين .. وأنا فين .. وكبرت يا سيد.. وحتبقى راجل.. وأجوزك يا سيد .. سيد.. هجوزك واحدة حلوة .. لا .. أربعة حلوين عشان خاطرك.. وتبقى راجلهم.. فاهم يا سيد.. معلش .. كرة حتفهم وتخلف.. سامع يا سيد حتخلف.. وأشيل خلفتك بايدي.. يا سيد .. بايدي دي.. فاهم يا سيد" .
وهنا يبدو الفارق جليا بين لغة الواقع المعيش، وتسجيل الأحداث الجارية بلغة الصحافة والإعلام، ولغة الأدب، اللغة الثانية أكثر بقاء وخلودا، وتأثيرا في النفس، وتجعل المتلقي منجذبا إلى العمل وبصاحبه بشكل لافت.
ومما يحسب للروائي إسماعيل أن روايته لا تعتمد على حبكة فنية قوية، فهو يزاوج بين مخاض الجمهورية الجديدة، ومخاض الابن المنتظر من رحم المعاناة، ويكمن جمال الرواية عند أحمد عبد الله إسماعيل من متعة الإثارة والدهشة التي يمر بها البطل عبر عدة أحداث متتالية مختلف بعضها عن بعض، غير أنها تثير الدهشة في نفوس المتلقين، وتبعث على التواصل والتفاعل مع البطل، الذي يتعرض غالبا لمزالق ومطبات وأزمات ينجو منها غالبا، تاركة في نفوس المتلقين المتعة والإثارة. وهذا غير الحبكة الفنية في الرواية التي يرى بعض النقاد فيها أنها مظهر من مظاهر الضعف في الفنان الذي عجز عن اجتذاب الناس بأفكاره فاعتمد أو عمد إلى هذه الطرق المصطنعة لبلوغ غاياته .
ويجدر الإشارة إلى تزاوج لغة السرد عند إسماعيل بين العامية والفصحى، فهي تارة بالفصحى في حواراتها ، وتارة بالفصحى فيما ينقله الأديب من مشاهد وأحداث ووصف. "وكثير من الأعمال الروائية العربية حازت على الانتشار بسبب قدرة كاتبها على تهذيب لغة السرد بالكلام المفصح، تارة في استدعاء الأمثال الشعبية والأغاني الفولكلورية، وتارة ثانية في التناصات المستلهمة للحكايات التي مؤلفها المجموع الشعبي، وتارة ثالثة في المخزون اللغوي الذي يستدعيه الكاتب من معايشة عميقة لتجربة واقعية فيمزجه بمخيلة شعرية صانعاً معجماً خاصاً به من الألفاظ المفصحة ماسكاً بأطراف الاستعارات والمجازات اللفظية التي هي بمثابة ابتكارات يوظفها لغوياً، فتعطي لعمله خصوصية إبداعية" .
يمكن أن تقرأ "المخاض"بدلالاتها الاجتماعية المتشعبة فتتجلى ملامح الريف المصري والمدن، والمدن الأكبر عربية كانت أم مصرية، فتستلخص عادات الشعوب العربية وتقاليدها من الرواية، ولعله في ذلك يرمي إلى توحيد المصير العربي، فما يحدث في مصر يمكنه أن ينتقل إلى الأمم العربية الشقيقة. وهذا يحسب للروائي ومدى قدرته على النفاذ إلى استشراف المستقبل. ولم تنته الرواية نهاية تقليدية بل جعلها نهاية مفتوحة تحتمل كثيرا من التأويلات . فالرواية على صغر حجمها تبدو مقنعة للقارئ، وتنفتح عبر مسارات متدفقة إلى عالم خصب من التعبير عن حياة المجتهدين، واستنطاق النفس الإنسانية عبر التجول في دهاليزها الرحبة، للكشف عن عوالم أخرى تسير جنبا إلى جنب مع الحدث الروائي نفسه. يبقى أن أشير إلى أهمية ما لاحظت من ملاحظات حتى يتمكن الأديب من صقل موهبته والوصول بها إلى مدارات النبوغ والتميز.
أحمد عبدالله إسماعيل