يبدأ في لحظة ما من إنزواء الروح إلى آخر عتباتها متسائلة عما يتعلق بها من مشاعر متقلبة بين المحبة، والعداوة، والكراهية، والأنانية العمياء وغيرها من لحظات الضعف الإنساني الفطرية والكونية، فإذا تجلى بعض إجاباتها عيانا، فهي تخفي ما تبقى ضرورة الستر والحجب من انكشاف سرية وكينونة وجوهر هذا الكائن المشابه للغة في كثير من الأحيان، إن لم نقل أن الإنسان لغة العالم وكينونته، وربما هذا ما عبر عنه مارتن هيدغير في لحظة دراسته للغة بأنها "بيت الكينونة" ليمتزج إنسان اللغة بلغة الإنسان نفسه ويتماهى معها في برهة من التاريخ الضارب في الوجود.
عودة إلى لحظة الإنزواء التي تعقبها سلسلة من المشاعر، توصله حسب ما يقتضيه كل سلوك لها، أو بعبارة أخرى كل ما يفكر فيه ويعمل لأجله كائن اللغة والبلاغة المستعارة، وهنا يطرح التساؤل حول علاقة هذه البلاغة بالقسوة التي تتملكه تجاه من يجول ويجوب حوله، وكيف له أن يتحول من جماليتها إلى نوع من اللغة اللاتينية الميتة ذات القاموس المتحجر المتصلب حتى ليصبح مستحاثة قديمة ليس لها دور فاعل في متاحف الحياة.
كل هذه التساؤلات ينكر الإجابة عنها كثير من إنسان اللغة، بل ويخفي تفاصيلها بلغة البلاغة المخاتلة للنفس والروح معا، لأن اللاشعور سواء كان فرديا أو جمعيا يتصدر أو يقود تلك العلاقة القائمة بين الأنا والآخر، ليس هذا وحسب بل يذهب لأول مرة في حياة هذا اللاشعور أن يقيم في قلب الأنا الأعلى عن طريق الانبساط اليونغي تارة، أو عن طريق التقنع بحدود الظل إذا استلزم الأمر تارة أخرى.
ربما يتوه القارئ عن الموضوع شيء ما في محاولته إيجاد الخيط الرابط بين ما يطرحه العنوان، وما يسوقه المتن عن مداخل عتبات ونتوءات إنسان اللغة وبلاغته الاستعارية التي يحيا بها، من لحظة الولادة باكيا إلى الوقت الذي يبكى عليه، وتلك كلها إستعارات متخيلة، أو لذة تصطنعها الأنا والآخر.
قد يتصور بعض الناس أن القسوة في مفهومها تتأتى من مشاعر الكراهية والأنانية، وكل مظاهر عدوان الأنا تجاه الآخر، وفي أحايين يتخيل بعضهم أنها تقترن بالأنانية المفرطة التي تبعث على قيمة التسلط، والامتلاك والحيازة بكل أساليب الخديعة والنكران، ولو تأملنا جيدا إلى جملة المشاعر المصاحبة لهذا المفهوم سنلاحظ أنها لا تمثل القسوة بتاتا، بل تناقض السياق الأساسي لها، لأنها لا تستقيم معها في أصلها التي انتجت فيه، وسيقت منه، والبحث الأركيولوجي هو الكفيل بكشف حقيقتها، إذ نجد أن القسوة في أصلها نابعة من مفهوم الحب والمحبة، غير أن هذه الأخيرة قد نفد رصيدها نتيجة عدم الاهتمام، أي دون تغذيتها تغذية راجعة و إرجاع الصدى وفق ما تشترطه بعض نظريات علوم التواصل. وفي السياق نفسه يتصور عامة الناس أن عكس الحب هو الكراهية، وهذا من الشطط ومزالق القول والتفكير، لأن عكس المحبة هي عدم الاهتمام، وبهذا تكون القسوة والحب وجهان لعملة واحدة، ولو سلطنا الضوء على جانب آخر لوجدنا أن لهما لغة مشتركة، وربما أستعير هنا مقول هيدغير مرة أخرى حينما نظر إلى اللغة "بأنها بيت الكينونة"، فاللغة التواصلية للقسوة تتمثل في مدى رصيد المحبة، وهذا هو الجزء الأصعب والخفي لكينونة هذا الإنسان الإستعاري...