ربما أرى ، على خلاف غيري ، وبعد هذه الهوشة الثقافية، أن النقاش الدائر حول رواية هوارية ظاهرة ثقافية صحية .فعلى الرغم من النبرة العالية أحيانا أو بعض الألفاظ الحادة التي تسربت إلى متون بعض المقالات، إلا أن الظاهرة ، بشكل عام ، تعد حالة طبيعية وربما ضرورية ، فقد أعادت النظر في بعض اليقينيات الفكرية والأدبية التي اعتقدنا أن الحديث فيها قد انتهى، وطرحت أسئلة حول هوية الرواية ووظيفتها وعلاقتها بالدين والأخلاق والمجتمع.
من حق كل شخص نتقاسم معه التاريخ والحاضر والمستقبل أن يدافع عما يراه الأفضل له ولمجتمعه، وأن يرافع من أجل المبادئ التي يراها ضرورية لقيم الحق والخير والجمال. فليس صحيحا الادعاء بأن النص الأدبي مجرد وثيقة لغوية جمالية فحسب، وليس صحيحا أن الأخلاق بمعزل عن الأدب، كما قيل قديما، الأدب خطاب ظاهره الجمال وباطنه فكر وثقافة وقيم ورؤية للعالم. ولا اظن أن المتحاورين يختلفون في هذه المبادئ، انما يقع الخلاف في التفاصيل وفي تأويل مقاصد النص.
ما يمكن أن يلاحظ في هذه المناقشات من صوت عال يمكن اعتباره أمرا عاديا بالنظر إلى أننا في ثقافة نادرا ما تنفتح على التعددية الفكرية والتنوع الثقافي والحوارات المعرفية الهادئة التي تهدف الى البحث الأفضل وتخلق سبلا للحوار البناء وليس للعداء. فلم إذن لا نعتبر هذه اللحظة تأسيسا لأدب المحاورات، نخطئ فيها ونصيب، ثم نخطئ ونصيب، خاصة وأن كل نشاط بشري يقع في دائرة الممكن والنسبي، مما يستوجب التواضع وقبول الرأى المختلف.
صحيح أن بعض الخطابات التي قرأناها ما تزال تئن تحت إكراهات عاطفية و إيديولوجية مختلفة، وقد شهدنا مثلها في زوبعة حيزية والمعجم الطوبونيمي وغير ذلك. حتى غاب الإشكال الحقيقي للمشكلة، فكل محاور يحدد إشكاليته كما يريد، ومن أول رأي قرأه وتم تداوله ولذلك انعطف الحديث الى قضايا تتجاوز الموضوع الأصلي وأحيانا يتعدى المسألة الأدبية إلى مسائل أخرى تتعلق بالأشخاص والأعراض. وهذا يعني أن أسئلتنا الثقافية ما تزال بين قوسين، فنحن لم نشتغل بالقدر الكافي على ثقافتنا، ولذلك ما تزال مشكلاتنا الثقافية معلقة، في الوقت الذي نعتقد أننا أنهينا العمل عليها .
ـ
وبالعودة إلى رواية هوارية فأود القول أولا أنه لا يوجد خطاب بشري مثالي في التاريخ، فنحن نعيش في عالم نسبي مطلق النسبية تحكمه شروط نفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية، ولذلك فهو خطاب يظل ينفي نفسه باستمرار ويجدد كينونته على الدوام، ولا يمكن أن نتوقع نصا مثاليا أبدا، فالمثالية حالة ذاتية أكثر منها حقيقة واقعية، وثانيا، هل فعلا هذه الرواية ايروتيكية أو برنوجرافية ، لا أريد أن أخوض في تحديد هذه المصطلحات لكني أود أن أقول ان الرواية لاعلاقة لها لا بهذا ولا بذاك، الرواية اجتماعية وما جاء من ألفاظ إباحية أقررنا بها ارتبط بالفئة الاجتماعية التي تحدثت عنها الرواية.و جاء في سياقات غير إباحية، بمعنى أنها لم تأت في سياق مشاهد جنسية بل جاءت في سياقات أخرى لا علاقة لها بالجنس، ويمكن لأي ناقد موضوعي أن يتأمل في سياق تلك الألفاظ ولم نكن في غفلة عن هذا ، إنما لم نرها، تؤثر لا على بنية الرواية ولا على الذوق العام ولا على الأصول والأعراف الاجتماعية ، ناهيك أن تكون لها تأثيرات على الدين، اللهم إلا كنا نريد من الروائي ألا يشتغل على موضوعات بعينها وتلك خيارات لا يمكن لأحد أن يفرضها على الروائي. إن كثيرا من التهويل أخفي الحقيقة ، خاصة وأن اغلب المعلقين يصرحون أنهم لم يقرؤوا الرواية، بل حتى الذين قرأوها بعد نشرها تحكمت فيهم جزئيا الضجة التي أثيرت حول الكلمات النابية ولذلك، فهم، في الحقيقة، لا يناقشون إشكالية الرواية بل يناقشون إشكالية أخرى عامة متفرعة وهي إشكالية الرواية والأخلاق بوصفها إشكالية مطلقة ، فمتى نقول عن حدث ما أو لفظ ما أنه غير أخلاقي ، وإذا كان اللا أخلاقي هو انحراف ما عن المعتاد الأخلاقي ، فما المقدار من الانحراف الذي يعد انحرافا أخلاقيا ، وما القدر من النقد او اللوم او المحاسبة الذي يوجه اليه؟ كان يمكن لمن لم يستسغ مثل تلك العبارات أن ينبه إليها أو يعاملها معاملة الأخطاء اللغوية فيتمنى لو لم تكن ، وله الحق ايضا أن يعتبر الرواية نصا فاشلا ، ولكن هل من المنطقي أن ينحرف النقاش إلى تشهير مبالغ فيه واستخفاف بالكاتبة والمحكمين وتخوينهم ؟ وإذا كان أغلب المعلقين لم يقرأوا الرواية. فكيف يمكن لثقافة أن تنتج نقادا ومفكرين لم يقرأوا ومع ذلك ينتجون فكرا ونقدا.. ومع ذلك فانا أتفهم هذه الهبة الثقافية خاصة وأننا في عالم لا يشك أحد أنه في حالة سقوط أخلاقي خطير باعتراف كبار مفكري العالم، غير أن القراءة الجزئية والتعميمية لا يمكن بحال أن تكون موضوعية، فكلنا ننطلق من خلفيات إيديولوجية أو ذاتية فماذا مثلا لو أن الرواية تخفي ما هو اخطر، وأن هذا الخطاب الإباحي إنما هو حيلة للتستر على خطابات أسوأ منه وأكثر خطورة.مثلما لمحناه في روايات تثير نعرات عرقية وسياسية وأخرى لا تخلو صفحة فيها من خطأ لغوي أسلوبي أو إملائي؟
لم أكن في مسيرتي العلمية استسيغ هذه الجرأة في الكتابة الأدبية ، وخاصة إذا كانت مجرد جرأة لا هدف لها، ورغم اهتمامي الطويل نوعا ما بالرواية الجزائرية فقد تجنبت دراسة الروايات التي حولت النص الأدبي الى مشاهد ايروتيكية ، وما زلت أتحفظ عليها مع احترامي لشخص أصحابها.، لكن الأفكار مختلفة والأذواق متعددة، ولو رأيت أن هذه الرواية تشكل خطرا على الذوق العام لما كنت وافقت على تزكيتها، ولانسحبت من اللجنة غير آسفة، لأن ما فيها من إباحية لا يشكل نسبة تذكر ، بالقياس إلى غيرها من الروايات العربية وغير العربية ، هذه وجهة نظرنا ولا ندعي مطلقية صوابها، ولمن يرى خلافها فلن نصادر رأيه، ونحن في عالم الانسانيات لا يمكن ادعاء اليقين.
لقد كتبت غير ما مرة أن الرواية العربية هي جزء من امبراطورية الرواية التي نشأت في سياق ثقافي غربي وتوجهها مؤسسات ليست بريئة، ثقافية وإعلامية واقتصادية وكتابي سوق الرواية يؤكد ذلك، وهي بهذه الصفة تهيمن على الرواية العربية وتوجهها وتملي عليها موضوعاتها وأساليبها، وستظل الرواية العربية ومنها الجزائرية متخبطة في مشكلاتها ما لم تتحرر من سلطة امبراطورية الرواية. وتعود إلى واقعها وتاريخها لتستلهم منه موضوعاتها فتساهم في كشفهسوءاته وتثمين لحضاته المنيرة.
أما بالنسبة لمن أشار إلى الأخطاء اللغوية والأسلوبية في الرواية، أو عاب عليها اللجوء إلى العامية أو رآها بنية هشة غير محكمة لا ترقى إلى مستوى الفن الروائي، فهذا رأي ممكن إذا قام على حجة تدعمه ، إلا إذا كان الموقف من الدارجة الجزائرية، حتى ليخيل لي أنه لو استعملت الكاتبة ألفاظ مثل العاهرة واللقيط وغيرها بالفصحى لم تكن لتثير أي إشكال. وقد لاحظنا تلك الأخطاء، التي أشارت إليها بعض المنشورات بل أحصيناها في جداول لكل رواية. ولكن اللجنة اختارت هذه الرواية ولم تقل تلك هي الرواية المثالية كما يريد البعض أن يقولنا، وكما نعلم فإن اختيارات اللجان دائما خيارات نسبية ، ومن الصعب أحيانا أن تفاضل بين عملين أدبيين متقاربين ، فعملنا نسبي ويمكن أن لا يكون خيارنا سليما ولكنه ليس مؤامرة ضد أحد أو إقصاء له أو خدمة لأجنبي أو إرضاء للغير أو خدمة لمشروع أجنبي، أو أننا اشتغلنا تحت أي ضغط من أي جهة . إن فوز عمل أدبي بجائزة معينة لا يعني بالضرورة أنه أفضل عمل، فالنقاد قد يرون رأيا آخر، وهذا هو الواقع في معظم الجوائز. جائزة آسيا جبار وغيرها من الجوائز الأخرى لا تهدف فقط إلى تزكية عمل أدبي معين ولكنها تهدف أيضا إلى خلق نشاط أدبي حول الرواية وباقي الروايات في القائمتين الطويلة والقصيرة ونقدها وقراءتها والانشغال بها وبما حولها من قضايا الأدب والثقافة الوطنية.، إضافة إلى تجميع الكتاب حول قضايا الوطن ـ تاريخه وحاضره، وهذا ما لاحظناه فعلا، فقد تشكل ما يمكن اعتباره ظاهرة الرواية الجزائرية، أي الرواية التي تسعى إلى تأسيس خصوصية محلية سواء من خلال التاريخ أو من خلال الواقع. هذه الرمزية ينبغي أن تستحضر في الذهن ولا تغيب، أما الرواية الفائزة فتأتي لتتويج ذلك النشاط كله .ولا يمكن الإجماع المطلق عليها.
الأغرب أن يذهب البعض إلى اعتبار الرواية عملا يهدد الوحدة الوطنية ويسيء إلى منطقة من الوطن وإلى رموزه وبالذات إلى رمزية هوارية ، مثل هذا التأويل والتهويل والمبالغة في استثارة مشاعر الناس وفرض الاصطفاف الإيديولوجي عليهم وتحويل المسالة الأدبية إلى فعل خطير يهدد اللحمة الوطنية هو الخطر في حد ذاته ، هذا الخطاب العاطفي المتحمس المثير هو ما نخشاه ونحاول توجيهه، إن كان لابد، الوجهة الصحيحة عند اللزوم، ثم متى كان الأدب بهذه الخطورة أصلا؟ ونحن شعب لا يقرأ وهل قرأ المثقفون بقية الروايات مثلا وكم من روائيين وشعراء لا يزالون في الظل.
لقد لحقنا الكثير من الأذى مع الأسف من زملائنا ومن بعض طلبتنا، وهم يعرفون ، أو غالبيتهم على الأقل، أفكارنا بخصوص المسائل الحساسة من مثل الهوية واللغة والأخلاق والدين، ويعلمون حق العلم ما قدمنا دفاعا عن ذلك كتابة ومحاضرة وتدريسا وتوجيها وإشرافا ، ولا أدري كيف ندعو إلى حماية الأخلاق بالتشهير والتكذيب والتخوين والتجهيل والتسفيه.
نحتاج الى التسامح، رغم ما لحق بهذا المفهوم من استعمالات تنفرني من استعماله، لكنني استعمله مضطرة بالمعني العامي دون ملحقات إيديولوجية، الحدة اللغوية التي قرأناها لدى الطرفين غير مؤهلة لانتاج خطاب ثقافي ينمي ويطور ثقافتنا بل بالعكس فهو خطاب مدمر ، لا ادري ما المبرر في نقاش ثقافي استعمال مفردات سياسية وقد تصل الى العسكرية، ما الداعي الى التنديد والاستنكار والشجب والإدانة و التجني ونحوها ، وكتابة عرائض وعرائض مضادة، وقوائم مساندة من هنا وهناك، وتجييش هنا وهناك. أما كان الأحرى لو فتحت ملفات حقيقية في الثقافة الجزائرية جديرة بالمناقشة والبحث والتفكير؟ ألا تخفي هذه الهوشة أنساقا مضمرة تريد أن تؤجج الصراع الأبدي بين المثقفين الجزائريين من المعربين والمفرنسين ، أليس هناك محاولة لإبعادهم عن التفكير في قضايا ربما تكون أخطر؟
علاقتي بالنقد الأدبي ومصطلحاته الجمالية واللغوية تجعلني اشعر بالرعب أمامها. ما قمنا به في لجنة التحكيم كان عملا ثقافيا في مؤسسة ثقافية تعاملنا مع نصوص شفافة جميلة وقيم فنية وإنسانية وليس تحضيرا لحرب في ثكنة عسكرية أو في مقر حزب سياسي.
سيظل هذا الخلاف قائما ، وسيتجدد كلما توفرت شروطه، أو صادف فرصة ما ، ولن يزول إلا حين تحل المشكلات التي تغذيه وتثيره وتنمي مسبباته من كراهية واصطفاف ايديولوجي واقصاء وتبعية وتخلف علمي واختلافات مرجعية . وما قلته شخصيا عن المثقف المنافق إشارة إلى أولئك الذين لا تخلو صفحاتهم من البذاءة يوميا دون أدنى احترام لعائلاتهم ويرافعون من أجل الأخلاق. هناك ازدواجية مقيتة وتطرف لا يقصد به حتما التطرف الديني لأن أخطر أنواع التطرف نبذ الاختلاف وإقصاء الرأي الآخر ليكن من بيننا مثقف رشيد .وما أبرئ نفسي.
من حق كل شخص نتقاسم معه التاريخ والحاضر والمستقبل أن يدافع عما يراه الأفضل له ولمجتمعه، وأن يرافع من أجل المبادئ التي يراها ضرورية لقيم الحق والخير والجمال. فليس صحيحا الادعاء بأن النص الأدبي مجرد وثيقة لغوية جمالية فحسب، وليس صحيحا أن الأخلاق بمعزل عن الأدب، كما قيل قديما، الأدب خطاب ظاهره الجمال وباطنه فكر وثقافة وقيم ورؤية للعالم. ولا اظن أن المتحاورين يختلفون في هذه المبادئ، انما يقع الخلاف في التفاصيل وفي تأويل مقاصد النص.
ما يمكن أن يلاحظ في هذه المناقشات من صوت عال يمكن اعتباره أمرا عاديا بالنظر إلى أننا في ثقافة نادرا ما تنفتح على التعددية الفكرية والتنوع الثقافي والحوارات المعرفية الهادئة التي تهدف الى البحث الأفضل وتخلق سبلا للحوار البناء وليس للعداء. فلم إذن لا نعتبر هذه اللحظة تأسيسا لأدب المحاورات، نخطئ فيها ونصيب، ثم نخطئ ونصيب، خاصة وأن كل نشاط بشري يقع في دائرة الممكن والنسبي، مما يستوجب التواضع وقبول الرأى المختلف.
صحيح أن بعض الخطابات التي قرأناها ما تزال تئن تحت إكراهات عاطفية و إيديولوجية مختلفة، وقد شهدنا مثلها في زوبعة حيزية والمعجم الطوبونيمي وغير ذلك. حتى غاب الإشكال الحقيقي للمشكلة، فكل محاور يحدد إشكاليته كما يريد، ومن أول رأي قرأه وتم تداوله ولذلك انعطف الحديث الى قضايا تتجاوز الموضوع الأصلي وأحيانا يتعدى المسألة الأدبية إلى مسائل أخرى تتعلق بالأشخاص والأعراض. وهذا يعني أن أسئلتنا الثقافية ما تزال بين قوسين، فنحن لم نشتغل بالقدر الكافي على ثقافتنا، ولذلك ما تزال مشكلاتنا الثقافية معلقة، في الوقت الذي نعتقد أننا أنهينا العمل عليها .
ـ
وبالعودة إلى رواية هوارية فأود القول أولا أنه لا يوجد خطاب بشري مثالي في التاريخ، فنحن نعيش في عالم نسبي مطلق النسبية تحكمه شروط نفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية، ولذلك فهو خطاب يظل ينفي نفسه باستمرار ويجدد كينونته على الدوام، ولا يمكن أن نتوقع نصا مثاليا أبدا، فالمثالية حالة ذاتية أكثر منها حقيقة واقعية، وثانيا، هل فعلا هذه الرواية ايروتيكية أو برنوجرافية ، لا أريد أن أخوض في تحديد هذه المصطلحات لكني أود أن أقول ان الرواية لاعلاقة لها لا بهذا ولا بذاك، الرواية اجتماعية وما جاء من ألفاظ إباحية أقررنا بها ارتبط بالفئة الاجتماعية التي تحدثت عنها الرواية.و جاء في سياقات غير إباحية، بمعنى أنها لم تأت في سياق مشاهد جنسية بل جاءت في سياقات أخرى لا علاقة لها بالجنس، ويمكن لأي ناقد موضوعي أن يتأمل في سياق تلك الألفاظ ولم نكن في غفلة عن هذا ، إنما لم نرها، تؤثر لا على بنية الرواية ولا على الذوق العام ولا على الأصول والأعراف الاجتماعية ، ناهيك أن تكون لها تأثيرات على الدين، اللهم إلا كنا نريد من الروائي ألا يشتغل على موضوعات بعينها وتلك خيارات لا يمكن لأحد أن يفرضها على الروائي. إن كثيرا من التهويل أخفي الحقيقة ، خاصة وأن اغلب المعلقين يصرحون أنهم لم يقرؤوا الرواية، بل حتى الذين قرأوها بعد نشرها تحكمت فيهم جزئيا الضجة التي أثيرت حول الكلمات النابية ولذلك، فهم، في الحقيقة، لا يناقشون إشكالية الرواية بل يناقشون إشكالية أخرى عامة متفرعة وهي إشكالية الرواية والأخلاق بوصفها إشكالية مطلقة ، فمتى نقول عن حدث ما أو لفظ ما أنه غير أخلاقي ، وإذا كان اللا أخلاقي هو انحراف ما عن المعتاد الأخلاقي ، فما المقدار من الانحراف الذي يعد انحرافا أخلاقيا ، وما القدر من النقد او اللوم او المحاسبة الذي يوجه اليه؟ كان يمكن لمن لم يستسغ مثل تلك العبارات أن ينبه إليها أو يعاملها معاملة الأخطاء اللغوية فيتمنى لو لم تكن ، وله الحق ايضا أن يعتبر الرواية نصا فاشلا ، ولكن هل من المنطقي أن ينحرف النقاش إلى تشهير مبالغ فيه واستخفاف بالكاتبة والمحكمين وتخوينهم ؟ وإذا كان أغلب المعلقين لم يقرأوا الرواية. فكيف يمكن لثقافة أن تنتج نقادا ومفكرين لم يقرأوا ومع ذلك ينتجون فكرا ونقدا.. ومع ذلك فانا أتفهم هذه الهبة الثقافية خاصة وأننا في عالم لا يشك أحد أنه في حالة سقوط أخلاقي خطير باعتراف كبار مفكري العالم، غير أن القراءة الجزئية والتعميمية لا يمكن بحال أن تكون موضوعية، فكلنا ننطلق من خلفيات إيديولوجية أو ذاتية فماذا مثلا لو أن الرواية تخفي ما هو اخطر، وأن هذا الخطاب الإباحي إنما هو حيلة للتستر على خطابات أسوأ منه وأكثر خطورة.مثلما لمحناه في روايات تثير نعرات عرقية وسياسية وأخرى لا تخلو صفحة فيها من خطأ لغوي أسلوبي أو إملائي؟
لم أكن في مسيرتي العلمية استسيغ هذه الجرأة في الكتابة الأدبية ، وخاصة إذا كانت مجرد جرأة لا هدف لها، ورغم اهتمامي الطويل نوعا ما بالرواية الجزائرية فقد تجنبت دراسة الروايات التي حولت النص الأدبي الى مشاهد ايروتيكية ، وما زلت أتحفظ عليها مع احترامي لشخص أصحابها.، لكن الأفكار مختلفة والأذواق متعددة، ولو رأيت أن هذه الرواية تشكل خطرا على الذوق العام لما كنت وافقت على تزكيتها، ولانسحبت من اللجنة غير آسفة، لأن ما فيها من إباحية لا يشكل نسبة تذكر ، بالقياس إلى غيرها من الروايات العربية وغير العربية ، هذه وجهة نظرنا ولا ندعي مطلقية صوابها، ولمن يرى خلافها فلن نصادر رأيه، ونحن في عالم الانسانيات لا يمكن ادعاء اليقين.
لقد كتبت غير ما مرة أن الرواية العربية هي جزء من امبراطورية الرواية التي نشأت في سياق ثقافي غربي وتوجهها مؤسسات ليست بريئة، ثقافية وإعلامية واقتصادية وكتابي سوق الرواية يؤكد ذلك، وهي بهذه الصفة تهيمن على الرواية العربية وتوجهها وتملي عليها موضوعاتها وأساليبها، وستظل الرواية العربية ومنها الجزائرية متخبطة في مشكلاتها ما لم تتحرر من سلطة امبراطورية الرواية. وتعود إلى واقعها وتاريخها لتستلهم منه موضوعاتها فتساهم في كشفهسوءاته وتثمين لحضاته المنيرة.
أما بالنسبة لمن أشار إلى الأخطاء اللغوية والأسلوبية في الرواية، أو عاب عليها اللجوء إلى العامية أو رآها بنية هشة غير محكمة لا ترقى إلى مستوى الفن الروائي، فهذا رأي ممكن إذا قام على حجة تدعمه ، إلا إذا كان الموقف من الدارجة الجزائرية، حتى ليخيل لي أنه لو استعملت الكاتبة ألفاظ مثل العاهرة واللقيط وغيرها بالفصحى لم تكن لتثير أي إشكال. وقد لاحظنا تلك الأخطاء، التي أشارت إليها بعض المنشورات بل أحصيناها في جداول لكل رواية. ولكن اللجنة اختارت هذه الرواية ولم تقل تلك هي الرواية المثالية كما يريد البعض أن يقولنا، وكما نعلم فإن اختيارات اللجان دائما خيارات نسبية ، ومن الصعب أحيانا أن تفاضل بين عملين أدبيين متقاربين ، فعملنا نسبي ويمكن أن لا يكون خيارنا سليما ولكنه ليس مؤامرة ضد أحد أو إقصاء له أو خدمة لأجنبي أو إرضاء للغير أو خدمة لمشروع أجنبي، أو أننا اشتغلنا تحت أي ضغط من أي جهة . إن فوز عمل أدبي بجائزة معينة لا يعني بالضرورة أنه أفضل عمل، فالنقاد قد يرون رأيا آخر، وهذا هو الواقع في معظم الجوائز. جائزة آسيا جبار وغيرها من الجوائز الأخرى لا تهدف فقط إلى تزكية عمل أدبي معين ولكنها تهدف أيضا إلى خلق نشاط أدبي حول الرواية وباقي الروايات في القائمتين الطويلة والقصيرة ونقدها وقراءتها والانشغال بها وبما حولها من قضايا الأدب والثقافة الوطنية.، إضافة إلى تجميع الكتاب حول قضايا الوطن ـ تاريخه وحاضره، وهذا ما لاحظناه فعلا، فقد تشكل ما يمكن اعتباره ظاهرة الرواية الجزائرية، أي الرواية التي تسعى إلى تأسيس خصوصية محلية سواء من خلال التاريخ أو من خلال الواقع. هذه الرمزية ينبغي أن تستحضر في الذهن ولا تغيب، أما الرواية الفائزة فتأتي لتتويج ذلك النشاط كله .ولا يمكن الإجماع المطلق عليها.
الأغرب أن يذهب البعض إلى اعتبار الرواية عملا يهدد الوحدة الوطنية ويسيء إلى منطقة من الوطن وإلى رموزه وبالذات إلى رمزية هوارية ، مثل هذا التأويل والتهويل والمبالغة في استثارة مشاعر الناس وفرض الاصطفاف الإيديولوجي عليهم وتحويل المسالة الأدبية إلى فعل خطير يهدد اللحمة الوطنية هو الخطر في حد ذاته ، هذا الخطاب العاطفي المتحمس المثير هو ما نخشاه ونحاول توجيهه، إن كان لابد، الوجهة الصحيحة عند اللزوم، ثم متى كان الأدب بهذه الخطورة أصلا؟ ونحن شعب لا يقرأ وهل قرأ المثقفون بقية الروايات مثلا وكم من روائيين وشعراء لا يزالون في الظل.
لقد لحقنا الكثير من الأذى مع الأسف من زملائنا ومن بعض طلبتنا، وهم يعرفون ، أو غالبيتهم على الأقل، أفكارنا بخصوص المسائل الحساسة من مثل الهوية واللغة والأخلاق والدين، ويعلمون حق العلم ما قدمنا دفاعا عن ذلك كتابة ومحاضرة وتدريسا وتوجيها وإشرافا ، ولا أدري كيف ندعو إلى حماية الأخلاق بالتشهير والتكذيب والتخوين والتجهيل والتسفيه.
نحتاج الى التسامح، رغم ما لحق بهذا المفهوم من استعمالات تنفرني من استعماله، لكنني استعمله مضطرة بالمعني العامي دون ملحقات إيديولوجية، الحدة اللغوية التي قرأناها لدى الطرفين غير مؤهلة لانتاج خطاب ثقافي ينمي ويطور ثقافتنا بل بالعكس فهو خطاب مدمر ، لا ادري ما المبرر في نقاش ثقافي استعمال مفردات سياسية وقد تصل الى العسكرية، ما الداعي الى التنديد والاستنكار والشجب والإدانة و التجني ونحوها ، وكتابة عرائض وعرائض مضادة، وقوائم مساندة من هنا وهناك، وتجييش هنا وهناك. أما كان الأحرى لو فتحت ملفات حقيقية في الثقافة الجزائرية جديرة بالمناقشة والبحث والتفكير؟ ألا تخفي هذه الهوشة أنساقا مضمرة تريد أن تؤجج الصراع الأبدي بين المثقفين الجزائريين من المعربين والمفرنسين ، أليس هناك محاولة لإبعادهم عن التفكير في قضايا ربما تكون أخطر؟
علاقتي بالنقد الأدبي ومصطلحاته الجمالية واللغوية تجعلني اشعر بالرعب أمامها. ما قمنا به في لجنة التحكيم كان عملا ثقافيا في مؤسسة ثقافية تعاملنا مع نصوص شفافة جميلة وقيم فنية وإنسانية وليس تحضيرا لحرب في ثكنة عسكرية أو في مقر حزب سياسي.
سيظل هذا الخلاف قائما ، وسيتجدد كلما توفرت شروطه، أو صادف فرصة ما ، ولن يزول إلا حين تحل المشكلات التي تغذيه وتثيره وتنمي مسبباته من كراهية واصطفاف ايديولوجي واقصاء وتبعية وتخلف علمي واختلافات مرجعية . وما قلته شخصيا عن المثقف المنافق إشارة إلى أولئك الذين لا تخلو صفحاتهم من البذاءة يوميا دون أدنى احترام لعائلاتهم ويرافعون من أجل الأخلاق. هناك ازدواجية مقيتة وتطرف لا يقصد به حتما التطرف الديني لأن أخطر أنواع التطرف نبذ الاختلاف وإقصاء الرأي الآخر ليكن من بيننا مثقف رشيد .وما أبرئ نفسي.