خلق الكون - خلق الإنسان - غاية الوجود - معنى البعث - العقاب الذاتي
في رأي الإخوان أن الكون وما فيه من أجرام وأفلاك سماوية وأحياء وكائنات أرضية مشتق جميعاً ومنبثق من الله، ولكنه انبثاق متسلسل غير مباشر، وأول ما انبثق منه هو العقل الكلي أو القوة الإلهية
المؤيدة للنفس الكلية، ثم النفس الكلية السارية في جميع الأجرام السماوية والأحياء الأرضية. وهذه النفس الكلية هي بطبيعة الأمر أحط من العقل الكلي، لأنها منبعثة منه، ولأن وجودها متوقف عليه. (ولهذه النفس الكلية قوتان ساريتان في جميع الأجسام: إحدى قوتيها علاَّمة، الأخرى فعَّالة. فهي بقوتها الفعالة تتم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها (أي النفس الكلية) بما يظهر من فضائلها من حد القوة الكامنة إلى حد الفعل).
ويرى إخوان الصفا أن ظهور الإنسان نتيجة لرغبة النفس الكلية في الحصول على المعرفة التامة التي هي من صفات العقل الكلي. ولهذا فان هذه النفس الكلية تنزل إلى الأرض وتنتشر على سطحها بهيئة أنفس جزئية. إلا أن هذه الأنفس لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العقل بدون معونته وإرشاده. ومن أجل هذا ينزل العقل إلى الأرض، فيساعد النفوس إذ يحل فيها ويظهر بهيئة العقول الإنسانية. بيد أنه لما كانت النفوس دائمة التغير كثيرة التحول وكان العقل ثابتاً لا يعتريه النقص أو يعتوره التغير أصبح العقل يحل في هذه الأنفس الجزئية حلولا متعاقبا. وهو عند هذا الحد من الحلول يدعى العقل الناطق. وهي الذي يرسل الأنبياء ويبعث الرسل ليؤدوا رسائله إلى العالم أما النفس الكلية فهي إذ تحل في الأجسام بشكل أنفس جزئية تأخذ على عاتقها تفسير ما عمى على الناس فهمه وغاب عنهم علمه من رسائل هؤلاء الأنبياء والرسل.
فإذا أحسنت هذه الأنفس الجزئية الاسترشاد بنور العقل وأفسح لها البقاء زمناً كافياً تنال فيه حظا وافياً من فنون الحكمة والتهذيب تضحي أهلا للاتحاد بالنفس الكلية. وإذا حمُ القضاء انطلقت هذه الأنفس من أجسادها (التي هي بمنزلة الرحم للجنين) وعند ذلك ترتقى إلى الملأ الأعلى لتتحد بالنفس الكلية.
هذا هو معنى المعاد في نظر إخوان الصفا: وهو الاتحاد بالنفس الكلية ثم بالله في اليوم الأخير، ومن هنا أصبح مثل الحياة الأعلى للإخوان (التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية) على أن نظر إخوان الصفا إلى الحياة هذا النظر - نظر من لا يرى فيها إلا أنها سبيل أو جسر يمر عليه الناس إلى الحياة الأخرى - لم يحملهم على احتقارها أو التقليل من شانها والزراية عليها (لان الحياة الدنيوية سبب للموت. والإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكنه أن يموت، فإذا وجد الإنسان تكون حياته سبباً لموته، وموته سبباً لحياته الباقية أبد الآبدين) بل هم يرون أنه كلما مد في أجل المرء ازداد حكمة ومعرفة، وبالتالي دنوا من الله. ومن هنا لم يتشدد إخوان الصفا ولم يغالوا في الأنحاء على الجسم الإنساني والانتقاص من أسباب متعته مغايرين في هذا لفيفا كبيراً من المذاهب الشرقية التي جعلت دأبها حرمان الجسم الإنساني من كل لذة جمسانية أو متعتة حسية.
والصورة التي خلفها لنا إخوان الصفا عن جهنم هي صورة هينة لا تبعث الرعب في النفوس ولا ترعد لها الفرائص، فجهنم الإخوان هي هذا العذاب النفسي الذي يسلط على النفوس لدن يحال بينها وبين ما تهوى وتحب. وذلك أن أنفس الأشرار (إذا فارقت أجسادها بقيت مسلوبة آلات الحس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذ الجسمانية وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعد ما اعتادتها بطول التدريب وعند ذلك يكون مثلها مثل من سملت عيناه وصمت أذناه وسد منخراه وأخرس لسانه وشلت يداه واشتد شوقه إلى لذاته، وهكذا يكون حكم نفوس الكفار إذا فارقت أجسادها وسلبت منها آلات الحس وحيل بينها وبين شهواتها. . وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر (المسافة بين فلك القمر ومركز الأرض هي عندهم منطقة جهنم) وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيآتها وسوء عاداتها.
هذا مجمل رأي الإخوان في مسائل الخلق وغاية الوجود والثواب والعقاب وهو رأي نحوا فيها منحى بعض المذاهب الفلسفية القديمة كالأفلاطونية الحديثة ومذهب وحدة الوجود وما إليها مما تأثر به فلاسفة الإسلام وظهر واضحا جليا في كثير مما كتبوا ودونوا.
شرق الأردن أديب عباسي
مجلة الرسالة - العدد 35
بتاريخ: 05 - 03 - 1934
في رأي الإخوان أن الكون وما فيه من أجرام وأفلاك سماوية وأحياء وكائنات أرضية مشتق جميعاً ومنبثق من الله، ولكنه انبثاق متسلسل غير مباشر، وأول ما انبثق منه هو العقل الكلي أو القوة الإلهية
المؤيدة للنفس الكلية، ثم النفس الكلية السارية في جميع الأجرام السماوية والأحياء الأرضية. وهذه النفس الكلية هي بطبيعة الأمر أحط من العقل الكلي، لأنها منبعثة منه، ولأن وجودها متوقف عليه. (ولهذه النفس الكلية قوتان ساريتان في جميع الأجسام: إحدى قوتيها علاَّمة، الأخرى فعَّالة. فهي بقوتها الفعالة تتم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها (أي النفس الكلية) بما يظهر من فضائلها من حد القوة الكامنة إلى حد الفعل).
ويرى إخوان الصفا أن ظهور الإنسان نتيجة لرغبة النفس الكلية في الحصول على المعرفة التامة التي هي من صفات العقل الكلي. ولهذا فان هذه النفس الكلية تنزل إلى الأرض وتنتشر على سطحها بهيئة أنفس جزئية. إلا أن هذه الأنفس لا يمكنها أن ترقى إلى مستوى العقل بدون معونته وإرشاده. ومن أجل هذا ينزل العقل إلى الأرض، فيساعد النفوس إذ يحل فيها ويظهر بهيئة العقول الإنسانية. بيد أنه لما كانت النفوس دائمة التغير كثيرة التحول وكان العقل ثابتاً لا يعتريه النقص أو يعتوره التغير أصبح العقل يحل في هذه الأنفس الجزئية حلولا متعاقبا. وهو عند هذا الحد من الحلول يدعى العقل الناطق. وهي الذي يرسل الأنبياء ويبعث الرسل ليؤدوا رسائله إلى العالم أما النفس الكلية فهي إذ تحل في الأجسام بشكل أنفس جزئية تأخذ على عاتقها تفسير ما عمى على الناس فهمه وغاب عنهم علمه من رسائل هؤلاء الأنبياء والرسل.
فإذا أحسنت هذه الأنفس الجزئية الاسترشاد بنور العقل وأفسح لها البقاء زمناً كافياً تنال فيه حظا وافياً من فنون الحكمة والتهذيب تضحي أهلا للاتحاد بالنفس الكلية. وإذا حمُ القضاء انطلقت هذه الأنفس من أجسادها (التي هي بمنزلة الرحم للجنين) وعند ذلك ترتقى إلى الملأ الأعلى لتتحد بالنفس الكلية.
هذا هو معنى المعاد في نظر إخوان الصفا: وهو الاتحاد بالنفس الكلية ثم بالله في اليوم الأخير، ومن هنا أصبح مثل الحياة الأعلى للإخوان (التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسانية) على أن نظر إخوان الصفا إلى الحياة هذا النظر - نظر من لا يرى فيها إلا أنها سبيل أو جسر يمر عليه الناس إلى الحياة الأخرى - لم يحملهم على احتقارها أو التقليل من شانها والزراية عليها (لان الحياة الدنيوية سبب للموت. والإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكنه أن يموت، فإذا وجد الإنسان تكون حياته سبباً لموته، وموته سبباً لحياته الباقية أبد الآبدين) بل هم يرون أنه كلما مد في أجل المرء ازداد حكمة ومعرفة، وبالتالي دنوا من الله. ومن هنا لم يتشدد إخوان الصفا ولم يغالوا في الأنحاء على الجسم الإنساني والانتقاص من أسباب متعته مغايرين في هذا لفيفا كبيراً من المذاهب الشرقية التي جعلت دأبها حرمان الجسم الإنساني من كل لذة جمسانية أو متعتة حسية.
والصورة التي خلفها لنا إخوان الصفا عن جهنم هي صورة هينة لا تبعث الرعب في النفوس ولا ترعد لها الفرائص، فجهنم الإخوان هي هذا العذاب النفسي الذي يسلط على النفوس لدن يحال بينها وبين ما تهوى وتحب. وذلك أن أنفس الأشرار (إذا فارقت أجسادها بقيت مسلوبة آلات الحس الخمس التي كانت تتناول بها الملاذ الجسمانية وصارت بعد ذلك ممنوعة عنها بعد ما اعتادتها بطول التدريب وعند ذلك يكون مثلها مثل من سملت عيناه وصمت أذناه وسد منخراه وأخرس لسانه وشلت يداه واشتد شوقه إلى لذاته، وهكذا يكون حكم نفوس الكفار إذا فارقت أجسادها وسلبت منها آلات الحس وحيل بينها وبين شهواتها. . وتكون هائمة في الجو دون فلك القمر (المسافة بين فلك القمر ومركز الأرض هي عندهم منطقة جهنم) وتطرح بها أمواج الطبيعة في بحر الهيولى إلى كل فج عميق وهي مشتعلة فيها بنيران شهواتها، وتكون معذبة بذاتها من وزر سيآتها وسوء عاداتها.
هذا مجمل رأي الإخوان في مسائل الخلق وغاية الوجود والثواب والعقاب وهو رأي نحوا فيها منحى بعض المذاهب الفلسفية القديمة كالأفلاطونية الحديثة ومذهب وحدة الوجود وما إليها مما تأثر به فلاسفة الإسلام وظهر واضحا جليا في كثير مما كتبوا ودونوا.
شرق الأردن أديب عباسي
مجلة الرسالة - العدد 35
بتاريخ: 05 - 03 - 1934