د. عيد صالح - السعيد صالح في "تغريبة آل حبرون" بين رواية التاريخ وتاريخ الرواية

لم تعد الكتابة الروائية مجرد حكاية أو حدوتة ،وإن كانت هي الأصل والأساس في السرد ، فليس هناك سردية بدون حكاية أو حدوتة ولكن أي حكاية وأي حدوتة .؟ ومن ثم كان لابد من تجليات السرد المابعد حداثي ليس بالمعني الفانتازي والغرائبي والأسطوري والماورائي والغيبي وكل ما يتصل باللاوعي فقط ولكن أيضا بالنوستالجيا والتناص مع التاريخ والتراث لا بالاستنساخ ولكن بالحوار الجدلي والاشتباك والتداخل والانصهار في نصوص سردية جديدة بدلالات ومعاني ورموز وإسقاطات تعيد للرواية بهاءها ونضارتها بعيدا عن التكرار والاستنساخ..!!
ولأن ذلك يحتاج إلي احتشاد معرفي يتجاوز القراءة والإلمام بكل جوانب التاريخ إلي الغوص حد العشق والمعاناة في كتابة تخرج من لهيب التجربة الوجدانية باصطلاء التاريخ الذي يسكننا ويحركنا جينيا وأنثروبولوجيا حد الزعم بأن التاريخ يكرر نفسه فينا حتى بنظرية المؤامرة التي بني عليها المؤلف في تلك التغريبة لآل حبرون والتي أكدتها الأحداث التاريخية التي شهدت عمليات القتل والحرق بالتكفير والهرطقة والتنصير الإجباري بعد سقوط الأندلس وتسليم غرناطة للقشتاليين مع أن هناك من تنصر بدافع العمل علي استغلال ذلك في فكرة الرواية الأساسية والتي تبدت علي لسان القس راؤول هرنانديس لحبرون بطل الرواية الرئيسي والأب المؤسس لآل حبرون ." لقد بدأت أنا وعدد من رفقائي في إرساء مذهب ديني مسيحي جديد يكون قائما علي تعاليم وأفكار وفلسفة معلمنا موسى بن ميمون ،ولقد كان مردوده جيدا ومبشرا فى أرجاء الأندلس كله بل في البلدان المجاورة أيضا وإذا انتشر هذا المذهب نكون قد نجحنا بدمج تعاليمنا في تعاليمهم الهشة لنسيطر عليهم كليا ونحقق أحلامنا بإعادة الاعتبار للعهد القديم ولشهدائنا " .
كان هذا الحوار لإقناع حبرون بالتنصر هو وأولاده بعد أن اشتدت محاكم التفتيش بالعصف باليهود والمسلمين ممن تمسكوا بدينهم واضطر الكثيرون للهجرة لبلاد المغرب العربي بما فيهم حبرون وولده عبيداس وخادمتهما إليسا وقد غيروا دينهم مرة أخري للإسلام رغم تمسكهم بيهوديتهم في الباطن ، وتتأكد مقولة القس في أكثر من موضع بالرواية وحيث تتداخل الأحداث والتواريخ بين الماضي من خمسمائة عام 1492والحاضر عامي كتابة الرواية 2015 و 2016 .
وكما فعل ميلان كونديرا في روايته البطء باللعب علي الزمن وتداخل الأحداث في مائتي عام متخذا تقنبة النص المفتوح علي كل أنواع الكتابة من مقال وطرفة وحكمة علي لسان المؤلف والذي سمي بالميتاسرد والذي نجد له مثالا هنا في الكتابة السياسية عن نظريات فوكوياما عن نهاية التاريخ وصمويل هانتجون عن صراع الحضارات والحديث عن رؤساء أمريكا الذين اعتنقوا المسيحية اليهودية من ريجان لبوش الأب وبوش الإبن الذي أعلنها صراحة بعد أحداث سبتمبر 2001 بأنها حرب صليبية ، ويتجلي الميتاسرد في ابتداع الأنا الساردة علي لسان كل الشخصيات ،ومن ثم تتعدد لغة السرد بتعدد الشخصيات والأحداث والحوارات حتى مع النفس كما تتداخل الفصول بين الماضي والحاضر في سرد محكم فسيفسائي يهتم بالتفاصيل وبناء الشخصية الجسماني والنفسي حيث الظاهر والباطن بعيدا عن الكلاشيهات،حتى في وصفه للمرأة ومواطن الجمال ووصفه لحفلات المجون الهادفة والتي تخدم فكرة الرواية حيث الأقنعة والجنس والحوارات الذكية الموحية ، أقول أن الكاتب برع في بناء الشخصية بدقة وعمق من حبرون الداهية المتلون لضابط الشرطة المثالي العصري وبينهما خمسمائة عام وكأن الزمن بصيرورته يدور في حلقة محكمة ليست قدرية ، ولكن بصنع البشر الذين يتناوبون الحاضر والماضي وكأن الحياة حلم وكأننا في سردية كبري للكون،ذلك الضابط المولع بقراءة الكتب والمخطوطات ولكن أية كتب وأية مخطوطات ..؟ إنه الشخصية المقابلة والمواجهة لشخصية حبرون رغم الخمسمائة عام التي تفصل بينهما لكنه إقتراع الفكر الممتد وصراع الرؤي والنظريات إنها المواجهة بين ضابط الشرطة المثقف وآل حبرون أصحاب المخطوطات والنساخين للتراث الذي لعبوا فيه وبه بما يلائم الفكرة الرئيسية وحيث أن التاريخ مؤامرة صهيونية كبري للسيطرة علي العالم عن طريق الدين بمحاربة أعوان المسيخ الدجال المنتشرين في الأرض لعودة المسيح اليهودي للقضاء عليه وفي المقابل تسلح لها الضابط بالعلم واستدعاء الخبير والدارس لكل عمليات الإرهاب ودوافعها علي مر العصور والقراءات المطولة في كتب وأفكارعلماء النفس " من لامبروز لسيجموند فرويد لكارل يونج حتى وليام جيمس وكورت لوبن " لفك شفرات القتل المستنسخ الذي يترك رسالة توراتية محرفة علي جبهة وفي عين القتيل حيث الرقم 666 المدلي من خنجر مغروز في العين ، وهو أيضا الضابط الشخصية الإنسانية التي تحمل المسدس فقط بحكم المهنة مكرها ولا يتعامل مع المتهم بأساليب البطش والتعذيب لانتزاع الاعترافات ،وتتكامل شخصيته بقوتها وضعفها في حبه لزوجته التي يهرع إليها كطفل صغير يرتمي في أحضان أمه ناشدا الدفء والحنان والأمومة والسكينة والأمان ..!
إنها رواية الماضي الذي يمتد في التاريخ عبر أجيال تحافظ علي مهنتها التي تحافظ بها علي هويتها وأيديولوجيتها التي تكررت من القس راؤول في غرناطة كما ذكرت آنفا لفرانكو بوفوني في البندقية عام 1514 في حوار بينه وبين جوزيبي الابن الأصغر لحبرون والذي رفض أن يستمر في مهنة المخطوطات وسافر للبندقية لاحتراف مهنة الحسابات التي برع فيها
" لقد سمعت أنكم تعملون جاهدين علي شيء جديد في أوروبا . نعم مشروع لمذهب جديد في المسيحية ستكون مرجعيته التوراة بل سيصبح جزءا جديدا من العبادات والشعائر في الكنائس وسيكرس بأن المسيح ولد يهوديا ،وسوف نقوم أيضا بنشره في أرض كولومبس الجديدة أفهمت الآن لماذا مولنا رحلاته منذ سنوات لتكون هناك مستعمرات جديدة تنشر فيها روح اليهودية – يا أخي يجب أن يقروا بأننا أبناء الرب وما عدانا ضيوف علينا " ص 125
إنها لعبة الماضي والحاضر يتداخلان في السرد كما في الحياة وكما أن الحاضر يحمل جنين الماضي وجيناته الممتدة عبر الأجيال فإن تغريبة آل حبرون تمتد في التاريخ عبر خمسمائة عام وفي ثلاث قارات أوروبا وأفريقيا وأمريكا لتحمل الأفكار التي وضعت كاستراتيجية الحفاظ علي الهوية والسيطرة علي العالم بالعلم والمخطوطات التي يدسون فيها أفكارهم الشيطانية عن المسيخ الدجال وأعوانه وفكرة المسيا وتطورها .وقد استغل حبرون ذلك في القضاء علي خصمه الغطريف صاحب منشأة شمس المعارف لأنه لم برد أن يبيعها له أو يشركه فيها بكتابته المخطوط الأسود الذي يحرض علي الفتنة بحجة قتال أعوان المسيخ الدجال الذين ينشرون الانحلال والدعارة والفجور وأدي ذلك إلي حرق شمس المعارف واحتراق صاحبها لتؤول إليه ويتملكها من أخيه
إن فكرة التنصر أو الدخول في الإسلام لم تكن بدافع التقية والخوف من العصف والحرق والإبادة كما كانت في البداية ولكنها صارت استراتيجية الغزو الفكري والعقائدي ببث الإسرائيليات في الكتب والمخطوطات وتأليب العامة والغوغاء علي الثورات كما فعل برنارد ليفي الصهيوني الفرنسي عام 2011 في صنع ثورة ليبيا من الألف للياء، وحتى في شخصية عبد القدير الطيبة الشهمة المحبة للأطفال في الرواية كانت مريضة بازدواج في الشخصية بسبب صراعات الأفكار وثورات الشك التي أدت إلي استغلال الشخصية الشريرة فيه لتنفيذ المهام التي كلفه بها صاحب مكتبة وسط البلد فرنسوا وجمعية لاتوس السمكة المقدسة التي تعمل تحت شعار إفشاء السلام بين الأديان وبين أمم العالم وليرتكب جرائم القتل الثلاثة بنفس الطريقة والأدوات بمساعدة فرنسوا بحجة تخليص العالم من الانحلال والرذيلة
إن شخصية عبد الله الذي انفصل عن أبيه في فاس بسبب ما فعله في الغطريف وشمس المعارف وهاجر إلي مصر هو الشخصية الطيبة المستقيمة في أل حبرون والتي لم تتورط أبدا في الرواية وحتي في نهايته المأساوية استقبلها راضيا بقضاء الله وقدره وقد كان ذاهبا لتحذير أخيه خوسيه من مؤامرة قتله بالس
إنها رواية الفكرة والتخطيط لها عبر سردية جادة باستراتيجية فنية حاذقة وذكية في توظيف الزمن والتاريخ والربط بين أحداث الماضي والحاضر وتداخلهما في سرد دائري يحتاج ليقظة القارئ والاهتمام بالعناوين والتواريخ الداخلية لا كعتبات للفصول السبعة والعشرين ودلالاتها فقط ولكن لربط الأحداث وتصاعدها الدرامي في بنية ما بعد حداثية رامزة موحية متعددة الطبقات والروي والحوار والميتاسرد في فصول متصلة منفصلة حتى يمكننا أن نجعل من الفصول المؤرخة في عامي 2015 و 2016ا رواية كاملة وكذلك الفصول المؤرخة منذ خمسمائة عام رواية أخري لكنها عبقرية الدمج والتدوير في بنية جديدة أساسها التجريب والمغايرة بعيدا عن التكرار والاستنساخ ومع جدية وجمال السرد تحتاج لليقظة لتفصل بين المتحاورين وتعدد الأصوات والسارد العليم بتعدد الشخصيات لتتحدث كل شخصية بلسانها وكأننا حيال رواية شخصيات لا كميرامار التي تروي كل شخصية جزءا من الأجداث التي تتكامل في النهاية ولكنها هنا تطوير لشخصية السارد العليم علي لسان كل شخصيات الرواية ويتداخل الروي بين الهو والأنا وأحيانا يكون منولوجا أو خطابا للذات الساردة.


إشارات
1- استطاع المؤلف في مراوحته بين رواية الفكرة ورواية التاريخ أن يعطينا نصا ما بعد حداثي تجريبي بامتياز فما بين التاريخي بالعناوين الداخلية والأحداث الواقعية المؤرخة بالسنين والأشهر والأيام والساعات والدقائق وبين الفكرة التي يركز عليها في الحوارات والمخطوطات والأحداث التي تترجمها لفرض أيديولوجية تؤكدها الصراعات المحتدمة والحروب المتفجرة والنظريات والمخططات التي وضعها قديما الكهنة والحاخامات وحديثا يأفكار وخرائط برنارد لويس لتمزيق الشرق الأوسط وإعادة تقسيمه بما يحقق السيطرة السياسية والأيديولوجية والعقائدية وقد شاهدنا صنع الثورات البرتقالية وإعادة إنتاجها بثورات الربيع العربي .
2- المرأة في الرواية لم تأخذ المساحة التي تتسق مع تعاطف المؤلف معها وجعلها إيجابية حتى حين كانت غانية كانت ملهمة لبناء الأسرة والاستقرار مثل شخصية معشوقة التي ابتني لها خوسيه منزلا خاصا وحملت منه وتمني الاستقرار معها بعيدا عن زوجته العقور وزواجه البراجماتي منها وكذلك خادمة آل حبرون إليس االطيبة المخلصة النقية التي تمناها حبرون أن تكون زوجة لأحد أبنائه وكذلك جميلة وابنتها التي تزوجها عبد القدير لا يمنع هذا من المرأة التي رافقت عبد القدير خبيرة التدليك والتي كانت مع فرنسوا صاحب مكتبة وسط البلد والتي تحاك فيها خطط الاغتيالات بيد عبد القدير ز
3- فى تغريبة آل حبرون جعلنا المؤلف أن نتعاطف مع الشخصيات وبالأخص عبد القدير المريض بازدواج الشخصية وهو مرض نفسي ترتكب فيه الشخصية الشريرة الجرائم رغم طيبة ونقاء الشخصية الأخري والتي تتصارع معها في الرواية وتشد القارئ للتعاطف معها وحتى جوزيبي الواعي والمنفذ لمخطط الاستيلاء علي مقدرات مصر وقرارها السياسي منذ خمسمائة جاءت نهايته المليودرامية قاسية ومؤلمة ختي للمتلقي أما نهاية حبرون فقد جاءت مقنعة ومريحة كعقاب سماوي وانتقام للقارئ أيضا حتي نهاية عبد الله التي أحزنت المتلقي لكنه تلقاها راضيا مستريحا رغم شفقة القارئ وتعاطفه وهذا في رأيي أخطر ما قي الروايات الفكرية والتي قد تؤدي بالقارئ العادي والمتعجل بنسيان الدلالة والرسالة التي يريد المؤلف إيصالها
4- النص السردي الروائي عني بالمشهدية واللقطات السينمائية واللوحات التشكيليىة في موزايكو سردي غني بالتفصيلات والمنمنمات الفسيفسائية والمعلوماتية
تحيتي وتقديري ومحبتي وإعجابي بالكاتب الجاد الموهوب حدا الأستاذ السعيد صالح ..!!

د. عيد صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...