قبل الدخول في صُلب موضوع هذه المقالة، أريدُ إثارةَ الانتباهِ إلى أن القرآن الكريم ليس، كما يدَّعي البعضُ وعلى الإطلاق، كتابَ علوم بالمفهوم الدنيوي للعلم. القرآن الكريم، كما سبق أن وضَّحتُ ذلك في عدَّة مقالات، يُشير إلى بعض الظواهر الطبيعية التي توصَّل العِلمُ الحديثُ la science contemporaine إلى توضيحها وتفسيرها وصياغتِها على شكل نظرياتٍ علميةٍ théories scientifiques. وعندما أقول "يُشير"، المقصود هو أنه يذكُر هذه الظواهر أو يُلمِّح لها، لكنه لا يُفسرها، كما فعل ويفعل ذلك العِلمُ الحديث.
وفي نفس السياق، سبق أن نشرتُ مقالةً على صفحتي بالفيسبوك تحت عنوان : "هل القرآن الكريم مصدرٌ للإعجاز العلمي"، بتاريخ 22 مارس 2024، وضَّحت فيها أن ما سمَّاه ويُسمِّيه بعض علماء وفقهاء الدين ب"الإعجاز العلمي" أكذوبةٌ من أكاذيب هؤلاء العلماء والفقهاء الذين يريدون أن يُحمِّلوا هذا القرآن ما لا يوجد به.
والدليل على ذلك، أنه لا توجدُ في القرآن الكريم ولو نظريةٌ علميةٌ واحدة مُفسَّرة، مُفصَّلة ومُوضَّحة، كما فعل ويفعل ذلك العلمُ الحديث. ولو افترضنا أن القرآن الكريم كتابُ علوم بالمفهوم الدنيوي للعِلم، أليس من المنطقي أن يتضمَّنَ هذا القرآن كلَّ النظريات العلمية، سواءً تلك التي توصَّلَ لها العلمُ الحديث أو تلك التي سيتوصَّل لها في المستقبل؟
بالطبع، لا توجد هذه النظريات في القرآن الكريم لأن هذا الأخير، كما سبق أن أشرتُ إلى ذلك في عدَّة مقالات، كتابُ هدايةٍ وإرشادٍ وموعظةٍ ودينٍ وعبادةٍ ومعاملات… فعِوض أن يُحمِّل بعضُ علماء وفقهاء الدين القرآنَ الكريمَ ما ليس من أهدافه، كان عليهم أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي : "لماذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ لبني آدم؟"
لتمهيد الجواب على هذا السؤال، دعوني أقول :
أولاً، اللهُ، سبحانه وتعالى، لم يخلُقْ ولا يخلق الأشياءَ، معنويةً كانت أو مادية، عبثاً، أي بالصُّدفة، أو بعبارة أخرى، بدون غايةٍ أو غايات.
ثانياً، انطلاقاً من كون الله، سبحانه وتعالى، لا يخلق الأشياءَ عبثاً، فلماذا نفخ، عزَّ وجلَّ، جزأً من روحه في آدم وانتقل هذا الجزء من الروح الإلهية إلى ذرِّيته؟ لأنه، عزَّ وجلَّ، يريد أن يكونوا مختلفين عن جميع المخلوقات الحيَّة الأخرى.
ثالثاً، بماذا يختلف آدم وذريتُه عن المخلوقات الحية الأخرى؟ يختلف عنها بالعقل والنُّطق. العقل، ليكونَ بنو آدم واعين بوجودهم في الدنيا، و واعين، كذلك، بما يجري في وسط عيشهم، أي ليتفاعلوا مع هذا الوسط ومع ما يتضمَّنه من مكوِّنات. والتفاعل مع وسط العيش يعني التأثير عليه والتَّأثُّر به. أما النُّطقُ، فهي الوسيلة التي وهبها اللهُ، سبحانه وتعالى، لآدم وذريتِه، لتمكينهم من التَّعبير عن أفكارهم بالكلام، أي بواسطة لغةٍ من اللغات. والتعبير عن الأفكار بالكلام يؤدِّي إلى تلاقح هذه الأفكار، أي إلى تبادُلِها والاستفادة منها لبناء أفكار جديدة أو أحسن منها. والعقل بمعِية النُّطق هما الوسيلتان اللتان، بواسطتهما، استطاع ويستطيع وسيستطيع بنو آدم من تَطوِيع وسط العيش، بما فيه من مُكوِّنات حية وغير حية، لصالحهم. ومن أجل هذا التَّطويع، سخَّر اللهُ، سبحانه وتعالى، لبني آدم كل ما في الأرض من خيراتٍ، مصداقا لقولِه، جلَّت قدرتُه : "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية، 13).
إذن، بدون عقلٍ ونُطق، الإنسان لن يكونَ مختلفا عن الكائنات الحية الأخرى، وخصوصا، تلك التي تُشبِهه بيولوجياً، أي الثدييات mammifères. العقل هو سرُّ وجود الإنسان. بالعقل نفهم، بالعقل نُدرك، بالعقل نقارن، بالعقل نستقرئ، بالعقل نستنبط، بالعقل نستنتج، بالعقل نُجرِّب، بالعقل نُخطِئ ونُصيب، بالعقل نصنع، نبتكِر، نخترع… وبالعقل تستوقِفنا كثير من المظاهر والظواهر الاجتماعية والطبيعية… والعقل هو الذي، بواسطة التَّفكير، يمكِّننا من إدراك وجودِها وغاياتها.
فما بالُكم أن القرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي، من المفروض، أن تستوقفَ قارئَها لأنها تُجبِر العقولَ على التفكير واستحضارِ ما حقَّقه العلمُ الحديثُ من إنجازات. وفي هذا الصدد، أخترتُ سورةَ الرحمان، ومن بين آياتِها الثمانية والسبعين، اخترتُ الآية رقم 5 التي نصُّها : "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان".
هذه الآية الكريمة وآياتُ أخرى، من المفروض أن لا يمرَّ عليها قارئ سورة الرحمان مرورَ الكِرام، أي دون أن يستوقفَه مُحتواها، وخصوصا فيما يخصُّ هذه الآية، كلمة "بِحُسْبَان". و"بِحُسْبَان" تدل، كما وضَّحت ذلك أعلاه، على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يخلق الأشياءَ عبثاً. بل لكل شيءٍ خلقه اللهُ، سبحانه وتعالى، غايةً أو غايات.
وفي هذا الصدد، لا داعيَ للقول أن الشمسَ، أو بالأحرى أشعة الشمس أو ضوءها، هما مصدر الحياة بمَعنَيها البيولوجي والاجتماعي.
فيما يخصُّ الحياة بمعناها البيولوجي، لولا ضوءُ الشمس لانقرضت النباتات الخضراء. وانقراض النباتات الخضراء يعني انقراض كثيرٍ من أنواع الحياة الأخرى بما فيها الإنسان. لماذا؟
لأن الكائنات الحية، لضمان حياتِها البيولوجية، بما فيها الإنسان، في حاجةٍ ماسةٍ للمادة العُضوية matière organique. والمادة العضوية، كيميائياً، أساسها الكربون carbone والهيدروجين hydrogène والاكسجين oxygène إضافةً، أحيانا، إلى الأزوت azote أو الكبريت soufre أو الفوسفور phosphore… والنباتات الخضراء، بفضل ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو، هي المكان الطبيعي الذي تتمُّ فيه صناعة المادة العضوية التي هي، كما سبق الذكرُ، ضرورية لاستمرار الحياة بمعناها البيولوجي. كيف يتم ذلك؟
تبسيطا للأمور، ضوءُ الشمس يُفكِّك جزيئةَ الماء H2O ليضعَ رهنَ إشارة النباتات الخضراء الهيدروجين والاكسجين. أما الكربون، فيأتي عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو CO2. وعلى امتداد عددٍ كبيرٍ من التَّفاعلات الكيميائية المعقَّدة réactions chimiques complexes، ينتهي المطاف بصُنع المادة العضوية بجميع أشكالها. فما على الكائنات الحية الغير قادرة على صُنعِها، بما فيها الإنسان، إما أن تتغذى مباشرةً على النباتات الخضراء وإما أن تتغذى على لحوم الحيوانات العاشبة animaux herbivores، أي آكِلات النباتات الخضراء.
وفيما يخصُّ الحياة بمعناها الاجتماعي، فلا داعيَ للقول أن جُلَّ الأنشطة البشرية تتمّ أثناء النهار، أي في وضوحِ الضوء الذي تُوفِّره الشمس، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (الإسراء، 12).
في هذه الآية، "لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ"، هو التعبير عن ممارسة الأنشِطة البشرية عن طريق العمل والبحث والفكر والتَّبادل والافتصاد والتِّجارة والفلاحة والصناعة… وفضلاً عن الضوءِ الذي توفِّره الشمسُ لممارسة مختلف الأنشِطة البشرية، فإن الشمسَ والقمرَ، معا، مسخَّران للإنسان لضبط الوقت أو الزمان. وهو ما عبَّرَ عنه، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 12 من سورة الإسراء، ب"وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ".
والقمر، بفعل جاذبيتِه التي يُمارسها على الأرض، يُساهم في بقاء هذه الأرض في مسارها (دورانها) trajectoire حول الشمس. كما إن القمرَ، بفعل نفس الجاذبية، يتسبَّبُ في المدِّ marée haute والجزر marée basse على مستوى المُحيطات. وحينما يكون التَّفاوتُ بين المدِّ والجَزرِ مُهمّاً أو عالياً، يمكن أن يُستغلَّ لإنتاج الطاقة الكهربائية، كما هو الشأن لأشعة الشمس التي يمكن تحويلُها إلى طاقة حرارية énergie thermique أو إلى طاقة شمسية énergie solaire، التي بدورها، يمكن تخزينُها على شكل طاقة كهربائية.
إلى حدِّ الآن، لم أُجِب على السؤال الذي سبق أن قلتُ أعلاه أن على علماء وفقهاء الدين أن يطرحوه على أنفسِهم، عِوض أن يُحمِّلوا القرآنَ ما لا يوجد به. والسؤال هو : "لماذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ لبني آدم؟"
وهنا كذلك، لا بدَّ من إثارة الانتباه والتذكير بأن الله لا يخلق الأشياءَ عبثا. بل آدم وذرِّيتُه لم يخلقهم الله، سبحانه وتعالى، عبثا. بل خلقهم ومعهم غاياتٌ كثيرةٌ. منها ما تحقَّق في الماضي والحاضر ومنها ما سيتحقَّق في المستقبل. وكل ما حقَّقه بنو آدم ماضياً، حاضرا وما سيتحقَّق مستقبلاً من غايات، كان ويكون وسيكون وراءه العقل البشري. أرأيتم لماذا وهب الله، سبحانه وتعالى، العقل لبني آدم؟ وهب لهم العقلَ ليتفاعلوا، أخذاً وردّاً، مع ما سخَّره لهم من خيرات.
وهنا سأرجع إلى ما دار من حديثٍ بين الله، سبحانه وتعالى، وملائكتِه حين قال لهم : "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… (البقرة، 30)، فأجابه الملائكة : "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ… (نفس الآية)، فأجابهم، سبحانه وتعالى: "قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (نفس الآية).
"قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، كان ولا يزال يعلم لماذا خلق آدم وذرِّيتَه ولماذا نفخ فيه جزأً من روحه، أي مكَّنه من العقلِ ومن النُّطقَ.
وهذا يعني أن الله، سبحانه وتعالى، حينما قال للملائكة : "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، كان ولا يزال يعلم أن بني آدم، بفضل العقل، قطعوا ويقطعون وسيقطعون أشواطا مهمَّة في العلم والمعرفة وفي الاكتشاف والاختراع والابتكار والتَّجديد. وهذا هو ماحصل ماضياً ويحصل حاضراً وسيحصل مستقبلاً.
وخيرُ مُخْتَبِرٍ للعقل البشري هو القرآن الكريم والعديدُ من آياتِه الكريمة التي تتطلَّب من هذا العقل أن يقفَ عندها ويتدبَّرها ليربط بينها وبين ما حقَّقه بنو آدم من تطوُّر وتقدُّم علمي وتكنولوجي، وذلك بفضل ما وهبه الله، سبحانه وتعالى، من عقل ونُطق.
والقرآن الكريم، كما سبق الذكرُ، حافل بهذا النوع من الآيات التي تتطلَّب من العقل البشري أن يقفَ عندها ويتدبَّرها. من بين هذه الآيات، اخترتُ من نفس سورة الرحمان، الآيات الثلاثة الموالية.
وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (الرحمان، 7)
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (الرحمان، 8)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (الرحمان، 9).
فيما يخص هذه الآيات الثلاثة، الملاحظ هو وجود كلمة "ميزان". غير أن هذه الكلمة لا يجوز، في هذه الآيات، تفسيرُها بالآلة المعهودة التي يستعملها الناسُ لوزن الأشياء. لا أبدا. هذه الكلمة لها معنى آخر غير الذي عهدناه في اللغة المتداولة. وللوقوف على هذا المعنى، لقد سبق أن خصَّصتُ له مقالةً خاصة نشرتُها على صفحتي بتاريخ 26 فبراير 2023، تحت عنوان : "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ". للمزيد من التَّوضيح، المرجو الإطلاع على هذه المقالة.
وفي نفس السياق، سبق أن نشرتُ مقالةً على صفحتي بالفيسبوك تحت عنوان : "هل القرآن الكريم مصدرٌ للإعجاز العلمي"، بتاريخ 22 مارس 2024، وضَّحت فيها أن ما سمَّاه ويُسمِّيه بعض علماء وفقهاء الدين ب"الإعجاز العلمي" أكذوبةٌ من أكاذيب هؤلاء العلماء والفقهاء الذين يريدون أن يُحمِّلوا هذا القرآن ما لا يوجد به.
والدليل على ذلك، أنه لا توجدُ في القرآن الكريم ولو نظريةٌ علميةٌ واحدة مُفسَّرة، مُفصَّلة ومُوضَّحة، كما فعل ويفعل ذلك العلمُ الحديث. ولو افترضنا أن القرآن الكريم كتابُ علوم بالمفهوم الدنيوي للعِلم، أليس من المنطقي أن يتضمَّنَ هذا القرآن كلَّ النظريات العلمية، سواءً تلك التي توصَّلَ لها العلمُ الحديث أو تلك التي سيتوصَّل لها في المستقبل؟
بالطبع، لا توجد هذه النظريات في القرآن الكريم لأن هذا الأخير، كما سبق أن أشرتُ إلى ذلك في عدَّة مقالات، كتابُ هدايةٍ وإرشادٍ وموعظةٍ ودينٍ وعبادةٍ ومعاملات… فعِوض أن يُحمِّل بعضُ علماء وفقهاء الدين القرآنَ الكريمَ ما ليس من أهدافه، كان عليهم أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي : "لماذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ لبني آدم؟"
لتمهيد الجواب على هذا السؤال، دعوني أقول :
أولاً، اللهُ، سبحانه وتعالى، لم يخلُقْ ولا يخلق الأشياءَ، معنويةً كانت أو مادية، عبثاً، أي بالصُّدفة، أو بعبارة أخرى، بدون غايةٍ أو غايات.
ثانياً، انطلاقاً من كون الله، سبحانه وتعالى، لا يخلق الأشياءَ عبثاً، فلماذا نفخ، عزَّ وجلَّ، جزأً من روحه في آدم وانتقل هذا الجزء من الروح الإلهية إلى ذرِّيته؟ لأنه، عزَّ وجلَّ، يريد أن يكونوا مختلفين عن جميع المخلوقات الحيَّة الأخرى.
ثالثاً، بماذا يختلف آدم وذريتُه عن المخلوقات الحية الأخرى؟ يختلف عنها بالعقل والنُّطق. العقل، ليكونَ بنو آدم واعين بوجودهم في الدنيا، و واعين، كذلك، بما يجري في وسط عيشهم، أي ليتفاعلوا مع هذا الوسط ومع ما يتضمَّنه من مكوِّنات. والتفاعل مع وسط العيش يعني التأثير عليه والتَّأثُّر به. أما النُّطقُ، فهي الوسيلة التي وهبها اللهُ، سبحانه وتعالى، لآدم وذريتِه، لتمكينهم من التَّعبير عن أفكارهم بالكلام، أي بواسطة لغةٍ من اللغات. والتعبير عن الأفكار بالكلام يؤدِّي إلى تلاقح هذه الأفكار، أي إلى تبادُلِها والاستفادة منها لبناء أفكار جديدة أو أحسن منها. والعقل بمعِية النُّطق هما الوسيلتان اللتان، بواسطتهما، استطاع ويستطيع وسيستطيع بنو آدم من تَطوِيع وسط العيش، بما فيه من مُكوِّنات حية وغير حية، لصالحهم. ومن أجل هذا التَّطويع، سخَّر اللهُ، سبحانه وتعالى، لبني آدم كل ما في الأرض من خيراتٍ، مصداقا لقولِه، جلَّت قدرتُه : "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية، 13).
إذن، بدون عقلٍ ونُطق، الإنسان لن يكونَ مختلفا عن الكائنات الحية الأخرى، وخصوصا، تلك التي تُشبِهه بيولوجياً، أي الثدييات mammifères. العقل هو سرُّ وجود الإنسان. بالعقل نفهم، بالعقل نُدرك، بالعقل نقارن، بالعقل نستقرئ، بالعقل نستنبط، بالعقل نستنتج، بالعقل نُجرِّب، بالعقل نُخطِئ ونُصيب، بالعقل نصنع، نبتكِر، نخترع… وبالعقل تستوقِفنا كثير من المظاهر والظواهر الاجتماعية والطبيعية… والعقل هو الذي، بواسطة التَّفكير، يمكِّننا من إدراك وجودِها وغاياتها.
فما بالُكم أن القرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي، من المفروض، أن تستوقفَ قارئَها لأنها تُجبِر العقولَ على التفكير واستحضارِ ما حقَّقه العلمُ الحديثُ من إنجازات. وفي هذا الصدد، أخترتُ سورةَ الرحمان، ومن بين آياتِها الثمانية والسبعين، اخترتُ الآية رقم 5 التي نصُّها : "الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان".
هذه الآية الكريمة وآياتُ أخرى، من المفروض أن لا يمرَّ عليها قارئ سورة الرحمان مرورَ الكِرام، أي دون أن يستوقفَه مُحتواها، وخصوصا فيما يخصُّ هذه الآية، كلمة "بِحُسْبَان". و"بِحُسْبَان" تدل، كما وضَّحت ذلك أعلاه، على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لا يخلق الأشياءَ عبثاً. بل لكل شيءٍ خلقه اللهُ، سبحانه وتعالى، غايةً أو غايات.
وفي هذا الصدد، لا داعيَ للقول أن الشمسَ، أو بالأحرى أشعة الشمس أو ضوءها، هما مصدر الحياة بمَعنَيها البيولوجي والاجتماعي.
فيما يخصُّ الحياة بمعناها البيولوجي، لولا ضوءُ الشمس لانقرضت النباتات الخضراء. وانقراض النباتات الخضراء يعني انقراض كثيرٍ من أنواع الحياة الأخرى بما فيها الإنسان. لماذا؟
لأن الكائنات الحية، لضمان حياتِها البيولوجية، بما فيها الإنسان، في حاجةٍ ماسةٍ للمادة العُضوية matière organique. والمادة العضوية، كيميائياً، أساسها الكربون carbone والهيدروجين hydrogène والاكسجين oxygène إضافةً، أحيانا، إلى الأزوت azote أو الكبريت soufre أو الفوسفور phosphore… والنباتات الخضراء، بفضل ضوء الشمس وثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو، هي المكان الطبيعي الذي تتمُّ فيه صناعة المادة العضوية التي هي، كما سبق الذكرُ، ضرورية لاستمرار الحياة بمعناها البيولوجي. كيف يتم ذلك؟
تبسيطا للأمور، ضوءُ الشمس يُفكِّك جزيئةَ الماء H2O ليضعَ رهنَ إشارة النباتات الخضراء الهيدروجين والاكسجين. أما الكربون، فيأتي عن طريق امتصاص ثاني أكسيد الكربون الموجود في الجو CO2. وعلى امتداد عددٍ كبيرٍ من التَّفاعلات الكيميائية المعقَّدة réactions chimiques complexes، ينتهي المطاف بصُنع المادة العضوية بجميع أشكالها. فما على الكائنات الحية الغير قادرة على صُنعِها، بما فيها الإنسان، إما أن تتغذى مباشرةً على النباتات الخضراء وإما أن تتغذى على لحوم الحيوانات العاشبة animaux herbivores، أي آكِلات النباتات الخضراء.
وفيما يخصُّ الحياة بمعناها الاجتماعي، فلا داعيَ للقول أن جُلَّ الأنشطة البشرية تتمّ أثناء النهار، أي في وضوحِ الضوء الذي تُوفِّره الشمس، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (الإسراء، 12).
في هذه الآية، "لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ"، هو التعبير عن ممارسة الأنشِطة البشرية عن طريق العمل والبحث والفكر والتَّبادل والافتصاد والتِّجارة والفلاحة والصناعة… وفضلاً عن الضوءِ الذي توفِّره الشمسُ لممارسة مختلف الأنشِطة البشرية، فإن الشمسَ والقمرَ، معا، مسخَّران للإنسان لضبط الوقت أو الزمان. وهو ما عبَّرَ عنه، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 12 من سورة الإسراء، ب"وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ".
والقمر، بفعل جاذبيتِه التي يُمارسها على الأرض، يُساهم في بقاء هذه الأرض في مسارها (دورانها) trajectoire حول الشمس. كما إن القمرَ، بفعل نفس الجاذبية، يتسبَّبُ في المدِّ marée haute والجزر marée basse على مستوى المُحيطات. وحينما يكون التَّفاوتُ بين المدِّ والجَزرِ مُهمّاً أو عالياً، يمكن أن يُستغلَّ لإنتاج الطاقة الكهربائية، كما هو الشأن لأشعة الشمس التي يمكن تحويلُها إلى طاقة حرارية énergie thermique أو إلى طاقة شمسية énergie solaire، التي بدورها، يمكن تخزينُها على شكل طاقة كهربائية.
إلى حدِّ الآن، لم أُجِب على السؤال الذي سبق أن قلتُ أعلاه أن على علماء وفقهاء الدين أن يطرحوه على أنفسِهم، عِوض أن يُحمِّلوا القرآنَ ما لا يوجد به. والسؤال هو : "لماذا وهب اللهُ، سبحانه وتعالى، العقلَ لبني آدم؟"
وهنا كذلك، لا بدَّ من إثارة الانتباه والتذكير بأن الله لا يخلق الأشياءَ عبثا. بل آدم وذرِّيتُه لم يخلقهم الله، سبحانه وتعالى، عبثا. بل خلقهم ومعهم غاياتٌ كثيرةٌ. منها ما تحقَّق في الماضي والحاضر ومنها ما سيتحقَّق في المستقبل. وكل ما حقَّقه بنو آدم ماضياً، حاضرا وما سيتحقَّق مستقبلاً من غايات، كان ويكون وسيكون وراءه العقل البشري. أرأيتم لماذا وهب الله، سبحانه وتعالى، العقل لبني آدم؟ وهب لهم العقلَ ليتفاعلوا، أخذاً وردّاً، مع ما سخَّره لهم من خيرات.
وهنا سأرجع إلى ما دار من حديثٍ بين الله، سبحانه وتعالى، وملائكتِه حين قال لهم : "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً… (البقرة، 30)، فأجابه الملائكة : "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ… (نفس الآية)، فأجابهم، سبحانه وتعالى: "قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (نفس الآية).
"قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، كان ولا يزال يعلم لماذا خلق آدم وذرِّيتَه ولماذا نفخ فيه جزأً من روحه، أي مكَّنه من العقلِ ومن النُّطقَ.
وهذا يعني أن الله، سبحانه وتعالى، حينما قال للملائكة : "إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ"، كان ولا يزال يعلم أن بني آدم، بفضل العقل، قطعوا ويقطعون وسيقطعون أشواطا مهمَّة في العلم والمعرفة وفي الاكتشاف والاختراع والابتكار والتَّجديد. وهذا هو ماحصل ماضياً ويحصل حاضراً وسيحصل مستقبلاً.
وخيرُ مُخْتَبِرٍ للعقل البشري هو القرآن الكريم والعديدُ من آياتِه الكريمة التي تتطلَّب من هذا العقل أن يقفَ عندها ويتدبَّرها ليربط بينها وبين ما حقَّقه بنو آدم من تطوُّر وتقدُّم علمي وتكنولوجي، وذلك بفضل ما وهبه الله، سبحانه وتعالى، من عقل ونُطق.
والقرآن الكريم، كما سبق الذكرُ، حافل بهذا النوع من الآيات التي تتطلَّب من العقل البشري أن يقفَ عندها ويتدبَّرها. من بين هذه الآيات، اخترتُ من نفس سورة الرحمان، الآيات الثلاثة الموالية.
وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (الرحمان، 7)
أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (الرحمان، 8)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (الرحمان، 9).
فيما يخص هذه الآيات الثلاثة، الملاحظ هو وجود كلمة "ميزان". غير أن هذه الكلمة لا يجوز، في هذه الآيات، تفسيرُها بالآلة المعهودة التي يستعملها الناسُ لوزن الأشياء. لا أبدا. هذه الكلمة لها معنى آخر غير الذي عهدناه في اللغة المتداولة. وللوقوف على هذا المعنى، لقد سبق أن خصَّصتُ له مقالةً خاصة نشرتُها على صفحتي بتاريخ 26 فبراير 2023، تحت عنوان : "وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ". للمزيد من التَّوضيح، المرجو الإطلاع على هذه المقالة.