رسائلهم
هي موسوعة ضمت بين دفتيها مبادئ العلوم التي كانت معروفة في البلاد العربية حتى القرن الرابع الهجري، ولاسيما تلك التي ترجمت من اليونانية. وقد اعترف إخوان الصفاء بأنهم ألفوها كنماذج ومقدمات للعلوم فلم يتوسعوا في بسط قضاياها. ويقولون في ذلك: (قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج).
ويظهر أنهم ألفوها للإخوان الأبرار الذين هم أولى طبقات هذه الجماعة، ولم يقتصروا فيها على مبادئ الفلسفة والعلم، وإنما خلطوها بكثير من الخرافات والأساطير؛ وحاولوا أن يوفقوا بين الدين والفلسفة محاولين أن يجدوا من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما يؤيد نظريات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. وخير ما قيل في وصفها رأى أبى حيان التوحيدي: (هي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكتابات وتلفيقات وتلزيقات) وذلك أنهم قالوا: (إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية)؛ وزعموا: (أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة الإسلامية فقد حصل الكمال)؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المهملة.
والواقع يثبت رأي أبى حيان، فالرسائل لا تعمق فيها، ولا نظام يربط بين فصولها، وفيها تكرار وحشو. وعندي أن الرسائل كانت بمثابة موسوعة تبسط فيها المسائل الفلسفية الأولية بأسلوب يوافق عقلية العامة. وحتى لا ينفر هؤلاء من الفلسفة أخذ مؤلفوها يستشهدون بالآيات والأحاديث الكريمة وبأقوال من التوراة والإنجيل، وينسبون أشياء إلى نوح وإبراهيم وعيسى، ويروون قصصاً وأساطير إذا حاولوا البرهنة على مسألة من المسائ بدلاً من استعمال الأسلوب المنطقي الفلسفي. خذ مثلاً محاولتهم البرهنة على خلود النفس فإنك لا ترى سوى أساطير تحكي عن الأنبياء وآل البيت وسقراط وإبراهيم ونوح وأفلاطون وأرسطو وفيثاغور وما قاله كل منهم وما عمله كل. وتخرج من هذا الموضوع إذا بحثته بحثاً علمياً كما ابتدأت فيه دون أن تقتنع، ولكن عقلية العامة يوافقها هذا الأسلوب تماما.
هذا وقد وضع الإخوان لرسائلهم مقدمة أشبه بالفهرست بينوا فيها بإيجاز عدد الرسائل والموضوعات التي تعرض لها بحثهم: (وهذه فهرست رسائل إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد، يجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها: وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني من كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد؛ وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية). ثم أخذوا يبينون موضوع كل قسم: فالرياضيات تشمل العدد والهندسة والموسيقى والفلك والصنائع والمنطق بمقولاته وعباراته وبراهينه؛ والطبيعيات يتكلمون فيها على الهيولي والصورة والسماء والعالم والكون والفساد وكيفية تكوين المعادن وفي النبات والحيوان؛ والرسائل النفسانية تبحث في المبادئ العقلية وفي البعث والصور والنشور والقيامة؛ والإلهية تبحث في الآراء والمذاهب، وبيان اعتقاد إخوان الصفاء وكيفية أنواع السياسات وماهية السحر والعزائم. ويختمونها بالرسالة الجامعة التي لم تصل إلينا والتي كشف فيها كما يقولون عن كثير من الرموز والكنايات التي امتلأت بها رسائلهم: (وتليها الرسالة الجامعة. . . . . . المشتملة على حقائقها بأسرارها. . . إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمدخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها. . . وهي منتهى الغرض لما قدمناه.
ومثلهم في ذلك - على حد تعبيرهم - كمثل بستاني له حديقة لم تر العين مثلها حسناً وإبداعاً، وأراد لكرمه أن يدعو الناس إليها والتمتع بما فيها، فأخذ نماذج من أزهارها ورياحينها وفاكهتها ووقف أمام بابها يعرضها على الناس، حتى إذا تذوقوها وعرفوا مزاياها واشتاقت نفوسهم لدخول البستان أفسح لهم الطريق كي يتمتعوا ما شاءوا ويتلذذوا ويطربوا.
ويختم إخوان الصفاء كل رسالة بنصيحة للأخ البار الرحيم حتى يتفهم غرضها ويعرف أسرارها. ثم إنهم كانوا يكثرون من القصص على لسان الحيوان، ويدلون بأشياء لو صرحوا بها لفضح أمرهم وانكشف سترهم. ومهما يكن الأمر فرسائلهم سهلة الأسلوب خالية من السجع والمحسنات البديعية، واضحة العبارة أحياناً، غامضة في الغالب من حيث المقصد والغاية. وقد ذكرنا في المقدمة أن الغرض من تأليفهم هذه الرسائل بث تعاليمهم السرية وإيجاد طبقة من الشعب مثقفة تقود الرأي العام إلى أغراضهم السياسية وهي قلب نظام الدولة.
آراؤهم الخيالية
لا نريد أن نتعرض في هذا البحث إلى كل ما تناوله إخوان الصفا في رسائلهم من خرافات، وإنما الذي يهمنا أن نضرب أمثلة على إغراقهم في الخيال أحياناً. فأنت تراهم مثلا في رسالة العدد، وعلى العموم في الرياضيات يتبعون الفيثاغوريين، فلا يهتمون في البحث في علم الحساب كما يهتمون بتبيان خواص الأعداد والكلام عن موسيقى الأفلاك. . . الخ؛ وهاك مثلاً على ذلك: (اعلم بأن كون العدد أربع مراتب آحاد وعشرات ومئات وألوف ليس أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد، ولكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري والبرودة جل ثناؤه مربعات منها: الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل: الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع. . . الخ)
والواحد من الأعداد هو أصل كل الأعداد، وعنه تصدر بالتكرار ويذهبون مذهب الفيثاغوريين في ذلك وهو أن الواحد أصل الوجود وإن حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة: (واعلم أن الباري جل ثناؤه أول شيء اخترعه وأبدعه من نوره جوهر بسيط يقال له العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين؛ ثم أنشأ الهيولي الأولى من حركة النفس كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولي ورتبها بتوسط العقل والنفس؛ كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها) ومن ذلك قولهم: (إن منفعة الشكل المتسع تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما المرأة التي ضربها الطلق)
ويقولون في نشأة علم الفلك: (إن هرمس المثلث الحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك؛ ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال تعالى (ورفعناه مكاناً علياً). ويعتقدون بتأثير الكواكب في السعد والنحس (الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران، واثنان منها سعدان، واثنان نحسان، وواحد ممتزج. أما النيران فالشمس والقمر، والسعدان المشتري والزهرة، والنحسان زحل والمريخ، وأما الممتزج فعطارد)
وأكثر من ذلك خرفة قولهم: (اعلم يا أخي أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك السموات، خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه) ويعتقدون أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها الذين هم الملائكة؛ فإن قال قائل: (لابد إذا أن يكون لهم شم وذوق ولمس) قلنا: (إن هذه حاجة التسبيح، الآكل للطعام والشارب للشراب؛ أما هم فغذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية واللذة والفرح. . . ويقال إن فيثاغور الحكيم سمع بصفاء جوهره وذكاء قلبه نغمات الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصل الموسيقى ونغمات الأفلاك، وهو أول من تكلم في هذا العلم). ولولا خليفة الإطالة لذكرت كثيرا من هذه الآراء الخرافية، وحسبك أن تقرأ رسالة السحر والطلاسم والتعاويذ، وكيف يحاولون معرفة الجنين وقدوم الرسول ومعرفة الكتاب قبل فضه واللص وماذا سرق ومعرفة الحروب وأسبابها. . . الخ
مراتب الوجود:
(اعلم يا أخي أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل ملماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء لم يكن من الحكمة أن يحدث تلك الفضائل في ذاته، فلا يجود بها ولا يفيضها؛ فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء)
وقد استمر هذا الفيض فنشأ عنه العالم، وأنت ترى أنهم يأخذون بنظرية الفيض التي ابتدعها الأفلاطونية الحديثة، وأنهم يقولون بالعناية الإلهية التي وضحها ابن سينا فيما بعد بقوله: (لما كان المبدع الأول يعلم ذاته ويعلم لذلك نظام الخير في الوجود المطلق كان علة للخير والكمال اللذين فاضا على الوجود عندما فاض الوجود نفسه، فانتقل بذلك نظام الخير إلى العالم بحسب القدر الممكن لهذا العالم)
والعالم عندهم على الترتيب الآتي:
1 - العقل الفعال: وهو جوهر بسيط روحاني أبسط من النفس وأشرف منها قابل لتأييد الباري تعالى علام بالفعل.
2 - النفس الكلية: وهي جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع قابلة فضائل العقل بلا زمان، فعالة في الهيولي بالتحريك لها؟
3 - الهيولي الأولى: وهي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة بل قابلة آثار النفس بالزمان منفعلة لها.
4 - الطبيعة الفاعلة: وهي قوة من قوى النفس الكلية سارية في جميع الأجسام محركة مدبرة لها وتسمى النفوس الجزئية أو الملائكة.
5 - الجسم المطلق: ذو الطول والعرض والعمق وهو الهيولي الثانية.
6 - عالم الأفلاك: وسنتكلم عليه بالتفصيل فيما بعد.
7 - العناصر السفلى: كالنار والهواء والماء والأرض.
8 - المعادن والنبات والحيوان المكون من العناصر السابقة. وقد فاضت كلها من الله، ولكن وقف الفيض بعد الجسم المطلق الذي لم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية.
عالم الأفلاك:
الأفلاك أجسام كرية شفافة مجوفة، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة، وهناك كرتان ليستا من الأفلاك، وهما كرة الهواء وكرة الأرض، فيكون المجموع إحدى عشرة كرة. وتقع الشمس في الوسط، وفوقها خمس كرات وتحتها خمس؛ فالتي فوقها على الترتيب. . . كرة المريخ، المشتري، زحل، الكواكب الثابتة، ثم فلك المحيط، والتي تحتها على الترتيب. . . الزهرة وعطارد، والقمر، ثم كرة الهواء، ثم كرة الأرض التي هي المركز، وليست مجوفة ولكن متخلخلة.
والشكل الكري أفضل الأشكال كلها، وحركته تامة، وأفضل الحركات. والفلك المحيط ألطف الأجسام وأشدها روحانية وأشفها نوراً لقربه من الهيولي الأولى. والأرض أغلظ الأجسام كلها وأشدها ظلمة لبعدها عن الفلك المحيط. والقمر هو السماء الأولى وعطارد السماء الثانية وهكذا حتى تنتهي من السموات السبع التي آخرها زحل. أما فلك الكواكب الثابتة فهو الكرسي الذي وسع السموات والأرض، والفلك المحيط هو العرش العظيم الذي يحمله يومئذ ثمانية.
هل قالوا بالنشوء والارتقاء؟
ذهب بعض الباحثين إلى أن إخوان الصفا كانوا يقولون بنظرية النشوء والارتقاء. والواقع أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن هذا، بيد أن لهم نظرية خاصة في تدرج الأجسام المولدة: (واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء. فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط كالحلزون والديدان التي تتكون في الطين وقعر النهر. . .
فهذا النوع حيوان نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه. ولما كان جسمه يتحرك حركة اختيارية كان حيوانا. (أما رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه، فمنها ما قارب رتبة الإنسان بصورة جسده كالقرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضاً، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما، ومنها النحل اللطيف الصنائع. . . إلى ما شاكل هذه الأجناس. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية)
ولاشك أن هذه النظرية بعيدة كل البعد عن مذهب النشوء والارتقاء الحديث، إذ جعلوا الفيل والنحل والطائر قريبة الشبه بالإنسان وفي أعلى مراتب الحيوان. ولعلنا إذا أخذنا رأيهم من الناحية العضوية البيولوجية توجد عندما شبهة للقول بمذهب النشوء، فالحلزون حيوان نباتي، والقرد قريب للإنسان جسمياً. ولكن حتى مع هذا لم يقل إخوان الصفا بأن الإنسان هو والقرد متفرعان من أرومة واحدة. وهم يعتقدون أن النبات متقدم في الوجود على الحيوان لأنه غذاء له، والحيوان متقدم على الإنسان لأن وجوده لخدمته ومنفعته.
(يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية ببيروت
مجلة الرسالة - العدد 453
بتاريخ: 09 - 03 - 1942
هي موسوعة ضمت بين دفتيها مبادئ العلوم التي كانت معروفة في البلاد العربية حتى القرن الرابع الهجري، ولاسيما تلك التي ترجمت من اليونانية. وقد اعترف إخوان الصفاء بأنهم ألفوها كنماذج ومقدمات للعلوم فلم يتوسعوا في بسط قضاياها. ويقولون في ذلك: (قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الآداب وغرائب العلوم وطرائف الحكم، كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج).
ويظهر أنهم ألفوها للإخوان الأبرار الذين هم أولى طبقات هذه الجماعة، ولم يقتصروا فيها على مبادئ الفلسفة والعلم، وإنما خلطوها بكثير من الخرافات والأساطير؛ وحاولوا أن يوفقوا بين الدين والفلسفة محاولين أن يجدوا من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية ما يؤيد نظريات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وغيرهم. وخير ما قيل في وصفها رأى أبى حيان التوحيدي: (هي مبثوثة من كل فن بلا إشباع ولا كفاية، وهي خرافات وكتابات وتلفيقات وتلزيقات) وذلك أنهم قالوا: (إن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية)؛ وزعموا: (أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة الإسلامية فقد حصل الكمال)؛ وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية، والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المهملة.
والواقع يثبت رأي أبى حيان، فالرسائل لا تعمق فيها، ولا نظام يربط بين فصولها، وفيها تكرار وحشو. وعندي أن الرسائل كانت بمثابة موسوعة تبسط فيها المسائل الفلسفية الأولية بأسلوب يوافق عقلية العامة. وحتى لا ينفر هؤلاء من الفلسفة أخذ مؤلفوها يستشهدون بالآيات والأحاديث الكريمة وبأقوال من التوراة والإنجيل، وينسبون أشياء إلى نوح وإبراهيم وعيسى، ويروون قصصاً وأساطير إذا حاولوا البرهنة على مسألة من المسائ بدلاً من استعمال الأسلوب المنطقي الفلسفي. خذ مثلاً محاولتهم البرهنة على خلود النفس فإنك لا ترى سوى أساطير تحكي عن الأنبياء وآل البيت وسقراط وإبراهيم ونوح وأفلاطون وأرسطو وفيثاغور وما قاله كل منهم وما عمله كل. وتخرج من هذا الموضوع إذا بحثته بحثاً علمياً كما ابتدأت فيه دون أن تقتنع، ولكن عقلية العامة يوافقها هذا الأسلوب تماما.
هذا وقد وضع الإخوان لرسائلهم مقدمة أشبه بالفهرست بينوا فيها بإيجاز عدد الرسائل والموضوعات التي تعرض لها بحثهم: (وهذه فهرست رسائل إخوان الصفا، وخلان الوفا، وأهل العدل، وأبناء الحمد، يجمل معانيها وماهية أغراضهم فيها: وهي اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم وطرائف الآداب وحقائق المعاني من كلام الخلصاء الصوفية، صان الله قدرهم وحرسهم حيث كانوا في البلاد؛ وهي مقسومة على أربعة أقسام: فمنها رياضية تعليمية، ومنها جسمانية طبيعية، ومنها نفسانية عقلية، ومنها ناموسية إلهية). ثم أخذوا يبينون موضوع كل قسم: فالرياضيات تشمل العدد والهندسة والموسيقى والفلك والصنائع والمنطق بمقولاته وعباراته وبراهينه؛ والطبيعيات يتكلمون فيها على الهيولي والصورة والسماء والعالم والكون والفساد وكيفية تكوين المعادن وفي النبات والحيوان؛ والرسائل النفسانية تبحث في المبادئ العقلية وفي البعث والصور والنشور والقيامة؛ والإلهية تبحث في الآراء والمذاهب، وبيان اعتقاد إخوان الصفاء وكيفية أنواع السياسات وماهية السحر والعزائم. ويختمونها بالرسالة الجامعة التي لم تصل إلينا والتي كشف فيها كما يقولون عن كثير من الرموز والكنايات التي امتلأت بها رسائلهم: (وتليها الرسالة الجامعة. . . . . . المشتملة على حقائقها بأسرارها. . . إذ هذه الرسائل كلها كالمقدمات لها والمدخل إليها والأدلة عليها والأنموذج منها. . . وهي منتهى الغرض لما قدمناه.
ومثلهم في ذلك - على حد تعبيرهم - كمثل بستاني له حديقة لم تر العين مثلها حسناً وإبداعاً، وأراد لكرمه أن يدعو الناس إليها والتمتع بما فيها، فأخذ نماذج من أزهارها ورياحينها وفاكهتها ووقف أمام بابها يعرضها على الناس، حتى إذا تذوقوها وعرفوا مزاياها واشتاقت نفوسهم لدخول البستان أفسح لهم الطريق كي يتمتعوا ما شاءوا ويتلذذوا ويطربوا.
ويختم إخوان الصفاء كل رسالة بنصيحة للأخ البار الرحيم حتى يتفهم غرضها ويعرف أسرارها. ثم إنهم كانوا يكثرون من القصص على لسان الحيوان، ويدلون بأشياء لو صرحوا بها لفضح أمرهم وانكشف سترهم. ومهما يكن الأمر فرسائلهم سهلة الأسلوب خالية من السجع والمحسنات البديعية، واضحة العبارة أحياناً، غامضة في الغالب من حيث المقصد والغاية. وقد ذكرنا في المقدمة أن الغرض من تأليفهم هذه الرسائل بث تعاليمهم السرية وإيجاد طبقة من الشعب مثقفة تقود الرأي العام إلى أغراضهم السياسية وهي قلب نظام الدولة.
آراؤهم الخيالية
لا نريد أن نتعرض في هذا البحث إلى كل ما تناوله إخوان الصفا في رسائلهم من خرافات، وإنما الذي يهمنا أن نضرب أمثلة على إغراقهم في الخيال أحياناً. فأنت تراهم مثلا في رسالة العدد، وعلى العموم في الرياضيات يتبعون الفيثاغوريين، فلا يهتمون في البحث في علم الحساب كما يهتمون بتبيان خواص الأعداد والكلام عن موسيقى الأفلاك. . . الخ؛ وهاك مثلاً على ذلك: (اعلم بأن كون العدد أربع مراتب آحاد وعشرات ومئات وألوف ليس أمرا ضروريا لازما لطبيعة العدد، ولكنه أمر وضعي رتبته الحكماء باختيار منهم، وإنما فعلوا ذلك لتكون الأمور العددية مطابقة لمراتب الأمور الطبيعية، وذلك أن الأمور الطبيعية أكثرها جعلها الباري والبرودة جل ثناؤه مربعات منها: الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل: الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع. . . الخ)
والواحد من الأعداد هو أصل كل الأعداد، وعنه تصدر بالتكرار ويذهبون مذهب الفيثاغوريين في ذلك وهو أن الواحد أصل الوجود وإن حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة: (واعلم أن الباري جل ثناؤه أول شيء اخترعه وأبدعه من نوره جوهر بسيط يقال له العقل الفعال كما أنشأ الاثنين من الواحد بالتكرار، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من العقل، كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحد على الاثنين؛ ثم أنشأ الهيولي الأولى من حركة النفس كما أنشأ الأربعة بزيادة الواحد على الثلاثة. ثم أنشأ سائر الخلائق من الهيولي ورتبها بتوسط العقل والنفس؛ كما أنشأ سائر العدد من الأربعة بإضافة ما قبلها إليها) ومن ذلك قولهم: (إن منفعة الشكل المتسع تسهيل الولادة إذا كتب على خزفين لم يصبهما الماء وعلقتهما المرأة التي ضربها الطلق)
ويقولون في نشأة علم الفلك: (إن هرمس المثلث الحكمة وهو إدريس النبي عليه السلام صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة حتى شاهد جميع أحوال الفلك؛ ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم، قال تعالى (ورفعناه مكاناً علياً). ويعتقدون بتأثير الكواكب في السعد والنحس (الكواكب السبعة السيارة اثنان منها نيران، واثنان منها سعدان، واثنان نحسان، وواحد ممتزج. أما النيران فالشمس والقمر، والسعدان المشتري والزهرة، والنحسان زحل والمريخ، وأما الممتزج فعطارد)
وأكثر من ذلك خرفة قولهم: (اعلم يا أخي أن كواكب الفلك هم ملائكة الله وملوك السموات، خلقهم الله تعالى لعمارة عالمه وتدبير خلائقه وسياسة بريته، وهم خلفاء الله في أفلاكه، كما أن ملوك الأرض هم خلفاء الله في أرضه) ويعتقدون أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً طيبة لذيذة مفرحة لنفوس أهلها الذين هم الملائكة؛ فإن قال قائل: (لابد إذا أن يكون لهم شم وذوق ولمس) قلنا: (إن هذه حاجة التسبيح، الآكل للطعام والشارب للشراب؛ أما هم فغذاؤهم التسبيح، وشرابهم التهليل، وفاكهتهم الفكر والروية واللذة والفرح. . . ويقال إن فيثاغور الحكيم سمع بصفاء جوهره وذكاء قلبه نغمات الأفلاك والكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصل الموسيقى ونغمات الأفلاك، وهو أول من تكلم في هذا العلم). ولولا خليفة الإطالة لذكرت كثيرا من هذه الآراء الخرافية، وحسبك أن تقرأ رسالة السحر والطلاسم والتعاويذ، وكيف يحاولون معرفة الجنين وقدوم الرسول ومعرفة الكتاب قبل فضه واللص وماذا سرق ومعرفة الحروب وأسبابها. . . الخ
مراتب الوجود:
(اعلم يا أخي أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل ملماً بالكائنات قبل كونها، قادراً على إيجادها متى شاء لم يكن من الحكمة أن يحدث تلك الفضائل في ذاته، فلا يجود بها ولا يفيضها؛ فإذا بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء)
وقد استمر هذا الفيض فنشأ عنه العالم، وأنت ترى أنهم يأخذون بنظرية الفيض التي ابتدعها الأفلاطونية الحديثة، وأنهم يقولون بالعناية الإلهية التي وضحها ابن سينا فيما بعد بقوله: (لما كان المبدع الأول يعلم ذاته ويعلم لذلك نظام الخير في الوجود المطلق كان علة للخير والكمال اللذين فاضا على الوجود عندما فاض الوجود نفسه، فانتقل بذلك نظام الخير إلى العالم بحسب القدر الممكن لهذا العالم)
والعالم عندهم على الترتيب الآتي:
1 - العقل الفعال: وهو جوهر بسيط روحاني أبسط من النفس وأشرف منها قابل لتأييد الباري تعالى علام بالفعل.
2 - النفس الكلية: وهي جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع قابلة فضائل العقل بلا زمان، فعالة في الهيولي بالتحريك لها؟
3 - الهيولي الأولى: وهي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة بل قابلة آثار النفس بالزمان منفعلة لها.
4 - الطبيعة الفاعلة: وهي قوة من قوى النفس الكلية سارية في جميع الأجسام محركة مدبرة لها وتسمى النفوس الجزئية أو الملائكة.
5 - الجسم المطلق: ذو الطول والعرض والعمق وهو الهيولي الثانية.
6 - عالم الأفلاك: وسنتكلم عليه بالتفصيل فيما بعد.
7 - العناصر السفلى: كالنار والهواء والماء والأرض.
8 - المعادن والنبات والحيوان المكون من العناصر السابقة. وقد فاضت كلها من الله، ولكن وقف الفيض بعد الجسم المطلق الذي لم يفض منه جوهر آخر لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية.
عالم الأفلاك:
الأفلاك أجسام كرية شفافة مجوفة، وهي تسعة أفلاك مركبة بعضها في جوف بعض كحلقة البصلة، وهناك كرتان ليستا من الأفلاك، وهما كرة الهواء وكرة الأرض، فيكون المجموع إحدى عشرة كرة. وتقع الشمس في الوسط، وفوقها خمس كرات وتحتها خمس؛ فالتي فوقها على الترتيب. . . كرة المريخ، المشتري، زحل، الكواكب الثابتة، ثم فلك المحيط، والتي تحتها على الترتيب. . . الزهرة وعطارد، والقمر، ثم كرة الهواء، ثم كرة الأرض التي هي المركز، وليست مجوفة ولكن متخلخلة.
والشكل الكري أفضل الأشكال كلها، وحركته تامة، وأفضل الحركات. والفلك المحيط ألطف الأجسام وأشدها روحانية وأشفها نوراً لقربه من الهيولي الأولى. والأرض أغلظ الأجسام كلها وأشدها ظلمة لبعدها عن الفلك المحيط. والقمر هو السماء الأولى وعطارد السماء الثانية وهكذا حتى تنتهي من السموات السبع التي آخرها زحل. أما فلك الكواكب الثابتة فهو الكرسي الذي وسع السموات والأرض، والفلك المحيط هو العرش العظيم الذي يحمله يومئذ ثمانية.
هل قالوا بالنشوء والارتقاء؟
ذهب بعض الباحثين إلى أن إخوان الصفا كانوا يقولون بنظرية النشوء والارتقاء. والواقع أنهم كانوا بعيدين كل البعد عن هذا، بيد أن لهم نظرية خاصة في تدرج الأجسام المولدة: (واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصل بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول مرتبة المعدنية متصل بالتراب والماء. فأدون الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة فقط كالحلزون والديدان التي تتكون في الطين وقعر النهر. . .
فهذا النوع حيوان نباتي لأن جسمه ينبت كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه. ولما كان جسمه يتحرك حركة اختيارية كان حيوانا. (أما رتبة الحيوانية مما يلي رتبة الإنسان فليست من وجه واحد، ولكن من عدة وجوه، فمنها ما قارب رتبة الإنسان بصورة جسده كالقرد، ومنها ما قاربها بالأخلاق النفسانية كالفرس في كثير من أخلاقه، ومنها كالطائر الإنساني أيضاً، ومثل الفيل في ذكائه، وكالببغاء والهزار ونحوهما، ومنها النحل اللطيف الصنائع. . . إلى ما شاكل هذه الأجناس. فهذه الحيوانات في آخر مرتبة الحيوان مما يلي رتبة الإنسان لما يظهر فيها من الفضائل الإنسانية)
ولاشك أن هذه النظرية بعيدة كل البعد عن مذهب النشوء والارتقاء الحديث، إذ جعلوا الفيل والنحل والطائر قريبة الشبه بالإنسان وفي أعلى مراتب الحيوان. ولعلنا إذا أخذنا رأيهم من الناحية العضوية البيولوجية توجد عندما شبهة للقول بمذهب النشوء، فالحلزون حيوان نباتي، والقرد قريب للإنسان جسمياً. ولكن حتى مع هذا لم يقل إخوان الصفا بأن الإنسان هو والقرد متفرعان من أرومة واحدة. وهم يعتقدون أن النبات متقدم في الوجود على الحيوان لأنه غذاء له، والحيوان متقدم على الإنسان لأن وجوده لخدمته ومنفعته.
(يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية ببيروت
مجلة الرسالة - العدد 453
بتاريخ: 09 - 03 - 1942