خالد محمد مندور - اللغة والشعر بين الأستاذ والتلميذ...

تلميذ نجيب يغذى تمرده أستاذة فيتمرد حتى على أستاذة الذى كان يأمل ، واهما ، الا يتجاوزه المتمرد ، فتدور معارك طاحنة تؤثر على حياة التلميذ وتصنعه ، فالتمرد الأصيل ينطلق الى مداه ليخلق لنا ناقدا عظيما ، ناقدا يضع الأسس للنقد العربي الحديث ، ناقدا رفيقا وحاضنا للشباب وللتيارات الجديدة وشديد الرفق بهم ، يقف على راس المتقاتلين في الميدان ، في الخط الأمامي ، حيث يتلقى الطعنات عنهم جميعا ، شديد الواطئة على الكبار الذين يستطيعون الصمود أمامه ، فيتخذه الصغار أبا بديلا وحاميا ويتكاتف حولة أبناء جيله ، في الميدان أم في هيئة الأركان التي تشكلت حول التوجهات الجديدة .

فيكتب المتمرد حول اللغة والشعر.
ففي بداية الاربعينيات يكتب حول اللغة، ويا له من اقتراب يجمع بين جدل اللغة مع الواقع والنظرة التاريخية لتطور اللغات، نظرة في منتهى الشجاعة لهذا المتمرد الكبير الذي خرج لمناطحة من يعتقدون أنهم قد ملكوا السماء والارض.
فبقول (نشر في كتاب في الميزان الجديد )
" ثم إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يُحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي، وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب في اللغات، وإنما يستقرئون الاستعمالات عند كبار الكُتَّاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور.
ومن الغريب أن نظل نحن متردين في طرق التفكير التي تخلص منها العالم المتحضر منذ أكثر من قرن!
فاللغة العامية ذاتها ليست مجموعة أخطاء، وإنما هي تطور عادي مألوف في كل اللغات، واللغة الفرنسية والإيطالية كذلك ليستا أخطاء في اللغة اللاتينية.
إذن فكلام الأب الكرملي وكلام زكريا إبراهيم حذلقة تافهة ومماحكات لا علاقة لها بمناهج البحث في اللغات التي لم تعد تقريرية Dogmatique في شيء.
وأما عنصر الثبات في اللغة وهو ما يطالب به الأديب زكريا حتى لا يصير الأمر فوضى، فذلك ما لا أستطيع أنا أن أدخله في اللغة، بل ولا المجمع اللغوي نفسه، عنصر الثبات هو استعمال كبار الكُتَّاب لمفردات اللغة وتراكيبها، ثم قراءة مؤلفات كبار الكُتَّاب في المدارس والجامعات لتشيع تلك الاستعمالات، وكل محاولة غير هذه السبيل لن تجدي شيئًا.
اللغة كائن حي لا يقنن له، وأكبر دليل على صحة ما أقول هو أن المجمع اللغوي لم يستطع شيئًا في هذا الباب ولن يستطيع."
وفى الخمسينات يكتب حول الشعر ، في الجزء الثانى من كتاب الشعر المصرى بعد شوقى ( جماعة أبولر)، متحدثا عن شعر ناجى ، مدافعا عنة دفاعا مجيدا وحادا في مواجهة أستاذة طه حسين ،وبرغم ذلك فإن المتمرد يحتفظ دائما بالاحترام والاعتراف بالجميل وبالدور التاريخي لأستاذة.
" بالبدء بقصيدة لناجى
"هذه الكعبة كنا طائفيها والمصلين صباحا ومساء
كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها كيف بالله رجعنا غرباء
دار أحلامي وحبي لقيتنا في جمود مثلما تلقى الجديد
أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا يضحك النور إلينا من بعيد
رفرف القلب بجنبي كالذبيح وأنا أهتف يا قلب أتئد
فيجيب الدمع والماضي الجريح لم عدنا ليت أنا لم نعد
لم عدنا؟ أو لم نطو الغرام؟ وفرغنا من حنين وألم
ورضينا بسكون وسلام وانتهينا لفراغ كالعدم
أيها الوكر إذا طار الأليف لا يرى الآخر معنى للسماء
ويرى الأيام صفرا كالخريف ناحت كرياح الصحراء
آه مما صنع الدهر بنا أو هذا الطلل العابث أنت
والخيال المطرق الرأس أنا شد ما بتنا على الضنك وبت
أين ناديك وأين السمر أين أهلوك بساطا وندامى
كلما أرسلت عيني تنظر وثب الدمع إلى عيني وغما
موطن الحسن ثوى فيه السأم وسرت أنفاسه في جوه
وأناخ الليل فيه وجثم وجرت أشباحه في بهوه
والبلى أبصرته رأي العيان ويداه تنسجان العنكبوت
صحت يا ويحك تبدو في مكان كل شيء فيه حي لا يموت
كل شيء من سرور وحزن والليالي من بهيج وشجى
وأنا أسمع أقدام الزمن وخطى الوحدة فوق الدرج
ركني الحاني ومغناي الشفيق وظلال الخلد للعاني الطليح
علم الله لقد طال الطريق وأنا جئتك كيما أستريح
وعلى بابك ألقى جعبتي كغريب آب من وادي المحن
فيك كف الله عني غربتي ورسا رحلي على أرض الوطن
وطني أنت، ولكني طريد أبدى النفي في عالم بؤسي
فذا عدت فللنجوى أعود ثم أمضي بعد ما أفرغ كأسي
فهذه القصيدة التي أحسبها من روائع النغم في الشعر العربي الحديث تقطع بأن الدعوة إلى التجديد كانت قد نضجت واستقام فهمها وذلك لأن القصيدة تندرج تحت فن عربي قديم رائع هو فن بكاء الديار ومع ذلك أي جدة في هذه القصيدة وأي أصالة وأي جمال في هذا التصوير البياني الرائع الذي جسم المعنويات أروع تجسيم وأقواها! فالبلى يبصره الشاعر رأي العيان ويداه تنسجان العنكبوت، وهو يسمع أقدام الزمن بل و خطى لوحده فوق الدرج وكل ذلك فضلا عن ذلك الجو الروحي الزاخر الذي تسبح فيه القصيدة كلها فتنفذ نسماتها إلى النفوس بأسى مشج يبلغ في قوته رغم رهافته - قوة العاصفة التي تثير الوجدان وتحرك أعماق النفس.
ولكن هذا التجديف المرهف في التصوير البياني لم يرق فيما يبدو لبعض كبار أدباءنا الذين لم يستطيعوا أن يتحرروا من معاجم اللغة ودلالاتها المتحجرة حتى لنرى طه حسين يأخذ في مقال له بالجزء الثالث من "حديث الأربعاء" عن ديوان "وراء الغمام" - يأخذ على الشاعر ناجي قوله في قصيدة "قلب راقصة" (وراء الغمام ص36).
أمسيت أشكو الضيق والأنيا مستغرقة في الفكر والسأم
فمضيت لا أدري إلى أينا ومشيت حيث تجرني قدمي
فيزعم أن الشاعر المجيد لا يستقيم له الاستغراق في الفكر والسأم معا "فالمفكر لا يسأم والسئم لا يفكر لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم، ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير ولا يخلي بينه وبينه. على كل حال فقد أمسى الشاعر ضيقا متعبا في السأم والتفكير فخرج لا يدري إلى أين ومضى حيث تجره قدمه، فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعرا ولا تلائم لغة. فالقدم لا تجر صاحبها، وإنما تحمله متثاقلة مكدوده إن لم يتح لها النشاط، وإنما يجر صاحب القدم نفسه إذا خرج فاترا مكدودا لا يقوى على المشي، ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم فجعل قدمه تجره على حين كان ينبغي أن يجرها هو".
فهذا النقد الجاري على منطق الفقهاء أبعد ما يكون عن الفهم لحقائق النفس البشرية، في زعمه أن السأم لا يجتمع مع التفكير، كما أنه أبعد ما يكون عن عبقرية اللغة والفن عندما أخذ على الشاعر قوله، إن قدمه أخذت تجره بدل أن يجرها هو، فالسأم كما يكون نتيجة لفراغ النفس من كل فكر أو إحساس ويكون أيضا من إطالة التفكير واجتراره، بل قد يكون منصبا على السأم نفسه. كما أن التعبير بالقدم التي تجر صاحبها تعبير رائع دقيق لأنه يوحي بالحالة النفسية التي كانت مسيطرة على الشاعر أكبر الإيحاء، فهو لا يسير عن قصد وإرادة وهدف، ويتحرك في شبه آلية، وعندئذ تجره قدمه لا العكس كما يعتقد طه حسين بمنطق الفقيه.
وعلى أية حال فإن التذوق الفني الذي أخذ ينمو في الأجيال الناهضة لا أظنه يقر طه حسين على هذا النقد، كما لا أظنه يخطئ الإحساس بما في هذا الشعر الأصيل المبتكر من قوة وعدل وصدق.
والذي لا شك فيه أن موضوع الغرام أو الشوق إليه والاحتراق بلواعجه لم يكن ولن يكون وقفا على ناجي ولكن ميزة ناجي هي أنه استطاع أن يستخرج من هذه المشاعر العامة الدارجة فنا رفيعا وأن يوازيه في هذا الفن طبع أثيري خفيف بل ساذج أحيانا سذاجة حلوة تشرق من خلال تعابيره المصورة إشراقة نضرة كوجه الطفل، على ما نحس في هذه الأبيات التي نقتطفها من قصيدة "الوداع" (وراء الغمام ص55).
هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا
ومشينا في طريق مقمر تثب فيه الفرحة قبلنا
وتطلعنا إلى أنجمه فتهاوين وأصبحن لنا
وضحكنا ضحك طفلين معا وعدونا فسبقنا ظلنا
وانتهينا بعدما زال الرحيق وأفقنا ليتنا لا نفيق
يقظة طاحت بأحلام الكرى وتولى الليل والليل صديق
وإذا النور نذير طالع وإذا الفجر مطل كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها وإذا الأحباب كل في طريق
وبالرغم من مجال هذا الشعر الذي يجمع بين بساطة الإحساس وصفائه وقوة التعبير وأصالته عجبت إذ رأيت السيدة نعمات أحمد فؤاد في كتابها عن ناجي تعيب قوله:
"وإذا الفجر مطل كالحريق" زاعمه أن الفجر لا يمكن أن يشبه الحريق وهو بطبيعته ندي رطب. وهذا أيضا ضرب من نقد الفقهاء، الذين لا يستطيعون النفاذ إلى أسرار الشعر، فالشاعر هنا لا يتحدث عن الفجر الندي الرطب الذي تعرفه السيدة نعمات وإنما يتحدث عن الفجر الذي وضع حدا لليل الجميل الذي كان يضم الشاعر وحبيبته فرأى في ضوء هذا الفجر حريقا يوشك أن ليتهم لحظات السعادة التي كان ينعم بها في ظلال الليل. وهذا التعبير وحده يعدل ديوانا من الشعر التقريري الدارج.
ومشاعر الحب حتى ولو كانت المرأة هي هدفها الأول لا بد أن توسع من نطاق هذا الحب حتى يمتزج بالطبيعة، بل ويمتزج بالله أحيانا، لأن الله محبة كما ورد في التوراة. ومن هنا يستمد الشاعر كثيرا من صوره وتشبيهاته من الحياة الدينية ومشاعرها الروحية الأليفة إلى النفوس في مثل قوله في قصيدة "الميعاد الضائع" (ص 31 من ليالي القاهرة):
تتعاقب الأقدار وهي مسيئة كم عقنا ليل وخان نهار
وكأنما هذا الفضاء خطيئة وكأن همس نسيمه استغفار"
فتحية للاستاذ والتلميذ ، طه حسين ومحمد مندور





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...