يلاحظ المتابع، وحتى المراقب من بعيد، للحياة الأدبية في بلادنا، خلال الفترة الأخيرة تحديدا، هذا الإقبال غير المسبوق في طباعة الكتب، حتى أن من يعرف ومن لا يعرف، قام ويقوم بطباعة كتاب أو أكثر، فمن أراد أن يظهر اجتماعيا قام بطباعة كتاب، ومن أرادت أن تقاهر زوجها وتثبت له أنها جديرة ويحق لها قامت بطباعة كتاب، ومن أراد يضخم قائمة مؤلفاته تمهيدا لقبض المزيد من المال، لقاء استعارتها من المكتبات العامة وقراءتها.. قام بطباعة كتاب. ساهم في الإقبال على آفة طباعة الكتب اشتراط اتحاد الكتاب أن يكون العضو المنتسب إليه قد أصدر كتابا أو أكثر، غاضا النظر عن القيمة الأدبية والفنية للكتاب ومركزا على صدوره.. وكفى الله المؤمنين شر القتال.
هناك العديد من الأسباب لهذه الفوضى في إصدار الكتب، دعمت تفاقمها وسائل الاتصال الاجتماعي التي سلطت الضوء على الإنسان الفرد وضخمته، حتى بات لا يرى سواه إلا لحاجة في نفسه وغاية يرمي إليها، لقد مضى الزمن الذي عزت فيه طباعة الكتب وعز إصدارها، واذكر هنا أن الكاتب كان يلقى الأمرين من اجل إصدار كتابه، وأحاول الآن وأنا اكتب هذه الكلمات أن أتصور ما عاناه طابع الكتاب الأول في البلاد بعد قيام إسرائيل، الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل ابن قرية عبلين، ورئيس مجلسها في فترة سابقة، يوم أصدر مجموعته الشعرية " ورد وقتاد"، أو الكاتب المرحوم عيسى لوباني، من مهجري قرية المجيدل وعاش جل حياته في الناصرة عاملا حينا في سلك التعليم وآخر في إدارة مكتبة، أتصوره يوم أصدر مجموعته الشعرية " أحلام حائر"، كان هذا في أواسط الخمسينيات.
لقد عانى كتابنا في إصدارهم لكتبهم ومؤلفاتهم، وكان الكاتب في فترة سابقة، وحتى في هذه الفترة الراهنة نوعا ما، يعاني في إصدار كتابه، إذ عليه أن يكون هو الكاتب ومتابع الطباعة وموزع الكتاب أيضا، وقد بقي هذا الوضع على ما هو حتى شرعت دائرة الثقافة العربية التابعة لوزارة المعارف بادراه طيب الذكر المرحوم موفق خوري، بطباعة الكتب، فخف العبء عن الكتاب، وكان أن قام العشرات من الهواة والكتاب ومدعي الكتابة باستخراج مؤلفات كانوا قد كتبوها، أو بادروا للكتابة والتأليف، من إدراجهم، وتقدموا بها إلى الدائرة فقامت هذه بطباعة معظم ما قدمه هؤلاء إليها، وهنا نشأت مشكلة جديدة، عانينا منها وما زلنا، تمثلت في توزيع الكتب مجانا، وقد ساهم هذا في تخفيض قيمة الكتاب، إذ أن الكتاب عادة ما كان يطبع إرضاء لغرور صاحبه، والأنكى من هذا أن من كان يأخذ الكتاب مجانا، لم يكن يقوم بقراءته في العادة.. ولنا في هذا حكايات وحكايات.
في الفترة الجارية، فترة ما بعد دائرة الثقافة العربية، وانتشار وسائل الاتصال الاجتماعي، انتشار النار في الهشيم، وما أفضت إليه من شخصنة القضايا العامة والانكفاء الذاتي، اتخذت ظاهرة طباعة الكتب طابعا آخر، تمثل في عدة تجليات، فطباعة الكتاب، كما قالت لي سيدة مجتمع، لا تكلف صاحبها سوى امتلاك مبلغ خمسة آلاف شاقل، أي ثمن فستان سهرة فـ" فأيهما أفضل.. شراء فستان سهرة.. أم طباعة كتاب؟". سألتني محدثتي. فما كان مني إلا أرسلت ابتسامة وأنا أقول "طباعة كتاب أفضل بالطبع". من التجليات الأخرى.. تحول معظم دور النشر في بلادنا وفي العالم العربي المحيط بنا عامة، إلى دكاكين لطباعة الكتب، هات بضعة آلاف من الشواقل ونحن نطبع لك كتابك... ومن المستغرب المستعجب أن هناك دور نشر سبق ولعبت دورا حقيقيًا في تدعيم الحركة الأدبية في عالمنا العربي، لبست قُبعها ولحقت ربعها، فراحت تطبع الكتب دون النظر إلى جودتها، كما كانت تفعل أيام ازدهارها وعزها، وهناك تجل لا يخلو من طرافة مؤسية تمثل في رجالات الجامعات من ذوي الياقات المنشاة والعلاقات العامة القوية، فقد اقتحم العديد من هؤلاء ميدان طباعة الكتب طامحين إلى رفع درجاتهم العلمية، وهذا ليس معيبا بحد ذاته، إنما المعيب أن يقوم هؤلاء بالمبادرة إلى استخراج دراساتهم التي تقدموا بها لجامعاتهم للحصول على هذه الإجازة أو تلك، أو قاموا بتجميع مقالات كانوا كتبوها في الماضي لتقديمها إلى من لهم دالة عليهم، دون مراجعة وإعداد للنشر، لتصدر في كتب لا غاية ثقافية منها وإنما طبعت لأهداف شخصية ضيقة.
إنني لا افهم، في هذا السياق، لماذا يبادر احدهم لطباعة خمسة كتب دفعة واحدة، وأخرى تسافر إلى القاهرة و عمان لتطبع أربعة دواوين شعرية دفعة واحدة، فهل بتنا في زمن الكم وتركنا الكيف يندب حظه؟
للحقيقة أقول إن ظاهرة طباعة الكتب الطامة الغامة، ليست ظاهرة محلية، فهي ظاهرة عالمية، انتشرت أكثر كما المحنا آنفا، مع انتشار العولمة ومع تحول العالم إلى قرية صغيرة.
للاختصار والإجمال اروي حكاية طريفة رواها لي صديق صحفي قبل سنوات، وما زالت تفاصيلها ترن في أذني، مفادها أن محدثي، دخل على محرر أدبي في صحيفة أمريكية، فلفتت نظره كومة كبيرة من الكتب الملقاة قبالة مكتبه. سأله ما هذه الكومة؟ فرد المحرر إنها كتب يحملها إلي البريد يوميا... ما يلفت نظري أضعه قريبا مني، وما لا يثير اهتمامي القي به قبالتي كما ترى، لترتفع الكومة هناك. انتهت الحكاية.. بعد تقديمي هذه الحكاية.. أود توجيه سؤال ذي مغزى إلى عشاق إصدار الكتب من رجال ونساء أيضا، هو: هلا فكرت قبل إقدامك على طباعة كتابك العتيد.. وأين سيكون مآله.. كومة الكتب.. أم تلك الزاوية القريبة من قلب المحرر وروحه.
هناك العديد من الأسباب لهذه الفوضى في إصدار الكتب، دعمت تفاقمها وسائل الاتصال الاجتماعي التي سلطت الضوء على الإنسان الفرد وضخمته، حتى بات لا يرى سواه إلا لحاجة في نفسه وغاية يرمي إليها، لقد مضى الزمن الذي عزت فيه طباعة الكتب وعز إصدارها، واذكر هنا أن الكاتب كان يلقى الأمرين من اجل إصدار كتابه، وأحاول الآن وأنا اكتب هذه الكلمات أن أتصور ما عاناه طابع الكتاب الأول في البلاد بعد قيام إسرائيل، الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل ابن قرية عبلين، ورئيس مجلسها في فترة سابقة، يوم أصدر مجموعته الشعرية " ورد وقتاد"، أو الكاتب المرحوم عيسى لوباني، من مهجري قرية المجيدل وعاش جل حياته في الناصرة عاملا حينا في سلك التعليم وآخر في إدارة مكتبة، أتصوره يوم أصدر مجموعته الشعرية " أحلام حائر"، كان هذا في أواسط الخمسينيات.
لقد عانى كتابنا في إصدارهم لكتبهم ومؤلفاتهم، وكان الكاتب في فترة سابقة، وحتى في هذه الفترة الراهنة نوعا ما، يعاني في إصدار كتابه، إذ عليه أن يكون هو الكاتب ومتابع الطباعة وموزع الكتاب أيضا، وقد بقي هذا الوضع على ما هو حتى شرعت دائرة الثقافة العربية التابعة لوزارة المعارف بادراه طيب الذكر المرحوم موفق خوري، بطباعة الكتب، فخف العبء عن الكتاب، وكان أن قام العشرات من الهواة والكتاب ومدعي الكتابة باستخراج مؤلفات كانوا قد كتبوها، أو بادروا للكتابة والتأليف، من إدراجهم، وتقدموا بها إلى الدائرة فقامت هذه بطباعة معظم ما قدمه هؤلاء إليها، وهنا نشأت مشكلة جديدة، عانينا منها وما زلنا، تمثلت في توزيع الكتب مجانا، وقد ساهم هذا في تخفيض قيمة الكتاب، إذ أن الكتاب عادة ما كان يطبع إرضاء لغرور صاحبه، والأنكى من هذا أن من كان يأخذ الكتاب مجانا، لم يكن يقوم بقراءته في العادة.. ولنا في هذا حكايات وحكايات.
في الفترة الجارية، فترة ما بعد دائرة الثقافة العربية، وانتشار وسائل الاتصال الاجتماعي، انتشار النار في الهشيم، وما أفضت إليه من شخصنة القضايا العامة والانكفاء الذاتي، اتخذت ظاهرة طباعة الكتب طابعا آخر، تمثل في عدة تجليات، فطباعة الكتاب، كما قالت لي سيدة مجتمع، لا تكلف صاحبها سوى امتلاك مبلغ خمسة آلاف شاقل، أي ثمن فستان سهرة فـ" فأيهما أفضل.. شراء فستان سهرة.. أم طباعة كتاب؟". سألتني محدثتي. فما كان مني إلا أرسلت ابتسامة وأنا أقول "طباعة كتاب أفضل بالطبع". من التجليات الأخرى.. تحول معظم دور النشر في بلادنا وفي العالم العربي المحيط بنا عامة، إلى دكاكين لطباعة الكتب، هات بضعة آلاف من الشواقل ونحن نطبع لك كتابك... ومن المستغرب المستعجب أن هناك دور نشر سبق ولعبت دورا حقيقيًا في تدعيم الحركة الأدبية في عالمنا العربي، لبست قُبعها ولحقت ربعها، فراحت تطبع الكتب دون النظر إلى جودتها، كما كانت تفعل أيام ازدهارها وعزها، وهناك تجل لا يخلو من طرافة مؤسية تمثل في رجالات الجامعات من ذوي الياقات المنشاة والعلاقات العامة القوية، فقد اقتحم العديد من هؤلاء ميدان طباعة الكتب طامحين إلى رفع درجاتهم العلمية، وهذا ليس معيبا بحد ذاته، إنما المعيب أن يقوم هؤلاء بالمبادرة إلى استخراج دراساتهم التي تقدموا بها لجامعاتهم للحصول على هذه الإجازة أو تلك، أو قاموا بتجميع مقالات كانوا كتبوها في الماضي لتقديمها إلى من لهم دالة عليهم، دون مراجعة وإعداد للنشر، لتصدر في كتب لا غاية ثقافية منها وإنما طبعت لأهداف شخصية ضيقة.
إنني لا افهم، في هذا السياق، لماذا يبادر احدهم لطباعة خمسة كتب دفعة واحدة، وأخرى تسافر إلى القاهرة و عمان لتطبع أربعة دواوين شعرية دفعة واحدة، فهل بتنا في زمن الكم وتركنا الكيف يندب حظه؟
للحقيقة أقول إن ظاهرة طباعة الكتب الطامة الغامة، ليست ظاهرة محلية، فهي ظاهرة عالمية، انتشرت أكثر كما المحنا آنفا، مع انتشار العولمة ومع تحول العالم إلى قرية صغيرة.
للاختصار والإجمال اروي حكاية طريفة رواها لي صديق صحفي قبل سنوات، وما زالت تفاصيلها ترن في أذني، مفادها أن محدثي، دخل على محرر أدبي في صحيفة أمريكية، فلفتت نظره كومة كبيرة من الكتب الملقاة قبالة مكتبه. سأله ما هذه الكومة؟ فرد المحرر إنها كتب يحملها إلي البريد يوميا... ما يلفت نظري أضعه قريبا مني، وما لا يثير اهتمامي القي به قبالتي كما ترى، لترتفع الكومة هناك. انتهت الحكاية.. بعد تقديمي هذه الحكاية.. أود توجيه سؤال ذي مغزى إلى عشاق إصدار الكتب من رجال ونساء أيضا، هو: هلا فكرت قبل إقدامك على طباعة كتابك العتيد.. وأين سيكون مآله.. كومة الكتب.. أم تلك الزاوية القريبة من قلب المحرر وروحه.