أستطيع أن ألخص أيامي الأدبية الأولى في الإسكندرية- قبل أن أستقر في القاهرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي- بأنها كلها كانت أيامًا حلوة بين الأدباء، كنا شبابًا غضًّا لا منافسة بيننا على شيء، وكل هدفنا أن ننشر في القاهرة، نلتقي كل يوم اثنين في قصر ثقافة الحرية، نتحلق حول المرحومة «عواطف عبود» مسؤولة الثقافة بالقصر- قصر الإبداع فيما بعد- نناقش ما كتبناه، أو ما قررنا من قبل أن نقرأه من كتب أو روايات، وتدعو هي مَن نريد من مشاهير القاهرة وترسل إليهم أعمالنا القصصية مكتوبة بالحبر أو بالآلة الكاتبة، فيأتون لمناقشتها معنا. في هذه الندوات التقينا وجهًا لوجهٍ لأول مرةٍ مع كتَّاب وأدباء ونقاد مثل: بهاء طاهر، وعلي شلش، والدكتور عبد القادر القط، والدكتور محمود الربيعي، ومحمد إبراهيم مبروك، وعزت عامر، وكمال ممدوح حمدي، وفؤاد زكريا أستاذ الفلسفة، وغيرهم من أساتذة كلية الآداب في الإسكندرية، مثل المعيدة أولجا مطر ذلك الوقت. لم تكن بيننا منافسة من أي نوع؛ لأننا كنا نحتاج إلى الوجود الأدبي خارج الإسكندرية. بيننا أسماء نسيتها وأسماء أذكرها مثل: مصطفي نصر، وسعيد سالم، وعبد الله هاشم، ورجب سعد السيد، وسعيد بكر، وفتحي محفوظ، وسيد الهبيان، وعطية مبروك الذي كان من أسوان، وذات مرة اشترك في جائزة للقصة القصيرة بقصر الثقافة، وكان من بين الفائزين، وحين تم نداء اسمه قال المنادي: «الكاتبة عطية مبروك»، فظللنا نضحك شهورًا. كانت لي معه تجربة جميلة إذ بدأت هيئة الكتاب تنشر ترجمات سامي الدروبي لأعمال دستويفسكي، وكانت تُنشَر بالتوالي كل شهر تقريبًا، وسعر الجزء منها ما بين ثمانين قرشًا إلى جنيهٍ. لم يكن معنا ما يكفي - كنا نستعير الكتب لنقرأها من بائع الكتب الشهير المرحوم «عم سيد» في محطة الرمل نظير قروش قليلة- اتفقنا أنا وعطية أن نشترك كل شهر في شراء جزء مما يتم نشره من أعمال دستويفسكي، وفي النهاية نقتسمها بيننا. اقترحت عليه أن يقرأ هو ما نشتريه أولًا، ثم أقرأه أنا. بعد حوالي عام أو أكثر صارت كل الكتب عندي. ظللت حتى سافرت إلى القاهرة أنظر إليها وأضحك. كيف لم يدرك عطية أن ذلك سيحدث؟ عطية كان كاتبًا مبشرًا بحقٍّ، ولا أعرف لماذا توقف عن الكتابة! كذلك كان فتحي محفوظ الذي عرفت بعد هذه السنوات الطوال أنه كتب رواية. كذلك كان رجب سعد السيد الذي نشر في مصر وخارجها قصصًا ومقالات. وطبعًا سعيد بكر الذي توفى مبكرًا. وأطال الله في عمر مصطفى النصر وسعيد سالم وكل الأصدقاء. من الذين كانوا معنا ترزي شهير لملابس النساء بالأنفوشي اسمه سعيد بدر، والمعيد سعيد الورقي الذي صار أستاذًا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب فيما بعد، وانتصار رجب، وسلوى المحلاوي، وغيرهم. وهنا أشكر صديق العمر الروائي الجميل مصطفى نصر؛ لأنه ذكرني ببعض الأسماء التي نسيتها، وخاصة كاتب لم يكن يكتب، ولن أذكر اسمه طبعًا، كان غريب الطباع، فحين تكون في الندوة أستاذة أو كاتبة يركز عينيه على ساقيها ويغيب في أحلامه. في إحدى المرات اشتكته عواطف عبود إلى مدير القصر وقتها الأستاذ محمد غنيم، فمنعه من الحضور لوقت طويل. صار يذهب إلى جلسة نجيب محفوظ الصيفية في الإسكندرية، وأطلق عليه نجيب محفوظ المسكين الغامض. هكذا أخبرني مصطفى نصر عما قاله نجيب محفوظ عن هذا الشخص؛ لأني لم أكن من مرتادي جلسة نجيب محفوظ في الإسكندرية. كنت غادرتها إلى القاهرة. حتى في القاهرة لم أكن من مرتادي جلسة نجيب محفوظ في مقهى ريش، وسأتكلم عن ذلك في حينه. كنا نندهش من حضور ذلك الشخص، فدائمًا مشغول عنا في تأملاته، كأنه يأتي ليشاهد النساء، بينما الدنيا مفتوحة في الخارج. لا أذكر أنه قال رأيًا مرةً في كتاب أو قصة يزيد عن كلمات مثل «حلوة» أو «مش حلوة أوي». كنا ننتهي من الندوة، فنتجه نحن الرجال إلي شارع الشهداء نجلس في مقهى هناك، ونشتري ساندويتشات فول وفلافل من محمد أحمد، حتى جاء يوم كنت نشرت فيه أكثر من قصة بالقاهرة في مجلة الطليعة ومجلة المجلة والهلال. كنت من قبل عام 1969 قد حصلت على جائزة نادي القصة في الإسكندرية الذي كان مؤسسه الصحفي المرحوم الكاتب فتحي الإبياري، وفازت القصة التي كان عنوانها «حلم يقظة بعد رحلة القمر» بالجائزة الأولى. كانت المسابقة على مستوي الجمهورية، ونُشرت في صفحة كاملة في أخبار اليوم يوم السبت، وفي مقدمتها كلمة للمرحوم محمود تيمور بعنوان "هذا قصَّاص موهوب". لقد حولها فتحي الإبياري إلى سهرة إذاعية في صوت العرب. هل تعرفون كم كانت الجائزة؟ ثلاثة جنيهات وكأس بيضاء صغيرة تحسبها فضة وهي صفيح. لكنها كانت أجمل ثلاثة جنيهات في الدنيا، اشتريت بها نسخًا من جريدة أخبار اليوم يوم ظهور القصة، ومشيت أوزعها على الناس. وكنا نحضر لقاءً أدبيًّا آخر يديره أمين محكمة اسمه حسني نصار في مكتبة جمعية الشبان المسلمين، أو لقاء في بيت الصديق الناقد عبد الله هاشم، لكن لقاء قصر ثقافة الحرية هو الذي كان أكثر أهمية. قليلًا ما كنا نرى محمد حافظ رجب الذي كان يعيش في القاهرة، لكننا نعرف قيمته الأدبية وتجديده الأدبي قبل مَن سُمُّوا بجيل الستينيات، وكان هو صاحب صيحة «نحن جيل بلا أساتذة». لم يكن معنا في جماعة القصة طبعًا لوجوده بالقاهرة، لكني رأيته في أكثر من ندوة عامة. أذكر أني بعد أن قرأت له مجموعته القصصية التي أربكت الحياة الأدبية بطريقته في الكتابة التي تضرب كل ما هو مقدس في الحكي، وأعني بها مجموعة «الكرة ورأس الرجل»، أن كتبت عنها مقالًا في مجلة «سنابل» التي كانت تصدر من محافظة كفر الشيخ، واستمرت ثلاث سنوات بعد صدورها الأول عام 1969، وكان رئيس تحريرها الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر، ومديرها الفني الفنان محمود بقشيش الذي صارت لي صداقة معه حين عشت بالقاهرة. لا أنسى في أول لقاء معه، سألني هل أتابع معارض الفن التشكيلي، فقلت: «إلى حد ما». وبابتسامته الجميلة قال لي: «كيف تكتب؟»، ضحكت، وقلت «أكتفي أكثر بالسينما والشِّعر والمسرح»، فقال لي: «إذنْ نذهب إلى السينما معًا، وتأتي معي لنطوف على المعارض». هكذا صرنا كل أسبوع أو أسبوعين، نجد حجة لنا في الصيف أن الجو حار، وفي الشتاء أن الجو بارد، فهيا بنا إلى التكييف في السينما! رأينا أفلامًا رائعةً، لكنه لم يتوقف عن اصطحابي إلى المعارض. كان محمود بقشيش يقف معي ويشرح لي ببساطة تكوين اللوحة وكيفية الاستفادة من مساحة اللوحة وما تفرضه طبيعة المادة التي يستخدمها الفنان. كان هو من هواة الرسم الفقير كما أسماه، بمعنى أنه كان يميل إلى استخدام القلم الرصاص رغم أنه استخدم أيضًا الألوان المائية والزيتية. لقد فاجأنا بأجمل مفاجأةٍ أدبية وقتها، وهي إصدار كراسة ماستر في سنوات السادات الأخيرة لا تزيد عن عشر صفحات يقوم هو بتحريرها، وينشر فيها قصصًا قصيرةً لكتَّاب جدد. كنا نقاطع النشر في صحف السادات، وخاصة بعد أن أغلق مجلة الطليعة عام 1977، ولولا وجود شخصيات عظيمة مثل رجاء النقاش وأبو المعاطي أبو النجا ما نشرنا وقتها في مجلة الهلال. كانت كراسة الماستر التي يحررها بقشيش يطوف بها على المقهى يوزعها علينا، فلم يكن يطبع منها أكثر من خمسين نسخة، وأذكر أن الصديقة سلوى بكر نشرت فيها أولى قصصها. لم أنشر أنا فيها لسبب بسيط جدًّا، وهو أني كنت في حاجة إلى المكافأة، وكنت أجد المراسلين الذين ينشرون لي في الصحف أو المجلات العربية بعيدًا عن مصر. تلك الكراسة الجميلة التي كانت محل اهتمامنا جميعًا كأدباء كانت تُسمَّى «آفاق»، وبدأ صدورها عام 1979 ولم تستمر طويلًا. أعود إلى الإسكندرية فأقول، كان ذهابي إلى القاهرة لأتقاضى المكافأة عن قصة نشرتها، قد جعلني ألتقي بكتابها على مقهى ريش أو الأتيليه. عرفت الكثير عن خبايا الحياة الثقافية، وكذلك قابلت كتَّابا عربًا كانوا يزورون القاهرة في بعض الأحيان، والأهم أني كنت انطويت بعد عام 1972تحت قبة حزب شيوعي سري هو الحزب الشيوعي المصري، وانزلقت قدمي إلى السياسة حتى تركت هذا الحزب عام 1978. وجدت أن جلسات الأدباء في القاهرة مليئة بالأفكار الكبرى، والجميع بلا استثناء ضد سياسة أنور السادات. لم نكن في الإسكندرية نتذكر أن حولنا سياسة. كل مَن قابلت في القاهرة كان تقريبًا غير متوافق مع المجتمع، فقررت الرحيل عن الإسكندرية، وقلت لأصحاب عمري من الأدباء السكندريين «في القاهرة أسباب للفشل والنجاح، لكن هنا قد يكون الفشل إلهيًّا، فنحن ننتهي من الندوة، نلعب طاولة، ونأكل ساندوتشات فول وفلافل من محل محمد أحمد، ونروّح مبسوطين.. والدنيا أكبر من كدا... أنا رايح للفشل والنجاح». جئت القاهرة. الآن كثيرًا ما أحن إلى تلك الأيام. موج بلا صخب حقًّا، لكن يمكن أن تنسى به العالم. أصعب شيء على الكاتب أن يدرك قبح العالم. لكن ماذا تفعل وقد خصك الله بموهبة الألم؟ *** *** انتهيت من هذا الفصل الصغير وأنا أستمع إلى موسيقى أغنية أم كلثوم «الأطلال»، التي كتبها الشاعر الرومانتيكي الرائع إبراهيم ناجي ولحَّنها رياض السنباطي. كنت نسيت أن أجعل الموسيقى الكلاسيك تتهادي حولي ربما لأنه لم ينتصف الليل بعد، وكانت زوجتي قد فتحت التلفزيون في الغرفة الأخرى على روتانا كلاسيك التي تذيع عادة أغنية لأم كلثوم كل المساء. كان صوت أم كلثوم يتهادى إليَّ ولا أنتبه للأغنية التي أعشقها كغيري من المصريين، والتي كانت ليلة إذاعتها الأولى وسهرتي مع أصدقاء افتقدتهم مع الزمن، ليلة لا تُنسى وأنا شاب صغير، وحين وصلت أم كلثوم إلى النهاية «يا حبيبي كل شيء بقضاء.. ما بأيدينا خُلقنا تعساء.. ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعدما عزّ اللقاء»، قام حولي فضاء بكل مَن عرفتهم من الأحباء واختفوا مع الزمن. انتهى الفصل، وانتهت الأغنية، واتسع فضاء الشجن.