د. محمد عبدالله الخولي - سردية الروح في مقامات البوح قراءة نقدية في المجموعة القصصية " بوح الروح" للكاتبة عزَّة أبو العِزّ

إنّ فنَّ كتابة "القصة القصيرة" يعني -في أحد مداراته - كتابة الذات نفسَها، أي: تعيد الذات رسم حكايتها/ واقعها من خلال فن الكتابة القصصي، وهذا لا يعني انفصال الذات عن واقعها المجتمعي الذي تعيشه، ولنا أن نقول: عندما تعيد الذات تشكيل جُوَّانِيَّتِها – وهي متلبسة بواقعها – تنفصل عن الواقع إبداعًا، وتتصل به مرة أخرى عن طريق التلقي وفعل القراءة؛ فالذات المبدعة مهما تسامت عن واقعها بخصوصية التجربة، فهي لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال، وهكذا الأدب بشتى صنوفه وأنواعه، إذ مادته الخام التي يرتكز عليها، هي الواقع بكل ما يحويه من أيديولوجيات ومرجعيات فكرية وثقافية وعقائدية، وهذا ما يدعو القراء – بصورة لافتة – إلى قراءة الأدب– خاصة – ما يتصل بالجانب الوجداني الذي يلامس شغاف الروح، ويقع على محكِّ التجربة الإنسانية.
ومهما انمحت التجربة الذاتية في أبعد نقطة تحفظ لها خصوصيتها، هي مُنْدَغِمَةٌ بشكل أو بآخر مع الذوات الأخرى التي تعيد إنتاج النص الأدبي عن طريق فعل القراءة، وهذا ما يضمن لكل نص أدبي تواصليته مع الآخر، وهذه هي الثيمة التي يرتكز عليها الأدب شكلا ومضمونا؛ فإن لم يحقق الأدب تواصليته مع الآخر فقد هويته.
لكل فن من الفنون الأدبية خصوصيته، وسماته المائزة التي تفصله عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، من حيث الشكل والمضمون وخصوصية المصطلح. ولذا يتوجب علينا أن نحدد الأطر التي يتشكّل من خلالها فن "القصة القصيرة" لننطلق من خلال هذه المرتكزات إلى تحليل المجموعة القصصية "بوح الروح" للقاصّة/ عزَّة أبو العزّ التي تسرد لنا في هذه المجموعة القصصية روحها وهي تفيض بمواجيدها في مقامات بوحها القصصي.
إنّ فنّ " القصة القصيرة" لا يعني بأي حال من الأحوال تسجيل الواقع المجتمعي بصورة فجّة مباشرة، ولا يعني السرد الذاتي الذي يقع بمقربة من فن كتابة "السيرة الذاتية" بصورتها التي نعرفها، ونعرف خصائصها الفنية، فليست الغاية من القصة هي الحكاية ذاتها، ولكن ما استتر خلف بنيان هذه الحكاية/ القصة، وهذا ما يطلق عليه نقديّا " الميتافكشن" والذي يعني البني الموازية لواقعية الواقع، وهذا يعني: أنّ الواقع بحيثياته عندما يندغم مع فن "القصة القصيرة" يحدث له ما يسمى بــ "الانزياح" وهو عملية فنية يحدثها الكاتب في بنية الواقع ذاته، ليضمن لمنتجه الفنّي خصوصيته الأدبية، إذن الواقع بمستوييه: الجمعي، والذاتي لا يدخل بصورته الخام في "القصة القصيرة" إلا بعد أنْ يُطَوِّعه الكاتب فنيا عن طريق أسلوبيته الخاصة، ومن هنا نضمن للنص خصوصيتين: خصوصيته الأدبية، وخصوصية الذات وبصمتها الإبداعيّة.
إنّ فن القصة القصيرة يتوهَّم بعضنا أنه فن من السهل ممارسته، إذ يعتقد هؤلاء أنّ نسيج الحكاية/ الأحداث هو الركيزة الوحيدة التي يستند إليها هذا الفن، وهذا الاعتقاد مجانب للصواب تماما، إذ الحكاية جزء من البنية المعقدة التي تنبني من خلالها القصة؛ إذ يعتمد القاص ركائز بعينها تشكل أنساقا دلالية تتخافى خلف جدرانها مقصودية الذات، لذا يتوجّب على القارئ أن يكتشف هذه الأنساق المكونة للبنية بمستوييها: السطحي، والعميق، ليصل في النهاية إلى مبتغيات الكاتب التي تتجلى خلف ستار أنساق البنية القصصية.
وفي المجموعة القصصية "بوح الروح" للقاصّة/ عزّة أبو العز، يجد القارئ نفسه أمام سرد روحيٍّ، وكأنّ الذات تسطّر نفسها في مقامات البوح، إذ تعتبر كل قصة من القصص – التي تكونت منها المجموعة القصصية- مقام بوحٍ تبوح فيه الذات بمكنوناتها الروحية، إذ تشكل في النهاية هذه المجموعة القصصية مقامات بوح مختلفة تشكل فضاءً متسعا تسرد فيه الذات/الروح ما تستبطنه من رؤى وأفكار ووجدانيات وشعوريات تخص الذات وحدها من حيث فنية الكتابة والتعبير، ولكنها تشتبك بصورة واضحة مع المتلقي، وكأنّ ذات المبدعة وهي تعبر عن ذاتيتها الوجودية تكشف وتعري أمام القارئ حقيقته هو الآخر، فالقارئ عندما يشتبك بمجموعة "بوح الروح" لــ عزّة أبو العز يشتبك مع ذاته، إذ باحترافية فنّية جعلت عزّة أبو العز قصصها في هذه المجموعة مرايا تنعكس عليها ذوات الآخرين مع خصوصية التجربة ذاتها، وهذا أعده نوعا متعاليا في فن كتابة القصة القصيرة، ففي القصة الموسومة بــ " ابن موت" عندما تقول : " عندئذٍ فتح الأب البابَ ولكنه لم يستطعْ الردَّ عليْها.. نظرت بعينيها الْمُتَلهِّـفَتيْنِ فوجدَت عشراتٍ من الكلوبات الْمُضاءة (القناديل) في صورةٍ ظلَّتْ محفورةً في ذاكرتِها على مَرِّ السنين؛ حيث بدَتْ الكلوبات محمولةً فوقَ الرّؤوسِ كسحابةٍ ناصعةِ البياضِ تسِير ببُطْءٍ وتُؤَدَةٍ، وفي الأسفل ترى أقدامَهم تَسُوخُ في أعماقٍ من الطِّينِ." ترصد الكاتبة في هذا المشهد صورة جنائزية للموت وطقوسه في القرية المصرية، وعبر مفردة (الكلوبات) تستحضر عزّة أبو العز الماضي، فيكفي القارئ أن يرصد هذه المفردة (الكلوبات) ليسترجع من ذاكرته الماضوية حقبة زمنية بعينها فيتجلّى التاريخ المشرّف لجيش مصر العظيم الذي استطاع أن يرسم بدماء أبنائه خريطة الوطن من جديد بعد أن استعاد الوطن بسواعد أبنائه ما سُلِب منه عنوة، ولم يخل بيت في مصر من صورة معلقة على الجدران لشهيد راح فداءً للوطن. إن كانت هذه القصة "ابن موت" تخص الذات الكاتبة وحدها من حيث التجربة، ولكنها تشتبك اشتباكا حقيقيا مع عموم هذا الشعب، حيث جعلت عزة أبو العز تجربتها أيقونة يشترك فيها كل قارئ يتناول هذا المشهد بالقراءة، فيرتجف عندما يستدعي هو الآخر من ذاكرته شهيده الذي يمت إليه بصلة، بل ويسترجع التاريخ كله بحيثياته ومضامينه.
عن طريق الوعي بفن الكتابة القصصية – التي ترتكز على مدارات الذات – أسست عزة أبو العز لبنيانها القصصي لهذه المجموعة منذ أول قصة والتي عنونتها بــ "موسيقى الذات الكامنة" حيث تتحدث هذه القصة – تحديدا – عن إرهاصات تبشر بروحانية نورانية تتشكل في طفلة لها طابع سماوي خاص، وكأنّ هذه القصة وعن طريق التأسيس لها، وبها؛ تفتح الكاتبة كوة في جدار التلقي ليتعرّف القارئ على نمطية الروح الحاملة لهذه الرؤى، ومن ثم تكبر هذه الطفلة وتتماهى مع مقامات البوح التي تشكل في النهاية فضاء العمر لهذه الذات، وهذا نلمحه في قولها : " بيْنَمَا كان الأطفالُ يلْعبُونَ، ويمْرَحُونَ، ويَنْزِلُونَ، ويَصْعَدُونَ على سُلَّمِ شُرْفَتِها الأَنِيقَةِ، كانَتْ مُلازِمَةً الوُقُوف؛ للنّظَرِ مِنْ شُرَّاعَاتِ الشُّرْفَةِ الأمَامِيّةِ؛ لأنَّها لا تَتَمَكَّنُ من الرؤيَةِ وَاقفةً؛ لقِصَرِهَا وصِغَرِ حجْمِهَا، فأصبحَتْ تلكَ الشُّرْفَةُ الصَّغِيرَةُ نَافِذَتَها للرُّؤْيَةِ على ساحَةِ الذِّكْرِ التي يَصْدُرُ منها أصْواتُ الإنشَادِ في حُبِّ المصطفي الحَبِيب وآلِ بيتِه الكرَامِ، ثمَّ أوْلِيَاء اللهِ الصَّالحينَ عليْهِم جميعًا رضْوَانٌ منَ اللِه تَعَالَى. فتحَتْ لها تلك الشُّرْفَةُ الصغِيرَةُ بوابةً سِحْريَّة لموسيقَى الذّكْرِ والإنشَادِ، وعلى مَدَارِ اليَوْمِ كانت تطرَبُ لسَمَاعِ الذِّكْـرِ بشَكْلٍ عجِيبٍ؛ كأنَّها تخْتَزِنُ نغمَاتِ الأصوَاتِ الْمُحِبّةَ الْمُرَدّدَةَ في مَدِيحِ الرّسُولِ." فمن خلال هذا المشهد - الذي أعده مشهدا تأسيسيا للمجموعة القصصية كلها- تفتح الكاتبة عين المتلقي على أهم بؤرة في هذا العمل الفني، وهي بؤرة "الروح" التي تتشكل بطريقة خاصة عند هذه الطفلة الملائكية التي تنمو روحها بداخلها وتتشكل في فضاء روحاني يشبه الموسيقى في تكوينها وتكونها، وهذا ما أعنيه بـ (الوعي الفني) حيث يعرف الكاتب كيف يؤسس لعمله الفني/ الأدبي، فهذه القصة بمشاهدها إرهاص يبشر بنوعية القصص التي ستدور في رحاها هذه المجموعة، وسيلاحظ القارئ أن هذه الفتاة ستكبر داخل مجموعة " بوح الروح" لتؤدي أدوارًا مختلفة باختلاف مراحلها العمرية.
ومما يجب الإلماح إليه، أنه ليس من الضروري أن تكون هذه الذات الحاملة لأحداث هذه المجموعة القصصية ذات الكاتبة، بل ربما تكون ذات مُتَخَيَّلة تحمل رؤى وأفكارا تمثل العمق الفكري والوجداني والشعوري للذات، وربما تكون هي الكاتبة ذاتها، وربما تكون هذه الذات ذواتا متعددة تشكل نسقا اجتماعيا واحدا تتبلور من خلاله "الأنا العليا" لنمطية المجتمع بوصفه الذات العليا التي تنقهر تحت سلطته كل الذوات المشتركة في سننه الثقافي، كما ألمح إلى ذلك "لوسيان جولدمان".
ولم تقف مرحلة التأسيس للمجموعة القصصية على القصة الأولى: " موسيقى الذات الكامنة"، ولكن عزّة أبو العز استمرت في مرحلة التأسيس حتى وصلت بالقارئ إلى قصتها الثانية في المجموعة: " هي والدرويش" حيث تكون هاتان القصتان بداية التشكل النسقي لمضمونية الذات التي ستحمل مهمة التسريد الروحي في مقامات البوح عبر المجموعة القصصية قاطبة. والذي يؤكد ما ذهبت إليه أنَّ هاتين القصّتين تؤسسان لفكرة بعينها مترسخة داخل الذات المبدعة، تلك المقارنة التي أجرتها الكاتبة بين الطفلة القروية وما آل إليه حالها بعد وصولها للمدينة، وانشطار ذاتها واقعيا بين القرية وأعرافها والمدينة وحاضرها، ولكن لم تزل هذه الروح متوحدة مع النور السماوي، فلم تستطع الأوبرا أن تستلب هذه الفتاة من موسيقاها الأولى التي عشقتها وعجنت بمائها، وهذه المقارنة عقدتها عزة أبو العز في القصتين، حيث تقول: في " موسيقى الذات الكامنة: "قَرَأت الكثيرَ عنْ فنِّ الْمُوسِيقَى، وتطَوُّرِهِ، وأعْلامِهِ، واستَمْعتْ للكَثِيرِ مِنْ عزْفِ الآلاتِ والأصْوَاتِ الشَّادِيَةِ؛ حتَّى وهيَ تسْتَمِعُ لحَفَلاتِ الغِنَاءِ الرَّصِينِ في المَسْرَحِ الْكَبِيرِ، بدارِ الأُوبرا المِصْرِيّةِ، كانَ بداخِلِهَا هذَا الْحَنِينُ الْمُقِيمُ لِمُوسِيقَى الذَّاتِ الكَامِنَة". وتعقد نفس المقارنة بنمط أسلوبي فني مغاير في القصة الثانية: "هي والدرويش" فتقول : "كبرت الطفلةُ القرويةُ وعاشَت في زحامِ المدينة والْمَدَنيّة، وقرأتْ وقابلَتْ وحاورت الكثيرَ من فِئَات المجتمع: الثقافية، والعلمية، والفنّية، ولكن ظلّ داخلها هذا الحنينُ لذاكَ الحِوَارِ الذي لمْ يكتَملْ يومًا بلُغَةِ الكلامِ... لكنه ظلّ متصلًا بلُغَةِ الرُّوحِ الشفافة، بينها وبين الدرويش الأوّلِ... ثم الثَّاني." إنّ عقد هذه المقارنة مرتين في قصتين متتاليتين تبتدر بهما عزة أبو العز مجموعتها القصصية "بوح الروح" يعد تأسيسا فنيا مرتكزا على رؤية واضحة وقصدية تنشدها الذات من هذه المجموعة.
إنّ هيمنة الروح على هذه المجموعة القصصية يشكل نسقا وجدانيا متعاليا يرتكز على أيقونات بعينها تجعل هذا النسق الروحي يتمدد داخل البنية الفنية لمجموعة "بوح الروح" ويمكن رصد هذه الأيقونات السيميائية -المشكلة للنسق الأكبر للبنية القصصية في تشكلها الأنوي/ الذاتي- في عدة علامات سيميائية صغرى تتعاضد وتتآز، تتداخل وتتقاطع لتشكل معمارية بنائية سردية لهذه المجموعة التي تدور في كليتها في مدارات الفلك الروحاني.
إنّ الروحانية المفرطة التي تتعالى نبرتها السردية في هذه المجموعة، لم تكن سببا في انفصال الذات عن واقعها، فبعض الأرواح عندما يمسها النور تنسحب من الواقع المعاش المحاصر بالشرط والقيد إلى عوالم أخرى متعالية منفصلة عن الواقع المادي، ولكن الذات الروحانية في هذه المجموعة القصصية "بوح الروح" لم تنفصل عن الواقع بكل قيوده وأشراطه، ولكنها بنورانيتها وروحانيتها اشتبكت بالواقع ولم تنفصل عنه، بل دخلت بروحها ونورانيتها الشفيفة إلى الواقع لتضفي عليه رؤاها الملائكية، وتحاول هذه الروح أن تفرض هيمنتها على الواقع، بل وتفرض عليه شروطها، وتخلق من هذا الواقع فضاء روحيا نورانيا، لتخط لها مسارا مغايرا تستطيع من خلاله أن تؤثر على الواقع ولا تتأثر به، فيتحول الوطن بوصفه علامة سيميائية مشكلة للنسق الكلي للمجموعة القصصية إلى فضاء روحي، ويتخذ الوطن له بعدا آخر وفق رؤية هذه الذات، ففي قصة " راية" وعبر آلية "الاستدعاء" الفني، استدعت الكاتبة تاريخ النصر عبر استدعاء الشخصية الرمز/ محمد أفندي العباسي، واستدعت تاريخ طفولتها بأسلوب فني متعال، حيث تجسدت الذكريات في صورة طفلة صغيرة، تعيد الذات إلى تاريخها الطفولي بكل ما يحمله من رؤى وأحلام وأمنيات، فتقول: "أنا محمد أفندي العباسي، أنا مَنْ دافَعْتُ – وزملائي- عن هذه الأرض المباركة منذ حرب الاستنزاف حتى أشرقَتْ علينا لحْظَةُ العُبُورِ الفَارِقَةِ، وجلَبَتْ لنَا النصر العظيم...".
قاطعته الصحفية الشابة: "نعم نعم، واسمك كان - ولا يزال- محفورًا في ذاكرتي منذ صِغَرِي، أنتَ مَنْ قُمْتَ برَفْعِ الرّايَةِ الأعَز والأغلى في ملحمة العبور المجيدة (أكتوبر73)، ولكن كيف أتيْتَ إلَى هنا؟!"
ابتسمَ...: "تمَّتْ دعْوتي من رُوحِ شُهَدَاء الأرض التِي تسيرين عليها".
هنا... انتبهت ليَدِ طفلةٍ صغيرةٍ تسْعَى للإمْسَاكِ بِيَدِهَا اليُسْرَى، تَعجّبَتْ... وقالت لها: "مَنْ أنْتِ؟!"
قفزت الطفلة من على الأرض فرحًا وابتهاجًا:
"أنَا هي تلك الطفلة الصّغِيرة، التلميذة بمدرسة النَّصر الابتدائية المُشتَرَكَة في قريتِكِ الطَّيِّبة، أنَا هي مَنْ كانت تشَرَئِب برأسِها عاليةً، وتهتفُ من قلبها صباح كل يوم وهي ناظرة للراية في فناءِ مدرستِنا الكَبِير، ونحن نلتفُّ في صفوف منتظمة حول الساري العالي المُنْتَصِبُ وسطَ الفِنَاءِ الْجَميل... أَلاَ تذَكُرِينَنِي؟!
أنا هي تلك التي لم تفترق عنك أبدًا، وكنت أقرأ في إذَاعتِنا المدرسيّة علَى مسامِع زملائي قصة هذا البطل الهمام ورفاقه الكرام، وَاصِفَةً قصص بسالتهم في ملحمة عبورنا العظيم، ألا تتذكَّرِينَ إذاعتَنا المدرسية، وأناشيدنا الوطنية، وحديثنا عن محمد أفندي رافع العلم... أيتها الصحفية التي كان عملها–الآني- حلمي منذ زمن الطفولة السحري".
تعجَّبت وقالت لها: "ومَنْ دعاكِ؟"
ابتسمت الطفلة وقالت: "دَعَـتْـنِي روحُ طفولتِكِ الْقَابِعَةُ بيْنَ الضُّلُوعِ".
قالت الصحفية الشابة: "ما أسعدني! الرّمْز في يَمِينِي، والذكْرَى في يساري، والراية المنتصرة أمامي".
لعلَّ القارئ يلحظ هنا ما أشرت إليه، أنّ الذات أضفت على الوطن معاني روحية، فتشكل الوطن في فضاء الذات وفق رؤيتها الروحية في مقام بوحها عنه، وهذه الروحانية كانت سببا مباشرا في استدعاء الرمز التاريخي، واستدعاء الذات عبر عملية التجسيد المتخيل للطفولة في الزمن الآني، فالطبيعة الروحية للذات جعلت الأشياء التي تخرج عن دائرة المنطق متحققة الوجود وفق منطق الروح لا العقل، إذ لو كان العقل حاكما، لم تستطع أن تحدث رافع الراية، ولا أن تجسد طفولتها المتخيلة في الزمن الآني.. ولكن بمنطق الروح استطاعت أن تفعل عزة أبو العز بفنية متعالية ما يعجز العقل عن إدراكه في عالم الأسباب، لأنها منذ البداية ألمحت أن القوة الحاكمة في هذه المجموعة القصصية هي قوة الروح لا العقل، فكان حلول الزمن الماضي في الحاضر عبر المتخيّل السردي أمرا مقبولا، لأن المتلقي يعرف منذ البداية أنه يتعامل مع ذات تستند إلى عالم الروح.
لا تكاد قصة من المجموعة في كليتها تخرج عن مدار الروح، وهذا يقوي من الارتباط – من حيث البنية – بين العنوان العام "بوح الروح" وبين مضمونية القصص القصيرة التي تشكلت منها هذه المجموعة، فكل مقام بوح تعالج فيه الكاتبة موضوعا بعينه، هو فضاء روحي لها، تسرد فيه عبر مخيلتها السردية مكنونات ذاتها وعوالمها الروحية، فالمجموعة متماسكة فنيا، متوحدة في رؤاها، لغتها تفيض بالدلالات والشحونات الرمزية التي تحمل في طياتها عوالم الروح التي تتربع على عروشها هذه الذات.. وهذا التماسك الفني يدل دلالة قاطعة على عمق الرؤية الفنية عند القاصة القديرة والكاتبة الواعية عزّة أبو العزّ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...