صباح بن حسونة - قراءة عاشقة في المجموعة القصصية "حكايات غرقى" للقاص منير صالح الجابري

مقدّمة عامّة :

حكايات غرقى هي مجموعة قصصيّة أتت في 103 صفحات و تحتوي على 12 أقصوصة يتراوح طولها بين 9 و 3 صفحات .
هي أول كتابات منير الجابري في القصّة و ليست آخرها ..
نشر بعدها مجموعتين لليافعين "معزوفة لأصابع الماء" 2020 و "حكايات" .. 2021

و منير صالح الجابري قصّة في حدّ ذاته و حكاية ،وهو درس في العزيمة و الإصرار و يمتلك تجربة تثير الانتباه ..
أصيل برقو من ولاية سليانة ، عصامي التكوين، يحبّ القراءة ، يعمل في مصبّ للفضلات أين وجد كتبا كثيرة أهملها أصحابها جمعها و صار يقضي الليالي في القراءة فنمّى موهبته و أنتج هذا الشغف إصداراته الثلاث..
نشير أيضا إلى أنّ له صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت عنوان "أقاصيص منير الجابري" و فيها أكثر من خمسين قصّة لم تنشر بعد في إصدار ورقي..

تبدو كتابات منير الجابري غارقة في واقعه ملتصقة به ،بالقرية و حكاياتها، بأحلامها التي وئدت قبل اكتمالها و بأحلامه التي حلّقت رغم بؤس الواقع و انكساراته ..

تجربة مميزة سنكتشف في هذه المجموعة تجلياتها و أبعادها ..

حكايات غرقى :

الغلاف : منقسم إلى نصفين و إلى لونين النصف الأعلى أسود (ليل، ظلام، حداد..) و الأسفل أزرق ( البحر و ما يرمز إليه من حرية و امتداد و خطر أيضا) تخرج منه أيادي تبدو و كأنها أيادي غرقى يطلبون النجدة و هذا يحيلنا مباشرة إلى العنوان : حكايات غرقى الذي كتب باللون الأصفر و تماهت معه واحدة من الأيادي المرفوعة أسفل الغلاف ..
3 ألوان تتفاعل في هذا الغلاف و تحيلنا إلى واقع منير الجابري و حكاياته التي ولدت من الظلمة و غرقت في بحر الانتظارات و إن بقيت مشعّة متوهّجة متعلّقة بالحياة و هذا حقّها و حقّ كلّ تلك الأيادي التي تطالب بالعيش و الكرامة ...

الحكايات :

12 حكاية أو 12 قصّة تدور أحداث إحدى عشر قصّة منها في القرية و إن شذّت عن هذه القاعدة القصّة الأولى الموسومة ب"خيوط" ..هذه القصّة لا تنتمي إلى منير الجابري و لا إلى عالم أقاصيصه ،عكس البقيّة. أتت شخصياتها بأسماء غير عربية( بابلو / مارتين/ ) و تغرق في عالم الثراء و مكائد الأغنياء و رجال الأعمال)..

كل قصص الجابري تدور في فلك القرية :قرية تتوسّط الجبل أين " اضمحل العشب و اندثر المرعى أمام قساوة الطقس و انحباس الأمطار" قرية تعيش على انتظار المطر ليهبها الخصب و الحياة و حينما يأتي بعد طول جفاف ،يأتي معه المستثمرون الأجانب ينهبون خيراتها و يجوعون فلاحينها و يجبرونهم على بيع ممتلكاتهم و العمل كأجراء ..( قصة النائب الأعرج) ..
قرية بهية تمتلك جمالا أخاذا و حظا سيئا تتموقع خارج جغرافيا هذي البلاد هي و سكانها الذين يغرقون في الهموم و الحيرة و الفقر المدقع..

قرية يعيش أهاليها على الوهم و حلم الثراء السريع فيبحثون عن الكنوز و يلعبون الرهان الرياضي و يصابون بالاكتئاب المزمن لعجزهم عن إيجاد الحلول..( قصة الوهم / رماد تذروه الرياح.. )..

أما شخصيات حكايا منير الجابري الأخرى فتغرق ، كقريتهم ،في الفقر و التهميش ، لا تلبس البدلات الأنيقة و لا تدخّن السّيجار، لا تجلس في المقاهي الفاخرة و لا تسكن فللا و لا قصورا ..

و هذه نبذة عن شخصيات حكايات غرقى :

- دليلة راعية الخرفان اليتيمة التي لم تذهب إلى المدرسة " لأن المسافة طويلة جدّا بينها و بين القرية " و التي تحبل من علاقة غير شرعية و تهرب من أهلها ..

- كمال البطّال الحالم بالثراء و المدمن على الرهانات الرياضيّة وهو يعرف أنّه يلاحق السّراب و يقول " نحن نجد فيها ملاذا ينسينا ما نعيشه من ضجر و قسوة و انسداد للأفق"

- وردة السمراء الجميلة الحالمة بمشاريع " تحوّل كثبان الرّمال القاحلة إلى أراض خصبة " و التي ترفض بيع أرضها إلى المستثمر الأجنبي فتجد نفسها في السجن بعد أن كاد لها ..


-قرقاوي الشاب الفقير المشوّه الذي يعيش مع جدّته و " يحسّ البرد في أعماق قلبه "، كان يهوى الموسيقى و صنع لنفسه نايا و لكنه لم يفرح به اذ وقع زجه بالسجن و تخلوا عنه ..رغم سجنه بقي يحلم هو و صديقه ماسح الاحذية بتكوين فرقة موسيقية بعد الخروج من سجنهما ..

- بختة التي تعيل زوجا معاقا و ابنة مريضة تذهب الى الجبل كل صباح و تحمل معها رضيعها ..تضعه تحت الشجرة إلى ان تكمل عملها في اقتطاع الحلفاء و تقول :" هذا قدره لا بد أن يتعوّد على شظف العيش حتى يتعلّم كيف يقتلع خبزه اليومي بيديه"

- بشير الباحث عن عمل و عن حياة أفضل يقرئ الصّحف علّه يفوز بعمل في الخليج و لكنه يكتشف تحيل هذه الإعلانات التي ترسل بهم الى الحرب مقابل رواتب شهرية ..

- زيد العامل في حضيرة للبناء يصنع لنفسه مظلة من كيس الاسمنت الفارغ يقيه قسوة الشمس و يمضي مساءاته الفارغة تحت شجرة على حافة الوادي يقارع قارورة خمر تنسيه فقره و تلك الفتاة الشقراء الغنية التي درست معه..

- حمة الفنان الشعبي الذي يغني للحب و لا حق له فيه " كيف له ان يغني كي يسعد الآخرين بينما قلبه يقطر حزنا"

- الطاهر عامل المناجم الذي " ولد على مهد الشقاء" و الذي يقتل لأنّه قرر التمرّد على قوانين الموت و الاستغلال ..

عندما اطّلعت على عنوان المجموعة و رأيت صورة غلافها ، صرت أبحث عن الأقصوصة التي تتحدّث عن ال"حرقة" و الهجرة السرية و الغرق و لكنني لم أجد زوارقا و لا بحرا بل وجدت غرقى في بحر الحياة يطلبون النجدة و لا من مجيب..

فشخصيات منير الجابري ماهي إلا صورة لواقع رديء تضجّ به قرى الشمال الغربي و كل قرى تونس المهمشة ..شظف عيش و تهميش و فقر و أوهام أحسن القاص تصويرها و كسا شخصيات أقاصيصه حياتا حقيقيّة حتى يخيّل إلى القارئ أنه يعرفهم جيدا و يسكنون أحياءنا و قرانا و يجولون في شوارعها ..

خاتمة :

منير صالح الجابري قاص يحفر في عمق الوطن و يشدو بأوجاعه.. هو صوت المهمشين ممن غرقوا في الإحباط و يعيشون على حافة الانتظار ، انتظار ما لا يأتي ..


حكايات غرقى لمنير الجابري مجموعة جديرة بالاهتمام فعدا عن مواضيعها التي لم تطرق من قبل بهذه الطريقة و لا بهذا الكم من الشخصيات ، نلاحظ قدرة على القص مميزة و سلاسة في السرد تشدّك إلى النص فلا تتركه حتى تنهيه و في حلقك غصة و في صدرك آلام كل الشخصيات التي قرأت عنها و عايشتها في هذه المجموعة....

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...