شاهدتُ في حياتي عددا كبيرا من المظاهرات.
أما مظاهرة الأمس، فلم أر لها مثيلا.
لقد انطلق المتظاهرون من ساحة العروض، في وسط المدينة، ثم اتجهوا عبر شارع نزار قباني، وهم يرددون الشعارات ويرفعون اللافتات، غير عابئين بالمطر الشديد...
كان التنظيم محكما، يشرف عليه أشخاص متمرسون في هذا المجال. وكنا نسمع المتظاهرين يرددون بأصوات عالية:( لا لقتل الشعراء... لا للتنكيل بالكتاب والأدباء وإلقائهم في السجون..)
كانت تلك أول مرة في حياتي أرى فيها شعراء وكتابا قادمين من العصور البعيدة، كي يحتجوا بأصوات عالية على نهايتهم المأساوية... وكي ينددوا بالحكام الطغاة الظالمين الذين عذبوهم أو قتلوهم بطرق شديدة الوحشية...
كان من بينهم أعشى همدان، الشاعر الذي عاش في عصر بني أمية، والذي أعدمه الحجاج بن يوسف الثقفي... وقد رأيتُه ضمن المتظاهرين، يرفع لافتة كُتب عليها بيته المشهور:
( وأصابني قوم وكنت أصيبهم = فاليوم أصبر للزمان وأعر فُ)
وكان من بينهم الشاعر العَرْجي، حفيد عثمان بن عفان، الذي كان شاعرا موهوبا وفارسا من الفرسان المعدودين. وقد حبَسَه والي مكة، محمد بن هشام، وقيده وعذبه وتركه في الحبس تسع سنوات، فلم يخرج منه إلا بعد أن خرجت روحه من جسده! وقد مر هذا الشاعر بالقرب مني، خلال المظاهرة، وسمعتُه ينشد بيتَه المشهور:
( أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا = ليوم كريهة وسِداد ثغر)...
وكان من بين المتظاهرين أيضا شعراء دَفنهم الحكام أحياء!... فمنهم المنخّل اليشكري، الذي دفنه الملك النعمان حيا، ومنهم وضاح اليمن، الذي لقي مصيرا مماثلا في العصر الأموي ومنهم الشاعر سُديف، ذلك الزنجي الظريف الذي أمرَ أبو جعفر المنصور بدفنه حيا، فتم تنفيذ أمره دون شفقة...
ورأيتُ في الصفوف الأولى للمتظاهرين الشاعر الكُمَيْت بن زيد الأسدي، الذي كان معلما للصبيان في الكوفة، في العصر الأموي، والذي عاش فترة طويلة في ( السّرّية) خائفا من هشام بن عبدالملك، قبل أن يُحبس ويُجلد ويتم تشريده... وفي النهاية، قتله حراس أحد الأمراء وهو واقف ينشده شيئا من شعره!.. ورأيتُ فيمن رأيت الشاعرَ الأعمى بشار بن برد، الذي قتله الخليفة العباسي المهدي ضربا بالسياط، وذلك بتهمة الزندقة... وكان يتقدم المتظاهرين وقد حمل لافتة، كُتب عليها قوله:
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا = خليفةَ الله بين الزق والعود)
وكان من بين أولئك المتظاهرين الشاعر علي بن جبلة، الملقب بالعَكَوَّك، أي القصير السمين... وهذا الشاعر الأعمى هو صاحب تلك القصيدة ( الإيروتيكية) الشهيرة التي يقول فيها:
( وقعودها مثنى إذا قعدتْ = منْ ثقله و قيامها فرد)...
وقد أمر الخليفة العباسي المأمون بقطع لسانه ثم بقتله!... ومن الشعراء الذين رأيتهم في المظاهرة، الشاعر صالح بن عبدالقدوس الذي اتهمه الخليفة المهدي بالزندقة فأمر السياف فشطره بسيفه نصفَين!
وكان هناك أيضا لغويون وكتاب، قتلهم الحكام واستحلوا دماءهم... فمنهم ابن المقفع، الذي قتله والي البصرة قتلة شنيعة، بأمر من الخليفة العباسي المنصور... وابن السّكّيت الذي قتله الخليفة المتوكل بعد أن سَلّ لسانه! وابن مقلة الخطاط الذي عُذب وقُطعت يده واستُل لسانه... ومنهم عبدالحميد الكاتب، الذي قضى فترة من الزمن في ( السرية) هو الآخر، قبل أن يظفر به أبو العباس السفاح ويأمر بإعدامه بعد ( حصص) رهيبة من التعذيب...
وكان هناك أيضا كبار الصوفية الذين قُتلوا بأمر من الحكام، مثل السهروردي والحلاج...
وقد نسيتُ الإشارة إلى أن الغلام القتيل طرفة بن العبد كان هو الذي يقود هذه المظاهرة، منددا بالملك عمرو بن هند الذي كان وراء قتله وهو في الخامسة و العشرين من العمر... وكان يحمل لافتة كُتب عليها بيته المعروف:
( فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي = فدعني أبادرها بما ملكت يدي)
هذه إذن بعض وقائع هذه المظاهرة العجيبة، التي سكتت عنها القنوات التلفزية والإذاعات و الصحف لأسباب لا تخفى على أحد...
أما مظاهرة الأمس، فلم أر لها مثيلا.
لقد انطلق المتظاهرون من ساحة العروض، في وسط المدينة، ثم اتجهوا عبر شارع نزار قباني، وهم يرددون الشعارات ويرفعون اللافتات، غير عابئين بالمطر الشديد...
كان التنظيم محكما، يشرف عليه أشخاص متمرسون في هذا المجال. وكنا نسمع المتظاهرين يرددون بأصوات عالية:( لا لقتل الشعراء... لا للتنكيل بالكتاب والأدباء وإلقائهم في السجون..)
كانت تلك أول مرة في حياتي أرى فيها شعراء وكتابا قادمين من العصور البعيدة، كي يحتجوا بأصوات عالية على نهايتهم المأساوية... وكي ينددوا بالحكام الطغاة الظالمين الذين عذبوهم أو قتلوهم بطرق شديدة الوحشية...
كان من بينهم أعشى همدان، الشاعر الذي عاش في عصر بني أمية، والذي أعدمه الحجاج بن يوسف الثقفي... وقد رأيتُه ضمن المتظاهرين، يرفع لافتة كُتب عليها بيته المشهور:
( وأصابني قوم وكنت أصيبهم = فاليوم أصبر للزمان وأعر فُ)
وكان من بينهم الشاعر العَرْجي، حفيد عثمان بن عفان، الذي كان شاعرا موهوبا وفارسا من الفرسان المعدودين. وقد حبَسَه والي مكة، محمد بن هشام، وقيده وعذبه وتركه في الحبس تسع سنوات، فلم يخرج منه إلا بعد أن خرجت روحه من جسده! وقد مر هذا الشاعر بالقرب مني، خلال المظاهرة، وسمعتُه ينشد بيتَه المشهور:
( أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا = ليوم كريهة وسِداد ثغر)...
وكان من بين المتظاهرين أيضا شعراء دَفنهم الحكام أحياء!... فمنهم المنخّل اليشكري، الذي دفنه الملك النعمان حيا، ومنهم وضاح اليمن، الذي لقي مصيرا مماثلا في العصر الأموي ومنهم الشاعر سُديف، ذلك الزنجي الظريف الذي أمرَ أبو جعفر المنصور بدفنه حيا، فتم تنفيذ أمره دون شفقة...
ورأيتُ في الصفوف الأولى للمتظاهرين الشاعر الكُمَيْت بن زيد الأسدي، الذي كان معلما للصبيان في الكوفة، في العصر الأموي، والذي عاش فترة طويلة في ( السّرّية) خائفا من هشام بن عبدالملك، قبل أن يُحبس ويُجلد ويتم تشريده... وفي النهاية، قتله حراس أحد الأمراء وهو واقف ينشده شيئا من شعره!.. ورأيتُ فيمن رأيت الشاعرَ الأعمى بشار بن برد، الذي قتله الخليفة العباسي المهدي ضربا بالسياط، وذلك بتهمة الزندقة... وكان يتقدم المتظاهرين وقد حمل لافتة، كُتب عليها قوله:
( ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا = خليفةَ الله بين الزق والعود)
وكان من بين أولئك المتظاهرين الشاعر علي بن جبلة، الملقب بالعَكَوَّك، أي القصير السمين... وهذا الشاعر الأعمى هو صاحب تلك القصيدة ( الإيروتيكية) الشهيرة التي يقول فيها:
( وقعودها مثنى إذا قعدتْ = منْ ثقله و قيامها فرد)...
وقد أمر الخليفة العباسي المأمون بقطع لسانه ثم بقتله!... ومن الشعراء الذين رأيتهم في المظاهرة، الشاعر صالح بن عبدالقدوس الذي اتهمه الخليفة المهدي بالزندقة فأمر السياف فشطره بسيفه نصفَين!
وكان هناك أيضا لغويون وكتاب، قتلهم الحكام واستحلوا دماءهم... فمنهم ابن المقفع، الذي قتله والي البصرة قتلة شنيعة، بأمر من الخليفة العباسي المنصور... وابن السّكّيت الذي قتله الخليفة المتوكل بعد أن سَلّ لسانه! وابن مقلة الخطاط الذي عُذب وقُطعت يده واستُل لسانه... ومنهم عبدالحميد الكاتب، الذي قضى فترة من الزمن في ( السرية) هو الآخر، قبل أن يظفر به أبو العباس السفاح ويأمر بإعدامه بعد ( حصص) رهيبة من التعذيب...
وكان هناك أيضا كبار الصوفية الذين قُتلوا بأمر من الحكام، مثل السهروردي والحلاج...
وقد نسيتُ الإشارة إلى أن الغلام القتيل طرفة بن العبد كان هو الذي يقود هذه المظاهرة، منددا بالملك عمرو بن هند الذي كان وراء قتله وهو في الخامسة و العشرين من العمر... وكان يحمل لافتة كُتب عليها بيته المعروف:
( فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي = فدعني أبادرها بما ملكت يدي)
هذه إذن بعض وقائع هذه المظاهرة العجيبة، التي سكتت عنها القنوات التلفزية والإذاعات و الصحف لأسباب لا تخفى على أحد...