نورالدين طاهري - قراءة في قصيدة "صلوات وأوجاع" للشاعر بوعلام دخيسي

تقديم
قصيدة "صلوات وأوجاع" هي نص شعري غني بالمشاعر والتأملات، تتناول فيها صراعات الإنسان الروحية والاجتماعية في ظلّ عالم مضطرب. الشاعر يستخدم الرمزية الدينية والطبيعية ليعبر عن معاناة الإنسان في البحث عن السلام الداخلي والخلاص. كما تتنوع موضوعات القصيدة بين النداء إلى الله، الفقد، الألم، والأمل في التغيير. النص مكتوب بأسلوب رصين مليء بالصور الشعرية والرموز التي تدفع القارئ إلى التأمل العميق.
تبدأ القصيدة بدعوة من الشاعر إلى "سيدي" للعودة ولو للحظة واحدة، ليعيد التوازن إلى الأرض. هنا، "سيدي" يمكن أن يكون رمزًا للإله أو القائد الروحي الذي ترك الأرض فوضى. الشاعر يعبر عن فكرة أن الأرض بحاجة إلى هذه "الطلة الواحدة" لتعود إلى حالتها الطبيعية، وكأن القواعد الإلهية أو الكونية التي كانت تحكم الكون قد تعطلت. هذه الدعوة للتغيير تعكس رغبة الشاعر العميقة في إعادة النظام والعدالة إلى العالم.
القصيدة تتناول بعد ذلك معاناة الطفلة التي تستجير بدميتها، رمزًا للفقدان والضعف الإنساني. الطفلة التي "تخشى على الدمع من مقلتيها" تعبر عن الخوف والحرمان من الأمان في عالم لا يعترف بالبراءة. هذه الصورة تعكس الجانب الإنساني العميق في النص، حيث يُظهر الشاعر كيف يمكن للفقدان أن يعصف بالنفس ويجعل حتى الأشياء البسيطة، كدمية، مصدرًا للتعزية.
ثم ينتقل الشاعر إلى صورة العصفورة التي تدخل القفص المرمري، وهي رمز للحرية المفقودة. هذا المشهد يشير إلى الصراعات الداخلية للإنسان بين الرغبة في الحرية والسلام وبين القيود التي تفرضها الحياة. الشاعر يرسم صورة شديدة الرمزية للعصفورة التي ترى الغصن يعصر زيتونه وحيدًا، مما يعكس فقدان التآزر والتضامن بين الناس. إنها إشارة إلى الانعزال والوحدة في عالم مليء بالصراعات.
الصورة التالية في القصيدة هي "سدرة الله" التي بكت دربها. سدرة الله هي رمز ديني معروف في الإسلام بأنها تمثل حدًا بين الدنيا والآخرة، والمكان الذي تنتهي عنده المعرفة البشرية. بكى "سدرة الله" هنا يعكس ألمًا روحيًا عميقًا، حيث تستخدم الرمزية الدينية للتعبير عن التساؤلات الوجودية للشاعر حول الخلود والمصير. الشاعر يبدو كأنه يتساءل: ماذا يعني الخلود في ظل هذه المعاناة؟ وماذا يعني المصير الإنساني في ظل هذا العالم المليء بالفوضى والظلم؟
القصيدة تأخذ منحى تأملي أعمق عندما يتحدث الشاعر عن "علم السماء" و"الأرض"، ويستخدم هذه الرموز ليربط بين الروحي والمادي. هذه الثنائية بين السماء والأرض تعكس الصراع الداخلي للإنسان بين العالم الروحي والتجارب الحياتية اليومية. الشاعر يشير إلى أن هناك تجربة إنسانية عميقة يمكن أن تُفهم من خلال التأمل في الأرض والسماء معا.
ثم يشير الشاعر إلى "صلوات مئات المرات"، ويُظهر مرارة تجاه هذه الصلوات التي لم تحقق التغيير المنشود. هنا، النقد واضح للممارسات الدينية الشكلية التي لا تأتي بنتائج. النص يُظهر استياءً من الصلوات التي لا تحقق أي تغيير ملموس في الواقع، ويبرز فكرة أن العبادة الحقيقية يجب أن تتجاوز مجرد الطقوس لتصبح تجربة تغيير وإصلاح.
في القسم الأخير من القصيدة، يتناول الشاعر موضوع الركوع والصلاة بشكل رمزي عميق. يشير إلى أن "الجباه التي تنحني لم تكن كلها موجهة إلى السماء"، مما يعكس نقدًا اجتماعيًا ودينيًا. هذا البيت يشير إلى أن العديد من الناس قد يفعلون الأمور الدينية بشكل ظاهري، دون أن يكون لديهم إيمان حقيقي أو نية صافية. الشاعر يستخدم هذه الصورة ليعبر عن الخلل في الممارسات الروحية في المجتمع، حيث يمكن أن تكون العبادة تقليدية وجوفاء، دون أن تعكس تغييرا داخليا.
القصيدة تتميز ببناء فني رصين وموسيقي. الشاعر يستخدم التكرار، خاصة في الأفعال "قمْ" و"ولو"، لخلق نوع من الإلحاح والإصرار في الدعوة إلى التغيير. هذا التكرار ليس مجرد أسلوب بلاغي، بل هو أداة لتعميق الشعور بالاستعجال والحاجة إلى التحرك والتغيير. كما أن التوازن بين الأبيات يخلق نوعًا من الانسجام الداخلي في النص، حيث تتداخل الأفكار والمشاعر بطريقة تجعل النص يسير في خط متماسك من البداية إلى النهاية.
اللغة التي يستخدمها الشاعر غنية بالصور الرمزية، مثل "الطفلة"، "العصفورة"، و"الغصن". هذه الرموز تخلق نوعًا من الترابط بين العالم الروحي والعالم الواقعي، وتساهم في تعميق الفكرة الأساسية في النص: البحث عن الخلاص والتحرر في عالم مليء بالألم والفقدان.
النص يعتمد بشكل كبير على الرمزية والتجريد، حيث يستخدم الشاعر هذه الأدوات ليجعل النص مفتوحًا لتفسيرات متعددة. الرموز الدينية مثل "سدرة الله" و"الصلاة" تُستخدم لتجسيد أفكار روحية عميقة، في حين تُستخدم رموز الطبيعة مثل "العصفورة" و"الغصن" لتجسيد الصراعات الداخلية للإنسان. هذا الاستخدام للرمزية يعزز من عمق النص ويجعل الرسالة أكثر تأثيرا.
الأسلوب الرمزي لا يقتصر على الأفكار الروحية فقط، بل يمتد ليشمل التأمل في الفقدان والألم. الصور الشعرية التي تعبر عن "الطفلة" و"العصفورة" تساهم في خلق إحساس بالحنين والشجن، مما يجعل القارئ يعيش تجربة التأمل العاطفي التي يعبر عنها الشاعر.
"صلوات وأوجاع" قصيدة تأملية عميقة تعالج قضايا الوجود الإنساني، الروحانية، والألم. الشاعر بوعلام دخيسي ينجح في استخدام الرموز والصور الشعرية لتعميق الرسالة وإيصال المشاعر بشكل مؤثر. النص يعكس قلق الشاعر من العالم الذي يعيش فيه، ويبرز الحاجة إلى التغيير الروحي والاجتماعي.
من خلال هذا النص، يُظهر الشاعر قدرة متميزة على الجمع بين التأمل الروحي والنقد الاجتماعي، مما يجعل القصيدة تجربة فريدة تدفع القارئ إلى التفكر في قضايا الإنسان والوجود بشكل أعمق. الرمزية الغنية والتكرار المدروس يساهمان في تحقيق رسالة النص ويجعلان "صلوات وأوجاع" نصًا قويًا ومؤثرًا في التعبير عن البحث عن المعنى والخلاص في عالم مليء بالفوضى.


*******


قصيدة : صلوات وأوجاع
الشاعر : بوعلام دخيسي

قمْ
ولو لحظةً
ثم عد سيدي بعدها!
هذه الأرض تنقصها طلةٌ واحدهْ
تستعيد بها شكلها
كي تدورَ كما تقتضي القاعدهْ..
قمْ
لئلا تميلَ
فلا نستقيمَ كما كنت تأمرُ
إنا عرفنا الطريقَ
ولكنها الأرض لا تستجيب لهذي الخطى العائدهْ!
قمْ
ولو برهةً!
ليس في الأرض ماءٌ وتربهْ...
ليس في الشمس نور كما كانَ
ليس في القرب أُنسٌ
ولا شوق في البعدِ
لا ذنب للناسِ
لا توبةً كي تَجُبَّهْ
هاهنا سيدي الحب والحرب لعبهْ..
هاهنا طفلة تستجير بدميتها
لا تبالغ في الحزنِ
تخشى على الدمع من مقلتيها...
وعصفورةٌ تدخل القفص المرمريَّ
تريد السلامَ
وقد رأت الغصنَ يعصِر زيتونَهُ وحدهُ...
لم يَعد في المَزارع غيرُهْ...
وإذا عطش اختار مِن سُحب الله ما لا يضرهْ...
أو تسلل ليلا مع الشهداء إلى الله يسأله الجرعة الخالدهْ..
هكذا ـ سيدي ـ سدرةُ اللهِ
لما بكت دربها
دوّنت في الجدارِ:
(لقد جاءني يوم أعرِجَ..
ينظر كيف الخلودُ وكيف المصير.ُ..)
ألا يرتقي مِن عَلٍ للصعودِ يشاهد منا المسيرَ...
يصلي بنا كلنا
عند بيتٍ
تزين بالقيد حتى يُحرَّرْ...؟!
فيذوقَ من الفطرة الدمعَ عند اليتامى..
ويهرق خمرا عصرناه للعابرين السديمَ
ويركب ظهر التخومِ..!!
هناك سيبلغ سدرتهُ
ويرى الله فينا..
ففي الأرض أيضا خلودٌ
وفي الارض كل علومِ السماءِ
وأكثرْ
هنا نقبل الفرض خمسينَ
أو مائةً
بل مئاتٍ...
عسانا نصلي على الشهداء جميعًا
ولا نرفع الشاهِدِهْ...
هنا لا نطيل الركوعَ
نقوم طويلًا
ونعلم أن الجباه التي تنحني
لم تكن كلها للسما ساجدهْ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...