د. أحمد الحطاب - الواقع يسير إلى الأمام ومَن لا يُؤمِن بسيره، سيُهمَّش إن عاجلاً أو آجلاً

ما أبدأ به هذه المقالة، هو توضيح الكيفية التي ينظر بها الإنسان لمفهوم "الواقع". وفي هذا الصَّدد واعتمادا على ما أنجزه علمُ النفس الاجتماعي la psychologie sociale من أبحاث، هناك، على الأقل، تياران فكريان متناقضان deux courants de pensée antagonistes، كل واحدٍ منهما يُبيِّن بأن الإنسانَ يرى الواقع من زاوِيته الخاصة أو من خلفيتِه الثقافية الاجتماعية الخاصة. وهذان التِّياران هما : النظرة الواقعية للواقع la conception réaliste de la réalité والنظرة البنائية للواقع la conception constructiviste de la réalité.

أنصار النظرة الأولى، أي النظرة الواقعية للواقع، يعتقدون أن الواقعَ موجودٌ بكيفية مستقلة عن الشخص الذي يفكرٌ sujet pensant. أو بعبارة أخرى، الواقع له وجود مستقلٌّ عن النشاط الفكري للإنسان la réalité existe indépendamment de l'activité intellectuelle du sujet pensant. وعندما يلجأ الشخصُ الذي يُفكِّر إلى تشغيل نشاطه الفكري، فإنه يصف الواقعَ كما هو، أي أن هذا الوصفَ يُعتبَرُ صورةٌ وفيَّة للواقع une image fidèle de la réalité. أو بعبارة أخرى، الواصِف يصف الواقعَ بموضوعية d'une manière objective، أي دون أن يُقحِمَ ذاتيتَه sa subjectivité فيما يصف. وهذا يعني أن النظرةَ الواقعية للواقع، كتيارٍ فكري أو فلسفي، تعتقد أن الواقعَ الخارجي موجودٌ بكيفيةٍ مستقلَّة عن العقل esprit.

أما بالنسبة لأنصارُ النظرة الثانبة، أي النظرة البنائية للواقع، فإن هذا الأخير يتمُّ بناءُه فكرياً واجتماعياً من طرف الشخص الذي يُفكٍِّر. وهذا يعني أن الواقعَ هو كل ما يُدركه هذا الشخصُ المفكٍّر بحواسِّه ودماغه (عقله). ما يُستنتجُ من هذه النظرة، هو أن الواقعَ إنتاج العقل البشري عندما يكون في حالة تفاعل (تواصُلٍ) مع هذا الواقع. وهذا هو المقصود من "يتمُّ بناءُه فكرياً"، أي أن العقلَ البشري هو الذي يكوِّن فكرةً عن الواقع المحيط به. أما "يتمّ بناءُه اجتماعيا" فتعني أن الأشخاصَ الذين يفكِّرون يكوِّنون (يبنون فكريا) تمثُّلات جماعية représentations sociales عن الواقع أو عن مُكوِّناتِه. والنظرة البنائية للواقع تَعتبر هذه التَّمثُّلات مجرَّد تفاسير نسبية explications relatives قد تتغيَّر مع تغيير الزمان والمكان. وهذا يعني أن التَّمثُّلات التي يبنيها العقل البشري ليست صورة وفية للواقع. وفي نهاية المطاف، الشخصُ الذي يفكِّر le sujet pensant، هو مصدر التَّمثُّلات أو المعارف التي تفسِّر الواقع أو مُكوِّناته. ولهدا وكما سيق الذِّكر، فالمعارف التي يبنيها الشخصُ المُفكِّر تبقى مجرَّد مُحاولات تفسير tentatives d'explication، وليس وصفٌ دقيقٌ précis، مُحايدٌ neutre وموضوعي objectif للواقع.

فإذا قارنا هاتين النَّظرتين، سنجد أن الأولى، أي النظرة الواقعية للواقع، تنفي العقلَ أو تهَمِّشُه وتفترض أن الواقعَ هو الذي يفرض نفسَه على الشخص المفكِّر. بينما النظرة الثانية، أي النظرة البنائية للواقع، تُعطي الأولوية للعقل وتجعل منه المصدر الأساسي للتَّمثُّلات والمعارف. بل إن وجودَ الواقع مرتبطٌ بالنشاط الفكري للشخص المفكِّر. وهذا يعني أن الواقعَ ليس جامدا، لكن متحرِّك (بمعنى يتغيَّر). والنشاط الفكري للشخص المُفكِّر، هو الذي يُحرِّكه أو يغيِّره. بمعنى أن هناك تفاعلا دائما ومتبادلا بين الشخص المُفكِّر والواقع، أي أن الشخصَ المفكِّرَ يؤثِّر على الواقع ويتأثَّر به.

انطلاقا من النظرة البنائية للواقع، بإمكاننا الآن أن نُعَرِّفَ الواقع حسب ما يقتضيه العقلُ. في هذه الحالة، الواقع la réalité، هو كل ما يَعِيهِ الإنسانُ، بعقله، من مُكوِّناتٍ، مادية أو معنوية، موجودة في الوسط الذي يعيش فيه. ومُكوِّنات وسط عيش الإنسان يمكن أن يكونَ لها، كما سبق الذكرُ، وجودٌ مادي ملموس بواسطة حواس البصر والسمع واللمس. كما يمكن أن يكونَ لها وجود معنوي، أي موجودة فقط على مستوى الأفكار les idées .

وهذا هو ما نلاحِظه عبر تداولِ الأزمنة والأمكِنة. وهذا هو، كذلك، ما يُبيِّنُه لنا تاريخ البشرية. بمعنى أنه ليس هناك وُقُوعٌ (جمع واقع) بشرية تتشابه من حيث النوع والمضمون. كل زمانٍ له واقعٌ خاص به. ولهذا، فواقع الإنسان البدائي ليس هو واقع الأنسان العاقل المعاصر. وما أكثر الوقوع وما أكثرَ اختلافِها بين عصر الإنسان البدائيَ وعصر الإنسان المعاصر.

وإذا تغيَّرَ واقعُ الإنسان البدائي ببُطءٍ، فواقعُ الإنسان المعاصر يتغيَّر بسُرعةٍ فائقةٍ. كل شيءٍ يتغيَّر، يوميا، وبسرعة فائقة! لماذا؟

لأن العقل البشري، بحُكم التَّفاعل الدائم مع الواقع، لا يتوقَّف عن التَّفكير. ومُعطيات الواقع الحالي كثيرة ومتنوِّعة. فمنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو اقتصادي ومنها ما هو ثقافي ومنها ما هو تكنولوجي ومنها ما هو صناعي ومنها ما هو بيولوجي ومنها ما هو بيئي ومنها ما هو أخلاقي ومنها ما هو قانوني ومنها ما هو عقائدي أو روحي… فالواقع المُحيط بالإنسان المعاصر له أبعادٌ كثيرةٌ ومُتنوِّعة. والعقل البشري، بنشاطِه الفكري، هو الذي خلق هذه الأبعاد.

غير أن هناك بلداناً، بواسطة ما لديها من عقولٍ نيِّرة ومُستنيرة، استطاعت أن تغيِّرَ الواقع وتتحكَّم فيه. وهناك بلدان تُحاول، قدرَ الإمكان، الاستفادةَ من هذا التغيير ومن إفرازاته. وهناك بلدان تتفرج على هذا التَّغيير مكتوفةَ الايدي، علما أن تغييرَ الواقع لن ينتظرَ أحداً للالتحاق به.

إلى درجة أن أمماً، بأكملها، لم تستطع أن تُسايرَ التَّطوُّرَ السريعَ الذي يعرفه الواقعُ المُحيطُ بالإنسان المُعاصر على الصعيدين المحلي والعالمي وبجميع تجلِّياته. فَفَاتها الركبُ وأصبحت مُصنَّفة ضمنَ البلدان المُتخَلِّفة.

والآن إليكم مثالٌ حيٌّ لناسٍ يتعاملون مع الواقع انطلاقا من النظرة الأولى، المشار إليها أعلاه، أي النظرة الواقعية للواقع la conception réaliste de la réalité. هؤلاء الناس هم علماء وفقهاء الدين المسلمون، بصفة عامة، وعلماء وفقهاء الدين المسلمون المتطرِّفون، بصفة خاصة. كلنا نعرف أن هذه الفئة من العلماء والفقهاء متشبِّثة بأحكام دينية تنتمي لواقعٍ مرَّت عليه أكثر من 12 قرنا من الزمان. ولا يريدون أن يُشغِّلوا عقولَهم لتغيير هذه الأحكام لتُصبحَ ملائمة للواقع الحاضر الذي، شئنا أم أبينا، يتأثَّر بالتغييرات التي تحدث في الواقع العالمي.

انطلاقا من كون الواقع يتغيَّر، يوميا وبسرعةٍ فائقة، وانطلاقا، كذلك، من كون هذا الواقع المتغير لن ينتظرَ أحدا للالتحاق به، فهؤلاء العلماء والفقهاء، طال الزمان أم قصُرَ، سيُهمِّشُهم الزمان، هم وأفكارُهم، إن هم بقوا مُتشبٍّثين بأحكام الماضي التي أكل الدهرُ عليها وشرب. شأنُهم شأنَ كَهَنُوت clergé الكنيسة الذي همَّشه الواقع المتغيِّر واقتنع بأن الدينَ أمرٌ عمودي وليس أُفُقي، تدور أطوارُه بين خالقٍ ومخلوقٍ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...