أشارت عقارب الساعة إلى الثالثة صباحاً، وكلُّ شيء ساكن في معبر أبي سالم، وقد استسلمت الدوريَّة للنوم إلَّا فرداً واحداً بدا مستيقظاً، ورشاشه يتمايل في يده، وجسده مثقل بالنعاس، ولولا الخوف على نفسه أولاً وزملائه النائمين ثانياً لاستسلم لهذا الخدر اللذيذ الذي يداعب عينيه، تمنى لو تنقضي بقيَّة هذه الليلة بسلام، ففي الغد سيكون عيده وعيد زملائه، وكيف لا يكون الغد عيداً لهم وهم سيغادرون خطوط التماس مع العدو، ويعودون إلى تل أبيب حيث الدفء والنساء والحياة المترعة بكلِّ أصناف المباهج، كلُّ هذا تفصلهم عنها ساعات، ساعات ويغادرون هذه المنطقة المشئومة إلى الأبد، لم يكن يحلم في أسوء كوابيسه أن يجد نفسه هنا، حيث هؤلاء البشر الذين لا يمكن للإنسان أن يطيق نظراتهم القاسية، والتي تشي بحقد دفين تجاه كلِّ ما هو إسرائيلي، وعلى الرغم من عجزهم واستسلامهم الظاهرَينِ لا يمكن للإنسان أن يأمن شرَّهم، أو يتنبَّأ بدرجة حدَّة ردود أفعالهم، فقد ينتفضون في كلِّ لحظة ليصبحوا بركاناً يصعب السيطرة عليه، والأخطر أن تجد نفسك مرغماً على الاقتراب منهم، فعلى الرغم من العداوة المتجذرة في نفوسهم إلَّا إنَّهم لا يمكنهم الاستغناء عن إسرائيل في سبيل الحصول على لقمة العيش، ولا إسرائيل يمكنها الاستغناء عن تلك العمالة الرخيصة في سبيل توطيد بنيتها التحتيَّة، فمن يرى هذا التعاون الذي تحكمه قوانين المصالح المشتركة بين الشعبين يحسب أنَّهما يعيشان معاً في سلام، إلَّا إنَّ هذا مؤشر مضلِّل في ذلك، فكلٍّ منهما يدرك أن الحياة الحقيقيَّة تبدأ بعد أن يفني الآخر ويلقي به في البحر، وأن هذا التعاون مجرد أمر واقع أملته الظروف، وشرع له الواقع قوانين تحِّد حدوده وتنظم آلياته، وسيستمر عقب فترات متقطِّعة يعلن فيها أحد الطرفين أنَّ الوقت قد حان للمواجهة، وهي مواجهة تكلف ديفيد وزملائه حياتهم، بينما يعقد المسئولون في تل أبيب مؤتمراتهم الصحفيَّة في الصالات المغلقة عن ضرورة استمرار الحرب حتى تستسلم حماس، وعلى ذكر حماس انتفض جسد ديفيد بعنف كأنَّ تياراً كهربائيَّا يسري في دمه، وقد راوده الشكَّ بأنَّه قد سمع حركة خفيفة لا يدري مصدرها، التفت حوله متفحِّصاً، ولم يبصر شيئاً مريباً، فكَّر في أن يوقظ زملائه ولكنه خشى من سخريتهم منه إذا لم يجدوا شيئاً مخيفاً، وسينعتونه بالجبن، ولا يمكنه أن يقبل بهذا وخاصة أنَّه سيعود بعد ساعات إلى تل أبيب، فالكل سيحكي عن بطولاته وأمجاده، وهذا ما سيفعله هو، ولن يسمح لأحدهم بتلويث هذا التاريخ الناصع الذي صنعه من تقطير مزيج غال من الأرق والتوتر والقلق والاكتئاب، لكلِّ هذا عليه أن يتأكَّد من الأمر بنفسه، وعليه أن يكون يقظاً، وقد شرع بالفعل في مباشرة ذلك.
وخلف أكمة صغيرة على بعد مئة متر من الدوريَّة تحركت الأرض ببطء كبطن حامل في الشهر التاسع يعبث فيها جنين نشط الحركة، وبدأت قشرتها تتفطر كأنَّ هزة ارتدادية لزلزال سابق تتلاعب بمكوناتها الجيولوجية، وثمة غطاء له صرير مكتوم يرفع ببطء، لتخرج منه ثلاثة عفاريت سوداء تتسلل بهدوء في ثلاثة اتجاهات على شكل مروحة عملاقة، وقد سُحِب الغطاء من الداخل، وعادت الأرض على ما كانت عليه. وحركة سحب الغطاء هي التي سمعها ديفيد ولكنه لم يصدِّق أذنيه، وإذا به يحسُّ بقشعريرة مفاجئة تعتري ظهره، وإحساس بأنَّ خطراً يقف بجواره، فالتفت وجسده يرتجف ليجد شبحاً أسود خلفه مباشرة، ويد الشبح تغلق فيه بشدة، بينما تمسك يده الأخرى بآلة حادة يوشك أن يخترق نصلها عنقه، لوهلة حسب ديفيد أنَّه في كابوس سيستيقظ منه في النهاية، ولكن يبدو أنَّه كابوس حقيقيٌّ، ولا سبيل إلى الاستيقاظ منه، لأنَّه مستيقظ بالفعل، والشبح يهمس في إذنه بعبريَّة ذات فحيح هامس:
- إيَّاك والمقاومة لو أردت أن تعود لأمِّك بسلام.
لم يعد ديفيد يصدِّق أذنيه وبصره، كما لم يعد متأكِّداً من أنَّه يعيش هذه اللحظة بالذات، لحظة الوقوع في الأسر، في وقت كان يمنِّي نفسه بالعودة إلى الديار بالنصر وأكاليل الغار، كلُّ هذا قد تبخَّر ولا أمل في نيله بعد الآن، أغضبه هذا وحاول أن يتذمَّر، ولكن نصل السكين الحاد صار أكثر غضبا وحدَّة وهو يتوغَّل ببطء في جلدة عنقه مخلِّفاً شريطاً مؤلماً وقد كشط خزعة رقيقة من جلده كدليل على جديَّة التهديد، يبدو أنَّ هذا الشبح لا يعبث، فهو جادٌ في تنفيذ وعيده، وقد همَّ ديفيد بفعل أي شيء، أو حتى أن يطلق صيحة استغاثة، ولكنه تذكَّر برتوكول (هنيبعل)، ولا شكَّ أن زملاءه يتذكَّرونه جيَّداً، وقد آلامه هذا الخاطر وحزَّ في نفسه أن يكون رفقاء الدرب والسلاح على استعداد تامّ لقتله مع آسره بدلاً من الوقوع في الأسر، فجنديٌّ ميت أفضل بكثير من جنديٍّ حيٍّ في قبضة يد العدو، هذا ما كانوا يلقنونه لهم دوماً، لكلِّ هذا استسلم ديفيد لمصيره، والشبح يتراجع به بهدوء يُحسَد عليه حتى تلاشوا خلف الأكمة، وتلاشت معهما أي فرصة للإفلات من الأسر، وغداً سيستعرض زملاؤه عضلاتهم ويمشطون المنطقة، وربما تتوغل كتيبة مصحوبة بغطاء جويٍّ في أراضي القطاع بحثاً عن الجندي المختطف ديفيد.
mohibr09117.blogspot.com
وخلف أكمة صغيرة على بعد مئة متر من الدوريَّة تحركت الأرض ببطء كبطن حامل في الشهر التاسع يعبث فيها جنين نشط الحركة، وبدأت قشرتها تتفطر كأنَّ هزة ارتدادية لزلزال سابق تتلاعب بمكوناتها الجيولوجية، وثمة غطاء له صرير مكتوم يرفع ببطء، لتخرج منه ثلاثة عفاريت سوداء تتسلل بهدوء في ثلاثة اتجاهات على شكل مروحة عملاقة، وقد سُحِب الغطاء من الداخل، وعادت الأرض على ما كانت عليه. وحركة سحب الغطاء هي التي سمعها ديفيد ولكنه لم يصدِّق أذنيه، وإذا به يحسُّ بقشعريرة مفاجئة تعتري ظهره، وإحساس بأنَّ خطراً يقف بجواره، فالتفت وجسده يرتجف ليجد شبحاً أسود خلفه مباشرة، ويد الشبح تغلق فيه بشدة، بينما تمسك يده الأخرى بآلة حادة يوشك أن يخترق نصلها عنقه، لوهلة حسب ديفيد أنَّه في كابوس سيستيقظ منه في النهاية، ولكن يبدو أنَّه كابوس حقيقيٌّ، ولا سبيل إلى الاستيقاظ منه، لأنَّه مستيقظ بالفعل، والشبح يهمس في إذنه بعبريَّة ذات فحيح هامس:
- إيَّاك والمقاومة لو أردت أن تعود لأمِّك بسلام.
لم يعد ديفيد يصدِّق أذنيه وبصره، كما لم يعد متأكِّداً من أنَّه يعيش هذه اللحظة بالذات، لحظة الوقوع في الأسر، في وقت كان يمنِّي نفسه بالعودة إلى الديار بالنصر وأكاليل الغار، كلُّ هذا قد تبخَّر ولا أمل في نيله بعد الآن، أغضبه هذا وحاول أن يتذمَّر، ولكن نصل السكين الحاد صار أكثر غضبا وحدَّة وهو يتوغَّل ببطء في جلدة عنقه مخلِّفاً شريطاً مؤلماً وقد كشط خزعة رقيقة من جلده كدليل على جديَّة التهديد، يبدو أنَّ هذا الشبح لا يعبث، فهو جادٌ في تنفيذ وعيده، وقد همَّ ديفيد بفعل أي شيء، أو حتى أن يطلق صيحة استغاثة، ولكنه تذكَّر برتوكول (هنيبعل)، ولا شكَّ أن زملاءه يتذكَّرونه جيَّداً، وقد آلامه هذا الخاطر وحزَّ في نفسه أن يكون رفقاء الدرب والسلاح على استعداد تامّ لقتله مع آسره بدلاً من الوقوع في الأسر، فجنديٌّ ميت أفضل بكثير من جنديٍّ حيٍّ في قبضة يد العدو، هذا ما كانوا يلقنونه لهم دوماً، لكلِّ هذا استسلم ديفيد لمصيره، والشبح يتراجع به بهدوء يُحسَد عليه حتى تلاشوا خلف الأكمة، وتلاشت معهما أي فرصة للإفلات من الأسر، وغداً سيستعرض زملاؤه عضلاتهم ويمشطون المنطقة، وربما تتوغل كتيبة مصحوبة بغطاء جويٍّ في أراضي القطاع بحثاً عن الجندي المختطف ديفيد.
الأسير: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي
الأسير: مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود أشارت عقارب الساعة إلى الثالثة صباحاً، وكلُّ شيء ساكن في مع...