الدكتور صلاح معاطي - معالجة درامية لكتاب قاضٍ من مصر

يتناول المسلسل رحلة إنسان عادي بسيط، نشأ نشأة دينية في إحدى قرى مصر اضطرته الظروف ألا يعيش طفولته كبقية أقرانه، بل تحمل مسؤولية أسرة كاملة منذ نعومة أظفاره، لكنه تربى على أن يكون عونا لمن حوله ونبراسا يضيء لهم الطريق.. فقد رحل أبوه قبل أن يولد وتولت أمه تربيته، فزرعت فيه الخصال الحميدة والنخوة والشهامة والمروءة، إلى أن صار من أكبر قضاة مصر.

تبدأ أحداث المسلسل والقاضي يستقل القطار في طريقه إلى المنصورة لحضور الجلسة الأولى لقضية شغلت الرأي العام، (قضية نيرة أشرف ومحمد عادل). وانقسم الرأي العام بشأنها فريقين، ما بين فريق انزعج وثار من داخله لهذه الجريمة البشعة ويريدون النيل من القاتل والقصاص منه بأسرع ما يمكن تحقيقا للعدالة، وفريق يساند القاتل ويرى أن الضحية تستحق ما جرى لها وأن القاتل بريء.
هنا منذ اللحظة الأولى نرى القاضي هو إنسان ومواطن من الطراز الأول، يسعى لتحقيق العدالة، حتى لو أغضبت الفريق المؤيد للقاتل.
وتتوارد على ذهنه أحداث تأتي في شكل فلاشات باك لمرحلة الطفولة، حيث نتعرف من خلالها على النشأة التي تَحدثنا عنها سابقا.
ومن هنا لابد من الاستعانة ببعض الـجُمل القوية التي وردت في كتاب (قاض من مصر) وتحويلها إلى سرد درامي محكم مثل (ما أشبهني بنَبتة طرية بين يدي زارع ماهر واع، أخذ يرعاها بصبر وإصرار وتؤدة، لتؤتي ثمارها على نحو ما يرجو من الله أن يكون عليه الثمر، فلما أخرجت شطأها آزرها، فاستغلظت، فاستوت على سُوقها، فأعجِب بها الزارع فرحًا بحصاد، كم كدَّ وكم صَبر في رعايته."
ففي هذه الفقرة تبدو النشأة الجيدة القويمة التي تركز على السلوك القويم، والقاضي في طريقه للحكم في قضية سلوك في المقام الأول.
وهنا يأتي دور الصحافة والسوشيال ميديا، خصوصًا مواقع التواصل الاجتماعي التي أجَّجت القضية، وأفسدت توجهات الرأي العام، ونبدأ الدخول إلى دور الصحافة من خلال الصديق الصحفي، وهو الصحفي المعتدل (حاتم سلامة) الملتزم بقيَم صحافة المجتمع، التي تحافظ على التوازن في توجهات الرأي العام.
يلتقي بالقاضي في القطار. ويقول له: ألم يأنِ الوقت يا سعادة المستشار لكتابة سيرتك، فيقول له سعادة المستشار:
- يا سيدي من أنا لأكتبَ سيرتي وماذا فيها عسَاه يفيد الناس.
وهنا يبدو تواضع القاضي، ما يدفعه للغوص في أعماقه وذكرياته الكامنة فيها، لنلتقي بأناس من دم ولحم، نراهم في حياتنا كل يوم ونعرفهم تمام المعرفة.
بداية من الجَد الشيخ محمد عبد السلام شبل أحد مشايخ الأزهر.. فنتعرف على الحياة داخل هذه القرية من قرى محافظة البحيرة (قرية الصواف مركز كوم حمادة) التي تتشابه مع كثير من قرى مصر، ولكن لها خصوصية.. حيث نجد فيها "أبو رجل مَسلوخة" وفي بيت الجد نتعرف على أركان أسرة المستشار. بداية من الجد الذي تحمَّل مسؤولية ابنته التي ترملت مبكرا، فكُتب عليه أن يكون جدًا وأبًا في ذات الوقت.. يبدأ يومه بصلاة الفجر والاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم، حتى نصل إلى الشقيقات. ثم هذا الترابط الحميم بين الجد والجدة وأمسيات المساء الرائعة، وارتباطها بحكايات كثيرة قديمة في وجدان القاضي. ومنها حين كان يفتح محفظة النقود من الجلد الطبيعي وتطوى طيتين مساحتها 20 × 20 ومثبتة في جيب الصديري بسلسلة مجدولة من الفضة، تنتهي بحلقة في كل طرف منها ويعطيه نص فرنك أي قرشين صاغ فتصيح الجدة:
- إيه ده يا حاج ده كتير الولد يضيعهم.
فيصيح فيها:
- أسكتي إنتِ.
علاوة على مشتريات الصيف والشتاء ودخول المدارس من ملابس وأقمشة، ثم الجلوس معا لعمل الواجب وتحفيظ القرآن المقرر المدرسي وجدول الضرب، ثم يتحول هذا الجد العجيب إلى حَكاء، فيحكي أحداثا تاريخية، وقصصًا من تاريخ مصر.
عودة من الفلاش باك للقاضي، وهو يقول محدثا نفسه أو محدثا صديقه، حسب ما يتطلبه السياق الدرامي:
- لست أدري لماذا في الأرياف من يَموت والده لابد أن يَشقَى.........
نربط بين هذا الشقاء، وشقاء القاضي المطلوب منه الحكم في قضية طرفاها أبناؤه أو من هم في سن أبنائه، ونرى في حلقة من حلقات المسلسل وقائع القضية التي شغلت الرأي العام، وتأثيرها على القاضي المطلوب منه أن يكون حياديا في الحكم، بالرغم من كونه مواطنا وإنسانا يتأثر كبقية الناس، وينشغل انشغال الرأي العام، لكن هنا نعود إلى الدروس الأولى التي علَّمته أن يحكم بالقانون أولا، وبالإنسانية ثانيا، فيطلب مقعدا ليجلس عليه القاتل ويُحدثه بتؤدة وهدوء، لكي يطمئن، بل يصل أبعد من ذلك عندما يسأله:
- ما مفهوم الحب عندك يا محمد؟
هل تغيرت نظرة الحب، فقد أحبَّ قاضينا وهو في مثل سن القاتل، وربما جرح قلبه بسبب فشل في الحب الأول، لكنه لم يفكر في الانتقام، وربما لو رأى حبيبته القديمة في موقف يحتاج تدخله سيتصدى دفاعا عنها، ناسيا ما كان منها من هجر أو قسوة.
في حلقة تالية تثير إحدى المغردات على مواقع التواصل الاجتماعي قضية أن القاتل مسكين لأنه نشأ يتيم الأب. بهدف إحداث تعاطف للرأي العام مع القاتل.
ألم ينشأ هو يتيم الأب، وكان عمره وقتها ثلاث سنوات، فلا يتذكره أو يتذكر موقفا معه، ولا يعرف شكله إلا فيما بعد، من صورته بالجبَّة والكاكولا والعمامة "زي الأزهريين"، وذات يوم فوجئ الطفل بأحد المدرسين يقول له:
- الله يرحم والدك كان من علماء الأزهر.
إنها المرة الأولى التي يشعر فيها بغياب أبيه فأين هو؟
فراح الطفل يسأل أمه:
- أين أبي ولماذا نحن في بيت جدي؟
تُفاجأ الأم بسؤاله وتبكي فيسألها:
- هو أنا زعلتك يا ماما؟
- لا يا حبيبي، لكنك ذكرتني بأبيك.
وتحكي له عن أبيه وكيف كان يشارك في إصلاح الخلافات بين المتخاصمين في الانتخابات، وفي حل أي نزاعات قد تنشأ بين الناس في القرية.
وندخل إلى عائلة الأب، الأعمام والعمات وبعض المشاكل والخلافات التي كانت تُثار وقتها، ويتساءل القاضي السؤال الأزلي: ما الذي يدفع الناس في كل وقت وفي أي وقت للانشغال فيما يدور في بيوت غيرهم مما لا يعنيهم.
ومن بينها حكاية هذا الشاب الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا إلا راتبه وساعده أهل زوجته في تدبير المال ما استطاع مع قلته، وساعدوه في بناء بيت متواضع، لم يقدر على سقفه كاملا. وراح الناس يلوكون في سيرته، وهناك من الأقارب من رفض هذا الزواج لعدم التكافؤ، فانعكس هذا على معاملته لها بقسوة وغِلظة، مما اضطرها إلى أن تأخذه على قدر عقله حتى تسير المركب.
فكان حديث هذا الشاب يملأ بيتهم وبيوت من حولهم في هذا الوقت أشبه ما يحدث الآن على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتسير أحداث المسلسل بشكل متواز بين تطور حياة القاضي بهاء المري وتفوقه ونبوغه، وحكاياته الطريفة وشخصياته الكثيرة التي نلتقي بها، والقضايا المهمة والخطيرة التي حَكم فيها، مع تفوقه الأدبي. في ظل تصاعد الأحداث في القضية التي شغلت الرأي العام وتَشعُبها بين شَدٍ وجذب بين رواد التواصل الاجتماعي.. والناس في الشارع وعلى صفحات الجرائد.
(*) التعرض للقضايا التي عرضت على معالي القاضي بهاء المري خلال رحلته في القضاء لنتعرف على ملابساتها خلال الحلقات.
(*) ثم نغوص خلال رحلته الثرية حينما كان وكيلا للنائب العام لنتعرف على حكايات وغرائب تعرض لها.
وفي النهاية يصدر الحكم في القضية بضمير يقظ حي يعتبر أنموذجا للقضاء المصري..
ويركز المسلسل على عدة قضايا هي:
1- معاناة القاضي في عمله.
2- التركيز على قضية الانتماء، فالانتماء يصنع النجاح.
3- دور المرأة المصرية في وقوفها بجوار أبنائها وإيمانها بهم فتضحي من أجل أن تصنع منهم أبطالا حقيقيين أينما كانت مراكزهم.

صلاح معاطي



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...