إيمان فجر السيِّد - مقال أدبي عن الكتاب القصصي (زمردة) للقاصة: لين هاجر الأشعل

تقدمة :
القصة القصيرة جنسٌّ أدبيٌّ سرديٌّ يعتمد في بدايته على نقطة إنطلاقٍ شيِّقةٍ تجذب القارئ، وتعرِّفه بالشخصيَّات، وتعمل على تهيئته لتلقِّي الأحداث القائمة على السَّرد الحكائيِّ، غايته تقديم حدَثٍ وحيدٍ، أوعدةِ أحداثٍ ضمن مدَّةٍ زمنيَّةٍ محدَّدةٍ أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون غيرمحدِّدةٍ، قد تتناوب بين الحاضر والماضي، وقد يتجاوز ذلك إلى المستقبل، متناولةً مواقفَ هامةٍ من الحياة التي تعكس طرفًا مِن سيرة شخوص القصة، وغالبًا ما تكون شخوص القصة مغمورين، لا يرقون إلى درجة البطولة، لأنَّ الحياة اليوميَّة هي حَلبَةُ الصِّراع الحقيقيَّة، ومسرح أحداثها التي يجب أن تكون مؤثِّرةً ومشوِّقةً، منظَّمةً ومترابطةً، تُضفي إنطباعًا خاصًا عن القصة؛ لذلك شخوص القصة القصيرة غالبًا ما تكون من نسج أفكار القاص وخياله الذي يقوم بتحريك أحداث القصة ووقائعها، ومجاراة تتطوَّرمواقف أشخاصها، والقفز على مسرحها علوًا وهبوطًا حتى الوصول إلى الحبكة التي تُعتَبرُ العمودَ الفقريَّ للقصة؛ فتشتدُّ من خلالها الأحداث، وتتأزَّم المواقف، وينعقد خيط سردها عبر تصادم الأهواء والمشاعر، ووجودعلاقات سببيِّة ومسبِّبة بين الأحداث والانفعالات، ومجرياتها ضمن سياقٍ سرديٍّ يتواءم معها إنفعالاً وتفاعلا، تأثرًا وتأثيرًا؛ لتأتي لحظة التنوير والانفراج، ثم الكشف عن أدوار الشخصيات، وأمكنتهم وأزمنتهم الحقيقية بعد تصاعد أبخرة أحداثها ؛ لتكوين لوحةٍ قصصيَّةٍ متكاملةٍ، ومن ثمِّ النهاية التي قد تكون غيرمتوقعةٍ، ويُفضَّل أن تكون نهايةً غيرمفاجئة؛ بل مقنعةً ومنطقيَّةً ومرتبطةً بالأحداث والأشخاص من قبل القارئ، وهنا تتجلَّى مكنة الكاتب وقدرته على نقل القارئ، وسحبه من واقعه إلى واقع أحداث القصة؛ ليصبحَ بطلها، أو واحدًا من شخوصها ضمن إطارٍ زمانيٍّ ومكانيٍّ محدِّدٍ، يمكن فهمه من قبل القُرَّاء بهدف معالجة قضيَّة وطنيِّةٍ أومجتمعيَّةٍ، أودينيِّة، أو سياسيةٍ، وقد تكون عائليةً، تعكس جانبًا من جوانب الأسرة، وطُرق تعاملهم، ومعيشتهم وأسلوب تربيتهم.





يعتبر( إدجار آلان بو) من روَّاد القصة القصيرة الحديثة في الغرب، وقد ازدهر أدب القصة القصيرة على أيدي موباسان، وتورَّغينيف، وتشيخوف، وهتردي، وستيفنسون، أما في العالم العربيِّ؛ فقد نضجتِ القصة القصيرة على يد أمهرطبَّاخيها أمثال (يوسف إدريس) في مصر (أحمد بوزفور) في المغرب( زكريا تامر) في سوريا، إذ استطاع كلٌ منهم أن يركبَ موجة هذا الفنِّ الأدبيِّ على صعوبته، وأن يُبدعَ فيه كلٌّ على طريقته في سبيل الوصول إلى هدفه، وهو تحديد شكل القصة القصيرة الحقيقيِّ ومضمونها

غالبًا ما تكون دراما القصة القصيرة قويةً، وأحداثها متشابكةً، وقد تمتلك طابعًا ساخرًا، وقد تنطوي كذلك على دفقاتٍ شعوريةٍ عاليةٍ في ذروة أحداثها.

تاريخ القصة القصيرة : هناك من يقول: إنَّ تاريخ القصة القصيرة مغرقٌ في القِدَم، وقد يعود إلى عهد سيدنا داود، وسيِّدنا يوسف عليهما السلام، أتفق مع هذا الرأي شخصيًا، فقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مازالت مرجعنا الأساس في نسج قصص حاضرنا، وأطياف شخوصها، وأحداثها كنماذجَ أخلاقيَّةٍ عاليةٍ ومتباينةٍ في السَّرد القصصيِّ، كلُّ تلك القصص مازالت تؤثِّر في نسيج أفكارنا السرديَّة من خلال ابتلاءاتهم العظيمة، والصبر عليها، وتأزُّم أحداثها؛ ليأتيهم الله بالفرج والتنوير والمِنَح بعد طول مِحنٍ وصبرٍ، وخير دليلٍ على ذلكَّ أنَّ الله جلَّ وعلا أنزل سورةً باسم سورة الأنبياء وأخرى باسم سورة القصص الزاخرة بقصص ابتلاءاتهم وأحداثها المتشابكة.

(زُمرُّدة)
عنوان الكتاب القصصي للقاصَّة التَّونسيَّة لين هاجرالأشعل
(زُمرُّدة): إسم علمٍ مؤنثٍ مفرده زُمرَّد، ومعناه إصطلاحًا حجرٌ كريمٌ أخضرُ شفافٌ، يرتفع ثمنه كلَّما كان خضاره صافيًا وداكنًا.
قالوا في الأثر: إنَّ لله عزَّ وجل لوحًا من زمردةٍ خضراءَ جعله تحت العرش، كما قالوا : إنَّ نخيل الجنة جذوعه من زُمردٍ أخضرَ، أما( زُمرُّدة )الكتاب الذي بين أيدينا فهو اسم جدة جدات القاصَّة وقد هاجرت من قرية الخضر في لبنان قاصدةً وجه تونس الخضراء، ولشدة جمالها العربيِّ خَلقًا وخُلقًا أضفتْ جمالاً على تونس وأهلها بأقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم، ولقد منحت القاصَّة كتابها القصصيَّ اسم هذه الجدَّة لقيمتها الثمينة عندها، ولأثرها العميق في النفس والروح.

تنقسم نصوص القاصة من حيث التقنيَّة القصصيَّة إلى قسمين:
القسم الثاني واقعي:
عالجت فيه قضايا واقعيةً هامةً وحيويَّةً تمسُّ المجتمع والأسرة، وبعض القضايا السياسيَّة والتعليميَّة بشكلٍ جريءٍ ومختلفٍ وسلَّطتِ الضوء بذكاءٍ على قضايا المرأة، واقترحتِ الحلول المناسبة لها دونما إفراطٍ ولا تفريطٍ....

القسم الأول: عجائبيٌّ تبنَّتِ القاصَّة فيه أسلوب المدرسة الرَّمزيَّة في كتابة نصوصها حيث تمرَّدتْ على الأسلوب التَّقليديِّ في القصِّ معتمدةً على تطوير الشكل السرديِّ، وإعادة هيكلته من جديدٍ والابتكار من خلال العودة إلى الأسطورة أحيانًا، وإطلاق العنان لخيالها الميتافزيقيِّ أحيانًا أخرى، ويرى الجرجاني أنَّ العجائبي هو: تغييرالنَّفس بما خفيَ سببُه، وخرج عن العادة مثلُه، وهو الخروج على ما يثير الدهشة والانبهار" كما يقول( مكسيم رودنسون)
ولقد اكتشف( فرويد) أنَّ عملية التَّفكيرالتي تتضمَّن التمنِّي، والتَّخيل، مرضٌ في حدِذ ذاته، ولاحظ المعالجون والمحلِّلون النَّفسيون أنَّ التخيل يكون أحيانًا أكثر إشباعًا عقليًا وجسديًا من تحقيق الفعل نفسه، ومن هنا استفاد علماء الأعصاب من نظروية( فرويد) التي تشرح محاولات الإنسان في تخيُّل الأشياء قبل تحقِّقها، وليس غريبًا ألا ترتقي متعة تحقيق الأشياء إلى متعة تخيُّلها، وإضفاء تفاصيلنا الخاصة عليها، وقد امتلكتِ القاصة (لين هاجر) في هذه النصوص تكنيكًا خاصًا ومتفرِّدًا من خلال القدرة على التخيُّل للخروج على الواقع والمألوف، إلى اللانمطيِّ والعجائبيِّ، وقامت بتحويل الأحداث إلى مواقفَ استثنائيَّةٍ مدهشةٍ، تُجبر القارئ على الانغماس في القصة، ونسج خيوط أحداثها في ذهنه المتوهِّج عبر انزياحاتٍ ودِلالاتٍ خاصةٍ، يتوهَّج فيها الأشخاص قبلاً، وتتبدَّل فيها الأحوال من الطبيعيِّ والمستقرِّ إلى الخارق، وغير المعهود، خارقةً الزمان، ومتجاوزةً المكان؛ بلغةٍ ومشهدياتٍ مبتكَرةٍ بعيدًا عن الرتابة، معتمدةٍ على المغايرة كعاملٍ فنيٍّ ودِلاليٍّ، تنسج عبرها الحدَث الضمنيَّ دون أن تقوله بشكلٍ تصريحيِّ معتمدةً على تضادٍ غير متجانسٍ في أسلوبٍ عالٍ في التقنيَّة القصصيَّة؛ لإدخال المتلقِّي في دائرة الإدهاش والإمتاع والغموض في آنٍ معًا، متخذةً من أسلوب الرَّاوي العليم بضمير الغائب أحيانًا، وضميرالمتكلِّم أحيانًا أخرى، وبعض المنولوجات التي يُجريها بعض شخوص نصوصها أحيانًا أخرى سبيلاً لسرد القصة
تقول في نصها (أسئلة الأركان) مُسلِّطةً الضوء على مشكلة نفسيَّة لعلَّها أزمة منتصف العمر:
"انزوى عقيل في غرفةٍ فوضويَّةٍ شبيهةٍ بسوق سقط المتاع، وقد التهمَ الشكُّ عقله إلى أنْ لقيَ نفسه في دوامة أوهامٍ تنفث فيه سمومَها وهو في منتصف العمر، بعد غرقٍ في التفكير، أخذ يجوب أرجاء الغرفة جيئةً وذهابًا، كان يتوقَّف من حينٍ لآخرَ مُعلقًا عينيه بالسقف ،ثم يواصل حرث المكان طولاً وعرضًا حتى رأيته يلملم أطرافه، ويطوف حول نفسه، كان ينظر من حينٍ لأخر في عيون شخصيات رسومه المتعِّلقة على الجدران، ثم يواصل حركته اللَّولبيىَّة، وهويحدِّق في الأركان الأربعة، كأنَّما هو يستجديها ركنًا ركنًا، أن تجيبَه على أسئلةٍ تدور في مُخيِّلته
(الرُّكن الأول) كان يسميه في مخيلته (ركن الغرام) ها هو يرى امرأةً في كامل الجمال سبحان الخلَّاق، تغويه برموشها وغنجها، لم يركز(عقيل) ـ واسم البطل هنا يدلُّ على تعقُّله ورزانته ـ إلا على خصرها الطريِّ البارز من خلال قميصها الشَّفاف، ارتخت أعصابها، هدأ باله، رقَّت أحاسيسه، وشرع يستمتع بوقته في حضرة الأنثى، قطع عنه نشوته (ركن غرفته الثَّاني) يناديه، ويشير بلوحٍ، لا يتبيَّن الصوتَ جيدًا، ولا الشكل، أهو من عوالمَ أخرى، أم هو كائنٌ بشري؟! ما تجلَّى( لعقيل) هوذلك الكائن الذي كان يمسك لوحًا كُتب عليه: ألا تخاف عاقبة اقترابكَ منها ولهوكَ بها ؟! إنها الدنيا التي تُغريك ثم تراوغك فتستهزئ بكَ، ارتعدت فرائصه، أدار ظهره للَّوح، ابتلع ريقه، وغضَّ بصره عن زاوية التَّوبيخ والخوف؛ ليجدَ نفسه أمام (الرُّكن الثَّالث) ما إنْ أمعن النظرفي شبح إنسانٍ هزيلٍ، بألمٍ تمكَّن من جميع أجزائه، ألمٌ ثبَّته في مكانه لبضع ثوانٍ، لكن سرعان ما عاد عقيلُ إلى عقله، فأسرع في الابتعاد عن زاوية الوجع، حين استرجع قواه، أو كاد، هزَّ كتفَيه، وكعفريتٍ خارجٍ من قمقمه، مطَّط عنقه، ورفع رأسه، ليجدَ(الزاوية الرابعة) منتصبةً أمامه، ورقةً بيضاءَ ناصعةً تشقُّ الجدار، تتقدَّم نحو عقيل، كتب عليها ببندٍ أخضرَ عريضٍ (أنا الفن)، حذو ورقة الكنسون، رأى كومةً من ورق الأكرليك وحزمة فرشٍ تشاكسه بحركةٍ لا شعوريةٍ، اقتلع منها واحدةً؛ فوجد نفسه يقوم بخلط المحلول، هاهو يجسِّد بأنامل الفنان الذي نام بداخله سنينَ طويلةٍ في لوحةٍ فنيةٍ رائدةٍ ما شاهده في (الأركان الثَّلاث)، وإذ به يرسم المرأة التي أغرته، وجِنيُّ الخوف الذي جعله يرتعد، وشبح المرض الذي جعله يُطلُّ عليه من المرآة، لم يطُلْ عليه الأمر كثيرًا حتى هزمها عندما طلى أوهامه بالألوان الزَّاهية، واستأنف طريق حياته مواصلاً العمر في أسئلة الفنِّ، وهو يردِّد: "ينبوع الفن لا ينضُب، كما نضب حبُّ محبوبتي"



يقول النَّاقد محمد آرغون عن الأسلوب العجائبيِّ في القصِّ بأنه: (ليس إلا امتيازًا مؤقتًا لفكرة الخلق مثلما هو وعاءٌ ضروريٌّ لكلِّ تجربة إنفتاحٍ على الذات.)

بناء النصِّ :اعتمدت القاصة في هذا النص ظاهرة تعدُّد الشَّخصيَّات في المشهد الدراميِّ الواحد بتقنيَّة الرَّاوي العليم الذي استطاع خلق عالمه التَّخيِّليِّ الخاصِّ، والذي يكون غالبًا على علمٍ مباشرٍ بكل تفاصيل الحكاية من زمانٍ ومكانٍ وأحداثٍ، وعلى إطلاعٍ تامٍ بسلوك الشَّخصيَّات ظاهرها وباطنها، وبكل ما تمرُّ به من حالاتٍ عاطفيَّةٍ ونفسيَّةٍ وتأمليَّةٍ، ومصائرها ومآلاتها عبر استخدامها ضميرالمتكلم تارةً، وضميرالغائب تارةً أخرى، فرسم لنا تداعيات المشهد من زوايا نفسيَّة وسيكيولوجيَّة متباينة متنِّقلٍ بين التَّبئير الداخليِّ، والتَّبئيرالخارجيِّ، متقافزًا في المشهد الواحد من الواقع إلى الخيال في لوحةٍ سيرياليٍّةٍ تدعونا للسؤال:
كيف يمكن لخيال القاصَّة الجامح أن يكون نافذةً لواقعٍ آخرَ مغايرٍ لواقع وحياة بطل النص(عقيل) برؤية فانتازيَّةٍ غير نمطيَّة، ومعالجةٍ فنيَّةٍ إبداعيَّةٍ خارجةٍ عن المعتاد، تُجانب من خلالها حظه التَّعيس، وتناقض واقعه المأساويَّ بعد أن فقد الثقة بحبيبته جرِّاء إهمالها له، وتجاهلها إياه، الأمرالذي تطلَّب منه جهدًا نفسيًا كبيرًا؛ لخلق امرأةٍ أخرى في خياله، توائم تطلُّعاته الشعوريَّة، ولنقل ـ تجاوزًا ـ الغرائزيَّة نحوها، وتناسب احتياجاته الفكريَّة والعاطفيةَّ تُجاهها؛ رافضًا تصديق واقعه، هروبًا من سجن يحياه بين أربعة جدرانٍ تحول بينه وبين الوصول إليها، هذا الأمر لم يكن بعجز الظلِّ القَصي، ولا بعرَج الخطوة الخائفة، بل كان مزيجًا من الصِّراعات الفكرية والنفسيَّة التي برعتِ القاصَّة في تجسيدها بعد أن جعلت من الجدران الصمَّاء شخوصًا تتراءى لبطل النَّصِّ (عقيل) وقد أخذ يُقاسمها مشاعرَ متضاربةٍ ـ حيال أنثاه ـ من الإغواء والشغف والخوف والقلق، فتحوَّلتِ الجمادات حوله إلى شخوصَ تضجُّ بالحياة والإيحاءات الشعوريَّة والمشهديات المرئيَّة، وزاخرةً بالأحداث القصصيَّة محاولةً أن تضعنا على المحكِّ في محاكاة لغة جسده، وتأمُّل خياله عروجًا إلى ذاكرته، وتصوير قدرته العجيبة الباحثة عن بصيص ضوءٍ في أحلك ظروف حياته؛ للخروج من ظلمة جدران وباب غرفته المغلقة عليه، وعلى امرأة خياله المثيرة التي طالما راودته عن نفسه كما تفعل الدُّنيا الغرور، سارقةً منا العمر بلهوها وإغراءاتها المادية؛ فيمرُّ العمر بنا ـ كطرفة عينٍ ـ دون أنْ نشعرَ به لذا يقررُّ بطل النص أن يتجاوزَ كل تلك المشاعر المتناقضة، ويتخذَّ من لوحة الرسم معتركًا جديدًا للحياة، بعيدًا عن هزيمته في الحبِّ، وهروبًا من مرضه وخوفه؛ ليرسم لوحة تضجُّ بالألوان الزاهية كنايةً عن الأمل، متوسِّمًا بالحب للحياة والفنِّ الذي استطاع بلوحة ألوانه الزَّاهية انتشاله من واقعه البائس القائم على الشرِّ إلى واقعه الجميل القائم على الخير عبر خلق أسطورته الخاصة، وتجسيدها أمامه كحقيقةٍ ماثلةٍ أمامه مرددًا: "ينبوع الفنَّ لا ينضب كما نضب حبُّ محبوبتي"لقد نجحتِ القاصَّة( لين) في إعطاء البطل عقيل فرصةً أخرى للحياة؛ ليرى الواقع بطرقَ مختلفةٍ عبرأسلوبها الفانتازيٍّ في القصِّ بحيث نجحت في ربط الواقع المعاش بالموقف الخيالي، للتَّخلص من ثقل الحياة بالهروب منها لواقعٍ أخفُّ وطأةً وأكثرُ جمالاً بأثرٍ أدبيٍّ مشوَّقٍ، حملنا على جناح الخيال من خلال مشهديات دراميتيكيَّةٍ مكثَّفةٍ سيكيولوجيًا حيث تجرَّدت الذَّات من آلامها، وخلقت مكوِّنات واقعٍ مغايرٍ لواقعه الحقيقيَّ، واستطاعت من خلال ذلك إعمال التفاعل فيما بينها بشكل واعٍ ومنضبطٍ، انتصر على صراع الشخصيَّات المتناقضة في النص، وقد أظهر راويها العليم بلاغتها اللغوية محافظِةً على متانة النصِّ، وبنائه القصصيِّ، وخيط سرده بمتتالياتٍ سرديَّةٍ تراوحت ضمن سقفٍ مكانيٍّ واحدٍ (غرفته المغلقة عليه) تمكَّن البطل من تجاوزها بأزمنةٍ متعدِّدةٍ عبر إليها في مدارات خياله وكذلك فعلت في أغلب نصوص هذا القسم، والذي يحمل عنوان "زمردة تحلق بأجنحة الحكايات"




إنسان أفندي: "ما إن أنهى حديثه مع ذاته، حتى وجد نفسه سحابةً قاتمةً سابحةً في السَّماء العريضة، ألقى نظرة استغرابٍ على كوكب الأرض الذي بدا له بعيدًا، وهو يحاول الاطمئنان على جنوده الذين تحوَّلوا أمام ناظره إلى قططٍ وحمير، والبعض منهم إلى ذئاب وأفاعٍ"
استخدمت القاصة في هذا النصَّ أسلوي الرَّاوي العليم بضميرالغائب في تقنيَّة السرد، وسلَّطتِ الضوء على مراحل تطور الإنسان البدائيِّ النقيِّ -وقد أسماه جون جاك روسو : الإنسان الطبيعي في كتابه العقد الاجتماعي- فأفسدته الحضارة وقد أصبح وجوده في عصرنا الراهن محض أسطورةٍ بعد أن استطاعت التكنولوجيا، والسياسة وتطرُّف الأديان تشويه فطرته الإنسانية الأولى؛ فعبثتْ بنقاء سريرته، وحوَّلته إلى مجرد سلعةٍ قابلةٍ للبيع والشراء؛ متنكِّرًا لحقيقته مُجرِّدةً إياه من ضميره الإنسانيِّ؛ لينقلبَ في تصرُّفاته وسلوكيَّاته إلى طباع الحيوانات متَّبعًا غرائزها في عالم الغاب حيث الوجود للأقوى بلغة الحيوان من افتراسٍ ولدغ ٍونهشٍ بالرغم من التطوِّر العلميِّ والثقافيِّ الذي يعيش فيه الإنسان الحالي؛ إلا أنَّه قد تمَّ استغلال هذا التَّطور أبشع استغلالٍ في قتل الإنسان لأخيه الإنسان، بابتكار جوائحَ بشريَّة ٍعالميَّةٍ، وتصنيع فيروساتٍ وبائيَّةٍ قاتلةٍ، تهدف إلى التَّقليل من عدد سكان الأرض، ونشر لقاحاتٍ وهميَّةٍ للاتِّقاء من الأوبئة، وماهي في حقيقة الأمرإلا لقاحاتٍ مُدمِّرةٍ لمناعة الإنسان، تهدف إلى القتل البطيء، والإبادة الجماعيَّة الممنهجة؛ لأغراض ديموغرافيَّة وسياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة في الدَّرجة الأولى لقتل التَّماثل بالتَّنوع والمحافظة بالتغيير
كذلك في باقي نصوص هذا القسم أمثال
قلب مقشر
حذاء شاهد عيان
اللص الودود
السعادة والحزن
ولادة
حَرقة وعودة
أربع
الحجارة والقطيع

برعتِ القاصة في أغلب نصوص هذا القسم( زمردة تُحَلِّقُ بأجنحة الحكايات) من خلال راويها العليم في التَّحاور مع الظلال والحديث مع الأخيلة عبرشخوص نصوصها الميتافزيقيَّة محاولةً خلق حيواتٍ جديدةٍ وجميلةٍ على الصَّعيد الاجتماعيَّ سواء في العالم الافتراضيِّ كما في نص( اللص الودود) الذي ناقشت فيه قضية سرقة الأعضاء البشريَّة بحجة الخطبة والزَّواج عند طريق عالم الفيس أو في، العالم الواقعيِّ على صعيد الأسرة كما في نص( أربع ) الذي عالجت فيه قضية السَّماح للزَّوج من الزَّواج من أربع في ظلِّ تنكر الزوج لمسؤولياته تجاه أولاده الأربعة بعنوان ذكي ومخاتل، ولم تغفل القاصَّة عن الصَّعيد العربيِّ السياسيِّ، وقضيَّة فلسطين قضية الأمَّة العربيَّة الكبرى كما في نص ( الحجارة والقطيع) إذ جسدت من خلاله تخاذل حُكَّام العرب عن نُصرتها.




الخطة السرديَّة للنصوص : في نص ( حَرقة وعودة ) سلطتِ الضوء على ثورات الرَّبيع العربيِّ، وما نتج عنها من آثارٍ سلبيَّةٍ هدفها تهجير وقتل بني الإنسان؛ للقضاء على طائفة معَّينة من الطوائف الدينيَّة لبناء شرق أوسطي( صهيوأميركي) بطرقٍ شتى كالنَّزوح والهجرة إلى بلاد الغرب، حيث استطاع حيوانٌ بحريٌ أطلق على نفسه لقب (حكيم القارات والبحار) أنْ يصطحبَ بطل النَّص (أمل) الهارب من الشرق ـ وكلنا في النحر شرق ـ قاصدًا القارة الأوربيَّة من حيث حسبها جزيرة النجاة في رحلةٍ عجائبيَّةٍ ومثيرةٍ إلى قاع البحر؛ ليشهدَ أحوال الغرقى الذين قضوا أثناء هروبهم طالبين اللجوء إليها بحثًا عن الأمان والاستقرار بسبب الحروب الدائرة رحاها هناك؛ فشهد البطل أثناء غرقه أهوالَ كثيرةٍ ومغامراتٍ عديدةٍ تعرَّف من خلالها على مآسيهم، وما وراء الأسباب التي دفعتهم للمخاطرة بحياتهم، وقد لمح الشاب أمل أشلاء سفينةٍ محطَّمةٍ ومتناثرةٍ في قاع البحر.
تقول في نصِّها العجائبيِّ
(حرقة وعودة) "طبطب الحكيم على ظهر الشَّاب الحالم، واقترح عليه جولةً استطلاعيَّةً في أعماق البحر، شيءٌ ما شدَّ انتباه أمل إنَّه حُطام سفينةٍ، ردَّ حكيمٌ عليه بقهقةٍ هستيريَّةٍ : إنِّها سفينة التَّايتنك البريطانيَّة التي قال عنها صانعها" لن تقدرَأيُّ قوةٍ على تحطيمها حتى لو كانت قوة الرَّب"، وفي أول سفرةٍ لها، وجدت نفسها حُطامًا في قاع المحيط، فلم يقدرْ مُصمِّمها حتى على جمع أشلائها "
ومن هذا الشاب يا حكيم؟! هذا شابٌ إيطاليٌّ انتحر، والسبب أنه أراد التوبة عن بيع المخدرات، فلم يرضَ زعيم المافيا"

إذا تأملنا هذا النص لعرفنا أنه تمًّت رواية أحداثه ومواقفه ضمن خطةٍ سرديةٍ مدروسةٍـ بدأت فيها من حدثٍ عام عالميٍّ خالطته نزعةٌ إيمانيةٌ وتشكيككٌ بقدرة الخالق(غرق سفينة التايتنك) وعرَّجت من خلالها إلى أحداثٍ عديدةٍ خاصةٍ بكل حالةـ تقوم على تعاقب سلسلة من الحالات والتحوَّلات بهدف تقريبها إلى ذات البطل لإدراكها، راصدًا حالات وتحوَّلات أفراداها ـ بهدف إسقاطها ـ كأمثلةٍ حيَّةٍ ومباشرةٍ لعاقبة الذين سبقوه، محاولين الفرار من واقعهم البائس لواقعٍ آخرَ مغايرٍ، حسبوه ورديًا؛ لينتهيَ بنا الرَّواي العليم والراوي المشارك (حكيم البحار)
بخاتمةٍ منطقيَّةٍ اتصلت بها ذات البطل بالموضوع الذي أدرك سوء عاقبته؛ لينفصلَ تلقائيًا عن رغبته تلك التي كانت تحثُّه على الهروب من أرض الوطن، ويبدي استياءًا من مشاهدته لمصائر الذين سبقوه تلك بعد أن شهد نتائج مجازفات أصحابها بأرواحهم...

أجادت (القاصة لين هاجر) تصويرالمشاهد المرئيَّة والانفعالات النفسيَّة والشعوريَّة ضمن خيطٍ سرديٍّ دقيقٍ بدأ من لحظة وقوف بطل النص( أمل) على الشاطئ مرورًا برحلته البحريَّة العجائبيَّة، وتصوير الشخوص في قاع المحيط، وسماع قصصهم من حكيم البحار، وانتهاءًا باقتناعه بقرارالعودة إلى شواطئ بلاده...

عملتِ القاصة على تسليط الضوءـ من خلال الجولة التعريفيَّة التي قام بها بطلا النص (أمل وحكيم البحار) بهدف تغيير وعي البطل (أمل) فيما هو مُقدمٌ عليه من خلال إطِّلاعه ـ على نهاياتٍ بائسةٍ لشخوص- خارج الكادرـ حسبوا أنَّ اللجوء إلى البحر قارب نجاتهم من الظلم الذي يشهدوه في بلادهم، في الوقت الذي كان فيه هذا الهروب -في حقيقة الأمر- جواز عبورهم إلى الموت، واستطاعت بفكرها الخلَّاق التَّغلغُل في الذاكرة المجتمعيَّة السَّاعية نحو تصوير واقعٍ ورديٍّ ينافي بؤس وقهر واقع المجتمعات كافةً، وظلَّ حكيم البحار الذي أتقن دورالرَّاوي المشارك على هذه الحال حتى استطاع ردع البطل عن فكره باللجوء إلى أوربا، وأقنعه بالرجوع إلى وطنه حفاظًا على حياته وتجنُّبًا لسوء المصير، وطلب من صديقه الحوت أن يحمل البطل( أمل) في جوفه، ويعود به إلى بلاده ليلفظه حيًا فوق رمال شط بلاده، ليُعيد ترتيبَ أوراقه، وأولوياته، فيجتهد في بلده، لتحقيق حلمه في سبيل خدمة وطنه، بدل من الموت حيًا في بلاد الاغتراب، حيث لا انتماء ولا وطن.

نجد في هذا النص إسقاطًا جميلاً لقصة سيدنا يونس (ذي النون) عليه السلام الذي ابتلعه الحوت، وفي روايةٍ أنه لبث في بطن الحوت أربعين يومًا.
قال الله تعالى في سورة القلم
{وإن يونس لمن المرسلين* إذ أبِقَ إلى الفلك المشحون*فساهم فكان من المدحضين* فالتقمه الحوت وهومُليم* فلولا أنه كان من المسبِّحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون* فنبذناه في العراء وهو سقيم*وأنبتنا عليه شجرةً من يقطين}
كذلك قال الله تعالى في سورة الأنبياء {وذا النون إذ ذهب مغاضبًا فظنَّ أن لا نقدرعليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغمِّ كذلك نُنجي المؤمنين} ( 87ـ 88)َ

المكان والزمان: من الجميل أن يكون مسرح الأحداث في هذا النص ـ قاع البحرـ مختلفًا عما اعتدنا عليه في النصوص التقليديَّة رغم تعدِّد الشَّخصيَّات، واختلاف الأحداث، والمواقف والأزمنة، ورغم كل ذلك التباين كان المكان مناسبًا للحدث الرئيس (الموت في البحر غرقًا)
يُعتبر البحر مكانًا مفتوحًا وعميقًا ومليئًا بالأسرار والعجائب، الأمر الذي يُحيل خيالنا لتصوِّر قصصٍ أخرى كثيرةٍ ومثيرةٍ، لم يسمح لنا فيها عامل الزمان بالاطلاع عليها، الزمان الذي تميَّز بحضورٍ كبيرٍ أيضًا تراوح بين أزمنةٍ عدةٍ قديمةٍ ومعاصرةٍ بالإضافة إلى زمن القصِّ النَّحوي الذي اعتمد على الزَّمن الماضي والحاضر، ومع استكمال قراءة نصوص الكتاب القصصي (زمردة) سيتبين لنا في آخر الكتاب أنَّ زُمرُّدة في الحقيقة هي زُمرُّدتان:
ـ زُمرُّدة الجَّدة: كما أسمتها القاصَّة وهي الشخصَّية الرئيسة في قصة (عرس حرفوشي)
أما زُمرُّدة التي حلقت بأجنحة الخيال لتجود علينا بقصصها التخيُّلية ثم عادت لتقصّ على قُرائها قصصًا أينعت في أرض الواقع ما هي في الحقيقة إلا الكاتبة ذاتها (لين هاجر الأشعل)

***

الواقعيَّة : الواقعيَّة في الفنِّ تشير.إلى التَّمثيل الدَّقيق والخالي من الزخرفة للواقع، غايتُها تصوير العالم بدقةٍ وواقعيةٍ قدر المستطاع. من مدرسة باربيزون إلى ما بعد الانطباعيَّة.

قطعتِ الواقعيَّة شوطًا طويلًا في تزويدنا برؤيةٍ ثاقبةٍ لما كان يفكر فيه الفنانون والمجتمع في ذلك الوقت، كلُّ أسلوبٍ لديه شيءٌ فريدٌ ليقدِّمه، من نهج (ميليت) الكلاسيكيِّ إلى الشعور الانطباعيِّ (لديغا) كلٌّ منها يخلق مشاعرَ مختلفةٍ لدى المشاهدين

إنَّ فهم الحركات الماضية ضروريٌّ لتوجيه الجمهور المعاصرإلى مشهد الرسم الواقعي والمتطور باستمرار، بمعنى أننا يمكننا العثور على الواقعيةَّ في كل مكانٍ

زمردة شجرة أينعت في أرض الحكايات :
قصص هذا القسم تتنمي إلى المدرسة الواقعيَّة بشكلٍ فنيٍّ مهمٍ وملهمٍ في القصِّ المعاصر، وقد تعاملت( لين هاجر) فيه مع نصوصها بشكلٍ مبتكرٍ وحداثي يناسب الزمن الراهن وقضاياه من خلال استخدام تقنيات الواقع، واستكشاف العلاقة بينه وبين التمثيل بعيدًا عن الزخرفة والمثالية فحرصت على تصوير الحياة ومشاهدها اليوميَّة بلغةٍ سهلةٍ بعيدًا عن التكليف والصعوبة، وناقشت مشكلاتها المجتمعية بدقةٍ ـ دون إطالةٍ أو ابتذا ـ كالحبِّ في العالم الافتراضيِّ كما في نص( فايسبوكيات)
كذلك ناقشت مشكلة الإعاقة الجسديِّة، وجسدتِ الفرق الكبير بينها وبين الإعاقة الفكريَّة، وانتصار صاحب الإعاقة الجسدية على إعاقته، واجتهاده ليصبح طبيبًا مرموقًا بعد أن رفضته عائلة من تقدَّم لخطبتها بسسبب إعاقته الجسدية وانتصر لفكره وعقله بتحقِّقه العلميِّ والاجتماعيِّ ليعكس حقيقة الإعاقة الفكرية عند بعض الشرائح المجتمعيَّة من ذوي التفكير المحدود...
كما سلطتِ الضوء على جائحة كورونا، وانعكاس نتائج كوفيد 19 الاجتماعيِّة والاقتصاديَّة على أفراد المجتمع كما في نص( نزهة على شاطئ كورونا)
كما أنَّها عالجت مشكلة خيانة الأزواج لزوجاتهن بنزوات متصبينةٍ عابرةٍ، وما ينتج عنها من طلاقٍ ونفورٍ وقسوة وآلام، وتضحيات تعيشها المرأة كما في نص( إنكسار)
وسلطت الضوء على قضية عمل المرأة، وجسدت معاناتها، وإهمالها لأنوثتها وجمالها في سبيل تحقيق استقلالها المالي والعدالة الاجتماعية المطالبة بالمساواة بين المرأة والرجل، وعكستِ الوجه الآخر للمرأة المترفة من أصحاب الطبقة المخمليَّة التابعة لزوجها ماديًا، ورصدت الفروق المادية والمعنويةـ بين هذَين النموذجين للمرأة الشرقيةـ حتى السيكولاجية في نص (جلسة شاي) كما سلطت الضوء على قضية اندثار اللغة العربيَّة، وأكدَّت على ضرورة التَّمسك والنَّطق بها مهما تعلَّمَ المرء لغاتٍ أخرى، وبيَّنت قوَّة تمسك أبناء الأمم الأخرى بلغتهم الأم بعكس أبناء الشرق الأوسط الذين سرعان ما يتنكرون للغتهم الأم( لغة لقرآن) مجرد أن يتعلّموا الرطانة بلغةٍ هجينةٍ أخرى لا أساس لها، ولا أصل كما في نص (اليوم الأول) من خلال شخصياتٍ حقيقيةٍ بعيدًا عن الخيال وجنوحه ضمن قالبٍ فنيٍّ وأدبيٍّ، استطاعت من خلاله تصويروتحليل الشخصيَّات، والأحداث والطبائع والمواقف وعُنيت بوصف طبائع الإنسان والأشياء، وبرعت في تحويلها إلى فنٍ تمثيليٍّ، يحاكي الواقع دون أن تتحكَّم بها عواطفها أو مبادئها الشخصية، بل انتقدت الجتمع وفساد أفراده، وعرَّت مواقفهم حيال قضاياه، وهي بذلك ابتعدت عن التيار الرومانسيِّ؛ لتجسِّد الواقع كما هو بعيدًا عن أيِّ تأثيرٍعاطفيٍّ؛ فكشفت لنا امراضَ مجتمعيةَ خطيرة ـ كما هي على طبيعتها تمامًا ـ بعيدًا عن الزخرفات د، لا بهدف إصلاحها؛ بل بهدف تعرية فساد المجتمع، ومناقشة قضاياه ووضعنا بمواجهة مراياه المشعورة، فالأديب صاحب رسالة وليس مصلحًا اجتماعيًا، بينما يبقى الإنسان مرهونًا بغرائزه، وحاجاته العضويَّة، وعواطفه.
تقول القاصة في نص "طبيبان نفسيان" في حصة (الكوتشينغ) الأخيرة فتح الكوتش التلفاز، وجعلني أتفرج معه في مشهدٍ كان فيه رجلان عاريان أحدهما يقول للآخر" أمسكه سيتغير شكله" ثم نمت على قوله: (هذه المشاهد سوف تنسيك كوابيس الكورونا ) بعد ذلك أفقت من حصة التنويم المغاطيسيِّ، وهو ممسكٌ بيدي التي قام بسحبها من بنطاله بينما كنتُ على وشك الإغماء صرختْ أختي باشمئزازٍ وألمٍ ثم قالت: "واخيبتكم مطلوب طبيبان نفسيَّان واحدٌ لابن التَّسع سنواتٍ، وواحدٍ لمعالجة نفسية الكوتش".




استطاعت القاصة لين تسليط الضوء على جائحة كورنا التي ضريت العالم أجمع في عام( 2020) من زاوية مختلفةٍ جدًا عما تناوله أغلبية الأدباء والفنانين حيث رصدت مدى تأثير هذا الوباء نفسيًا على سلوكيات بعض الأطفال، وبعض الكبار
"مضى تقريبًا عشر شهور على تلك الأحداث وأمير مشوَّش الذهن ويخضع لحصص رعاية نفسية "
الأمرالذي أدى إلى سلوكٍ شاذٍ سرعان ما تمَّ اكتشافه في سهرةٍ عائليَّةٍ ضمَّت أختين وزوجيهما للاحتفال بعيد ميلاد زواجهما إحداهما مع ولديهما اللذين كانا دون سن العاشرة، وقد حاولا القيام بتقليدٍ أعمى لمدربهما النفسيِّ الشاذّ جنسيًا بحجة التَّخفُّف من خوف الإصابة بفيروس كورنا.

لقد أثبتت الدراسات أنه قبل أن يمرض الأطفال الذين رآهم (دانيلو بونسينسو) طبيب الأطفال في مشفى جامعة (غميلي) في روما، كان الأطفال مفعمين بالنشاط والحيوية، وكان معظمهم يمارسون الرياضة، ويشاركون في أنشطةٍ عديدةٍ بعد نهاية اليوم الدراسي، لكنهم عندما أصيبوا بفيروس كورونا وبعد شهورٍ من تعافيهم ظلَّ بعض الأطفال يعانون من العديد من الأعراض النفسية الأمرالذي جعلهم غير قادرين على العودة إلى حياتهم الطبيعية، نتيجة الشعور المتزايد بالقلق والاكتئاب والخوف من الإصابة بهذا الفيروس اقاتل، ويُعتقد أنَّ السببَ في ذلك، يعود إلى أنَّ الأطفال يتمتعون بكمياتٍ كبيرةٍ من مستقبلات الأنزيم المحول ( للأنجيوتنسين) وهو الجزء الذي يستخدمه الفيروس لغزو لخلايا في الأنف، والجهاز التنفسي، ممَّا يؤدي إلى تشخيص إصاباتٍ أخرى بعد الشفاء من فيروس كورونا
العملية السردية : بين الحكي والروي، وُلد هذا النص، كان الراوي العليم فيه بطلًا مشاركًا وجريئًا، وقد قاد العملية السردية باقتدارٍ حيث استطاع صناعة فكرة النص، وخبر تفاصيل أحداثه، ولعب على تغير مسار القصة غيرالطبيعيِّ إلى الطبيعيَّ في ظل الظرف الفيروسي الاستثنائي السَّاخن الذي قلب الموازيين، وعبث بالطبيعة البشريَّة؛ فصعَّد الأحداث دراميًا وسلوكيًا بتسلسلٍ مدروسٍ، وعُنيَ بتحريك الأشخاص، وتفاعلهم الدَّاخليِّ والخارجيِّ بما يخدم الحدث، وحرَّكها كما يحرِّك المخرج عرائس الدُّمى بخيوطٍ شفافةٍ غير مرئيةٍ، واستطاع اللَّعب مرواحةً بين المتن الحكائيِّ، والمبنى السرديِّ للفكرة ضمن تهدئةٍ نفسيَّةٍ من قبل الآباء والامهات، احتوت التَّصرف اللاخلاقيِّ، ورصدت لغة جسد الأمهات والأبناء
"رفع أمير عينيه بالكاد، وأخذ يسرد الحكاية بصوتٍ متقطعٍ"
إذ عمل الآباء على مواجهة المشكلة بحزمٍ ووعيٍ وأسلوب تربويٍّ حديثٍ بعيدًا عن الترهيب والتعنيف للوصول إلى حلٍ علميٍّ برؤيةٍ واعية ٍللظرف الراهن "جائحة كورونا" دون التقيَّد بأساليب العقاب الكلاسيكيَّة من ضربٍ وتعنيفٍ التي ستفشل غالبًا في معالجة المشكلة، وكان الرأيُّ المنطقيُّ هو عرض الطفلان المخطئان، ومدرِّبهما النفسيِّ كذلك على (طبيبان نفسيَّان) لمعرفة سبب سلوكهم الشاذ ذاك، وبذلك تصبح الغاية مبررةٍ لوجود الرَّاوي العليم الذي استطاع فكَّ اشتباك الأحداث بين الشخصيَّات وبينه
يقول فرويد عن الغريزة الجنسيَّة : "حتى لو حاولنا إنكار الألم، فالجنس هو الدَّافع الأوَّل، والقاسم المشترك بين بني البشر، إلا أنَّ شعورنا بالخجل، والاستنكار من المبادئ الدارونيَّة البدائيَّة التي أدت إلى تقدِّم الإنسان على سائر المخلوقات الحيَّة، جعلنا نبذل جهدًا هائلًا في إنكار هذا الجانب المظلم من فصول حياتنا، فحتى أكثر الأشخاص حكمةً وتزمُّتًا يعاني من محاولات هزم شهوته الجنسيَّة"
لغة سرد النَّص : استطاعت القاصة استخدامَ لغةٍ سهلةٍ وبسيطةٍ، سرديَّة تارةً، وحواريَّة تارةً أخرى تمكَّنت خلالها من كسر قوالب السرَّد الجامدة، وإدارة الأحداث، ورصد لغة الجسد، وتوضيح الفكرة العامة للنَّص من زاوية غير مرئيةٍ للآباء، وهي بذلك استطاعت عبر التَّكثيف المستخدم في الحوار، والحديث والموضوع والفكرة والزَّمان ـ تحويل النص من مجرد حكايةٍ إلى فكرةٍ علميَّةٍ، وقضيَّةٍ اجتماعيَّةٍ، ومشكلةٍ عائليَّةٍ مما أظهر براعتها في معالجة الموضوع، ورجاحة عقلها، محافظةً على متانة النَّصِّ، والبناء القصصيِّ باختيارها مفرداتٍ وزمانٍ ومكانٍ، وحلٍّ حضاريٍّ علميٍ ملائمٍ لملابساتها وحيثيَّاتها.


خلاصة: تُـعتبر القصة القصيرة حصيلة الأحداث والمواقف التي تقوم بها الشخصيَّات، وتسلُّط الضوء على الأسباب والنَّتائج النَّاتجة عن التَّصرفات والسلوكيَّات، وانعقاد خيوط الحبكة التي سرعان ما تتكشَّف للمتلقِّي من خلال تتابع الأحداث، وأسلوب السَّرد، وبناءًا على ذلك تُعتبر القصة ثابتة دائمًا على عكس السير؛ لأنَّ أساس الفكرة ثابتٌ، بينما ترتيب الأحداث وتغيَّرها من شأنه أن يعيَ طريقة السرد إلا أنه لا يغير القصة نفسها

(زمردة) كتابٌ قصصيٌّ للأديبة
( لين هاجرالأشعل)صادرٌ عن دار البياتي للنشر والتوزيع بتونس

تقول في مقدمته : "المعذَّبون في الأرض" لم يسعفهم الحظ بإخراجهم من ظلم الحياة لهم، أمَّا الواهمون؛ فلم يُسعفهم العقل بإخراجهم من دائرة الوهم!
ياله من بؤسٍ ألمَّ بالمظلومين، وياله من تشرذمٍ أصاب الواهمين!



إيمان فجر السَّيِّد/ سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...