في الستينات باغتنا الكاتب الكبير محمد حافظ رجب بعناوين قصصه المدهشة، وشاركه الكاتب محمد إبراهيم مبروك وآخرين...
ثم امتدت هذه الظاهرة على يدي الكاتبين سعيد بكر، ومصطفى نصر( الصعود على جدار أملس،)
وكذلك الكاتبة حنان سعيد (أمطار تموز)
ثم يأتي شريف محي الدين بعنوان مجموعته الصادم...
،والمثير للدهشة
(أحذية وكلمات)
وشريف يمتلك موهبة فريدة ،عالية المستوى، و يملأ الساحة الأدبية على هذا الأساس من التفرد والتميز، مثل الكتاب، يحي الطاهر عبدالله، وفتحي غانم وعلاء الديب.
، ويوسف السباعي واحسان عبدالقدوس...
في منتصف الستينات أيام عبدالناصر كثرت الأحذية ولولا الثورة لظل عدد كبير من الشعب المصري حافيا، أما العساكر اليمنيين فكنت تراهم وهم ينقلون البيادات الجلد بحدوات حديد ويسيرون على الأسفلت محدثين ضجة عالية فرحين جدا بذلك.، وقد كانوا ينقلون القباقيب الخشب أيام حكم السلال.
بداية فإن قراءة هذه المجموعة تجعلك تقر
بالعبارة التالية
(أن تفهم شيئا أفضل من أن لا تفهم..) ..
وهي كتابة حميمية صادمة وصادقة، بكل ما بها من رمز وتجريد وعبثية، فهي تعبر عن تجارب خاضها المؤلف ، فهو يذكرني كثيرا بالكاتب سعيد سالم وقد كان صديقا لي، منذ بدايتنا معا في النشر في مجلة الكلمة السكندرية، وبعدها انطلق كالصاروخ ينشر في كل الأماكن بموهبته العالية.
، وقرأ سعيد قصته المنشورة وقتها في الكلمة السكندرية وقال ضاحكا:أنا مش فاهم منها حاجة!
وضحكت معه ، وهو يقول : أنا اللي كاتب القصة ومش فاهمها!
في الحقيقة لقد كانت موجة سائدة، في تلك الأونة تلك الحالة من الرمزية، والتجريب والضبابية.
لابد من التوقف أمام بدايات سعيد سالم، وكذلك إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، وفتحي غانم ومقارنتها ببدايات شريف محي الدين
والذي ما كنت ألقاه في بيت الناقد الكبير عبدالله هاشم إلا واخذه بالحضن زاعقا؛
مرحبا بالكاتب العالمي،
تمني شريف لي راحة البال، وضحكت وهمست في أذن عبدالله
أين راحة البال؟
وتساءلت
هل هناك صلة بين أحذية شريف ومجموعة القاص صلاح بكر.
في البدء كانت الكلمة وشريف يضع الأحذية قبل الكلمات؟!
فهل هذا مقبول؟!
هل يقصد فاخلع نعليك أنك بالوادي المقدس طوي؟!
لقد تذكرت جميع أنواع الأحذية منذ اللكلوك في قدمي الطفل، وحتى البلغة التي كان ينتعلها جدي، والبنص الأسود، والجزمة الشمواه، والاجلاسيه، والحذاء اللميع والبيادةفي الجيش والكوتش، والحذاء الذي سرق مني في جامع القلعة،، والكوزلك، والصنادل،، وتذكرت الخمر التي صبها حسين رياض في فردة حذاء هند رستم ، في فيلم شفيقة القبطية.
واحتسي الخمر وهي تقهقه، تذكرت منظر حذاء أنور السادات برقبته الجلد حين دخل علينا في غرفة العمليات على تعبوي سيناء قبل مجد أكتوبر بعشرة أيام، قائلا :
شدوا حيلكم.
كل هذا تذكرته وأنا اقرأ أحذية شريف.
وتذكرت أيضا أن خيري شلبي له قصة جميلة عن الأحذية.
ولخيري شلبي قصة طويلة تزيد عن المئة صفحة، وتختلف عن قصة شريف حيث يكتب خيري عن عروسة تخلت عن عريسها، رغم أن العريس هيأ لها كل ما تحتاجه، ومع هذا تركته جريحا في المستشفي وذهبت لآخر، وهي تركيبة لامرأة نراها في الواقع، أما عروس شريف في الأحذية فهي لم تتخل عنه قيد أنملة، ونرى في واقع الحياة من يصل لأعلى المناصب ومن خلفه زوجته..
وهذا اختلاف بين وجوهري بين القصتين، يبين مدى أثر المرأة على مستقبل الرجل.
ويبدو شريف لي وكأنه رجل من البلاد البعيدة، حتى أنني بحثت عنه كثيرا قبل انعقاد مناقشة لمجموعته، سألت عنه نبيل شاهين، وحسين أبو زينة، وعبدالعليم البري.
وحذائي نعله فك من كثرة المشي والبحث عنه في جميع الملتقيات الأدبية، وشريف غائب...
كلما وصلت أمام العمارة التي يسكن فيها عبدالله هاشم وأجد سيارة صغيرة أظنها سيارة شريف، وأدخل شقة عبدالله هاشم فرحا ولكني لا أجد شريف فينقبض قلبي.
وكلما اقتربت من سيارة صغيرة جميلة قد أجد فيها شريف أجد التي تطل برأسها من داخلها قائلة :
يا سم.
وأخرى تقول : يا دم
وثالثة تجرأت فقالت :
عن من تبحث؟!
فقلت لها بجرأة أكثر رجل من البلاد البعيدة.
ربما يوما ما يحصل على جائزة نوبل.
أو حتى جائزة أندلسية.
قال الدكتور عبدالحميد إبراهيم في كتابه عن موجة الكتابة الجديدة للقصة القصيرة في فرنسا وخاصة قصص ناتالي ساروت بأن هذه القصص لن تفهم إلا بعد سنوات، والحقيقة أن قصص شريف محي الدين هنا تقول كلمات كثيرة من خلال ١٨ قصة بداية بالجرو والجميلة، مرورا بالثعبان، والمظروف الأصفر، والمحصل، والخادم، وعلى الهواء،
فنحن نقف مصدومين تماما مع الأستاذ، والقلم، وخارج الدائرة، وكلاب المدينة، وهروب، والنورس، والشارع َوالفئران، والرجل والمصعد، والبحث عن بداية، حتى المشنقة، ثم الكابوس،لنصل إلى القصة الأخيرة المعنونة بها المجموعة أحذية وكلمات.
قصة الرجل والمصعد، تذكرني بعمارة رشدي والتى يقال أنها مسكونة حيث تتخبط الشبابيك، وتصب الحنفيات دماء،
وقد نجح شريف نجاحا ساحقا في عرض تلك القصة
وقد حدث لي شخصيا في سمالوط بالمنيا أحداثا
عجيبة كانت كلها بفعل الأشباح، مما جعلني أكتب رواية كاملة عن هذا العالم الغريب.
وقصص شريف الأولى في المجموعة يكثر بها الدم وخاصة مع النهاية
في قصة الجرو والجميلة، يكتب في نهايتها (الجرو الذي سقطت دماؤه على الأرض مختلطة بالزهور والقمامة والخبز)
وفي كلاب المدينة
(وامتزجت دماؤه الغزيرةبدماء الجرو الصغير، ثم مالبثت أن تساقطت من على ملابسه، ويديه، وقدميه حتى وصلت أرض الطريق)
لاحظوا السقوط في معظم القصص إما بالموت أو سقوط الأوراق تحت حذاء البنت الصغيرة وهي تنط الحبل.
وفي الكابوس (اختلطت دماؤه بطين الأرض ثم رفع وجهه إلى السماء وراح يستقبل المطر)
وفي المشنقة (تحطم المقعد القديم من تحت قدميه وتداعي متدليا... متدليا!!)
نهايات مفزعة حقيقية متشائمة.
شريف يكتب بدقة محسوبة تتفق مع دراسته فهو خريج كلية التجارة،، كل كلمة، كل جملة، كل قصة لها حساباتها، ومراجعاتها....
وواضح أنه عمل كثيرا على هذه القصص وكان عقله أكثر سيطرة من قلبه، مما يجعلك تشغل عقلك وقلبك معا أثناء القراءة.
وهذا بخلاف الكاتبة حنان سعيد التي قصصها من خلال ضربة واحدة تجعلك تشعر وتحس وقلبك يتعاطف معها...
وبخلاف صلاح بكر الذي يحكي بسذاجة، وطفولة بريئة، أما شريف فيجب أن تستعد له بكل ما أوتيت من ذكاء خارق في الفكر والعقل.
لاحظ في قصة الجرو والجميلة، علاقات إنسانية متعددة وليست علاقة واحدة، كما في الفأرة لمحمود تيمور، رغم أنها قصة من صفحة واحدة.
وكأن المؤلف يعاملنا كتلاميذ فها هو يمسك الطباشير ويقف أمام السبورة ليحل لنا مسألة حساب أو نظرية هندسية، ولكنه لم يتركنا لنحلها وحدنا، بل أعطانا المعطيات، والبرهان، فهذه القصة البسيطة جدا هي في نفس الوقت شديدة التعقيد.
العلاقة بين الجرو والقطة : جذب الجرو رغيف خبز، ووضعه أمام القطة، لمعت في عيني القطة دمعة صغيرة.
العلاقة بين الفتاة والشاب :
لمحت الفتاة ذلك وأدارت المذياع، ضحك الشاب وأشار إلى الفتاة إشارة خفية.
العلاقة بين الشرطي والرجل العجوز :
يصور لنا القوة الغاشمة في صورة الشرطي، ويتم تحريم الحب والحنان بين الحيوانات كما يحرمها العجوز بين البشر.
ولاحظ أن الجرو، مقابله هو الشاب.
القطة ذات العيون الرمادية تموء برقة خلف أحد صناديق القمامة وهذا يعبر عن احتياجها للجرو، أعطى الجرو القطة رغيف خبز، الشرطي يتحرك على الرصيف المقابل وهو سيقتل الجرو.
ناحية الشاب سنجده معجبا بالفتاة الرشيقة الجميلة، فهو يضحك ويشير إليها إشارة خفية، والرجل العجوز الذي لم يوضح المؤلف هل هو أبوها أو جدها!!
ولكنه يأمر بغلق المذياع.
وفي النهاية تسقط الزهور من يد الشاب، ماءت القطة في فزع.
وتنتهي القصة بالدم كما في العديد من القصص.
لاحظ أنه لا يوجد إحساس بين العجوز والفتاة، والسلبية بين الشرطي والشاب...
والشرطي قتل الشاب معنويا لأنه قتل بديله الجرو.
فهل
في نظر المؤلف هل الإنسان مجرد كلب؟!
، شريف محير فهو اختار الحذاء قبل الكلمة وجعل الكلب فداء للإنسان.
وعلى الرغم من اختيار شريف لكلام الله عز وجل،
في بداية العمل، ولم يختر أي من جمل عمالقة الغرب والشرق، إلا أنه جعل الكلب معادل موضوعي للإنسان، وجعل الحذاء يسبق الكلمة.!!
يستخدم شريف في قصصه نشرة الأخبار، ومقتطفات من الإذاعة، كما فعل يوسف الشاروني في قصته نشرة الأخبار، وصنع الله إبراهيم في قصته بيروت بيروت استخدم مقتطفات من منشتات الجرائد، وكذلك كاتب السطور في قصة النشرات
شريف في أحذية وكلمات استخدم مانشتات الجرائد لنفسية شخص غير قادر على استيعاب حياة الصحافة والإعلام، والإذاعة والتليفزيون،فهو صور شاب غير قادر على استيعاب، وهضم ما يحدث في العالم من أحداث دامية.
إن ابني الأوسط قال لي
حين أشاهد نشرات التليفزيون فإن قلبي يؤلمني.
ولا أدري ماذا أقول لشريف محي الدين أو لابني الأوسط، هل أقول لهما ملعون أبو الإذاعة والصحافة
و.....
ولكنني لا أستطيع فقد سبقت الأحذية الكلمات!!
أما ابني إبراهيم الأصغر، فحين أجلس معه لمشاهدة الأفلام الكرتون أجده يضحك ملء شدقيه، وأحاول أن أفهم ما يشاهده فلا أضحك، ولكنني أخرج بانطباع وفهم خاص جدا، رغم الضرب، والخبط والحركات البهلوانية،
وهذا ما أجده أيضا في الكثير من قصص شريف التي تبدو كأنها صنعت بتكنيك أفلام الكرتون التي يبدأها ثم يعيدها ثم يرصها رصا!
أهداني شريف مجموعته كما فعل الروائي عبداللطيف أبو خزيمة
الذي لم يهد من روايته لأحد سوي خمسة
أنا واحد منهم مما جعلني أهتم كثيرا بالعمل.
وحين أعطاني شريف مجموعته شعرت بتقديره الكبير لي، ولكني شعرت بغصة في حلقي وتقصيري الكبير معه وكذلك مع صلاح بكر، والقاصة حنان سعيد، ومجيدة شاهين، وايمان يونس، وعلى رأسهم د حورية البدري.
؛ كان شريف قاسيا في بعض الأحيان وخاصة في نهايات قصصه التي تنتهي بالدم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله
لقد قرأت مقالة عن النساء والكعب العالي في فرنسا ورأيت صورة لفردة حذاء والكعب عبارة عن سلم قلم فارتعشت قليلا...
كيف يكون كعب فردة حذاء حريمي سنا للقلم؟!
وأشعر أن هذا مخالف لحرفة القلم رغم حبنا للجنس الآخر.
شريف قال في نهاية مجموعته أن الأوراق طارت تحت أقدام كعوب النساء، وهن جميعا خرجن من جنب أدم ولكن ليس إلى هذا الحد
الذي يجعل الموسيقار عبدالوهاب يقول :
المرأة لابد أن تنتعل الكعب العالي حتى تهتز أمامي فتهتز أوتاري.
حتى ياسين في رواية بين القصرين عاكس أخته لوقع كعبها العالي في الحارة حين قال : أحبك يا أبيض.
شريف من مواليد العجوزة ومقيم بالإسكندرية فهو ابن بار للعاصمتين الكبريين، ونرى في كثير من قصصه التأثر بدراسته
وله العديد من القصص المنشورة في المجلات والصحف المصرية والعربية، كما مارس الصحافة رئيسا للقسم الثقافي ومساعدا لرئيس التحرير لبعض الجرائد السكندرية،
وهو معجون بالحياة الثقافية الأدبية والصحفيةبالاسكندرية.
وهو واحد من رواد ندوة الجمعة في بيت عبدالله هاشم، الذي تتمنى كاتبات كثيرات مثل حنان سعيد ومجيدة شاهين، حضور حتى ولو ندوة واحدة في بيته.
. .
قصة أحذية وكلمات قصة رائعة تذكرني بنفسي وكأني بطلها
فهناك تشابه عجيب بيني وبين شريف وكذلك صلاح بكر، ما هذا الجيل؟!
يتألق شريف كما الإبداع العالمي فهو يقول (تنزع من فوقي غطائي الثقيل)
رفع الغطاء من على الوجه ولاسيما الرافعة هي الخطيبة، أو الزوجة،و الرفيقة
وبطل القصة صحفي عريس جديد ولكنه يعاني من إسرائيل وحسنين هيكل، وصدام حسين، وأولاد حارتنا.
في الواقع فإن قراءة قصص المجموعة تعطي انطباع أولى على أنها عادية، ولكن مع إعادة القراءة بتمعن نجد أنها قصص عالية المستوى وتقول أشياء كثيرة.
مجموعة الفجر الكاذب لنجيب محفوظ عند القراءة الأولى قد نظن أنها عادية ولكن حين التوغل فيها تجدها شديدة العمق وتحتاج إلى التدبر والتأني في معنى مراميها... ويحيرك غموض بعضها، وقصر بعضها، وما جدواها، وتجعلك تتساءل عن نوع الكتابة التي توصل إليها الرجل بعد سن الثمانين، وأيضا نحن نجد ذلك في الكثير من قصص شريف التي تجد فيها معنى، وهدف، وسؤال
في قصص صلاح بكر تشم رائحة الحواري والعزب، والبنات المراهقات، والفراخ المسروقة، والمهمشين والعشوائين.
لكن قصص شريف في هذه المجموعة تميل كثيرا للتجريدية...
جرو... فتاة.... عسكري.... شرطة.... دم.... قطة.... ميدان.... مانشيتات جرائد..
فهذا قصاص وذاك قصاص آخر.
هذا طعم وذاك طعم آخر.
(عين سمكة)
تشعرك بأنك في وسط حلقة السمك بباكوس
(سكر مر)
تشعرك أنك في الإسكندرية بحق
(الفجر)
كأنك في أرض الفولي بباكوس
(شارع البير)
كأنك في غربال
ولكن عند شريف فلا مكان في قصصه
ومن الممتع تأمل الرسومات الداخلية المهداة من الفنان محمود ناصر
الذي تعمق في قراءة القصص ربما أكثر من أي متخصص في الأدب.
وهي رسومات رائعة تعبر عن حالة كل قصة.
كتابة شريف هي إلحاح، وتنفس، وشفاء للنفس من أدرانها...
حالة تنفيس من خباثة الزملاء، وخيانة الأصدقاء، حالة تعيد الإنسان إلى توازنه،
كتابة شريف تؤكد لك أن ما نحيا فيه نحن في حياتنا العادية وما بها من ظروف صعبة، ما هو إلا مجموعة قصصية أو رواية تحمل قضية كبري ولكنها معقدة غامضة جدا.
أتذكر ما قاله الكاتب مصطفى نصر بأن هناك كتاب في بداية حياتهم لا يبشرون بأي خير ومع استمرارهم واصرارهم يصبحون من كبار الكتاب، وهناك كتاب يظهرون مرة واحدة عمالقة وسرعان ما يتهاوون مرة واحدة كالصقر الجريح.
والحقيقة إن بدايات شريف مقارنة بكبار الكتاب هي بدايات مذهلة، تؤكد على ازدهار مستقبله.
ثم امتدت هذه الظاهرة على يدي الكاتبين سعيد بكر، ومصطفى نصر( الصعود على جدار أملس،)
وكذلك الكاتبة حنان سعيد (أمطار تموز)
ثم يأتي شريف محي الدين بعنوان مجموعته الصادم...
،والمثير للدهشة
(أحذية وكلمات)
وشريف يمتلك موهبة فريدة ،عالية المستوى، و يملأ الساحة الأدبية على هذا الأساس من التفرد والتميز، مثل الكتاب، يحي الطاهر عبدالله، وفتحي غانم وعلاء الديب.
، ويوسف السباعي واحسان عبدالقدوس...
في منتصف الستينات أيام عبدالناصر كثرت الأحذية ولولا الثورة لظل عدد كبير من الشعب المصري حافيا، أما العساكر اليمنيين فكنت تراهم وهم ينقلون البيادات الجلد بحدوات حديد ويسيرون على الأسفلت محدثين ضجة عالية فرحين جدا بذلك.، وقد كانوا ينقلون القباقيب الخشب أيام حكم السلال.
بداية فإن قراءة هذه المجموعة تجعلك تقر
بالعبارة التالية
(أن تفهم شيئا أفضل من أن لا تفهم..) ..
وهي كتابة حميمية صادمة وصادقة، بكل ما بها من رمز وتجريد وعبثية، فهي تعبر عن تجارب خاضها المؤلف ، فهو يذكرني كثيرا بالكاتب سعيد سالم وقد كان صديقا لي، منذ بدايتنا معا في النشر في مجلة الكلمة السكندرية، وبعدها انطلق كالصاروخ ينشر في كل الأماكن بموهبته العالية.
، وقرأ سعيد قصته المنشورة وقتها في الكلمة السكندرية وقال ضاحكا:أنا مش فاهم منها حاجة!
وضحكت معه ، وهو يقول : أنا اللي كاتب القصة ومش فاهمها!
في الحقيقة لقد كانت موجة سائدة، في تلك الأونة تلك الحالة من الرمزية، والتجريب والضبابية.
لابد من التوقف أمام بدايات سعيد سالم، وكذلك إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، وفتحي غانم ومقارنتها ببدايات شريف محي الدين
والذي ما كنت ألقاه في بيت الناقد الكبير عبدالله هاشم إلا واخذه بالحضن زاعقا؛
مرحبا بالكاتب العالمي،
تمني شريف لي راحة البال، وضحكت وهمست في أذن عبدالله
أين راحة البال؟
وتساءلت
هل هناك صلة بين أحذية شريف ومجموعة القاص صلاح بكر.
في البدء كانت الكلمة وشريف يضع الأحذية قبل الكلمات؟!
فهل هذا مقبول؟!
هل يقصد فاخلع نعليك أنك بالوادي المقدس طوي؟!
لقد تذكرت جميع أنواع الأحذية منذ اللكلوك في قدمي الطفل، وحتى البلغة التي كان ينتعلها جدي، والبنص الأسود، والجزمة الشمواه، والاجلاسيه، والحذاء اللميع والبيادةفي الجيش والكوتش، والحذاء الذي سرق مني في جامع القلعة،، والكوزلك، والصنادل،، وتذكرت الخمر التي صبها حسين رياض في فردة حذاء هند رستم ، في فيلم شفيقة القبطية.
واحتسي الخمر وهي تقهقه، تذكرت منظر حذاء أنور السادات برقبته الجلد حين دخل علينا في غرفة العمليات على تعبوي سيناء قبل مجد أكتوبر بعشرة أيام، قائلا :
شدوا حيلكم.
كل هذا تذكرته وأنا اقرأ أحذية شريف.
وتذكرت أيضا أن خيري شلبي له قصة جميلة عن الأحذية.
ولخيري شلبي قصة طويلة تزيد عن المئة صفحة، وتختلف عن قصة شريف حيث يكتب خيري عن عروسة تخلت عن عريسها، رغم أن العريس هيأ لها كل ما تحتاجه، ومع هذا تركته جريحا في المستشفي وذهبت لآخر، وهي تركيبة لامرأة نراها في الواقع، أما عروس شريف في الأحذية فهي لم تتخل عنه قيد أنملة، ونرى في واقع الحياة من يصل لأعلى المناصب ومن خلفه زوجته..
وهذا اختلاف بين وجوهري بين القصتين، يبين مدى أثر المرأة على مستقبل الرجل.
ويبدو شريف لي وكأنه رجل من البلاد البعيدة، حتى أنني بحثت عنه كثيرا قبل انعقاد مناقشة لمجموعته، سألت عنه نبيل شاهين، وحسين أبو زينة، وعبدالعليم البري.
وحذائي نعله فك من كثرة المشي والبحث عنه في جميع الملتقيات الأدبية، وشريف غائب...
كلما وصلت أمام العمارة التي يسكن فيها عبدالله هاشم وأجد سيارة صغيرة أظنها سيارة شريف، وأدخل شقة عبدالله هاشم فرحا ولكني لا أجد شريف فينقبض قلبي.
وكلما اقتربت من سيارة صغيرة جميلة قد أجد فيها شريف أجد التي تطل برأسها من داخلها قائلة :
يا سم.
وأخرى تقول : يا دم
وثالثة تجرأت فقالت :
عن من تبحث؟!
فقلت لها بجرأة أكثر رجل من البلاد البعيدة.
ربما يوما ما يحصل على جائزة نوبل.
أو حتى جائزة أندلسية.
قال الدكتور عبدالحميد إبراهيم في كتابه عن موجة الكتابة الجديدة للقصة القصيرة في فرنسا وخاصة قصص ناتالي ساروت بأن هذه القصص لن تفهم إلا بعد سنوات، والحقيقة أن قصص شريف محي الدين هنا تقول كلمات كثيرة من خلال ١٨ قصة بداية بالجرو والجميلة، مرورا بالثعبان، والمظروف الأصفر، والمحصل، والخادم، وعلى الهواء،
فنحن نقف مصدومين تماما مع الأستاذ، والقلم، وخارج الدائرة، وكلاب المدينة، وهروب، والنورس، والشارع َوالفئران، والرجل والمصعد، والبحث عن بداية، حتى المشنقة، ثم الكابوس،لنصل إلى القصة الأخيرة المعنونة بها المجموعة أحذية وكلمات.
قصة الرجل والمصعد، تذكرني بعمارة رشدي والتى يقال أنها مسكونة حيث تتخبط الشبابيك، وتصب الحنفيات دماء،
وقد نجح شريف نجاحا ساحقا في عرض تلك القصة
وقد حدث لي شخصيا في سمالوط بالمنيا أحداثا
عجيبة كانت كلها بفعل الأشباح، مما جعلني أكتب رواية كاملة عن هذا العالم الغريب.
وقصص شريف الأولى في المجموعة يكثر بها الدم وخاصة مع النهاية
في قصة الجرو والجميلة، يكتب في نهايتها (الجرو الذي سقطت دماؤه على الأرض مختلطة بالزهور والقمامة والخبز)
وفي كلاب المدينة
(وامتزجت دماؤه الغزيرةبدماء الجرو الصغير، ثم مالبثت أن تساقطت من على ملابسه، ويديه، وقدميه حتى وصلت أرض الطريق)
لاحظوا السقوط في معظم القصص إما بالموت أو سقوط الأوراق تحت حذاء البنت الصغيرة وهي تنط الحبل.
وفي الكابوس (اختلطت دماؤه بطين الأرض ثم رفع وجهه إلى السماء وراح يستقبل المطر)
وفي المشنقة (تحطم المقعد القديم من تحت قدميه وتداعي متدليا... متدليا!!)
نهايات مفزعة حقيقية متشائمة.
شريف يكتب بدقة محسوبة تتفق مع دراسته فهو خريج كلية التجارة،، كل كلمة، كل جملة، كل قصة لها حساباتها، ومراجعاتها....
وواضح أنه عمل كثيرا على هذه القصص وكان عقله أكثر سيطرة من قلبه، مما يجعلك تشغل عقلك وقلبك معا أثناء القراءة.
وهذا بخلاف الكاتبة حنان سعيد التي قصصها من خلال ضربة واحدة تجعلك تشعر وتحس وقلبك يتعاطف معها...
وبخلاف صلاح بكر الذي يحكي بسذاجة، وطفولة بريئة، أما شريف فيجب أن تستعد له بكل ما أوتيت من ذكاء خارق في الفكر والعقل.
لاحظ في قصة الجرو والجميلة، علاقات إنسانية متعددة وليست علاقة واحدة، كما في الفأرة لمحمود تيمور، رغم أنها قصة من صفحة واحدة.
وكأن المؤلف يعاملنا كتلاميذ فها هو يمسك الطباشير ويقف أمام السبورة ليحل لنا مسألة حساب أو نظرية هندسية، ولكنه لم يتركنا لنحلها وحدنا، بل أعطانا المعطيات، والبرهان، فهذه القصة البسيطة جدا هي في نفس الوقت شديدة التعقيد.
العلاقة بين الجرو والقطة : جذب الجرو رغيف خبز، ووضعه أمام القطة، لمعت في عيني القطة دمعة صغيرة.
العلاقة بين الفتاة والشاب :
لمحت الفتاة ذلك وأدارت المذياع، ضحك الشاب وأشار إلى الفتاة إشارة خفية.
العلاقة بين الشرطي والرجل العجوز :
يصور لنا القوة الغاشمة في صورة الشرطي، ويتم تحريم الحب والحنان بين الحيوانات كما يحرمها العجوز بين البشر.
ولاحظ أن الجرو، مقابله هو الشاب.
القطة ذات العيون الرمادية تموء برقة خلف أحد صناديق القمامة وهذا يعبر عن احتياجها للجرو، أعطى الجرو القطة رغيف خبز، الشرطي يتحرك على الرصيف المقابل وهو سيقتل الجرو.
ناحية الشاب سنجده معجبا بالفتاة الرشيقة الجميلة، فهو يضحك ويشير إليها إشارة خفية، والرجل العجوز الذي لم يوضح المؤلف هل هو أبوها أو جدها!!
ولكنه يأمر بغلق المذياع.
وفي النهاية تسقط الزهور من يد الشاب، ماءت القطة في فزع.
وتنتهي القصة بالدم كما في العديد من القصص.
لاحظ أنه لا يوجد إحساس بين العجوز والفتاة، والسلبية بين الشرطي والشاب...
والشرطي قتل الشاب معنويا لأنه قتل بديله الجرو.
فهل
في نظر المؤلف هل الإنسان مجرد كلب؟!
، شريف محير فهو اختار الحذاء قبل الكلمة وجعل الكلب فداء للإنسان.
وعلى الرغم من اختيار شريف لكلام الله عز وجل،
في بداية العمل، ولم يختر أي من جمل عمالقة الغرب والشرق، إلا أنه جعل الكلب معادل موضوعي للإنسان، وجعل الحذاء يسبق الكلمة.!!
يستخدم شريف في قصصه نشرة الأخبار، ومقتطفات من الإذاعة، كما فعل يوسف الشاروني في قصته نشرة الأخبار، وصنع الله إبراهيم في قصته بيروت بيروت استخدم مقتطفات من منشتات الجرائد، وكذلك كاتب السطور في قصة النشرات
شريف في أحذية وكلمات استخدم مانشتات الجرائد لنفسية شخص غير قادر على استيعاب حياة الصحافة والإعلام، والإذاعة والتليفزيون،فهو صور شاب غير قادر على استيعاب، وهضم ما يحدث في العالم من أحداث دامية.
إن ابني الأوسط قال لي
حين أشاهد نشرات التليفزيون فإن قلبي يؤلمني.
ولا أدري ماذا أقول لشريف محي الدين أو لابني الأوسط، هل أقول لهما ملعون أبو الإذاعة والصحافة
و.....
ولكنني لا أستطيع فقد سبقت الأحذية الكلمات!!
أما ابني إبراهيم الأصغر، فحين أجلس معه لمشاهدة الأفلام الكرتون أجده يضحك ملء شدقيه، وأحاول أن أفهم ما يشاهده فلا أضحك، ولكنني أخرج بانطباع وفهم خاص جدا، رغم الضرب، والخبط والحركات البهلوانية،
وهذا ما أجده أيضا في الكثير من قصص شريف التي تبدو كأنها صنعت بتكنيك أفلام الكرتون التي يبدأها ثم يعيدها ثم يرصها رصا!
أهداني شريف مجموعته كما فعل الروائي عبداللطيف أبو خزيمة
الذي لم يهد من روايته لأحد سوي خمسة
أنا واحد منهم مما جعلني أهتم كثيرا بالعمل.
وحين أعطاني شريف مجموعته شعرت بتقديره الكبير لي، ولكني شعرت بغصة في حلقي وتقصيري الكبير معه وكذلك مع صلاح بكر، والقاصة حنان سعيد، ومجيدة شاهين، وايمان يونس، وعلى رأسهم د حورية البدري.
؛ كان شريف قاسيا في بعض الأحيان وخاصة في نهايات قصصه التي تنتهي بالدم.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :
إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله
لقد قرأت مقالة عن النساء والكعب العالي في فرنسا ورأيت صورة لفردة حذاء والكعب عبارة عن سلم قلم فارتعشت قليلا...
كيف يكون كعب فردة حذاء حريمي سنا للقلم؟!
وأشعر أن هذا مخالف لحرفة القلم رغم حبنا للجنس الآخر.
شريف قال في نهاية مجموعته أن الأوراق طارت تحت أقدام كعوب النساء، وهن جميعا خرجن من جنب أدم ولكن ليس إلى هذا الحد
الذي يجعل الموسيقار عبدالوهاب يقول :
المرأة لابد أن تنتعل الكعب العالي حتى تهتز أمامي فتهتز أوتاري.
حتى ياسين في رواية بين القصرين عاكس أخته لوقع كعبها العالي في الحارة حين قال : أحبك يا أبيض.
شريف من مواليد العجوزة ومقيم بالإسكندرية فهو ابن بار للعاصمتين الكبريين، ونرى في كثير من قصصه التأثر بدراسته
وله العديد من القصص المنشورة في المجلات والصحف المصرية والعربية، كما مارس الصحافة رئيسا للقسم الثقافي ومساعدا لرئيس التحرير لبعض الجرائد السكندرية،
وهو معجون بالحياة الثقافية الأدبية والصحفيةبالاسكندرية.
وهو واحد من رواد ندوة الجمعة في بيت عبدالله هاشم، الذي تتمنى كاتبات كثيرات مثل حنان سعيد ومجيدة شاهين، حضور حتى ولو ندوة واحدة في بيته.
. .
قصة أحذية وكلمات قصة رائعة تذكرني بنفسي وكأني بطلها
فهناك تشابه عجيب بيني وبين شريف وكذلك صلاح بكر، ما هذا الجيل؟!
يتألق شريف كما الإبداع العالمي فهو يقول (تنزع من فوقي غطائي الثقيل)
رفع الغطاء من على الوجه ولاسيما الرافعة هي الخطيبة، أو الزوجة،و الرفيقة
وبطل القصة صحفي عريس جديد ولكنه يعاني من إسرائيل وحسنين هيكل، وصدام حسين، وأولاد حارتنا.
في الواقع فإن قراءة قصص المجموعة تعطي انطباع أولى على أنها عادية، ولكن مع إعادة القراءة بتمعن نجد أنها قصص عالية المستوى وتقول أشياء كثيرة.
مجموعة الفجر الكاذب لنجيب محفوظ عند القراءة الأولى قد نظن أنها عادية ولكن حين التوغل فيها تجدها شديدة العمق وتحتاج إلى التدبر والتأني في معنى مراميها... ويحيرك غموض بعضها، وقصر بعضها، وما جدواها، وتجعلك تتساءل عن نوع الكتابة التي توصل إليها الرجل بعد سن الثمانين، وأيضا نحن نجد ذلك في الكثير من قصص شريف التي تجد فيها معنى، وهدف، وسؤال
في قصص صلاح بكر تشم رائحة الحواري والعزب، والبنات المراهقات، والفراخ المسروقة، والمهمشين والعشوائين.
لكن قصص شريف في هذه المجموعة تميل كثيرا للتجريدية...
جرو... فتاة.... عسكري.... شرطة.... دم.... قطة.... ميدان.... مانشيتات جرائد..
فهذا قصاص وذاك قصاص آخر.
هذا طعم وذاك طعم آخر.
(عين سمكة)
تشعرك بأنك في وسط حلقة السمك بباكوس
(سكر مر)
تشعرك أنك في الإسكندرية بحق
(الفجر)
كأنك في أرض الفولي بباكوس
(شارع البير)
كأنك في غربال
ولكن عند شريف فلا مكان في قصصه
ومن الممتع تأمل الرسومات الداخلية المهداة من الفنان محمود ناصر
الذي تعمق في قراءة القصص ربما أكثر من أي متخصص في الأدب.
وهي رسومات رائعة تعبر عن حالة كل قصة.
كتابة شريف هي إلحاح، وتنفس، وشفاء للنفس من أدرانها...
حالة تنفيس من خباثة الزملاء، وخيانة الأصدقاء، حالة تعيد الإنسان إلى توازنه،
كتابة شريف تؤكد لك أن ما نحيا فيه نحن في حياتنا العادية وما بها من ظروف صعبة، ما هو إلا مجموعة قصصية أو رواية تحمل قضية كبري ولكنها معقدة غامضة جدا.
أتذكر ما قاله الكاتب مصطفى نصر بأن هناك كتاب في بداية حياتهم لا يبشرون بأي خير ومع استمرارهم واصرارهم يصبحون من كبار الكتاب، وهناك كتاب يظهرون مرة واحدة عمالقة وسرعان ما يتهاوون مرة واحدة كالصقر الجريح.
والحقيقة إن بدايات شريف مقارنة بكبار الكتاب هي بدايات مذهلة، تؤكد على ازدهار مستقبله.