أ. د. عادل الأسطة - تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج4- (51--52)

ج4


51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟

في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (١٩٤٣)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد المتعددة والمتناقضة منها، فمنهم - مثل عميد الأدب العربي طه حسين - من رأى فيها «دجاجة عاقلة جد عاقلة... دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة... دجاجة رحيمة تعطف على الضعفاء والبائسين وترق للمحرومين وتؤثرهم على نفسها وإن كان بها خصاصة؛ وهي على هذا كله بليغة فصيحة تفكر فتحسن التفكير وتؤدي فتجيد الأداء... تجد من حب الخير وبغض الشر... ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله» (المقدمة ١٩٤٣)، ومنهم - مثل الناقد الفلسطيني فاروق وادي - من رأى فيها «دجاجة خلقها مؤلفها من موقع أيديولوجي طبقي ليسبغ عليها حكمته، لكنه، بوعي أو دون وعي، خلق دجاجة فلسطينية تخون فلسطين وقضيتها» (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية ١٩٨٥)، وهناك - مثل عبد الحميد ياسين - من لم تعجبه مذكراتها فعارضها بـ «مذكرات ديك»، لأن سلوكها وفلسفتها لا تجدي في عالم يخضع للقوة شعاره «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
في الحرب تذكرت من الرواية صفحاتها الأخيرة التي أتى المؤلف فيها على موقف الزعيم من دجاج غريب طارئ أراد المأوى له وطرد أصحابه منه.
قرر الزعيم اللجوء إلى القوة للحفاظ على المأوى وطرد الدجاج الغريب الطارئ، وهذا ما لم توافقه الدجاجة صاحبة المذكرات عليه، فقد رأت أن القوة لا تحل خلافاً ولا تلتئم مع المثل العليا التي تمسكت بها طوال حياتها، وطلبت من الزعيم وأنصاره أن لا يلتجئوا إليها، وأن ينتشروا، بدلاً من استخدامها، في الأرض ويبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده ويقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه «وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها» وتطلب منهم أن يسيحوا في الأرض ويتوزعوا بين الخلق وينشروا بينهم المثل العليا والمبادئ السامية، وتنتهي الرواية بموافقتهم على اقتراحها، ويوافق الزعيم على ذلك، فتشعر بالرضا.
في حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ تذكرت الرواية غير مرة وشغلتني عدة أشهر، كما شغلتني أيضاً روايات غسان كنفاني «رجال في الشمس» و»عائد إلى حيفا» و»أم سعد»، بل وبعض قصصه القصيرة مثل قصة «العروس»، ذلك أن طروحاته فيها تتناقض كلياً مع طرح الدجاجة، فهو على لسان شخصية أبو الخيزران أثار السؤال:
- «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»
وعلى لسان سعيد. س أورد عبارة:
- «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!»
وعلى لسان أم سعد ذكر عبارتها:
- «خيمة عن خيمة بتفرق» - أي الفرق بين خيمة المقاتل وخيمة اللاجئ.
هل شغلتني أيضاً مقولة إميل حبيبي «باق في حيفا» والرسالة ما قبل الأخيرة من رواية «المتشائل» وهي «الجلوس على الخازوق».
مرة في أثناء المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة كتبت أن نصوص الأدب الفلسطيني تتصارع في رأسي، وكان سبب الكتابة متابعتي الحثيثة لموقف الكتاب والنشطاء الفيسبوكيين من أحداث ٧ أكتوبر، فقد تعددت وتباينت وهذا أمر طبيعي، ولكن ما لم أره طبيعياً هو أن أدباء عديدين لم يوافقوا، من قبل، الحسيني في طرح دجاجته ووقفوا إلى جانب كنفاني فيما تبناه، في رواياته الثلاث وفي قصصه القصيرة، ومجدوا شعار أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، اختلف موقفهم من أحداث ٧ أكتوبر وكتبوا ضدها، بل ومالوا إلى اقتراح الدجاجة، فغادروا قطاع غزة، دافعين الآلاف من الدولارات، علما بأنهم لاموا آباءهم حين خرجوا في العام ١٩٤٨، أو أنهم تشبثوا بالخازوق، كما تشبث به حبيبي من قبل، مرددين «باق في غزة»، كما ردد «باق في حيفا»، ويستطيع المرء أن يذكر أسماء من غادر ومن بقي ومن نزح ومن ارتقى، أو على الأقل أستطيع أنا شخصياً أن أفعل ذلك، لمتابعتي الحثيثة لأخبار الكتاب وكتاباتهم، وقد أشرت إلى هذا في يوميات الحرب التي أكتبها منذ السابع من أكتوبر يومياً، ولا يعدم المرء قراءة طروحات مثل «القضية عامة والحل فردي»، وهذا مغاير كلياً للفكرة التي توصل إليها النقاد بعد قراءتهم «رجال في الشمس» لكنفاني؛ الفكرة التي استنتجت من موت الرجال الثلاثة في الخزان ومقصد الروائي من قتلهم.
ما تجدر كتابته هو أن تأويل النقاد لمغزى عبارة كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» ومقصده من وراء قتل شخوص الرواية بدأ يتراجع لدى فئات من الفلسطينيين، فنطقوا بعبارة مختلفة وردت في روايات لاحقة على لسان فلسطينيين من العائدين كما في رواية زكريا محمد «عصا الراعي» (٢٠٠٣/ مقالي في الأيام ٢٠/ ٨/ ٢٠٢٣) وفلسطينيي لبنان بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢، وهذا نقرؤه في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن» (٢٠١٣). «المشكلة جماعية، لكن الحل لازم يكون فردي»، وما تجدر كتابته أيضاً أن عبارة شبيهة تكررت في كتابات بعض كتاب غزة منذ ٧ أكتوبر، والكتابة تطول.
هل يئسنا لأن نكبة ١٩٤٨ بعد ٧٦ عاماً ما زالت مستمرة أم؟
منا من يأخذ بما رأته دجاجة الحسيني، ومنا من يواصل دق جدران الخزان، ومنا من هو راضٍ بخازوقه يتشبث به، وأبو يائير لا يريدنا هنا.

***

52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»

اليوم الأحد ٦/ ١٠/ ٢٠٢٤ هو اليوم الأخير من عام الحرب الأول الذي بدأ يوم سبت في ٧/ ١٠/ ٢٠٢٣.
مضى العام وكانت النتيجة عشرات آلاف القتلى ومائة ألف جريح ومشوّه ويتيم وأرمل وأرملة، ومحو عائلات بأكملها من السجل المدني، وتدمير قطاع غزة تدميراً شبه كامل لجعل الحياة فيه، لأهل غزة في قادم الأيام، شبه مستحيلة، وهذا ما طمحت إليه الحركة الصهيونية منذ مؤتمرها الأول، رافعةً شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» متسائلةً عن مستقبل سكان البلاد، وهو ما شغل بال الأب الروحي للحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) في روايته «أرض قديمة جديدة» (١٩٠٢).
في بداية الحرب أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أن الحرب حرب وجود، وقال إنه تلميذ (جابوتنسكي) الذي رأى أن السلام في المنطقة يتحقق بالقوة/ بالسيف، وهذا ما لم يتحقق منذ بداية المشروع الصهيوني، فالمقاومة ما زالت مستمرة والفلسطينيون ما زال نصفهم في أرضهم.
في ثلاثينيات القرن العشرين فهم الشاعر إبراهيم طوقان كُنه المشروع الصهيوني فلخّصه بأبيات شعرية منها:
«أجَلاءً عن البلاد تريدون فنجلو أم محوَنا والإزالة؟»
و
«يا قومُ ليس عدوكم ممن يلين ويرحم
يا قوم ليس أمامكم إلا الجلاء فحزموا».
ويبدو أنه قرأ ما انشغل به آباء الصهيونية في الموقف من سكان البلاد. ماذا سنفعل بهؤلاء الأغيار الغرباء الذين أقفروا بلاد آبائنا وصحّروها في أثناء غياب آبائنا عنها؟
ويبدو أن طوقان قرأ وجهتَي النظر المختلفتين في النهج، المتفقتين في النتيجة، وهما وجهة نظر تيار رأى التضييق على سكان البلاد العرب، حتى يرحلوا من تلقاء أنفسهم، ووجهة نظر تيار ثانٍ ذهب إلى أن ذلك لا بد من أن يُنجز بالقوة، ومنذ العام ١٩٤٨ والتياران يتصارعان حتى آل الصراع إلى غلبة التيار الثاني ممثلاً الآن بـ (بنيامين نتنياهو) وحزبه و (ايتمار بن غفير) و (بتسلئيل سموتريتش)، ويبدو أن العام الثاني من الحرب سيتواصل في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني معاً وفي الوقت نفسه، ويبدو أن إسرائيل مصرة على تحقيق شعارها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بالقوة، أو على الأقل «أرض أكثر وعرب أقل».
في العام الأول من الحرب صار المرء عداد موتى وجرحى، وعداد إحصاء دبابات دُمرت وآليات أُعطبت وبيوت نُسفت على رؤوس أصحابها، وما تحقق معكوساً هو أن العرب ليسوا أبناء صحراء يدمرون الطبيعة ويخربونها، وهذا ما حفلت به الأدبيات الصهيونية، وإنما هم بنوا وشيّدوا المشافي والمدارس والجامعات، وجاء الإسرائيليون ليقفروها ويصحروا قطاع غزة، كأنما أسقط الصهيونيون في أدبياتهم، صفاتهم التي تقبع في أعماقهم، على العرب، وهنا نتذكر ثانية ما قاله طوقان فيهم:
«أعداؤنا - منذ أن كانوا - صيارفةٌ
ونحن - منذ هبطنا الأرض - زُرّاع».
في عام الحرب الأول استرجع المرء أحداث مائة عام من الصراع، كأنما كان زبدتها كلها. لقد عشنا النكبة الجديدة وعشنا معها أيضاً النكبة الأولى وما بينهما، فما من حدث إلا ذُكر بمثيله، بل وأكثر.
وإذا كان طوقان نفسه قال:
« أمامك أيها العربي يوم
تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
لنا خصمان ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصَوا بينهم فأتى وَبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي»
فإن الخصمين ما زالا هما هما مع حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل بريطانيا العظمى، دون أن تتخلى الأخيرة كلياً عن دورها القذر، فطائرات تجسّسها ترصد الأماكن التي يقبع فيها المقاومون، وتقدم المعلومات التي تجمعها إلى الجهة الإسرائيلية، لتتمكن الأخيرة من تتبعهم وتصفيتهم.
مر العام الأول ونحن نرصد أحداثه ساعة ساعة ويوماً يوماً وشهراً شهراً، ونتابع أخبار الجبهات في الشمال والجنوب وما يلم بالسكان المدنيين، نتابع هذا كله متابعةً حثيثة حتى فقدنا الشغف بالحياة في أبسط مظاهرها. الشغف بالقراءة والشغف بالسفر والشغف بمتابعة مسلسل والشغف بحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة ومحاورة جمهور الحاضرين.
عندما أقارن في باب القراءة مثلا بين ما قرأته في هذا العام بما قرأته في أعوام سابقة أرى الفرق واضحاً. فلأول مرة منذ خمسة عقود لم أقرأ في عام كامل سوى ثلاث روايات، حتى الدراسات الطويلة والمقالات التي تزيد على خمس صفحات أُكمل قراءتها بالكاد. صرت قلقاً لا يثبت على حال، قلقاً حتى لكأن المتنبي قال بيته يصف حالتي:
على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي
أُوجهها جَنوباً أو شَمالا.
لا أستقر لساعة دون أن أبحث عن آخر الأخبار، وفي الأيام الأخيرة بدأت الأوضاع تتأزّم أكثر وأكثر و... و....

***


=============
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...