أ. د. عادل الأسطة - تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج4- (51--67)

ج4


51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟

في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (١٩٤٣)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد المتعددة والمتناقضة منها، فمنهم - مثل عميد الأدب العربي طه حسين - من رأى فيها «دجاجة عاقلة جد عاقلة... دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة... دجاجة رحيمة تعطف على الضعفاء والبائسين وترق للمحرومين وتؤثرهم على نفسها وإن كان بها خصاصة؛ وهي على هذا كله بليغة فصيحة تفكر فتحسن التفكير وتؤدي فتجيد الأداء... تجد من حب الخير وبغض الشر... ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله» (المقدمة ١٩٤٣)، ومنهم - مثل الناقد الفلسطيني فاروق وادي - من رأى فيها «دجاجة خلقها مؤلفها من موقع أيديولوجي طبقي ليسبغ عليها حكمته، لكنه، بوعي أو دون وعي، خلق دجاجة فلسطينية تخون فلسطين وقضيتها» (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية ١٩٨٥)، وهناك - مثل عبد الحميد ياسين - من لم تعجبه مذكراتها فعارضها بـ «مذكرات ديك»، لأن سلوكها وفلسفتها لا تجدي في عالم يخضع للقوة شعاره «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
في الحرب تذكرت من الرواية صفحاتها الأخيرة التي أتى المؤلف فيها على موقف الزعيم من دجاج غريب طارئ أراد المأوى له وطرد أصحابه منه.
قرر الزعيم اللجوء إلى القوة للحفاظ على المأوى وطرد الدجاج الغريب الطارئ، وهذا ما لم توافقه الدجاجة صاحبة المذكرات عليه، فقد رأت أن القوة لا تحل خلافاً ولا تلتئم مع المثل العليا التي تمسكت بها طوال حياتها، وطلبت من الزعيم وأنصاره أن لا يلتجئوا إليها، وأن ينتشروا، بدلاً من استخدامها، في الأرض ويبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده ويقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه «وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها» وتطلب منهم أن يسيحوا في الأرض ويتوزعوا بين الخلق وينشروا بينهم المثل العليا والمبادئ السامية، وتنتهي الرواية بموافقتهم على اقتراحها، ويوافق الزعيم على ذلك، فتشعر بالرضا.
في حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ تذكرت الرواية غير مرة وشغلتني عدة أشهر، كما شغلتني أيضاً روايات غسان كنفاني «رجال في الشمس» و»عائد إلى حيفا» و»أم سعد»، بل وبعض قصصه القصيرة مثل قصة «العروس»، ذلك أن طروحاته فيها تتناقض كلياً مع طرح الدجاجة، فهو على لسان شخصية أبو الخيزران أثار السؤال:
- «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»
وعلى لسان سعيد. س أورد عبارة:
- «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!»
وعلى لسان أم سعد ذكر عبارتها:
- «خيمة عن خيمة بتفرق» - أي الفرق بين خيمة المقاتل وخيمة اللاجئ.
هل شغلتني أيضاً مقولة إميل حبيبي «باق في حيفا» والرسالة ما قبل الأخيرة من رواية «المتشائل» وهي «الجلوس على الخازوق».
مرة في أثناء المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة كتبت أن نصوص الأدب الفلسطيني تتصارع في رأسي، وكان سبب الكتابة متابعتي الحثيثة لموقف الكتاب والنشطاء الفيسبوكيين من أحداث ٧ أكتوبر، فقد تعددت وتباينت وهذا أمر طبيعي، ولكن ما لم أره طبيعياً هو أن أدباء عديدين لم يوافقوا، من قبل، الحسيني في طرح دجاجته ووقفوا إلى جانب كنفاني فيما تبناه، في رواياته الثلاث وفي قصصه القصيرة، ومجدوا شعار أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، اختلف موقفهم من أحداث ٧ أكتوبر وكتبوا ضدها، بل ومالوا إلى اقتراح الدجاجة، فغادروا قطاع غزة، دافعين الآلاف من الدولارات، علما بأنهم لاموا آباءهم حين خرجوا في العام ١٩٤٨، أو أنهم تشبثوا بالخازوق، كما تشبث به حبيبي من قبل، مرددين «باق في غزة»، كما ردد «باق في حيفا»، ويستطيع المرء أن يذكر أسماء من غادر ومن بقي ومن نزح ومن ارتقى، أو على الأقل أستطيع أنا شخصياً أن أفعل ذلك، لمتابعتي الحثيثة لأخبار الكتاب وكتاباتهم، وقد أشرت إلى هذا في يوميات الحرب التي أكتبها منذ السابع من أكتوبر يومياً، ولا يعدم المرء قراءة طروحات مثل «القضية عامة والحل فردي»، وهذا مغاير كلياً للفكرة التي توصل إليها النقاد بعد قراءتهم «رجال في الشمس» لكنفاني؛ الفكرة التي استنتجت من موت الرجال الثلاثة في الخزان ومقصد الروائي من قتلهم.
ما تجدر كتابته هو أن تأويل النقاد لمغزى عبارة كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» ومقصده من وراء قتل شخوص الرواية بدأ يتراجع لدى فئات من الفلسطينيين، فنطقوا بعبارة مختلفة وردت في روايات لاحقة على لسان فلسطينيين من العائدين كما في رواية زكريا محمد «عصا الراعي» (٢٠٠٣/ مقالي في الأيام ٢٠/ ٨/ ٢٠٢٣) وفلسطينيي لبنان بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢، وهذا نقرؤه في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن» (٢٠١٣). «المشكلة جماعية، لكن الحل لازم يكون فردي»، وما تجدر كتابته أيضاً أن عبارة شبيهة تكررت في كتابات بعض كتاب غزة منذ ٧ أكتوبر، والكتابة تطول.
هل يئسنا لأن نكبة ١٩٤٨ بعد ٧٦ عاماً ما زالت مستمرة أم؟
منا من يأخذ بما رأته دجاجة الحسيني، ومنا من يواصل دق جدران الخزان، ومنا من هو راضٍ بخازوقه يتشبث به، وأبو يائير لا يريدنا هنا.

***

52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»

اليوم الأحد ٦/ ١٠/ ٢٠٢٤ هو اليوم الأخير من عام الحرب الأول الذي بدأ يوم سبت في ٧/ ١٠/ ٢٠٢٣.
مضى العام وكانت النتيجة عشرات آلاف القتلى ومائة ألف جريح ومشوّه ويتيم وأرمل وأرملة، ومحو عائلات بأكملها من السجل المدني، وتدمير قطاع غزة تدميراً شبه كامل لجعل الحياة فيه، لأهل غزة في قادم الأيام، شبه مستحيلة، وهذا ما طمحت إليه الحركة الصهيونية منذ مؤتمرها الأول، رافعةً شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» متسائلةً عن مستقبل سكان البلاد، وهو ما شغل بال الأب الروحي للحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) في روايته «أرض قديمة جديدة» (١٩٠٢).
في بداية الحرب أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أن الحرب حرب وجود، وقال إنه تلميذ (جابوتنسكي) الذي رأى أن السلام في المنطقة يتحقق بالقوة/ بالسيف، وهذا ما لم يتحقق منذ بداية المشروع الصهيوني، فالمقاومة ما زالت مستمرة والفلسطينيون ما زال نصفهم في أرضهم.
في ثلاثينيات القرن العشرين فهم الشاعر إبراهيم طوقان كُنه المشروع الصهيوني فلخّصه بأبيات شعرية منها:
«أجَلاءً عن البلاد تريدون فنجلو أم محوَنا والإزالة؟»
و
«يا قومُ ليس عدوكم ممن يلين ويرحم
يا قوم ليس أمامكم إلا الجلاء فحزموا».
ويبدو أنه قرأ ما انشغل به آباء الصهيونية في الموقف من سكان البلاد. ماذا سنفعل بهؤلاء الأغيار الغرباء الذين أقفروا بلاد آبائنا وصحّروها في أثناء غياب آبائنا عنها؟
ويبدو أن طوقان قرأ وجهتَي النظر المختلفتين في النهج، المتفقتين في النتيجة، وهما وجهة نظر تيار رأى التضييق على سكان البلاد العرب، حتى يرحلوا من تلقاء أنفسهم، ووجهة نظر تيار ثانٍ ذهب إلى أن ذلك لا بد من أن يُنجز بالقوة، ومنذ العام ١٩٤٨ والتياران يتصارعان حتى آل الصراع إلى غلبة التيار الثاني ممثلاً الآن بـ (بنيامين نتنياهو) وحزبه و (ايتمار بن غفير) و (بتسلئيل سموتريتش)، ويبدو أن العام الثاني من الحرب سيتواصل في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني معاً وفي الوقت نفسه، ويبدو أن إسرائيل مصرة على تحقيق شعارها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بالقوة، أو على الأقل «أرض أكثر وعرب أقل».
في العام الأول من الحرب صار المرء عداد موتى وجرحى، وعداد إحصاء دبابات دُمرت وآليات أُعطبت وبيوت نُسفت على رؤوس أصحابها، وما تحقق معكوساً هو أن العرب ليسوا أبناء صحراء يدمرون الطبيعة ويخربونها، وهذا ما حفلت به الأدبيات الصهيونية، وإنما هم بنوا وشيّدوا المشافي والمدارس والجامعات، وجاء الإسرائيليون ليقفروها ويصحروا قطاع غزة، كأنما أسقط الصهيونيون في أدبياتهم، صفاتهم التي تقبع في أعماقهم، على العرب، وهنا نتذكر ثانية ما قاله طوقان فيهم:
«أعداؤنا - منذ أن كانوا - صيارفةٌ
ونحن - منذ هبطنا الأرض - زُرّاع».
في عام الحرب الأول استرجع المرء أحداث مائة عام من الصراع، كأنما كان زبدتها كلها. لقد عشنا النكبة الجديدة وعشنا معها أيضاً النكبة الأولى وما بينهما، فما من حدث إلا ذُكر بمثيله، بل وأكثر.
وإذا كان طوقان نفسه قال:
« أمامك أيها العربي يوم
تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
لنا خصمان ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصَوا بينهم فأتى وَبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي»
فإن الخصمين ما زالا هما هما مع حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل بريطانيا العظمى، دون أن تتخلى الأخيرة كلياً عن دورها القذر، فطائرات تجسّسها ترصد الأماكن التي يقبع فيها المقاومون، وتقدم المعلومات التي تجمعها إلى الجهة الإسرائيلية، لتتمكن الأخيرة من تتبعهم وتصفيتهم.
مر العام الأول ونحن نرصد أحداثه ساعة ساعة ويوماً يوماً وشهراً شهراً، ونتابع أخبار الجبهات في الشمال والجنوب وما يلم بالسكان المدنيين، نتابع هذا كله متابعةً حثيثة حتى فقدنا الشغف بالحياة في أبسط مظاهرها. الشغف بالقراءة والشغف بالسفر والشغف بمتابعة مسلسل والشغف بحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة ومحاورة جمهور الحاضرين.
عندما أقارن في باب القراءة مثلا بين ما قرأته في هذا العام بما قرأته في أعوام سابقة أرى الفرق واضحاً. فلأول مرة منذ خمسة عقود لم أقرأ في عام كامل سوى ثلاث روايات، حتى الدراسات الطويلة والمقالات التي تزيد على خمس صفحات أُكمل قراءتها بالكاد. صرت قلقاً لا يثبت على حال، قلقاً حتى لكأن المتنبي قال بيته يصف حالتي:
على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي
أُوجهها جَنوباً أو شَمالا.
لا أستقر لساعة دون أن أبحث عن آخر الأخبار، وفي الأيام الأخيرة بدأت الأوضاع تتأزّم أكثر وأكثر و... و....

***

53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور

في الثامن والعشرين من أيلول الماضي فارقنا الروائي رشاد أبو شاور، كأنما أصر أن يودع الحياة في اليوم نفسه الذي ارتقى فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أحبه وظل يكتب عنه في ذكرى رحيله، وكأنما أراد أيضاً أن يفارق في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه السيد حسن نصرالله، وكان رشاد في مقالاته من المدافعين عن نهجه؛ نهج المقاومة، بقوة. وأنا لا أعرف أديباً فلسطينياً مقيماً في العالم العربي أفصح بوضوح عن مواقفه السياسية، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، كرشاد الذي أقام في العقدين الأخيرين في الأردن.
ربما لا تتجاوز لقاءاتي برشاد عدد أصابع اليد الواحدة أغلبها في عمان في مكتبة دار الشروق، ومرة واحدة التقينا، بعد مجيء السلطة الفلسطينية، في مدينة نابلس على هامش مناسبة أدبية. ولكني عرفت رشاد أديباً منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، فقد قرأت بعض قصصه القصيرة وروايته «العشاق» وقصصه الطويلة الأقرب إلى النوفيلا وهي «أيام الحب والموت» و»البكاء على صدر الحبيب» و «أرض العسل» و «شبابيك زينب». وغالباً ما كنت آتي على ذكر أعماله في كتاباتي عن موضوعات وظواهر في الأدب الفلسطيني. وفي العقدين الأخيرين، وبعد التعرف إليه قرأت رواياته الأربع الأخيرة وكتبت عنها. «سأرى بعينيك يا حبيبي» (٢١٠٢) و «وداعا يا زكرين» (٢٠١٦) و»ليالي الحب والبوم» (٢٠١٨) و»ترويض النسر» (٢٠١٩).
وربما يكون قراء الأرض المحتلة عرفوه من خلال روايته «العشاق» التي أعادت وزارة الثقافة الفلسطينية طباعتها، وربما لم يقرأ له غيرها، هنا في الأرض المحتلة ١٩٤٨ و ١٩٦٧، إلا الأدباء والنقاد. فرشاد لم تعد طباعة أعماله هنا، ولم يشارك هنا كثيراً في المؤتمرات الأدبية والندوات، ولم يكتب عموداً ثابتاً في الصحف الصادرة في فلسطين التاريخية.
غالباً ما كنت أتذكر رشاد ونصوصه في كتاباتي التي تعالج موضوعاً محدداً في الأدب الفلسطيني أو ظاهرة فنية ما، كأن أكتب عن اليهود أو المخيم أو استحضار الماضي أو ظاهرة النقد السياسي في الأدب الفلسطيني أو الروح المرحة في الرواية الفلسطينية.
كانت «أرض العسل» مهمة لي وأنا أكتب عن اليهود، وكانت «العشاق» تحضر باستمرار كلما أتيت على المخيم، أما «أيام الحب والموت» فغالباً ما أشرت إليها أنها الأولى في الكتابة عن مجزرة الدوايمة في العام ١٩٤٨، بل وغالباً ما رددت أن كاتبها سبق المؤرخين الإسرائيليين الجدد في الكتابة عن المجزرة المنسية، وأما «البكاء على صدر الحبيب» فغالباً ما أشير إليها كلما تحدثت أو كتبت عن ظاهرة النقد السياسي الذاتي للثورة الفلسطينية، وكانت هذه القصة من أبكر القصص التي انتقد فيها كاتب فلسطيني نهج الثورة، وإذ التفتّ مرة إلى الروح المرحة في حياة الفلسطينيين، وندرة حضورها في أدبياتنا، لم أغفل الإشارة إلى رشاد إلى جانب توفيق زياد وإميل حبيبي.
وغالباً ما أتيت على ذكر قصته الطويلة «شبابيك زينب» التي كتب فيها عن مدينة نابلس في الانتفاضة الأولى، مقارناً الكتابة عن المدينة المذكورة في روايات سحر ابنتها ورشاد الذي لم يكن زارها.
والتفتّ إلى رشاد روائياً أكثر من التفاتي إليه كاتب قصة قصيرة، علماً بأنه عُرف كاتب قصة أكثر مما عُرف روائياً.
في السنوات العشر الأخيرة قرأت رواياته الأربع والتفتّ إليها وكانت موضع أسئلة عديدة أثرتها شغلت ذهني في الكتابة النقدية.
لم يكتب رشاد في أكثر كتاباته عن طفولته، وفي القصتين اللتين استحضر فيهما التاريخ، وهما «أرض العسل» و «أيام الحب والموت» كتب عن أحداث وأمكنة لم يرها ولم يكن شاهداً عليها. وهو ما اختلف في باقي أعماله كلها، فالمبكرة منها مثل «العشاق» و «البكاء على صدر الحبيب» كتب عن بيئته وتجاربه التي عاشها؛ عن مخيمات أريحا التي عاش فيها وكان قريباً منها، وعن تجربته في الثورة في المنفى، وواصل هذا فيما كتبه بعد الخروج من بيروت، في «آه يا بيروت» و»الرب لم يسترح في اليوم السابع».
في «وداعاً يا زكرين» و «ليالي الحب والبوم» استرجع رشاد حياة القرية زكرين التي ولد فيها في العام ١٩٤٢ وغادرها في عام النكبة ١٩٤٨، وفي الثانية واصل الكتابة عن اللجوء إلى الخليل فمخيمات بيت لحم وأريحا، وكتب عن حياته وحياة والده فيها حتى العام ١٩٦٧.
أما روايتاه «سأرى بعينيك يا حبيبي» و «ترويض النسر» فتتطابق فيهما أزمنة السرد الثلاثة؛ زمن الكتابة وزمن السرد والزمن الروائي، ويكتب فيهما عن ثنائيات البداوة والمدنية وزحف العاصمة نحو البادية واختلاط القيم وتضاربها، والسلطة والمثقف الكاتب المعارض الذي يقتل بسبب مقالاته، ثم محاولات الشركات رشوة صاحب الضمير وترويضه دون أن تنجح مع قليلين في ذلك.
والروايتان المشار إليهما تثيران أسئلة حول لجوء الكاتب في شرق المتوسط للتعميم وعدم التحديد تحسبا لردة فعل السلطة تجاهه، وهذا عموما ما تجادلت ورشاد حوله.
في السنوات الأخيرة من حياته عاد رشاد إلى طفولته ليكتب عنها قصصاً قصيرة وردت في «وداعاً يا زكرين» و «أيام الحب والموت»، وغالباً ما عقبت عليها بعبارة «وردت هذه القصة في رواية... .
برحيل رشاد أبو شاور تكون الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية خسرت علماً مهماً من أعلامها وعلاماتها.

***

54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً

وأخيراً ارتقى يحيى السنوار صاحب السيرة الروائية «الشوك والقرنفل» (٢٠٠٤) المولود في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين.
وليس السنوار أول كاتب فلسطيني يستشهد، فقد سبقه، منذ العام ١٩٣٨، عديدون.
في ١٩٣٨ ارتقى الشاعر الشعبي نوح إبراهيم صاحب «كنا نغني بالأعراس/ جفرا عتابا ودحية / واليوم نغني بالرصاص/ هالجهادية الجهادية»، بل ويمكن أن نذهب إلى فترة زمنية أسبق تعود إلى العام ١٩٢٩ حين كتب الثائر عوض النابلسي ليلة إعدامه على جدار زنزانته قصيدته الشعبية الوحيدة التي وصلتنا «يا ليل خلي الأسير تايكمل نواحه».
وربما تكون الذاكرة الفلسطينية ظلت تستحضر شاعراً واحداً ارتقى شهيداً في أرض المعركة في العام ١٩٤٨ وهو عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة «سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى»، ومع أنه لم يكن أبرز شاعر فلسطيني في حينه، كما يرى إحسان عباس، وأن شعره فيه من الهنات والضعف ما فيه، إلا أنه شاعر شهيد والشاعر الشهيد نادر الحضور في الأدب العالمي، ولهذا وضعه عباس إلى جانب إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
عرف عبد الرحيم من شعره واستشهاده، ولكنّ شاعراً آخر قليل الشعر عرف لسبب آخر هو قيادته المعارك ونادراً ما عرف الفلسطينيون أنه شاعر، هو عبد القادر الحسيني الذي ارتقى في معركة القسطل في العام ١٩٤٨ أيضاً، وسنعرف لاحقاً أنه كتب الشعر، من خلال بعض المقالات التي تناولته شاعراً، مثل مقال الروائي رشاد أبو شاور الذي ظهر في كتابه «مقالات في الأدب الفلسطيني» (٢٠٠٧) ومن خلال الرواية التي كتبتها عنه الروائية سحر خليفة «حبي الأول» (٢٠١٠).
ولكني أشك في أن أكثرنا حفظاً للشعر يحفظ له بيتاً من شعره، كما يحفظ أغلب شعبنا بيت عبد الرحيم محمود المذكور.
منذ اغتيال غسان كنفاني في بيروت في ٨ تموز من العام ١٩٧٢، صار يحتفل بذكراه سنوياً، وحظي استشهاده بما لم يحظَ به استشهاد أي ممن سبقوه، ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى أنه ترك لنا إرثاً أدبياً مميزاً لم يترك مثله أي من الثلاثة المذكورين.
لقد أنجزت مئات الكتب والدراسات والمقالات عن كنفاني، وتناصت مع أعماله عشرات القصص والروايات، وشاع كثير من عباراته شيوع بيت عبد الرحيم محمود، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات العالمية الحية.
ومع أنّ هناك أدباء فلسطينيين آخرين ارتقوا بعد كنفاني إلا أنهم لم يحظوا بما حظي هو به؛ لأنهم لم ينجزوا في الأدب إلا شعراً قليلاً أو مجموعة قصصية أو رواية أو أكثر قليلاً، ومن هؤلاء كمال ناصر وعز الدين القلق وماجد أبو شرار وعلي فودة.
أصدر الأول خمسة دواوين شعرية جمعها إحسان عباس معاً، ولكنّ الجانب السياسي فيه غلب على الجانب الأدبي، وأصدر القلق مجموعة قصصية واحدة «شهداء بلا تماثيل» ونادراً ما التُفت في ذكراه إليها، وأصدر أبو شرار مجموعة «الخبز المر»، ومع أنه أعيدت طباعتها مضافاً إليها بعض القصص، إلا أن الاحتفاء بها ظل قليلاً، وأصدر فودة ديوان شعر أو ديوانين ورواية «الفلسطيني الطيب» إلا أنه ظل في ذكراه قليل الحضور أيضاً، وربما عرفنا عن القلق وأبو شرار أكثر، واستحضرنا في ذكراهما رثاء محمود درويش لهما، فقد شاعت قصيدتاه فيهما أكثر من شيوع نتاجهما، والقصيدتان هما «الحوار الأخير في باريس» و»اللقاء الأخير في روما»، وعلى الرغم من أن فدوى طوقان رثت كمال ناصر شعراً إلا أن ما كتبته لم ينتشر انتشار قصيدتي درويش.
هناك آخرون استشهدوا لم نعرف أنهم شعراء إلا من خلال روايات كتبها روائيون عنهم، مثلهم مثل عبد القادر الحسيني، ومن هؤلاء زياد الخليل.
لقد عرفت عنه من خلال ثلاثية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد/ عابر سرير/ فوضى الحواس» وكنت أظن أنه شخصية مخترعة لولا أن أخبرني الشاعر أحمد دحبور أنه شاعر فلسطيني حقيقي، وحتى اللحظة لم أقرأ شخصياً أياً من أشعاره.
في العام ١٩٨٧ اغتيل فنان الكاريكاتور ناجي العلي، فحققت رسوماته انتشاراً لافتاً واحتفل بذكرى استشهاده احتفالاً لا يقل عن الاحتفال بكنفاني.
منذ طوفان الأقصى ٧ أكتوبر ارتقى العديد من الأدباء. ارتقت هبة أبو ندى وارتقى سليم النفار ورفعت العرعير وفتحي غبن ومحاسن الخطيب وأخيراً يحيى السنوار الذي حقق ما ورد في بيت عبد الرحيم محمود «سأحمل روحي على راحتي».
كتب السنوار رواية واحدة نشرها في العام ٢٠٠٤ حين كان سجيناً ولم يلتفت إليها إلا في العام ٢٠٢١ حين كتبت عنها، وسرعان ما نسيت، حتى أعدت الكتابة عنها في ٧ أكتوبر سلسلة مقالات وخربشات، ما أدى إلى إشهارها وعقد الندوات حولها وكتابة المقالات فيها، بل وإعادة طباعتها، ولقد تناولها صحافيون عالميون كتبوا عنها في كبريات الصحف الأميركية.
«نصر أو استشهاد» هو الشعار الذي يرفعه إبراهيم الشخصية الرئيسة في الرواية وتنتهي باستشهاده، وقد كانت نهاية المؤلف مشابهة، فقد ارتقى في ١٥/ ١٠/ ٢٠٢٤.
هل ستخلد هذه الرواية كاتبها كما خلد بيت شعر عبد الرحيم محمود، حتى اللحظة، قائله؟
ننتظر ونرى ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
رحم الله الشهداء!

***

55- الطفل الناجي في الحرب

في صفحة محمد العطار Muhammad Al-Attar من جباليا نقرأ في العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر ٢٠٢٤، عن ارتقاء أخيه الشاب الممرض مصطفى المتزوج وله ثلاثة أطفال، ونقرأ عن إصابة أخيه الثاني أحمد، وأيضاً عن الطفل الناجي.
حين طلب جيش الاحتلال، في جباليا شمال قطاع غزة، إخلاء من بداخل مستشفى كمال عدوان، تحركت سيارات الإسعاف من المستشفى وهي تنقل أماً وضعت مولودها قبل ساعتين من الإخلاء ومعها مرافقة أخرى.
بعد خمسين متراً من تحرك سيارة الإسعاف استهدفها الجيش الإسرائيلي، بشكل مباشر، ليرتقي جميع من كانوا بداخلها.
لم تنتهِ المعاناة، فبعد مرور ٢٤ ساعة مرت فرق الإنقاذ الدولية بمكان الاستهداف، فسمع أفرادها صوت بكاء بين الجثث المتفحمة التي تأكلها الكلاب داخل السيارة.
كان الصوت صوت الوليد الجديد؛ طفل الشهيدة «رغدة البسيوني» و»عناية الله به أنه لم يخدش ولم تقترب منه الكلاب»، وهو بصحة جيدة، لكنه أضحى يتيماً وعمره يوم.
في الفترة نفسها قرأنا على صفحات الناشطين من شمال قطاع غزة عما فعله الجيش الإسرائيلي أيضاً بأهالي مخيم جباليا حتى يجبروهم على المغادرة.
حفر الجيش حفرتين وضع النساء في واحدة والأطفال في ثانية وترك دباباته تثير الغبار حولهما، ثم صار يخرج النساء ويأمرهن بالتقاط أي طفل والمضي به حتى لو لم يكن الطفل طفلها.
وماذا لو لم يلتقِ الطفل فيما بعد بأمه الحقيقية؟ وماذا لو ربته المرأة التي التقطته؟!
أعرف في المخيم الذي نشأت فيه حكايات مشابهة إلى حد ما. عرفت رمزي منذ ستة عقود ولم أعرف أن أباه ارتقى في اللد في العام ١٩٤٨، ولم أسأل لماذا يكنى عمه الذي رباه بـ «أبو هشام»، لا بـ «أبو رمزي»، فرمزي أكبر من هشام، وقبل سنة عرفت القصة.
ارتقى والد رمزي فاقترن أخوه بزوجته وربى ابن أخيه/ ابنها. كم قصة تشبه هذه ستشهد غزة في قادم الأيام؟!
قبل الحادثة المذكورة في أول المقال حدثت قصص كثيرة مشابهة لأطفال نجوا واستشهدت عائلاتهم ومنها قصة الأختين تولين وتوجان. قصت تولين حكايتها، وأختها صامتة حزينة إلى جانبها، بأسلوب بسيط واضح دون أن تتعثر، على الرغم من فظاعة ما ألم بهما.
كانت تولين عندما قصف بيتهم تتناول وجبة الفاصوليا والرز إلى جانب أختها، فيم بقية الأسرة تتناول طعامها في مكان قريب.
عندما طلبت منها أختها الشراب ذهبت لإحضار كأس لها وثانٍ لأختها، وفجأة تم القصف، ولما كانت قريبة من الشباك فقد أخذت تنادي وتم إنقاذها وأختها، وستعرف لاحقاً أن أمها وأباها وأخاها مازن وأختها تايلا قد ارتقوا.
تقيم الأختان الآن في بيت جدتهما. عندما استبد بي الفضول لمعرفة أسرتهما بحثت في الفيس بوك وعثرت على صفحة الأم؛ صفحة (أم مازن) ولكن المعلومات لم تسعفني.
في السنوات الأخيرة قرأت ثلاثية إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني»، وأنجزت حولها كتاباً وعشرات المقالات وربطتها بنصوص روائية أسبق منها. وقرأت أيضاً رواية أكرم مسلم «بنت من شاتيلا» والتفت فيهما إلى الطفلة الناجية، وكتبت مقالين في الموضوع استعرضت فيهما الظاهرة في أعمال أدبية فلسطينية سابقة، وفي مقالي عن أولاد الغيتو ذهبت إلى أبعد من الرواية الفلسطينية، متتبعاً الفكرة في الأدب العالمي والرواية العربية أيضاً.
تناص إلياس خوري بوعي كامل مع رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» (١٩٦٩) لدرجة أن آدم المؤلف الضمني لأولاد الغيتو وصف لنا مشاعره حين قرأ الرواية قائلاً:
«الشعور بالحزن الذي ضربني حين قرأت رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».. ولوهلة اعتقدت أن الروائي الفلسطيني يتكلم عني...».
مات آدم وربته منال ولم يكن يعرف شيئاً عن أبيه البيولوجي.
هل نعثر في روايات عربية وفلسطينية أخرى على أطفال فلسطينيين نجوا أو سرقوا وربوا ممن تبناهم؟
هنا أشير إلى رواية رضوى عاشور «الطنطورية «ورواية سوزان أبو الهوى» بينما ينام العالم أو صباحات جنين».
تأتي رضوى في روايتها على مذبحة صبرا وشاتيلا وتحكي عن الطفلة التي تبناها الطبيب الفلسطيني أمين كما لو أنها ابنته (ينظر الفصل ٢١ «هدية أمين» ص ١٧٧)، أما سوزان أبو الهوى فتكتب عن نكبة ١٩٤٨ وسرقة جندي إسرائيلي عقيم لا ينجب طفلاً من أمه ويربيه ليغدو مثل خلدون في رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».
النكبة تتكرر فصولها وتتكرر أحداثها وتتشابه قصصها ونحن نقرأ ما نعتقده في الروايات معاداً مكروراً، لا لأن الروائيين والروائيات يتناصون مع روايات سابقة وحسب، وإنما لأن تجاربنا وحكاياتنا في الواقع تتكرر أيضاً.
النكبة مستمرة ورحم الله الروائي إلياس خوري صاحب كتاب «النكبة المستمرة».

***

56- الطفل الفلسطيني القتيل

كتبتُ في الأسبوع الماضي عن الطفل الفلسطيني الباقي والناجي، وبعد قراءة المقال منشوراً تذكرت عبارة إميل حبيبي «أنا هو الطفل القتيل» التي جعلها محمود درويش وإلياس خوري عنواناً للمقابلة التي أجرياها معه، في العام ١٩٨٠ في براغ العاصمة التشيكية، ونشراها في العدد الأول من مجلة «الكرمل» الصادرة في شتاء العام ١٩٨١.
كانت سهام داود أعادت على صفحتها نشر المقابلة، فالتفت إليها سليم البيك محرر موقع رمان الإلكتروني وأعاد نشرها، وأرى أنها مقابلة مهمة لفهم إميل حبيبي وأدبه.
لقد أثارت العبارة «أنا هو الطفل القتيل» فضولي، فإميل عاش ستة وسبعين عاماً، وتأكدتُ من أنه لا يقصد القتل البيولوجي.
يروي إميل في المقابلة عن طفولته وعن أسرته، وعن اهتمامه بالأدب والسياسة، وعن العرب الباقين في أرضهم، يوم قامت الدولة الإسرائيلية، كما يروي عن الأنظمة العربية وتخلّيها عن فلسطين، بل وعن إسهام قسم منها في ترحيل الفلسطينيين خارج ديارهم وترك من تبقى منهم كالأيتام على مأدبة اللئام، كما يقص عن عزلة الباقين الأدبية وعن ثقافتهم العربية وحرصهم، رغم ذلك، على لغتهم. لقد عاشوا منسيين كما لو أنهم قتلى.
وذكرتني قراءة المقال أيضاً بما رد به في روايته «المتشائل» (١٩٧٤) على أسطر محمود درويش الشعرية:
«نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً».
يكتب إميل معقباً:
«ولم يدر، إلا أخيراً، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيا منسياً».
ولطالما كتبت عن الطفولة الفلسطينية المنتهكة المسلوبة وأبرز ما كتبته هو عن طفولة محمود درويش نفسه - وأنا أدرس دال الطفولة في «جدارية» ( ٢٠٠٠ ) في ضوء أشعاره السابقة «الطفولة: لم أكن طفلاً سعيداً».
وأنا أتابع ما يجري في غزة لم يمرَّ يوم من الأيام الأربعمائة لأيام الحرب دون الالتفات إلى ما يلمُّ بالأطفال الذين يربو عدد القتلى منهم على الثمانيةَ عشرَ ألفاً، عدا الآلاف المشوهة منهم، واحترتُ كيف نصنّف الكتابة عن الأطفال في غزة الآن:
- الطفل الناجي
- الطفل المسروق
- الطفل المنسي
- الطفل القتيل
- الطفل المشوه
- الأجنة.
ربما يرى كثيرون منا أن قطاع غزة كله معاً ودفعة واحدة هو طفل العالم العربي القتيل الجديد كما رأى إميل حبيبي في الفلسطينيين الباقين في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ الطفل القتيل في حينه، وكان واحداً منهم وكان يمكن أن يموت في أية لحظة، هو ابن العائلة المكونة من تسعة أفراد، سبعة ذكور وأنثيان وحين عاد من المنفى وبحث عن والديه اللذين تركا حيفا إلى قريتهم شفا عمرو وجد أمه فقط، فقد توفي أبوه وهاجر إخوتُه إلى لبنان.
كم صفحةً يحتاج الكاتب إن رصد مآسي الأطفال في غزة، بل كم مجلداً، وكم رواية سيكتب الروائيون عن هؤلاء الأطفال الذين تجاوز عددهم الـ ١٨ عشر ألفاً، وكم قصيدة سيكتب الشعراء؟!
ما من متابع لما يجري إلا ألم بقصة الدكتورة آلاء القطراوي المتخصصة في الأدب العربي والتي تكتب أيضاً الشعر. لقد فقدت أطفالها الأربعة إذ قصف بيت جدتهم حيث كانوا يقيمون، وظلوا ثلاثة أشهر تحت الأنقاض قبل أن يُعثر على جثامينهم ويُدفنوا في قبور. كتبت أمهم الشاعرة فيهم قصائد تقطر ألماً وتفيض حزناً حتى نعتها بعض الكتاب بـ «خنساء» فلسطين كما لقبوا فدوى طوقان بهذا من قبل؛ فدوى التي رثت إخوتها وأباها وآخرين من أبناء عائلتها ورموز الحركة الوطنية.
ما عليك إلا نأن تتابع بعض الصفحات لتقرأ عن تايلا أخت توجان وتولين اللتين أتيتُ على ذكرهما في المقال الماضي، أو عن يوسف أبو شعر كيرلي، أو عن ديما محمد عوكل وشقيقتها ريما اللتين ارتقَتا في ٢٨ / ١٠ / ٢٠٢٤، بصحبة والدتهما سهاد محمد النجار في مخيم جباليا، في الوقت الذي يقبع فيه الأب / الزوج في السجن.
وتابع صفحة «أخبار غزة. متابعة» لتشاهد صورة عائلة لستة عشر طفلاً مع رجل كبير من العائلة تم محوها بالكامل ( ٥ / ١١ / ٢٠٢٤ ) .
وثمة صور تقطع نياط القلب لأمهات دفنَّ أبناءهن في الرمال وعُدن يبحثن عن قبورهم وأخذن يندبنهم.
ومما قرأته في صفحة «منار أيمن - متابعة» صرخة امرأة تقول «أولادي ٣ يا عالم... دوّروا بلكي بلاقي لي واحد عايش».
هل اختلف الأمر في جنوب لبنان؟
عنوان المقال هو «الطفل الفلسطيني القتيل» ولربما تتبع كاتب لبناني مأساة أطفال لبنان أيضاً، وقد لفت نظري وأنا أبحث في الموضوع صورة لأربعةِ أطفال قتلوا في ٣٠ / ١٠ / ٢٠٢٤ وكتب تحت الصورة «شهداء بلدة الصرفند اليوم».
النكبة مستمرة والمأساة أكبر مما نتصور و»أبكيكِ دماً يا طفولتي»!

***

57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»

في صفحة يافا أبو عكر على «فيسبوك» تقرأ السطرين الآتيين: «النوم في الخيم كفيلة تخليك تحقد على كل العالم .. إحنا مش بخير».
عندما أدرجتُ ما كتبت يافا على صفحتي، قرأتُ التعليقات الآتية: «وأنت تعد فطورك.. لا تنس شعب الخيام»، و»كل الحق معك الله يفرجها»، و»حسبنا الله ونعم الوكيل»، و»نعم صدقت»، و»لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، و»المهم حكام العرب بخير وعافية»، و»في الصميم»، و»كلّ ما يحدث حالياً يجعلك تحقد على العالم»، و»والله إحنا لا يعلم بحالنا إلا الله»، و»النومة حلوة في الخيمة بس لو في أمن وهداة بال مثل بيت الشعر»، و»نعم لصناعة الرغيف لا لصناعة الصواريخ»، ولا نريد الرياح الشرقية»، أما في صفحة يافا فتلحظ، بعد ثلاثة أيام من نشرها السطرين ٣٣١٩ إعجاباً و ٣٤٧ تعليقاً، وما لا يقل عن ٢٩٠٠ مشاركة.
وتقرأ في صفحتها فقرات أخرى تصوّر ما ألمّ بأهل قطاع غزة، ومنها: «في غزة.. قد لا يتسنى لك الحصول على بطانيّة تلتحف بها إلا حين تصبح جثة؛ معظم هؤلاء الشهداء المكفنين لم يجربوا شعور الغطاء منذ ١٤ شهراً، وهؤلاء الذين منحوهم أغطيتهم الوحيدة يفعلون ذلك أملاً أن يجدوا مثلها إذا استشهدوا».
أو «تخيّل إلك سنة وأكثر عايش تتخيل كل لحظة كيف حينزل عليك الصاروخ»، و «ما أصعب هذه الليلة.. صوتُ غول السماء لا يفارقنا.. قريباً قريباً جداً منّا.. صوتٌ مرعبٌ لطيران الاستطلاع في المواصي».
وتعرض يافا صورة مئات الغزيين يتدافعون على التكايا بأيديهم صحونهم، وتكتب مُعلّقة: «المجاعة والمأساة في مدينة غزة تتجلى في هذه الصور.. يتجمع المئات حول التكية لمحاولة الحصول على حصة من العدس والبقوليات ليسد رمق جوعهم.. هذه مشاهد لم نعهدها من قبل، ولم يصل الناس والأطفال لهذه الدرجة من التحمل لولا المجاعة الحقيقية»، مضيفة: «صرخات أهالي الشهداء بمجزرة قصف مقهى بالمواصي هزت مشفى ناصر وهزت بدني.. يا الله اجبر قلوبهم يا الله».
«نازحون من الخيام ذهبوا إلى خيمة أوسع يسميها البؤساء (كافي شوب هابي تايم)/ في منطقة مواصي خان يونس، ليفتحوا شبكة نت ضعيفة وبائسة مثل أحوالهم، لعلهم يقرؤون خبراً جميلاً يمنحهم أملاً».. «عشرة أقمار صعدت أرواحهم وعدد آخر من الجرحى بعد أن باغتهم صاروخ».. «حلّ الليل على أهل غزة، باتت الأمنية الوحيدة هنا أن لا يأتي الظلام ويخيّم على المدينة المقهورة.. لا نريد أن نموت وننتظر الصباح ليجدوا أشلاءنا وما تبقى من جسد تشاهد بدل المرة ألف».. في الليل تدفن آلاف القصص التي تنتهي صباحا بـ»هنيئاً وجدنا جثته.. إنه شهيد شهيد». وكان ذلك شيء ممّا كتبته يافا في الفترة من ١٠ إلى ١٣ تشرين الثاني الجاري، ويمكن أن تتابع صفحتها لتقرأ المزيد عن الأيام السابقة.
موقع (N12) الإسرائيلي نشر تقريراً عمّا يجري في قطاع غزة عززه بشريط فيديو لمئات النازحين من مكان إلى آخر، ويسأل فيه المراسل عدداً من بسطاء أهلنا هناك، من نساء وأطفال، عن رأيهم فيما آلوا إليه والمسؤول عما جرى ويجري.
لا النساء كبيرات السن ولا الأطفال قرؤوا الشاعر اليهودي النمساوي إريك فريد، ليتلو على مسامع الجندي مقطعاً من قصيدته: «اسمع يا إسرائيل»، يقول فيه: «فتّش عن الأسباب»، والأسباب معروفة بدأت في العام ١٩٤٨، بل ومنذ بداية المشروع الصهيوني القائم على مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ولاحقاً على مقولة «أرض أكثر وعرب أقل» ، وفي الأدبيات الصهيونية على مقولة «العربي الجيد هو العربي الميت».
تحمل المرأة الفلسطينية العجوز التي تعاني، منذ السابع من أكتوبر، الويلات، تحمل أمتعتها على ظهرها، وبقجتها بيديها، ومثلها أطفالها أو أحفادها، وتبحث عن مكان جديد وطعام وشربة ماء حتى لا تموت من الجوع أو العطش، ويسير وراءها البقية الباقية من العائلة، ولكي تتمكن من المرور عبر الحاجز الإسرائيلي وتنجو تضع المسؤولية على حركة حماس.
الحق يقال إن ما يمرّ به أهل قطاع غزة الآن أقسى بكثير ممّا مر به أجدادنا وآباؤنا ونحن أيضاً مواليد الخيام في خمسينيات القرن العشرين.
في العام ١٩٤٨ هجر ٦٥٠ ألف فلسطيني وسكنوا أولاً في المدارس والجوامع ثم في الخيام حتى ١٩٥٨، وفي العام ١٩٦٧ أقيمت في الأردن مخيمات جديدة للنازحين، كالبقعة وشنلر، استمرت لفترة حتى استبدلت بيوت الصفيح بالخيام، ووقف اللاجئون والنازحون أيضاً طوابير طوابير؛ أمام عين الماء ومراكز التموين وتوزيع الإعاشة الشهرية والمطاعم والحمامات، وغيرها.
«إحنا مش بخير»، تكتب يافا أبو عكر، ونحن أيضاً، بقية الفلسطينيين غير المقيمين في غزة، لسنا بخير.. و «لسّة طويلة».

***

58- غزة: مأساة النرجس... ملهاة الفضة

في قصيدته «مأساة النرجس... ملهاة الفضة»، يقول محمود درويش: «كانوا يعيدون الحكاية من نهايتها إلى زمن الفكاهة.. قد تدخل المأساة في الملهاة يوماً.. قد تدخل الملهاة في المأساة يوماً.. في نرجس المأساة كانوا يسخرون من فضة الملهاة، كانوا يسألون ويسألون: ماذا سنحلم حين نعلم أن مريم امرأة؟» (1990).
وفي أمثالنا نقول: «شرّ البليّة ما يُضحك»، وذات مرة، عنون الشاعر علي الخليلي أحد دواوينه بـ»الضحك من رجوم الدمامة» (1977)، ولا شك أنه كان قرأ رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974)، التي يمزح فيها الجد بالهزل، ويواجه الواقع المأساوي الذي عاشه فلسطينيو 1948 الباقون بالضحك والفكاهة والسخرية، وهو ما عززه حين كتب روايته «لكع بن لكع» (1980)، ودعانا إلى أن نضحك، فقال فيها: «ولولا خوفي من أن ينتبهوا إلى هذا السلاح فيُشرّعوا قانوناً يحظرون به عليكم ماء البحر والضحك لأغرقتكم بالضحك».
وحجة إميل أن الضحك يطلق اللسان ويشفي من خرس.. إنه سلاح ماضٍ ذو حد واحد، وإن قيل لمن يضحك إنه قليل أدب، فمثلنا يقول: «الضحك من غير سبب قلة أدب»، فلنكن قليلي أدب، فشر البلية ما يضحك.. وهل هناك بليّة أكثر مما نعيشه منذ العام 1948؟
وفي غزة، أثناء المقتلة منذ 7 أكتوبر، ثمّة كتابات لم تخلُ من حسٍ ساخر أو فكاهي أو تهكمي أيضاً، وهو ما بدا في كتابات أكرم الصوراني، أو في فيديوات الشاب عبدو بطاح، أو في منشورات من لم ترقَ لهم خطابات أسامة حمدان أو خالد مشعل أو طاهر النونو وغيرهم من قيادات تقيم في الخارج، أو منشورات وفيديوات من تابعوا خطابات نتنياهو وغيره من القيادات الإسرائيلية، وخير مثال على ذلك ما قدمته ليلى عبده، وهي مقدمة برامج من الناصرة، تحت لافتة «شو قالوا بالعبري» وآخرون ممن قرأت لهم بعد طوفان الأقصى، ولم أكن قرأت لهم من قبل.
وأنا أتكاتب مع بعض كتاب قطاع غزة، كتبت لهم، إنه إن كان لهذه المقتلة والمهلكة من إيجابيات، ومن المؤكد أن لها إيجابيات على الرغم من المآسي الكثيرة غير المحتملة، فمنها أنني تعرفت إلى جيل جديد من كتاب غزة لم أقرأ له من قبل، وأسهمت في إعادة نشر نتاجه الأدبي والتعريف به في مواقع إلكترونية أو في صفحتي في الفيسبوك.
في الحرب، تعرفتُ إلى كتابات أكرم الصوراني، ومريم قوش، وآلاء القطراوي، وناصر رباح، ويوسف القدرة، ويسري الغول، وآخرين كثر.
قبل الحرب، لم أكن قرأت لأكرم الصوراني أي نص، علماً أنه أصدر ثلاثة كتب عرفها كتاب غزة وحاوروه فيها واستمعوا إليه يقرأ منها، وكتبه الثلاثة ساخرة في أسلوبها، وهو ما يبدو من خلال عناوينها: «وطن خارج التغطية»، و»وطن نص كم»، و»وطن شو اسمه»، وفيما قرأته له من نصوص أو ما سمعته في أشرطة فيديو، لاحظت تحويله المأساوي إلى هزلي تهكمي.
يتلاعب الكاتب بالمفردات، فيستبدل مفردة بأخرى أو حرفاً بآخر أو يسقط نقطة من مفردة ليتحول المعنى من جاد إلى ساخر ومن مأساوي يثير الحزن والأسى إلى هزلي يثير الضحك.. هكذا تصبح الشهادة شحاتة والخيمة خيبة «خيمتنا/ خيبتنا»، و»خيمة تخيبنا»، ومن الأمثلة أيضاً على ذلك أن يقرأ قصيدة محمود درويش «سجل أنا عربي» بإسقاط النقطة من جيم سجل، لتغدو «سحل أنا عربي»، ومن القصائد الشهيرة التي تلاعب بها قصيدة تميم البرغوثي «في القدس».. هكذا تغدو عبارة «في القدس من في القدس إلا أنت»: «في غزة صفينا على الأسفلت، في غزة من في غزة إلا أنت، لكن في غزة لا ترى إلا الموت»، والنص كاملاً قرأه من خلال راديو «بيت لحم 2000»، وأدرجه بصوته على صفحة الفيسبوك الخاصة به في ١٩ تشرين الثاني الجاري.
وعلى غرار التلاعب بالنصوص الشعرية، لاحظنا أن هناك تلاعباً بالأغاني، وهو ما فعله أحمد أبو العنين، الذي نزح من شمال غزة إلى الجنوب، إذ تلاعب بكلمات أغنية «كان عندي غزال»، وغناها لتتلاءم مع وضع النازحين وحنينهم إلى بيوتهم وسكنهم، وصار السطر «كان عندي شمال».
ومنذ بداية الحرب، حاول الفتى اليافع عبود بطاح أن يخترع لنفسه شخصية صحافي يغطي وقائع الحرب بأسلوب كوميدي ساخر، ولاقى نجاحاً لافتاً، وصارت مقاطع الفيديو التي يظهر فيها تحقق انتشاراً لدرجة أن بعض القنوات الفضائية التفتت إليه وغطت نشاطه عبر بعض تقاريرها.
مع مواصلة الحرب، ودخولها شهرها الثاني عشر، اعتقل عبود، حيث عرفه جندي إسرائيلي وناداه وأخبره أنه تابع نشاطه الكوميدي الهزلي وهدده بأنه سيقتله.. لم ينفذ الجندي تهديده، ولم تُخِف عبود الحفرة التي وضع فيها، وكان أن أفرج عنه وتحدث للصحافة عما حدث معه، ونعت الجنود بالجبن.
وأنا أنظر في صورة عبود وأقارنها بصورته التي رأيته عليه في شهر الحرب الأول، انتبهت إلى ما فعلته الحرب بجيله.. لقد حولتهم إلى هياكل والطريف أن شخصية عبود المرحة بقيت على سابق عهدها.. فقرات كثيرة كتبت عن مزج الجد بالهزل.
اللافت هو البرنامج الذي قدمته ابنة الناصرة ليلى عبده «وطريقتها ولهجتها وحركاتها أيضاً.. لقد سخرت وتهكمت، عدا أنها اطلعتنا على ما تقوله الصحافة العبرية، ولاقى برنامجها نجاحاً لافتاً».
واللافت أيضاً هو السخرية من «بن غفير» في شهر أكتوبر 2024، الذي ازداد فيه عدد القتلى والجرحى الإسرائيليين.. لقد نسب إلى «بن غفير» أنه يريد أن يلغيه من التقويم السنوي.
ولم يختلف الأمر فيما يخص أسامة حمدان وخالد مشعل.. سخر منهما شكلاً وسخر من بعض ما تفوها به، وصارت عبارة الأخير عن خسائرنا التكتيكية، وخسائر العدو الاستراتيجية مكان تندّر.

***

59- مكتبات غزة وكتب أبنائها في الطوفان

غالباً ما كنت أسمع المقولة الآتية: «القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ» وفي رواية أخرى و»يافا تقرأ»، فقد كانت يافا، قبل العام ١٩٤٨، حاضرة فلسطين.
في نكبة العام ١٩٤٨ فقد الفلسطينيون مكتباتهم، وصادرها الإسرائيليون وأودعوها في مكتبة الجامعة العبرية التي صارت محج دارسي الحركة الثقافية الفلسطينية ممن يدرسها قبل العام ١٩٤٨، وقد كتب الكثير من المقالات عن مكتبات الأدباء الفلسطينيين الذين غادروا بيوتهم عام النكبة مثل خليل بيدس وخليل السكاكيني.
بعد العام ١٩٤٨ تغنى الشعراء الفلسطينيون في قصائدهم بالكتاب. تغنى سميح القاسم بمكتبة صغرى (ما دامت لي من أرضي أشبار) وكتب محمود درويش عن أبيه الذي يجوع حتى يشتري لأبنائه كتاباً (رسالة من المنفى)، ولطالما قرأنا لفلسطينيي المنافي كلاماً يثير الشجن عن مكتباتهم التي تركوها في المدن التي أقاموا فيها واضطروا أن يغادروها لأسباب متعددة: النفي والطرد والخروج الجماعي الإجباري من هذه العاصمة أو تلك، أما أدباؤنا الباقون المقيمون تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد العام ١٩٦٧ فقد قصوا الحكايات عن مصادرة كتبهم في أثناء اعتقالهم، بل وعن محاكمتهم بسبب كتاب وجد في مكتبتهم ليلة اقتحام منزلهم وتفتيشه.
المرة الوحيدة التي صعدت فيها في دورية إسرائيلية - أي جيباً عسكرياً -، علما أنني فلسطيني عادي - كانت بسبب مجلات ضبطت بحوزتي.
كنت عائداً من القدس وحملت معي من جريدة «الشعب» - التي كنت أحرر صفحتيها؛ الأدبية والثقافية - بضع مجلات كانت تصدر في قبرص.
وأنا على دوار المدينة/ نابلس اشتبه جندي بما أحمل فاستوقفني وفتشني ووجد معي أعداداً من مجلة «الأفق» وأقلني في الجيب العسكري إلى مقر الحاكم العسكري.
كان اليوم يوم سبت وانتظرت ساعة ساعتين ثلاث ساعات لأقابل الضابط المشغول، ثم مل الجندي على ما يبدو وأعاد لي المجلات وأطلق سراحي، وكنت قلت له إن المجلات أدبية الطابع وأنا محرر أدبي في صحيفة.
في طوفان الأقصى وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أمام الصحافيين وبيده كتاب المستشار الألماني (أ.د.و.لف ه.ت. لر) « كفاحي Mein Kam pf « وقال غاضباً:
- انظروا ماذا وجدنا في مكتبات الغزيين!
ولسوف يخبرني كاتب غزي أن النسخة التي عثر عليها الجنود كانت على مكتبه في بيته الذي غادره في بداية الحرب إلى الجنوب واقتحمه الجنود لاحقاً.
وأنا أكتب في بداية الحرب يوميات عن رواية يحيى السنوار «الشوك والقرنفل» شعرت بالخوف لمدة ستة وثلاثين يوماً، وكلما سمعت في منتصف الليل صوت سيارة قلت:
- لقد شرفوا لاعتقالي.
وتحسباً لاتهامي بالنازية أو أنني حمساوي فقد وضعت كتاب «كفاحي» إلى جانب رواية السنوار وفوقهما كتاب نتنياهو نفسه في ترجمته العربية «مكان تحت الشمس»، فإن سئلت عن كتابي هتلر والسنوار أجبت بأنني أقرأ كتب السير الذاتية للعظماء وها هي سيرة عظيمكم أيضاً، فهل أنا نازي أم حمساوي أم صهيوني؟
في الحرب دمر الجيش الإسرائيلي المباني على رؤوس أصحابها وعلى كل ما فيها أيضاً. هدم الجامعات والمشافي وأبنية المؤسسات العامة والخاصة ولم تنجُ الكنيسة ولا الجامع، وفي هذه كلها مكتبات عامة وشخصية، وعندما عز غاز الطبخ ووقود أفران الخبز وخشب الطابون جمع الناس الأوراق والأعشاب وقوداً، ولما عز هذا كله استعانوا بالكتب، وأطرف ما شاع في الأسبوعين الأخيرين هو قصة الدكتور محمود عبد المجيد عساف الذي عد من أفضل عشرة تربويين في العالم العربي وحصل في الحرب على جائزة وله ما لا يقل عن ثلاثين مؤلفاً وعشرات الأبحاث.
اتصل صاحب مخبز بالدكتور يعرض عليه شراء مكتبته المكونة من ثلاثين ألف عنوان، وأنفق عمره في جمع كتبها، لكي يستخدم كتبها وقوداً للفرن، فاحتار الدكتور وكتب قصته مع مكتبته وشعر بالحزن، بخاصة أنه بحاجة إلى ما يسد به رمق عائلته، وصارت حكاية مكتبته وبيعها حكاية تناقلتها الصحف والمواقع وقابلته بسببها الفضائيات.
من أسبوع تقريباً كتبت القاصة مريم قوش المقيمة في غزة بضعة أسطر مرفقة بصورة عن مآل نسخ من كتبها.
صار الباعة يستخدمون أوراق نسخ كتبها للف ما يبيعونه من بهارات.
أحرق المغول كتب بغداد لأنهم توحشوا، وأحرق أبو حيان التوحيدي كتبه لأنها جلبت له المصائب، وماذا فعل أعداء فكر ابن رشد بكتبه؟ وأما أنا فقد نشرت قصة «أبو حيان التوحيدي يحرق كتبه ثانية» لتبيان مدى ما ألحقته كتاباتي بي من أذى لتأويلها تأويلات بعدد قرائها وحسب تصورهم المسبق لي وما يسمعونه من حكايات تروى عني (جريدة الأيام الفلسطينية ٢٢/ ٢/ ٢٠٠٠).
عندما كتبت نص «ليل الضفة الطويل» شكلت لي إدارة جامعة النجاح الوطنية لجنة تحقيق لتسألني عمن أشرت إلى أسماء قريبة من أسمائهم، فصرت مثل عبد الله بن المقفع في مسرحية معين بسيسو «محاكمة كتاب كليلة ودمنة» وبدلاً من أن أحرق في التنور وأرتاح صرت كاتباً ملاحقاً يعيش في المنفى على أرض وطنه.
ما علينا!
أتمنى من كتاب غزة وأدبائها وأمناء مكتباتها العامة أن يدونوا ما ألم بمكتباتهم ووصف حسراتهم على فقدانها.

***

60- من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات

(لماذا تكون القصيدة بيضاء والأرض سوداء جدا؟ «محمود درويش»)
في صيف العام ١٩٩٧، كتبت سلسلة كتابات تناولت فيها الأدب الفلسطيني قبل أوسلو ١٩٩٣ وبعده ونشرتها في جريدتي «الأيام» و»البلاد» الفلسطينيتين تحت عنوان «أدب السلم.. أدب الخيبة»، وبعد عام، تشجع لها الشاعر المرحوم أحمد دحبور فقدم لها ونشرها ضمن سلسلة «كتب نقدية» التي أشرف عليها وأصدرتها وزارة الثقافة الفلسطينية، وهمس لي بعد نشرها أنه لم يسأل عن كتاب نشره إلا عن كتابي وكتاب آخر لم يذكر لي اسمه ولم يستبد بي الفضول لمعرفة عنوانه وصاحبه.
حتى جريدة «البلاد» التي أصدرها أسعد الأسعد وتشجع لنشر ما أكتب فيها ونشر أكثر ما كتبت لم ينشر المقال الأخير، وعرفت أن نغمة المقالات غير مرضي عنها، فنحن نعيش مرحلة سلام ولا ضرورة للتنغيص عليها.
عندما نشرت الكتاب، غيرت عنوان المقالات الرئيس «أدب السلم.. أدب الخيبة» وجعلته «أدب المقاومة.. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات»، وفي مقدمته كتب أحمد أنني أقرأ المغني قبل أن أقرأ الأغنية، لأنه لاحظ أنني تتبعت مواقف الأدباء المدروسين، قبل أوسلو ثم ما آلوا إليه بعدها، وانضواءهم في مؤسسات السلطة.
كانت الأوضاع الفلسطينية في حينه، من جميع نواحيها، أفضل مما هي عليه الآن بما لا يقاس. ثمة هدوء واستقرار وانتعاش اقتصادي وتنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة وسفر إلى الخارج ومطار فلسطيني وآمال عراض بأن قيام دولة فلسطينية قاب قوسين وأدنى. لم تكن الضفة الغربية جزرا تفصل بينها حواجز ولا كان قطاع غزة محاصرا ولم يكن هناك سلطتان منفصلتان ولم يكن هناك حروب وقتل دموي و ... و ... .
منذ العام ٢٠٠٧، عرفنا الانقسام وشهد قطاع غزة سلسلة حروب مع الإسرائيليين وهاجر شبانه إلى المنافي وضاقت فرص العمل وساد الفقر وقد انعكس هذا كله في الأدبيات الفلسطينية، وأقسى ما عاشه أبناء غزة وعشناه جزئيا معهم بدأ منذ ٧ أكتوبر - طوفان الأقصى، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أكتب يوميات المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة لدرجة أنني لم أقرأ إلا روايات قليلة جدا. لقد صرت مدمن الهاتف، أقرأ نصوصا قصيرة وأشاهد مقاطع لأشرطة فيديو يتمحور أكثرها حول الحرب وأقلها ما يبعث على الضحك والدهشة والغرابة والمتعة للهروب من الضغوطات النفسية التي سببها متابعة أخبار الحرب.
في الأسبوعين الأخيرين، قرأت رواية محمود شقير «منزل الذكريات» بعد أن قرأت كتابه «أنا والكتابة» وأعدت قراءة رواية عارف الحسيني «نص أشكنازي» وأمعنت النظر في نهاياتهما، فدهشت.
كلتا الروايتين/ النوفيلا صدرتا في العام ٢٠٢٤ ونوفيلا محمود تذكر حرب غزة الدائرة حاليا، بخلاف نوفيلا عارف التي يبدو أنها أنجزت قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣.
يكتب شقير عن شيخوخة محمد الأصغر الذي يقارب السابعة والثمانين من عمره وعاش وحيدا بعد وفاة زوجته سناء وخلع زوجته الثانية أسمهان له بناء على ضغوط أخيها جميحان عليها، وبعد إخلاء منزله وخسارة قطعة الأرض التي ورثها من أبيه، نتيجة تحايل جميحان عليه في أثناء اقترانه مع أخته. هكذا يقضي الليلة الأولى في بيت قريبه رهوان خاسرا كل ما لديه، وعندما يزوره في الحلم بطلا روايتي «الجميلات النائمات» للياباني (كاواباتا) و»ذاكرة غانياتي الحزينات» للكولومبي (ماركيز) ويتذكر ما ألم ببلادهما في فترة ما، يتمنى لهما أن يعيشا مع من يحبان ما تبقى لهما من عمرهما بهدوء وبخصوصه نقرأ الفقرة الآتية التي تنتهي بها الرواية:
«أما جنود الاحتلال فقد ذابوا في ثنايا الليل مثل عصابة من لصوص أو مثل قطاع الطرق نهابين. كنا أنا ورهوان نستقبل شمس ذلك النهار ونضحك باستمتاع مثل طفلين خارجين لتوهما من متاهات العتمة إلى فضاء النور في رغبة جامحة واندفاع من أجل حياة كريمة مبرأة من القيود، وعلى مقربة منا وقفت أسمهان مبتسمة مشجعة، وقد تحررت من سطوة أخيها المجرم الشيطان».
ويكتب عارف الحسيني عن القدس وأوضاعها منذ اتفاقيات أوسلو ١٩٩٣ وما أصبحت عليه ويركز على تهويد المدينة وجهود إسرائيل الحثيثة من خلال شراء العقارات بالخدعة والتحايل، ومن خلال التضييق على السكان في حياتهم اليومية، ويفرد مساحة لما جرى في الشيخ جراح حيث أقام المستوطنون في بيوت زعموا أنها تعود إليهم.
على الرغم من أننا نقرأ في الرواية عبارة نبيه «لم يبق للقدس إلا من صمد فيها» وعلى الرغم من أنه يشعر بالخيبة من وقوف سلطة رام الله إلى جانب المقدسيين في الشيخ جراح، وعلى الرغم من اعتقاله والتحقيق معه إلا أنه لم يفقد الأمل بالمستقبل. إن دال «المستقبل» هو عنوان الفصل الثامن الذي يرويه نبيه نفسه وآخر ما نقرأ على لسانه يتحدث مع زوجته حورية بعد خروجه من التحقيق هو:
«- ولا إشي .. ويمكن مش ع زماننا، وأكيد لازم نقبل ونتصالح مع حقيقة إنو القضية لسا مطولة. واحنا بنبني لغيرنا، وغيرنا راح يبني للي بعده. بس بالآخر لن يكون إلا ما نريد يا حورية».
ترى هل تركت أسطر محمود درويش في «حالة حصار» (٢٠٠٣) تأثيرها في الكتاب؟
«هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب/ وفوهة الوقت/ قرب بساتين مقطوعة الظل/ نفعل ما يفعل السجناء/ وما يفعل العاطلون عن العمل:/ نربي الأمل».
أم أن الأمر في حالة محمود شقير يعود إلى قناعاته اليسارية وفي حالة عارف الحسيني إلى قناعات إسلامية تتعلق بدخول الأقصى وإخراجهم منه ثانية؟!

***

61- الكتابة عن النكبة استرجاعا والكتابة عنها في لحظتها

الجدل حول الكتابة عن النكبة استرجاعا والكتابة عنها في لحظتها قد لا يختلف كثيرا عن الجدل الدائر بين كتاب قطاع غزة الباقين وكتاب الخارج.
وهذا الجدل لا يختلف عن الجدل الذي كتب عنه نقاد فن القصة، مثل محمد يوسف نجم، وكتاب النثر، مثل (جان جينيه) «أربع ساعات في شاتيلا» (١٩٨٢)، وخضت فيه كثيرا وأنا أكتب عن روائيين عاشوا في المكان، وكتبوا عنه مثل حبيبي في كتابته عن حيفا، وشقير وعارف الحسيني في كتابتهما عن القدس، وروائيين لم يروا المكان وكتبوا عنه مثل كنفاني في كتابته عن حيفا، وإلياس خوري في كتابته عن المدن الفلسطينية، وواسيني وحسن حميد عن القدس، أو إبراهيم نصرالله عن غزة، وسبب لي عداوات نالني فيها من الهجوم ما نالني، وأبرز ما كتبته هو «القدس في الرواية العربية بين كتاب الداخل وكتاب الخارج» و»على خطى إميل حبيبي» الذي تناولت فيه كتابة خوري عن نابلس.
بانقضاء ١٤ شهرا على طوفان الأقصى ٧ أكتوبر، قرأنا يوميات وقصائد، ولم نقرأ روايات، والروايات القليلة التي صدرت، صدرت في المنافي حيث لم يعش كتابها التجربة من الداخل، ما أثار دهشة أبناء غزة، وربما احتجنا لمزيد من الوقت لنخوض في الفرق بين كتابات أبناء غزة ممن اكتووا بالتجربة وكتابات من سمع عنها وتابعها عن بعد.
يختلف الأمر بخصوص نكبة ١٩٤٨. ومع أن الرواية لم تكن فنا مزدهرا في ٥٠ القرن ٢٠، إلا أن الشعراء وكتاب القصة القصيرة ممن تناولوها كان جلهم ممن اكتووا بنارها وعاشوا اللجوء؛ من خليل زقطان إلى سميرة عزام فكنفاني أيضا وغيرهم، وحتى حبيبي الذي استقر به المقام في حيفا عاش بعض فصولها، فعندما وقعت عاد إلى وطنه وكتب في «المتشائل» عن هذا.
إن تاريخ ما كتبه المذكورون لم يكن بعيدا عن حدث النكبة، ولكننا بعد عقود صرنا نقرأ لكتاب لم تتجاوز أعمارهم يوم حدثت السابعة من العمر، وهنا أشير إلى يحيى يخلف ومحمد الأسعد ورشاد أبو شاور ورسمي أبو علي، وتلاهم إبراهيم نصر الله وحزامى حبايب وإلياس خوري، ممن ولدوا بعد حدوثها.
كتب يخلف عن النكبة في قصصه القصيرة المبكرة وبعض قصصه الطويلة، ولكنه لم يقاربها في رواياته إلا منذ ١٩٩٠ في «بحيرة وراء الريح» التي وصف فيها قريته سمخ وهجرة أهلها منها، وعاد في القرن ٢١ ليكتب عن النكبة في «ماء السماء» (٢٠٠٨) و»جنة ونار» (٢٠١١). لقد كان الفارق الزمني بين زمن النكبة وزمن كتابتها أكثر من أربعة عقود، وهذا يعني أن الكتابة تتكئ على الذاكرة وتتشكل أيضا من وعي لاحق.
ومثله رشاد أبو شاور. إن ما أنجزه عن النكبة - وقد عاش هو هذه الآثار في مخيمات بيت لحم وأريحا - برز أولا في «العشاق» (١٩٧٣)، ولكن اللافت أنه كتب في القرن ٢١ روايتين عن الهجرة في ١٩٤٨ وآثارها، وهما «وداعا يا زكرين» (٢٠١٦) و»ليالي الحب والبوم» (٢٠١٨)، وقد صور في الأولى طفولته في قريته، وفي الثانية حياته في الخيام والمخيمات وبيوتها.
هل اختلف عنهما رسمي أبو علي في «الطريق إلى بيت لحم» (١٩٨٣) أو محمد القيسي في «كتاب الابن: سيرة الطرد والمكان» (١٩٩٧) أو محمد الأسعد في «أطفال الندى» (١٩٩٠)؟
لا! لم يختلفوا. كتب الأول روايته الوحيدة بعد ثلاثة عقود ونصف من الهجرة، مسترجعا ما عاشه في الأعوام ١٩٤٨- ١٩٥٢، وكتب الثاني كتابه بعد أربعة عقود ونصف وتذكر رحلة خروجه من قريته كفر عانة وحياته في مخيم الجلزون حتى ١٩٦٦ تقريبا. ولم يختلف الأسعد الذي استرجع رحلة الخروج من أم الزينات ومعاناة الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى العراق.
لقد ولد هؤلاء في النصف الأول من أربعينيات القرن ٢٠، ما يعني أنهم عاشوا اللجوء مجسدا في الطرد والقتل والسكن في الخيمة لمدة عقد من الزمان.
أدرك الأسعد الفارق بين الكتابة عن الحدث في لحظة جريانه والكتابة عنه بعد عقود، فكتب:
«لو كان لي أن أكتب هذه الرواية قبل سنوات، لاستطعت استقصاء الطرق بصورة أفضل، ولربما حفظت أسماء تغيب عن ذهني الآن، وأماكن لا أجدها واضحة حتى في الرواية الأصلية نفسها، فما يقال الآن، يقال باختصار شديد».
إنه يعي تماما الفارق المهم في الكتابة عن زمن مسترجع والكتابة عنه في لحظته، وتعد ملاحظته السابقة، وأسلوبه أيضا في الكتابة، حيث كان يكتب ما روته له أمه حين كبر، من أهم وأخطر ما كتب لمن يريد أن ينظر لفن الرواية موضحا مصطلحي الزمن الكتابي والزمن الروائي وتأثير الأول على الثاني ومدى صدق الكتابة ودقتها في أثناء تطابق الزمنين أو افتراقهما - أعني أن يكتب الكاتب عن الحدث في لحظة جريانه وأن يكتب عنه بعد عقود من حدوثه، ومثل المصطلحين مصطلح السرد نفسه صاحبه ولغته وأسلبتها، بل ولغة الشخصية ومستواها وإدخالها في نهر (ليثي)... إلخ.
في الحرب على غزة كتب عنها كتاب يقيمون هناك وكتب عنها كتاب من الخارج، ولكم كان الفارق واضحا، ولكم أثار هذا جدلا بين الفريقين.

***

62- الكتابة عن القدس ونابلس: عارف الحسيني وسحر خليفة وغيرهما

في الكتابة عن «طوفان الأقصى» توقفت أمام الكتابة من داخل غزة والكتابة من خارجها. شغلني الموضوع وشغل كتاب غزة الذين لم يرق لقسم منهم ما نكتبه، فما نكتبه هو كتابة من يده في الماء لا في النار؛ كتابة المسترخي على كنبه لا الجالس في خيمة، كتابة الشبعان الريان لا كتابة الجائع العطشان، فمهما حاولنا أن نعبر عن أحوالهم وأن نصفها، فإن تعبيرنا لا يعبر عما يعانون منه.
في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب كان عاطف أبو سيف يكتب من مخيم جباليا ومن رفح، وكنت أكتب من نابلس، ويستطيع أي ناقد لما كتبه كلانا أن يرى الفرق في الأسلوب ودقة الوصف وتتبع التفاصيل، فبينما كان يكتب عن هدم البيوت وموت سكانها وجوعهم وفقدان الأصحاب ورثائهم، كنت أكتب كتابة تتكئ على ما أقرؤه وما أسمعه وما تحفل به الذاكرة من أحداث مر بها الفلسطيني وكتب عنها.
هكذا حفلت نصوصي بنصوص أدبية فلسطينية أنجزها أدباؤنا منذ قصيدة عوض «ظنيت إلنا ملوك» مروراً بأشعار إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وسميرة عزام فغسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهم، وهذا كله لن تجد منه شيئاً فيما كتبه عاطف.
في ٢٦/ ١٢/ ٢٠٢٤ كتب محمود شقير مراجعة نقدية لرواية المقدسي عارف الحسيني، فعقبت عليها مركزاً على أن ما كتبه عارف عن القدس من حيث تصوير البلدة القديمة وعاداتها وتقاليدها لن تقرأ شبيهاً له في كتابات كل من كتب عنها، حتى في كتابات روائيي القدس مثل محمود شقير وجميل السلحوت وإبراهيم جوهر وعزام توفيق أبو السعود وعيسى القواسمي وآخرين، وقد أخذ الكاتب شقير برأيي فيما يخصه هو والسلحوت وجوهر، فالثلاثة من القدس ولكنهم ليسوا من البلدة القديمة. إنهم من ريفها. ولا أعرف لماذا احترز فيما يخص أبو السعود والقواسمي. أيعود إلى أن نصوصهما لم تحضر في ذهنه حضور نصوص الاثنين اللذين ذكرهما؟
والصحيح أنني عدت إلى ثلاثية أبو السعود ثانية «حمام العين وصبري وسوق العطارين» لأتأكد من دقة حكمي، وهو حكم أصدرت مثله مفصلاً حين كتبت عن القدس في رواية الداخل وفي رواية الخارج، وأقصد بالأخيرة روايات علي بدر «مصابيح أورشليم» وواسيني الأعرج «سوناتا لأشباح القدس» وحسن حميد «مدينة الله»، فالثلاثة كتبوا عن القدس قبل أن تطأها أقدامهم، ثم زارها الأولان بعد أن صدرت رواية كل منهما.
لقد لاحظت أن الكتابة في ثلاثية أبو السعود في جزأين منها تركز على بلاد الإنجليز «صبري» وعلى الريف الفلسطيني «حمام العين» في زمن لم يكن الكاتب شاهداً عليه - أي قبل العام ١٩٤٨ العام الذي ولد فيه - ويركز الجزء الثالث «سوق العطارين» على أجواء البلدة القديمة ويصف عادات سكانها وتقاليدهم وأعراسهم، ومع ذلك فثمة في ثلاثية عارف وصف أدق وتوقف أمام جزئيات مقدسية لم تبلغها «سوق العطارين» مثل المفردات اللغوية المقدسية واللهجة المدينية المقدسية وأمثال المقدسيين، ثم إن عارف يكتب عن العقود الأربعة الأخيرة - أي عن فترة هو شاهد عليها.
ما لاحظته على رواية القدس لاحظته أيضاً في الروايات التي كتبها أبناء نابلس عنها، مثل سحر خليفة، والروايات التي كتبها عنها من لم يزرها أو لم يقم في حواريها القديمة، مثل رشاد أبو شاور وإلياس خوري.
يمكن أن تقرأ، على سبيل المثال، روايات سحر «عباد الشمس» و»باب الساحة» و»ربيع حار» وأن تقرأ معها رواية رشاد «شبابيك زينب» ورواية إلياس «رجل يشبهني» لتلاحظ الفارق الواضح في وصف العادات والتقاليد النابلسية، عدا دقة وصف المكان والنماذج البشرية المختارة.
في «عباد الشمس» وصف لأجواء الحمامات العامة الداخلية وما تفعله النسوة فيها وما يغنينه بعد الاستحمام.
مثل هذا لن تقرأ مثيله في روايات من يكتب عن المدينة من غير أبنائها، ومثله بعض العبارات النابلسية الصرف، ولا أظن أنها حضرت في روايات سحر لولا تشربها لها وامتلاؤها بعوالمها.
وأنا أكتب عن رواية إلياس المذكورة توقفت أمام ما كتبه عن المكان النابلسي وأمام ما كتبه عن الكنافة وأمام لهجة أهل نابلس، وكان لي ملاحظات عديدة، وعلى الرغم من أن هناك وسيطاً نابلسياً كان بين الكاتب والكتابة عن نابلس إلا أنه لم يتشرب روح المكان ولغته وعاداته بل والإلمام به مثل سحر.
كتبت عما كتبه عن الكنافة وقارنته بما أعرف فلاحظت اختلافاً. كأنما كتب عن الكنافة في بيروت لا في نابلس، ولاحظت أن النكتة المشهورة الشائعة في نابلس لم ترد على لسان أي من شخصياته «إلكن إلكن. كولوهن قبل ما يبردوا». وحين دققت في لهجة شخصياته النابلسية لاحظت أنها تنطق أحياناً اللهجة اللبنانية، فلم يستطع إلياس أن ينسى نفسه ولهجته وهو يكتب عن مدينة فلسطينية.
هناك روائي فلسطيني هو جمال أبو غيدا كتب في روايته «خابية الحنين» عن شخصية نابلسية تمثلها تمثلاً جيداً، علما أنه لم يعش في نابلس، وعندما سألته أنى تم له ذلك، أجابني بأنه عرف هذه الشخصية في عمان حيث أقام وأنه أصغى إليها جيداً (للمهتمين ينظر موقع رمان ١/ ٦/ ٢٠١٨).

***

63- غزة وكتابات أبنائها و«الطوفان»

ما إن انتهيت في فجر يوم ٢٤/ ١٢/ ٢٠٢٤ من كتابة يوميات اليوم الـ٤٤٥ من «طوفان الأقصى»، وعنوانها «ليست إذاً أفلاماً هوليودية»، حتى تواصل معي حسام أبو النصر المقيم في رام الله بعيداً عن ابنته الباقية في غزة، ليعبّر عن رأيه فيما أكتبه من مقالات ويوميات عن غزة، ويسألني لم لا ألتفت إلى كتّاب غزة الذين يقيمون خارجها ويكتبون عن معاناتها الآن في الحرب؟
غالباً ما أتيت، في يومياتي، على كتّاب من جيلي قرأت لهم ودرست بعض نتاجهم، مثل غريب عسقلاني وزكي العيلة ومحمد أيوب وعمر حمش، أو من الجيل الأسبق مثل معين بسيسو الذي أكثرت من الاقتباس من كتاباته النثرية تحديداً، فهو الأكثر شهرة وانتشاراً وتميزاً أدبياً بين مجايليه، ونادراً ما ألتفت إلى غير هذه الأسماء، وإن كنت كتبت في أوقات سابقة عن عاطف أبو سيف وربعي المدهون (لم أدرس مثلاً نتاج رجب أبو سرية ومحمد نصار وعبد الكريم السبعاوي).
والصحيح أنه منذ العام ٢٠٠٠ كدت أنقطع انقطاعاً شبه كامل عن الأجيال الأدبية الجديدة هناك، وإن كنت قرأت لخالد جمعة وإيهاب بسيسو وعثمان حسين وباسم النبريص ووليد الهليس، فلم أقرأ نتاجهم قراءة دارس لأنهم شعراء بالدرجة الأولى، ولم أقارب شخصياً الشعر مقاربتي فنَّي الرواية والقصة القصيرة.
مع «طوفان الأقصى» أخذت أتابع ما ينشره عدد كبير من الكتّاب لم أقرأ لهم من قبل. قرأت لآلاء القطراوي وياسمين العابد ومريم قوش ويوسف القدرة وناصر رباح وأكرم الصوراني وشجاع الصفدي وطلعت قديح وغيرهم، وغيرهم، واهتممت بنتاجهم واقتبست في يومياتي منه.
في الأسبوعين الأخيرين، قرأت المجموعة القصصية الأخيرة لعمر حمش «تغريدة النورس الأخيرة»، وعدداً من النصوص أصدرتها وزارة الثقافة الفلسطينية في مجلة تحت عنوان «رمال حمراء»، وكلها لكتّاب من غزة بقوا فيها وكتبوا عن الحرب، باستثناء كاتب واحد هو حسام الذي كتب، لتكتمل الكتابة، نصاً نيابة عن الكاتبة ابتسام خالد التي أعياه الوصول إليها، فكتب نصاً ضمّنه أسطراً مما كتبت عنونه بـ»النص المفقود» (العدد 1 - خريف 2024/ بلغ عدد المشاركين 29).
بحثت في قصص عمر عما كتبه عن حرب «طوفان الأقصى»، فلاحظت أنها قليلة، لأن كثيراً مما نشره كان كتبه قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. وعمر كاتب من مواليد ١٩٥٣ وأصدر ثلاث روايات وعدة مجموعات قصصية.
وحين يمعن المرء النظر في المجموعة القصصية الجديدة ويبحث عن تواريخ كتابة قصصها، مستعيناً بصفحة الكاتب على «فيسبوك»، فإنه سيكتشف أن معظمها كتب خلال الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، وأن ما كتب إبان حرب «طوفان الأقصى» لا يزيد على العشر قصص، بل إن المرء إن كان قرأ بعض نتاج الكاتب السابق، مثل روايته القصيرة «مفاتيح البهجة»، فسيرى أن بعض قصص المجموعة ظهر في الرواية، كما أن قصة «فراشة البوح» كانت عنواناً لإحدى مجموعاته القصصية، ويبدو أن ما نشرته بديعة زيدان، الثلاثاء الماضي، في «الأيام» الفلسطينية، اتكأ على قصص المجموعة الأولى فقط، أو أنها لم تكلف نفسها البحث عن زمن كتابة أكثر قصص المجموعة.
خذ على سبيل المثال القصص الآتية: «سينما المخيم» و «زلابيا وحمص مقلي وحنتوت» و»حسناء حارتنا» و»أيام الحارة» و»ظهر جدتي»، وأمعن النظر في «مفاتيح البهجة»، فسوف تجدها فيها، وإن دل ذلك على شيء فإنما يعني أن الكاتب يمتح الكثير من طفولته وبيئة المخيم، ويظل يعود إليها لأن أحداثها تركت أثراً عميقاً في وجدانه ولا وعيه.
اختار عمر جنس «قصص قصيرة» جنساً أدبياً لمجموعته الأخيرة، وأكثر قصة فيها لا تزيد على صفحتين ونصف الصفحة، وأكثرها يقع في ثلثي صفحة، ما يدفع الناقد إلى مساءلة صواب القاص في التجنيس.
والقصص القليلة التي كتبت أثناء الحرب تأتي على معاناة الناس منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، فتصوّر نزوحهم وحياتهم في الخيام، كما في «صمود» و»نحن والقمر» و»أمواج»، وموتهم في البحر غرقاً وهم يلتقطون الإغاثة كما في «إغاثة من الجو»، وتوزيع المساعدات غير العادل كما في «لحم دجاج في الخيام»، ومشاكل التفاهم بين الأزواج ذوي العاهات كما في «طبق يدور»، والسرقات بعد هدم البيوت واقتحامها كما في «لصوص». وقد أدرج القاص هذه القصص في مقدمة المجموعة لنقرأ بعدها قصصاً نشرها قبل أكتوبر ٢٠٢٣.
بخلاف ذلك، فإن عدد المجلة المذكورة «رمال حمراء» يحفل بنصوص كتبت عن «طوفان الأقصى» تنوعت أشكالها الأدبية بين الخاطرة والسرد والشعر والانطباعات، وكلها تأتي على الفقد والخذلان والموت والجوع والخيام والحنين إلى المنزل/ البيت.

***

64- هوامش من وحي ما يجري في غزة (1)

١ - كما لو أنني سارد محايد!
كيف أكون فلسطينياً وأنا أتابع أخبار ما يجري في غزة؟
هل أكون مثل السارد الإله الذي يعرف كل شيء فيصف ما يجري ويتنبأ بما سيحدث ولا يترك شاردة وواردة إلا عرفها فكتبها؟
سيسخر مني أهل غزة وكتابها وسيقترحون علي أن أضع نفسي في مكانهم وأن أجرب النزوح والعيش في خيمة والوقوف في الطابور متعدد الأشكال؛ طابور المراحيض وطابور الحصول على الرغيف وطابور الحصول على الماء وطابور الحصول على كيس طحين أو خيمة أو جرة غاز أو...
الراوي كلي المعرفة أو الراوي الإله لن يقنع مواطني غزة، كما لن يقنعهم السارد من الخارج. عليك أن تكون سارداً من الداخل لتصف وتقنع وتقول ما يجري ولكن...
حتى السارد من الداخل. السارد المشارك. حتى هذا السارد يعجز عن سرد الحكاية كلها سواء أكان محايداً/ السارد - الكاميرا، أو منحازاً/ السارد المتعاطف.
في الكتابة عن غزة حاولت أن أكون، في التعامل مع كتابات أبناء قطاع غزة مختلفة الرؤى، مثل سارد محايد، وأظن أنني فشلت.
ثمة ظلم تاريخي يطغى علي في لحظة الكتابة تجعلني أدافع عن رواية لا تتماثل مع رواية غزيين متأثرين باللحظة التي يعيشونها ولا أعيش لحظة تشبهها. ذلك فارق بين ساردين؛ واحد يروي من الداخل/ سارد مشارك، وثانٍ يروي من الخارج، سارد غير مشارك.
ولقد حرصت أن أنقل نصوصاً لكتاب من قلب غزة - رواة من الداخل - وأخرى لأدباء لم يكونوا شهوداً على ما يحدث - رواة من الخارج وأنا من ضمن هؤلاء.
الكتابة السابقة فذلكة في زمن الحرب.
٢ - معنى جديد للبطولة:
في العام ٢٠١٨ طلبت مني الكاتبة أحلام بشارات أن أشارك في ندوة في معرض الكتاب في رام الله وأتحدث عن البطولة في أدب الانتفاضة.
وموضوع البطولة موضوع قديم - جديد. البطل وفق المفهوم التقليدي كان هو القائد الذي يقاوم ويخوض الحروب ويحقق الانتصارات.
هكذا كتبت مرة، وأنا طالب ماجستير، دراسة عن البطل نور الدين زنكي في شعر الحروب الصليبية. ثم قرأت لاحقاً عن البطل السلبي مجسداً في شخصية سعيد أبي النحس المتشائل في رواية إميل حبيبي.
أن تتغابى وتتحايل لتحيا. أن تبقى صامداً في أرضك حتى لا تقتلع منها. ألا تسلّم نفسك بثمن بخس لعدو ماكر يريد اجتثاثك. هذه كلها بطولة تشبه بطولة «الجندي الطيب شفيك» في رواية الكاتب التشيكي (ياروسلاف هاتشيك) لا تقل بطولة عن بطولة (يوليوس فوتشيك) صاحب «تحت أعواد المشانق».
من هم الأبطال في غزة الآن؟
هل هم فقط من قاموا بـ ٧ أكتوبر واجتازوا الحدود؟
أهل غزة كلهم أبطال لأنهم تحملوا ما لا يحتمل، وآخر صورة لواحد منهم هي صورة الطبيب حسام أبو صفية الذي صمد في مشفى كمال عدوان حتى اللحظة الأخيرة، ثم ذهب إلى الجنود الإسرائيليين المحصنين بالدبابة منتصب القامة غير خائف.
الطاقم الصحي في غزة كل أعضائه أبطال ومثلهم رجال الإسعاف ولا يختلف عنهم النساء والأطفال والرجال الذين واجهوا جحيم دبابات وطائرات الجيش وتحملوا النزوح والإقامة في الخيام جائعين بردانين فاقدين أبناءهم ورجالهم و.....
في ندوتي في ٧/ ٥/ ٢٠١٨ التي نشرت ملخصاً لها في جريدة الأيام الفلسطينية في ١٣/ ٥/ ٢٠١٨ اتكأت على ديوان محمود درويش «حالة حصار» (٢٠٠٣) فقد كتب في أوج انتفاضة الأقصى، وفيه يقول:
«أن تقاوم يعني: التأكد من
صحة القلب والخصيتين
ومن دائك المتأصل:
داء الأمل».
في «واجب شخصي» من «أثر الفراشة» (٢٠٠٨) ينتهي البطل التقليدي الذي قاوم وقام بواجبه ففقد ذراعه، ينتهي وحيداً، فالذين احتفوا به في أثناء قيامه بواجبه ودفاعه عن وطنه سرعان ما انفضوا عنه بعد توقف الحرب، كأنه صار منتهي الصلاحية مثل المعلبات منتهية الصلاحية «فللبطولة أيضاً تاريخ انتهاء صلاحية» يكتب درويش.

٣- جدل قديم: الفلسطيني المحايد
في شتاء وربيع العام ١٩٨٢ انتهيت من كتابة أطروحة الماجستير حول القصة القصيرة في مناطق الاحتلال الثاني - أي الضفة الغربية وقطاع غزة.
وركزت على الفترة بين ١٩٦٧ و١٩٨١ وتناولت، في عشر صفحات، شخصية الفلسطيني تحت الاحتلال كما عكسه كتاب القصة.
كتبت عن الفلسطيني المقاوم والفلسطيني المتخاذل والفلسطيني الخائن والفلسطيني المحايد، والأخير يريد أن يمشي الحيط الحيط ويقول: يا ربي السترة ومن يتزوج أمي أقول له: عمي. لاحق الإسرائيليون الفلسطيني المقاوم واحتضنوا الفلسطيني الخائن ولم ينجُ الفلسطيني المتخاذل والمحايد وغالباً ما دفعا ثمناً ولو بالصدفة.
في غزة انتخب نصف الشعب حركة حماس ولم ينتخبها النصف الثاني ولم تميز إسرائيل في حربها بين النصفين.
الكل دفع الثمن ولو من خلال التهجير والإقامة في خيمة، والحكاية تكررت في العام ١٩٤٨، فحتى أنصار فصائل السلام والقرى المسالمة لم تسلم من الطرد.
عودوا إلى كتاب (إيلان بابيه) «التطهير العرقي» وتأكدوا. الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت.

***

65- هوامش من وحي ما يجري في غزة (2)

٤ - القصص الألمانية: المخربون.
آنا زيغرز «المخربون Die Saboteure»
في العام ١٩٨١ قرأت مجموعة الكاتبة الألمانية/ ألمانيا الشرقية (آنا زيغرز) التي نقلها إلى العربية الدكتور عبده عبود أستاذ الأدب المقارن في جامعة دمشق سابقاً والمقيم منذ سنوات الربيع العربي في ألمانيا. عنوان المجموعة هو «المخربون» وهو من وضع دار النشر، فالعنوان الأصلي هو «قوة الضعفاء/ Die Kraft der Schwachen وهو العنوان الأجمل حسب ما أوضح لي الدكتور عبده.
عرفت عن المجموعة من القاص يوسف ضمرة. كنا في رابطة الكتاب الأردنيين وكان في بداياته الكتابية القصصية.
يقرأ القصص العربي والعالمي ويتناقش مع الحضور وبين فترة وفترة يحضر كتاباً صدر حديثاً يتحدث عنه ليلفت نظرنا إليه، وأظن أنني اقتنيت هذه المجموعة من أجواء تلك الأيام وقرأتها وأعجبت بها وظلت تراود مخيلتي باعتبارها نموذجاً من نماذج الأدب المقاوم الكلاسيكي الذي قل ما يكتبه كتابنا اليوم، بل وقل ما يقرؤونه أو يشيدون به، وفوق هذا ينظرون إلى من يقرؤه أو يشيد به نظرة سلبية ترى فيه كاتباً من كتاب أيام زمان.
أنا أحياناً أكون من كتاب أيام زمان ولذا أعجب بنماذج أدبية قديمة وأعود إليها وأشير إلى كتابها واستشهد بها. هل أنا من أنصار المذهب الكلاسيكي؟
أتذكر من قصص المجموعة قصة «المخربون» وهي قصة امرأة ألمانية تعمل في مصنع إعداد القنابل، والمرأة ضد الحرب وليست مع الحزب النازي الذي تزعمه هتلر، فماذا ستفعل حتى لا تشارك في قتل الآخرين؟
يتم التلاعب في الإنتاج بحيث يغدو السلاح المنتج مؤذياً لمن يستخدمه لا من يستعمل ضده، وهكذا يبدو بلا فاعلية للجيش الألماني أمام الجيش الروسي. (لنتذكر أن الكاتبة كتبت القصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - أي يوم كانت ألمانيا الشرقية في حلف وارسو وكانت الكاتبة تنتمي للحزب الشيوعي في دولتها).
هل كان الإسرائيليون والأميركيون قرؤوا القصة ففعلوا ما فعلوه بأجهزة البيجر التي استخدمها حزب الله؟ هل كانوا وراء تصنيع هذه الأجهزة في الشركة التي باعتها لحزب الله؟
يبدو أنه لا بد من إعادة قراءة القصة التي تقع في ٧١ صفحة من القطع الصغير.
٥ - هل يمكن أن نخاطب الشعب الإسرائيلي
كما خاطب (فولفجانج بورخرت) الشعب الألماني؟
في شتاء العام ١٩٩٠/ ١٩٩١عرفت قصيدة الشاعر الألماني (فولفجانج بورخرت) «قل: لا».
في ذلك الشتاء اجتاحت ألمانيا موجة مظاهرات ضد الحرب التي قررت الولايات المتحدة الأميركية شنها، مع حلفائها، ضد العراق ورئيسه صدام حسين، وكنت أشارك فيها وأردد عنوان قصيدة (بورخرت) «قل: لا»، ويومها اشتريت أعماله الكاملة التي أعيدت طباعتها ككتاب جيب بيع بسعر زهيد.
أعجبتني القصيدة فترجمتها وكتبت عنها ونشرتها في العدد ٦٤ من مجلة «صوت الوطن» (حزيران)، وغالباً ما أعود إليها.
في الحرب الدائرة حالياً منذ ١٥ شهراً لم نقرأ لكاتب يهودي قصيدة يخاطب فيها شعبه بأن يقول للحرب لا. مؤخراً قرأنا خبراً عن تخلي الشاعر اليهودي (آفي شتاينبرغ) عن جنسيته الإسرائيلية وهذا موقف يعتد به ولا يختلف في قوته عن قوة قصيدة (بورخرت) (صحيفة الشروق المصرية ٣١/ ١٢/ ٢٠٢٤).
هل يمكن أن نكتب قصيدة نخاطب فيها الإسرائيليين كما خاطب (بورخرت) في قصيدته الألمان؟ وماذا تجدي القصيدة والكتابة؟
من عقود كتب راشد حسين قصيدته «الحب والغيتو» وقبل عقد ونصف كتب محمود درويش قصيدته «سيناريو جاهز» وفي الوقت نفسه كتب سميح القاسم سربيته «أنا متأسف» وفي العام ١٩٨٢ كتب معين بسيسو ومحمود درويش قصيدتهما المشتركة الموجهة إلى جندي إسرائيلي يسألانه إن كان سينفق العمر في دبابة؟!
من قصيدة (بورخرت):
«أنت أيها الرجل وراء الآلة، أيها الرجل في المصنع
عندما يأمرونك صباحا: عليك ألا تصنع
ماسورة ماء وطنجرة طبيخ.
عليك أن تصنع خوذة فولاذية ومدفعا،
فثمة شيء واحد فقط
قل: لا!
...
...
أنت أيها الباحث في المختبر، عندما
يأمرونك صباحا: عليك أن تخترع موتا
جديدا ضد الحياة القديمة، فثمة شيء واحد فقط قل: لا».
... إلخ.

***

66- هوامش من وحي ما يجري في غزة (3)

٦ - وأنا أعد الدكتوراه في ألمانيا تعرفت إلى طالبة ألمانية من ساربروكن - إن لم تخني الذاكرة - تدرس الأدب العريي.
الطالبة نحيلة جداً وناعمة إلى درجة كبيرة وصوتها خفيض إلى حد لافت، فتشعر وأنت تصغي إليها أنها تتحدث مع نفسها. «حكيها في عبها كما يقولون».
عندما عرفت أنني فلسطيني - وكانت الانتفاضة الأولى ١٩٨٧ في أوجها - تعاطفت مع قضيتنا.
لم تكن تكره اليهود، فليس لديها أي ميول نازية، وكانت تقرأ للشاعر اليهودي النمساوي (اريش فريد/ Erich Fried) فأخذت تسألني إن كنت قرأت له، ولم أكن سمعت له، ما دفعني للسؤال عن بعض نتاجه في سلسلة كتب الجيب واسعة الانتشار زهيدة الثمن.
من ضمن القصائد التي تلتها على مسامعي قصيدة «اسمع يا إسرائيل/ Hoer Israel» وفيها يعلن موقفه من قيام دولة إسرائيل وما ارتكبته في العام ١٩٤٨ بحق الفلسطينيين. يقول فريد:
«عندما لوحقنا
كنت واحدا منكم،
كيف يمكن أن أبقى (منكم)
عندما (صرتم) تلاحقون (الآخرين).
اسمعي يا إسرائيل: «أتحدث إليكم
لست كغريب ولست كعدو
لكن أتحدث من الكراهية التي اشتعلت ضدكم
القوى الظالمة لم تختف بعد هتلر
لم تختف من هذه الأرض
ماذا ستفعلون؟
أتسمحون أن يساعدكم الظلمة؟
لهذا يجب علي أن أدخل المرارة في آذانكم
تلك التي ملئت بالأكاذيب
مثلما حدث منكم في عصر الأنبياء
حتى ولو تأتي الكلمات مني ذات مرارة ثقيلة
فإنكم لا تستطيعون أن تقولوا
هذا ما يقوله أعداؤنا!!
أنتم في أوروبا ذقتم الجحيم
المطاردة والترحيل، موت الجوع البطيء
أنتم راقبتم جلاديكم والآن تقلدونهم في الصواعق والأعمال الوحشية القاسية
لكن ظلمكم كان كبيرا لأنكم أخذتم الأرض ممن يرثها
ها أنتم أظلم المستعمرين
وما ذنب المساكين الذين أخذتم
أرضهم؟
اغربوا. اغربوا
من أعطى لكم المال والأسلحة
سوف يفنى وينتهي
ولن يحموكم دائما
لن يكون التقهقر من السهل عليكم
لأن غضب المساكين سيعيش طويلا
والكثير منهم يتمنى لكم ما تمنيتموه لمعذبيكم
عودوا عودوا
من أعطى لكم المال والأسلحة لن يحميكم طويلا
لا يستخدمكم إلا كجنود ومرتزقة
في حرب ضد المستقبل
الفلسطينيون الذين أمرتم جنودهم
(أن اخلعوا نعالكم)
ودفعتموهم إلى الصحراء حفاة كقرابين تحمل أخطاءكم
إلى الصحراء، مسجد الموت الكبير
أحذية كثيرة هناك
وصندل الصحراء من رمال
لن يقبلوا أن يكونوا قرابين أبدا
فآثار الأقدام العارية في الرمال
يدوم ويبقى؛ أقوى من قنابلكم ومدرعاتكم
سأقف مع الفلسطينيين» (من أخبار اليوم المصرية. د. محمد أبو الفضل بدران).
٧ - يوميات (آن فرانك). يوميات أطفال غزة / هدى أبو غالية... يوميات ناجيات من الخيام:
فجأة تذكرت يوميات الطفلة اليهودية (آن فرانك). كنت، وأنا في ألمانيا، اشتريت نسخة منها لأقرأها، فلا قارئ مثقفاً هناك لم يقرأ المذكرات أو لم يسمع بها.
يومها كنت أهتم بالأدب العبري المترجم إلى الألمانية وأيضاً بما كتبه يهود عن المحرقة، فتابعت بعض أعمال (اسحق ب سنجر) وقرأت له رواية «الفاسق» وسيرته الذاتية.
كانت انتفاضة ١٩٨٧ في أوجها وكان الأطفال وطلاب المدارس وقودها. قلت أنظر في طفولة الأطفال اليهود إبان المحرقة، وأظن أن قسماً من معارفي ممن كانوا يلاحظون يوميات آن معي كانوا يتساءلون:
- شو صار للأستاذ؟ هل صار يهودياً يتغنى بسطر مظفر النواب:
«سنصبح نحن يهود التاريخ ونصرخ في الصحراء بلا مأوى».
والصحيح أن قراءتي اليوميات لا تختلف عن قراءة غسان كنفاني الأدب الصهيوني وقراءة معين بسيسو يوميات الكاتبة الإسرائيلية (ياعيل دايان) وقراءة محمود درويش مسرحيات (حانوخ ليفين) وقراءة سميح القاسم رواية (عاموس كينان) «الطريق إلى عين حارود».
الآن أقرأ كتابات صبايا غزة اللاتي عانين معاناة آن فرانك وأكثر، فلا أظن أنها التي كانت مختفية في شقة وتدون ما يجري وما تعيش، لا أظن أنها رأت فرداً من أفراد عائلتها ينقذ من تحت الأنقاض ميتاً أو جريحاً مبتور اليد أو القدم أو... أو....
كم آن فرانك فلسطينية الآن في غزة؟!
هناك عشرات الشابات يدون ما يمررن به، وأنا أتابع كتابات كثيرات؛ شعراً ونثراً، واهتممت بما تكتبه مريم قوش، ومن المؤكد أن يومياتها ستصدر في كتاب. هل تذكرون ما كتبه محمود درويش في قصيدته «هدنة مع المغول أمام غابة السنديان»؟
«كم أردنا السلام لأطفال أعدائنا؟!!»
٨ - من وحي سور برلين: أمتفائل أنا أم متشائم؟!
في شباط من العام ١٩٨٨ زرت برلين. كانت المدينة مقسمة إلى غربية وشرقية، وكانت الشرقية عاصمة ألمانيا الشرقية في حينه قبل أن تغرب وتزول وتتوحد مع ألمانيا الغربية، وغدت برلين موحدة وبعد سنوات قليلة عادت عاصمة لألمانيا الموحدة.
في تلك الزيارة زرنا متاحف ألمانيا الشرقية ومتاحف ألمانيا الغربية وشاهدنا الفرق بين جزأي المدينة ووقفنا على السور الفاصل بينهما من طرف الجزء الغربي. كان لوحة فنية تلتقط إلى جانبه الصور للاحتفاظ بالذكرى.
في تلك الزيارة لم يكن أحد يتوقع أن السور سينهار عما قريب. حتى في الأحلام لم يكن يخطر ببال أحد من الألمان أنه خلال عام سيهدم وستباع حجارته كذكرى.
في أيار ١٩٩٠ زرت المدينة ثانية وقد غدت مدينة واحدة، وعندما سرت ومسؤولة الطلبة الأجانب إزاء بوابة براندنبورغ همست في أذني:
- لم نكن نتوقع هذا حتى في الأحلام!
وكلما زرت القدس أو الخليل أو باقة الغربية ومررت قرب الجدار الفاصل تذكرت سور برلين وتساءلت:
- متى ينهدم السور هذا؟
في الحرب الدائرة حالياً حلمت وحلمت وحلمت وما زلت أحلم. سينهدم الجدار وستعلن دولة واحدة من النهر إلى البحر. دولة لكل مواطنيها. هل أنا مفرط في التفاؤل؟
منذ انتهى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وأنا أكرر:
- نحن في الطريق إلى جنوب أفريقيا.
ربما هي تمنيات! ربما! ولكن كما قال محمود درويش في جداريته: «الخيالي هو الواقعي الأكيد».

***

67- هوامش من وحي ما يجري في غزة (4) عام ليس كالأعوام: جفاف ثقافي

منذ بداية طوفان الأقصى غدا ذهني مشتتا. لم أعد قادرا على التركيز، وغالبا ما فكرت في التوقف عن كتابة مقالات نقدية حتى لا أقع في أخطاء تتخذ دليلا ضدي أنا الذي اتهم بتصيد أخطاء الآخرين في الكتابة عن أعمالهم، فأبدو ناقما لا ناقدا.
رحم الله محمود درويش الذي لم أغب عن تفكيره في كتابته بعض قصائده مثل «إلى ناقد» و»اغتيال»، وقد خصصتهما بدراسة عنوانها «محمود درويش في جديده «أثر الفراشة»: يغتالني النقاد».
في أثناء متابعتي اليوميات التي كتبها أبناء غزة توقفت في الأشهر الأولى من الحرب أمام الأخطاء اللغوية، وهذا ما أثار بعضهم فكتب واحتج.
كان كتاب غزة يعانون من ويلات الحرب: انقطاع الكهرباء والماء والإنترنت وتدمير البيوت والجوع والفقد والجراح والنزوح والإقامة في خيمة والاكتظاظ في أماكن الإقامة، بل وأحيانا المبيت في الشوارع، وفوق هذا كله هدير الدبابات وصوت الطائرات وقذائف المدفعيات و... وكانوا يكتبون وهمهم كله هو إيصال صوتهم إلى العالم الأصم الأبكم الأعمى، وليس هناك من سامع أو متكلم أو مبصر. كانوا يكتبون في هذه الظروف، فيما كنت أجلس في شقة مكيفة وأكتب وأجد وقتا لمراجعة ما أكتب وأصوغه صياغات عديدة، وكلما قرأت كتاباتهم اتكأت عليها واقتبست منها دون أن أغفل عن خطأ هنا أو هناك، فأصححه، ما دفع قسما من قرائهم إلى التنمر علي والسخرية مني.
مَن مِن كتاب غزة كان لديه وقت للتأكد من معلومة أو من مقطع شعري يوظفهما في كتابته؟ هذا الوقت توفر لي، بل وكان لي فائض منه، وفي الوقت الذي حفلت فيه كتابتي بنصوص فلسطينية وعربية وعالمية، تستحضرها الحالة، خلت نصوصهم من أي منها. النكبة التي يعيشونها ليست الأولى التي يعيشها شعبنا. إنها استمرار للنكبة الأم، وما يمرون به مر به آباؤهم، بل إن منهم من عاش النكبتين، والذاكرة ممتلئة بالنصوص، ولكنها خداعة.
انقطعت في الحرب عن قراءة كتب جديدة واستحضرت الكتب التي قرأتها وكتب فيها أصحابها عن أحداث مماثلة.
قبل الحرب - في أثناء إلقائي ندوة عن غسان كنفاني - كنت أقول، إن نصوصه تحتاج إلى قراءة جديدة، فأكثر ما يقال عنها هو تكرار لمقولات سابقة أو كلام يعتمد على ما بقي من نصوصه عالقا في الذاكرة، ومرة كتبت: «غسان كنفاني في زمن مختلف» وساءلت بعض مقولاته التي صارت شبه مقدسة في أذهاننا:
- هل تصلح هذه المقولات لأيامنا؟
من المؤكد أنني لم أرد الإساءة إليها وإنما التفكير فيها.
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟
ودق الفلسطينيون الجدران، وكثيرون منهم خطؤوا طوفان الأقصى، وحين ذكرتهم بأطروحاته ردوا بأنها شعارات تكتب في أثناء الاسترخاء.
في الحرب كتبت مقال «هل تتواطأ أرض غزة مع أبنائها ضد غزاتها؟» وراق للكاتب العماني سليمان المعمري، فطلب مني، بعد أن حاورني فيه لبرنامج إذاعي، أن أشارك في ندوة في سلطنة عمان.
حضرت نصوص غسان في حرب الطوفان، فيما أكتب، حضورا لافتا، وصارت مرجعا أعتمد عليه، وصارت جزءا من اليوميات التي أكتبها. اقتبس منها وأسائلها وأدرج فقرات منها.
كان المحاربون يتحاربون والمواطنون الغزيون يرتقون ويجرحون وجامعاتهم تدمر وكتبهم تحرق ومشافيهم تحاصر ومن ثم تسوى بالأرض، وكان الأدباء والكتاب والسياسيون يتجادلون ويتخاصمون ويحظرون بعضهم بعضا. وسيحضر رأي غسان في الكتاب والأدباء والقادة وسيتداول.
في قصة «ثلاث أوراق من فلسطين» نقرأ في الكتاب وأكثر القادة في زمن الحرب رأي محارب قديم، تحول إلى بائع عجوة. يقول:
«على كل حال أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين.. كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم - أولئك الذين يكتبون في الجرائد - يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا، إذن، لهربوا إلى حيث لا أدري، يا بني، فلسطين ضاعت لسبب بسيط جدا. كانوا يريدون منا - نحن الجنود - أن نتصرف على طريقة واحدة، أن ننهض إذا قالوا انهض وأن ننام إذا قالوا: نم وأن نتحمس ساعة يريدون منا أن نتحمس، وأن نهرب ساعة يريدوننا أن نهرب...».
ما قاله غسان عن الكتاب والقادة تردد مثله في أشهر الحرب، ولقد غدا هو في نظر بعض القراء جزءا من الكتاب الذين تحدث بائع العجوة المحارب القديم عنهم، ولم ينج يحيى السنوار من الاتهامات إلا بعد استشهاده ومثله صالح العاروري وإسماعيل هنية وأبناء الأخير.




=============
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»
53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور
54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً
55- الطفل الناجي في الحرب
56- الطفل الفلسطيني القتيل
57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»
58- غزة: مأساة النرجس... ملهاة الفضة
59- مكتبات غزة وكتب أبنائها في الطوفان
60- من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات
61- الكتابة عن النكبة استرجاعا والكتابة عنها في لحظتها
62- الكتابة عن القدس ونابلس: عارف الحسيني وسحر خليفة وغيرهما
63- غزة وكتابات أبنائها و«الطوفان»
64- هوامش من وحي ما يجري في غزة (1)
65- هوامش من وحي ما يجري في غزة (2)
66- هوامش من وحي ما يجري في غزة (3)
67- هوامش من وحي ما يجري في غزة (4) عام ليس كالأعوام: جفاف ثقافي


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى