د. أحمد الحطاب - لو قُمنا بجَمع كلِّ السياسيين وأحزابهم، لن يُضاهوا حبَّ الملك للوطن

هذا ما نلاحظه عندما نستمع لخُطب صاحب الجلالة الملك محمد السادس. خُطبٌ تشعُّ منها رائحة حب الوطن patriotisme وتتخلَّلها من ألِفها إلى يائها.

وحب الوطن ليس فقط بَدْل النفس والنفيس للدفاع عنه وحمايته من كل اعتداء. بل حب الوطن هو كذلك التَّسلُّح بإرادةٍ قويةٍ لخدمة مصالحِه والنهوض به وإعلاء شأنِه بين أممِ العالم. وخدمةُ مصالحِ الوطن تقتضي من المواطنات والمواطنين، وبالأخص، من المسئولين عن تدبير الشأن العام، أن يتحلَّوا بجُرعةٍ عاليةٍ من نُكران الذات abnégation. ونُكران الذات يتجسَّد على أرض الواقع بالاستعدادِ لخدمة مصالح الغير، أي بإعطاء الأولوية للمصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة.

ورجوعا إلى خُطَب ملك البلاد، فحينما نستمع لهذه الخُطب، إننا نستمع لمواطن يريد الخيرَ، كلَّ الخير لهذه البلاد ويسهر على تجسيده على أرض الواقع. خطبٌ خيطُها الناظم هو تنمية البلاد والنهوض بها إلى أعلى المستويات حضارياً، اقتصادياً، اجتماعياً وثقافياً.

وحمداً لله أن الملكَ يسود règne ويحكم gouverne. لماذا؟ لأن واقعَ أحزابَنا السياسية الحالية، أي عملها الميداني، مختلِفٌ كلَّ الاختلاف عن ما تنصُّ عليه قوانينُها التنظيمية. وبعبارة أخرى، لو لم يحكم الملكُ وأُسْنِدَت أمورُ تدبير شؤون البلاد، فقط، للأحزاب السياسية، فلن تكون هذه الأحزاب، كما عوَّدَتنا على ذلك منذ الستينيات، في مستوى المسئولية. بينما ملك البلاد جعل من حب الوطن أمراً فوق كل اعتبار. وهذا الحبُّ هو الذي جعل منه رائداً وبانِيا لمغرب الحداثة le Maroc moderne، الذي يسير بهدوءٍ وثباتٍ نحو صفِّ ما يُسمَّى ب"البلدان الصاعدة" pays émergents.

وهذا يعني، بكل أسفٍ، أن الرؤيةَ الملكِيةَ، المليئةَ بالجُرأة audace والاستشراف prospective والطُّموح ambition، تجد نفسَها أمامَ أحزابٍ سياسيةٍ استبدلت حبَّ الوطن بحُب المصلحة الشخصية والميول لتحقيق المصالح الحزبية les intérêts partisans، علما أن ملِكَ البلاد يرسم السياسة العامة للبلاد والحكومة تُتَرجم هذه السياسة العامة إلى سياسات عمومية وتُشرِف على تنفيذها أو إِخراجها إلى أرض الواقع.

إذن، هناك تفاوتٌ décalage بين ما يطمح له ملِكُ البلاد وما تعوَّدت عليه الأحزاب السياسية في ممارستِها للسلطة وتدبيرها للشأن العام. ما عودتنا عليه الأحزاب السياسية هو ترك الصالح العام جانبا والانشغال بأمور بعيدة كل البعد عن ما يطمح له ملِكُ البلاد والشعبُ المغربي من رقيٍّ وازدهارٍ وتقدُّمٍ. وفي هذا الصدد، يُلاَحَظُ أن الأحزابََ السياسيةَ فشلت غير ما مرة في تحويل الطموح الملكي إلى واقعٍ ملموس يعود بالنفع على البلاد والعباد.

ولولا الطموح الملكي، ما كان لبلادنا أن ينعَمَ ويستفيدَ اقتصادُها من ببِنياتٍ تحتية مُثمِرة، وعلى رأسها ميناء المتوسط الذي أصبح يُضاهي أكبرَ موانئ العالم من حيث النجاعة والمردودية. ونحن نعرف أهميةَ الموانئ في تحريك الاقتصاد الوطني وفي المبادلات التجارية الإقليمية والعالمية. وإذا أضفنا إلى هذا الميناء الكبير مينائي الناضور والداخلة اللذَيْن سيُصبحان ناشطين في مستقبل غير بعيد، فستُصبح بلادنا صلةَ وصلٍ لوجيستيكية un relais logistique بين مختلف القارات ومُنشِّطاً مُهِمّاً للتبادل التِّجاري بين هذه القارات، علماً أن ميناء الداخلة سيُنشِّط هذا التبادلَ على الصعيد الإفريقي.

والطموح الملكي هو الذي جعل من بلادنا بلاداً رائداً في إنتاج الطاقات المتجدِّدة وعلى رأسها الطاقة الشمسية. وهذا الطموح هو الذي سيجعل بلادَنا تُنتِج، في مستقبلٍ قريبٍ، أكثر من 50% من حاجياتها الطاقية الكهربائية انطلاقا من مصادر متجدِّدة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية والطاقة الريحية. بل إن الطموح الملكي واستشرافَه للمستقبل هما اللذان سيجعلان من بلادنا واحداً من رواد إنتاج الهيدروجين الأخضر ، أي الهيدروجين الذي يتمُّ إنتاجُه انطلاقا من مصادر غير ملوِّثة للبيئة والذي سيصبح واحداً من أهم مصادر الطاقة على المستوى العالمي.
ولعل أهمَّ ما أفرزه الطموح الملكي، النجاحات التي حقَّقتها بلادُنا على الصعيد الدبلوماسي. وفي هذا الصدد، تأتي قضية وحدتنا التُّرابية notre intégrité territoriale على رأس القائمة. يوما بعد يومٍ، يزداد عددُ البلدان التي تعترف بمغربية الصحراء وتساند مشروع الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب على الأمم المتحدة سنةَ 2007. وعلى رأس هذه البلدان الولايات المتحدة، ومؤخَّراً، فرنسا، العضوان في مجلس الأمن. دون أن ننسى إسبانيا، المستعمِر السابق لما كان يُسمى الصحراء الغربية. بينما يتضاءَل عدد البلدان التي اعترفت بالجمهورية الوهمية الصحراوية وبجناحِها الانفصالي البوليزاريو. كما وصل عددُ البلدان التي فتحت قنصُليات في مدينتي العيون والداخلة إلى ما يُناهز 30 بلداً.

ناهيك عن أن ملكَ البلاد، بكونِه يسود ويحكم إضافةً إلى كونه أميرَ المؤمنين (وليس أمير المسلمين كما يريد البعض)، هو الضامن الأول والأخير لاستقرار البلاد على المستوى السياسي. واستقرار البلاد سياسياً هو الذي جعل من المغرب قبلةً للاستثمارات المباشرة الأجنبية Investissements Directs Étrangers IDE. ولولا هذا الاستقرار، ما كان لفرنسا أن تُنشِئ مصانع للسيارات بمدينتي طنجة والقنيطرة. وما كان للصين أن تُنشئَ مستقبلا مصنعاً لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية. وما كان لشركات بريطانية أن تستثمرَ رؤوس أموال ضخمة للتَّنقيب عن الغاز الطبيعي والبترول في البرِّ والبحر.

وهنا، لا داعيَ للقول أن الاستقرار السياسي يلعب دورا أساسياً في سيرورة التنمية الاقتصادية. بل الاستقرار السياسي ناتجٌ عن توازن في توزيع السُّلَط بين ملك البلاد والجهاز التنفيذي، الحكومة، والتَّشريعي، البرلمان. وتوازن توزيع السُّلَط لم تُمْطِره ولن تُمْطِرَه السماء. إنه ناتِجٌ عن تعاقدٍ اجتماعي contrat social بين ملك البلاد والشعب المغربي الذي صوَّتَ على دستور 2011 بنِسبة تفوق 99%.
لكن، رغم هذا التَّوزيع المتوازن للسُّلط، هناك، كما سبق أن أشرتُ إلى ذلك أعلاه، تفاوتٌ بين الطموح الملكي والقوى السياسية التي تؤثِّث المشهد السياسي الوطني. وهذا التَّفاوتُ قد ينعكس سلباً على بعض المشاريع الملكية، وذلك بعدم إنجازها في الوقت المحدَّد أو أن تشوبَها بعض الاختلالات التي، بدورها، تنعكس سلباً على اقتصاد البلاد. فما هو السبب الرئيسي لهذا التَّفاوت؟

على ما يبدو، إن حبَّ الوطن الذي يدفع الطموحَ الملكي نحو أعلى المستويات، غير مُتوفِّر عند أحزابنا السياسية، وخصوصا، تلك التي، من خلال الانتخابات، أصبحت مسئولة عن تدبير الشأن العام. أو على الأقل، حب الوطن غير متوفِّرٍ لدى الأحزاب السياسية بنفس القوة، كما هو الشأن بالنسبة لملك البلاد. إن الوفاءَ أو الإخلاصَ للوطن loyauté envers la patrie ونكرانَ الذات abnégation، من واجب كل مسئولٍ سياسي أو حكومي أن يتحلى بهما.

غير أن هذه القيم الحيوية، غالباً ما تطغى عليها المصالحُ الشخصية أو الحزبية، وبالتالي، إما تُنسى وإما تحظى، فقط، بأولوية ثانوية.

صحيح أن كثيراً من المسئولين السياسيين أو الحكوميين لهم درايةُ عالية بمختلف مجالات تخصُّصاتهم. لكن، إذا اقترنت التَّخصُّصات بحب الوطن، فسيميل المسئولون السياسيون أو الحكوميون إلى خدمة الوطن وإعلاء شأنه بين الأمم. حينها، سيصبح حب الوطن طاقةً أو شغفاً يجريان في دماء المسئولين السياسيين أو الحكوميين، كما ستحثُّانهم على التَّخلُّص من أنانيتِهم. والأنانية قد تؤدِّي إلى انتشار الفساد وإحدات اختلالات في تدبير الشأن العام. وانتشار الفساد واختلالات الشأن العام، دليلان قطعيان على أن حب الوطن مُزَعزعا perturbé لدى المسئولين السياسيين أو الحكوميين.

ولا داعيَ للقول أن حبَّ الوطن لا يمكن، على الإطلاق، فصلُه عن التَّضحية le sacrifice. فمَن كان مُحِبّاً لوطنه ومُضحِّياً بوقته ومصالحه الشخصية، لا يحتاج إلى مَن يحفِّزه على خدمة الصالح العام. بل خدمة الصالح العام تصبح عنده نزعةً تلقائيةً تتحقَّق بدون عناء أو تكلُّف. وهذه التلقائية في خدمة الصالح العام، بتحفيز من ملك البلاد وسعيا منه إلى إعطاء المثل، لاحظناها حينما تعرَّض المغربُ بأكملِه لجائحة كورونا. كما لاحظنا هذه التلقائية بعد وقوع زلزال الحوز.

ما أختم به هذه المقالة، هو أن حبَّ الوطن، من الضروري أن يتحلَّى به جميع المواطنات والمواطنين. ومن أجل أن يُصبحَ حب الوطن واحدا من القيم الاجتماعية، الثقافية والأخلاقية، وبما أن هذا الحب لا تُمطره السماء، لا بدَّ من زرعِه في نفوس الناس منذ نعومة أظافرهم. ومن أجل هذا الزرع في النفوس، لا مفرَّ من إعادة النظر في منظومتنا التربوية لجعلِها أداةً تُعلِّم الأطفالَ ماهيةَ الصالح العام وماهية الأخلاقيات وماهية المواطنة وماهية المسئولية وماهية الإخلاص للوطن… مع الإلحاح على إطلاعهم على نماذج نجحت في غرس حبِّ الوطن عند الناشئة.

إلى حدِّ الآن، لا أحد يُضاهي حبَّ ملك البلاد لوطنه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...