جميل متى - معاناة القلم، في وحي الأحذية والكلمات- دراسة نقدية

شريف محي الدين صوت هامس يخلو من كثير مما أصاب حياتنا الأدبية من ادعاء وغرور وزعيق أجوف.
وهو الاستثناء القليل من سياق الكتابة الجديدة، كتابة الجسد والانكفاء النرجسي على ذات تنصلت من جذورها، وكل شروط إنسانيتها، ورضت بانتهازية مريضة، أن تكون انعكاسا سلبيا لتحولات قاهرة تفرض على الذوات التي استحالت ذرات مصمتة، لا مبالية إلا بمساراتها القدرية،أن تنجو بنفسها، عملا بشعار واحد يربط الجميع :
انج سعد فقد هلك سعيد.
إذ يتلمس موضع قدميه، كإنسان يحمل صخرة إنسانيته على ظهره، وككاتب يعرف مسبقا أنه ليس محورا لدوران الأرض، دون أن يفقد في نفس الوقت ذلك الطموح بأن يكون كذلك فعلا.
إنه يعرف مسبقا ودون أن يشرع قلمه، أنه( خارج الدائرة)
وأنه ينتمي إلى عالم ليس هو عالم الآخرين، ولا هم ينتمون إلى عالمه، ولكنه لا ينساق مع هذه المعرفة إلى اليأس والانتهازية،
فتجرفه عيون الواقع الأقوى إلى اعتناق حركة التيار كالسمك الميت.
إنه ينتصر في النهاية لدوره ككاتب ومثفف، لكنه انتصار مؤطر بالشك، والاتهام دون احتفالية أو اعتراف من الآخر.
إنه حتى اللحظة الأخيرة التي يوفق دائما في نحتها كفقرة ختامية في جدلية النص، وبرغم كابوسية الواقع التي يزج بنا إلى أتونها ببراعة، وتعاليه، وافلاته، ومراوغته، لتلك المحاولات البدائية الساذجةعلي جدران الكهوف لقنصه أو التسامي عليه، ليتمسك بشروط إنسانيته، وبدوره، دون أن يغمض عينيه عن لحظات الضعف الإنساني التي تلح على تهميشه والاستسلام له كحجر في بنائه، أو حركة في سيمفونيته لينضم بعد أن يخلع رأسه عند الباب إلى القطيع الزاحف على بطونه وأعضائه التناسلية.
إنه لا ينشد خلاصه الخاص خارج الدائرة بل يصر على جذب العالم إلى قلب الأتون للاحتراق به...
قصة القلم :
اعتبرها المحور الذي تمفصلت به كل قصص المجموعة، وهي باقة متجانسة يجمعها هاجس واحد مفرد، وهو ضياع الشروط الآدمية لحياة الإنسان في مقابل عالم من اللامبالاة والأنانية وضياع الروابط بين البشر.
في القلم يمنحنا الرمز نفسه دون عناء، ذلك الصراع الفرويدي العتيد بين الهو، والهي، والذات!!
إلا أنه ينجح ببساطة يحسد عليها في نقل أرض الصراع من اطارهااللاواعي مما عناه فرويد بالانقسام الثلاثي للنفس.
هي مسافة بين قوي صراع أملاه واقع همجي غريزي متخلف، أعلى من قيمة الحذاء وربما يكون إبخاسا لقيمة الرمز لو أحلناه إلى شروط الواقع على حساب الكلمة التي شرفها الله أن تكون صورته المتجسدة والمتجلية لذلك العريان الضائع الصارخ في البرية، الحائر في كل مكان وزمان يبكي يتمه وقد سقط من جنته الأولى.
وشريف لا يطلب منا أن نخفي رؤسنا في الرمال كالنعام، فهو ينأي بنفسه عن إتيانه، وهو يعرف وقع الكشف على المستترين بالنفاق والكذب والازدواجية.
إنه كشف مؤلم كمبضع جراح بلا مخدر يثير كثيرا من الألم والعداء، بديلا عن ذلك الصفاء التطهري الذي نادت به فلسفة التقمص والاندماج.
إنه أديب مفتوح العينين على الواقع لا تستهويه الخرافة و الأشباح والظلال، ولا تلك الغلالات الشفافة التي تكون بالنسبة للآخرين أكثر اغواء.
هو يعي تماما موقع قدميه من هذا العالم، يحاصره زمن رخيص.
القلم الذي شرفه الله بالقسم به (والقلم وما يسطرون)
الكاتب يعي أنه ليس مجرد محصلة لقوى تتجاذبه ولا نتيجة سلبية لهذا الصراع نفسه.
(وبينما العرق الغزير يبلل جبهتي الملتهبة المحمومة، تذكرت صوته الهامس وهو يقول بعد أن زوي ما بين حاجبيه الكثيفين، وارتسمت على وجهه علامات الجدية المبالغ فيها : لا تترك القلم!!)
وحينما يتذكر كيف كان في السابق ينظر إليه بغير اكتراث ولا مبالاة فإنما يقفو خطوات نبي صغير...
يتلقى الوحي، ويخضع شأن الأنبياء لأعراض هذا التلقين، بل هو يعاني مما عناه الأنبياء من عداء واضطهاد بين خضوعه للهو الثابت على رسالته، لا يحيد عنها ولا ينظر سواها، المتعالي عما يمترون، لكنه لا يستطيع الهرب طول الوقت من عيون الهي كقوة جاذبةقادرة على الانتصار لرايتها، تلك الأمارة بالغوايات، فتلح عليه بترك القلم.
شريف ينجح في نقل منطقة الصراع، لا يفقد إيمانه البكر، ووعيه المتجاوز بكل ما نشأ عليه من قيم وأخلاق نبيلة، وطموحات تنكر لها الوقت، الذي يتساءل عنه بمرارة في قصة أحذية وكلمات مصوبا إليه أصبع الاتهام مكبرا نفسه عن الانحدار للطموحات الرخيصة، فبدا كالمطرود خارج الدائرة تؤلمه تلك الحجارة التي تسقط على رأسه من مصدر مجهول، دون أن يفهم ماذا يريدون!!
قصة المظروف الأصفر:
ولعلها هي أنضج قصص المجموعة فنيا فهي تستخلص من العلاقات اليومية المألوفةرؤي فنتازيةتمنحها الظلال الموحية، وتترك مسافة في وعى القارئ ليمارس اسقاطاته، إنها تشبه تلك القدرية في التراجيديات القديمة، إلا أنها تستلهم واقعا مختلفا، وقضايا أكثر تحديدا وألفة، تلك المسالك الهاربة التي تفضي إلى لا شئ!!
تشبه التيه الكافكاوي والتى تقترحها على بطل تراجيدي تماما، قوي استلابية عبثية تفضي به في نهاية بحثه عن الطريق لما انتهى إليه الآخرون السابقون في نفس محاولات مطابقة.
، إلى مقلب قمامة تراكمت فوقه مظاريف كل من حملوا على عاتقهم قبله هوياتهم، ووجودهم، متتبعين إشارات وأدلة، عبثية، هذا المصير الذي اقترحته فتاة عابثة، مستهترة، أجاد وصفها دون تكلف، قد يسلخ العمل من طقسه الأسطوري الحالم.
وتكون الخاتمة حاسمة لموقف الكاتب الذي يرفض أن يرمي بمظروفه إلى القمامة، وفي هذا استلاب فوقي، ولا إرادي للكاتب.
فتراه يتشبث بمظروفه الذي يحمل هويته ووجوده ومصداقيته، في صراع يبدو دائما غير متكافئ.
في الترجمة الانجليزية كلمة ملف تعني أيضا مصداقية، وتعني أوراق إعتماد، كما تعني أيضا الهوية.
إن هذه القوي الكابوسية التي تلح على تهميش الكلمة لتصبح من شأن الحذاء أليست هي نفسها تلك القوي الاغترابية في رائعة محمد حافظ رجب (الكرة ورأس الرجل)
تلك القوي التي أقصت الإنسان خارج الدائرة وقضت عليه بالتيه خارج ذاته، وانسانيته، وأن يكون لا منتميا، عدميا، تتحدد أحيانا في شكل علاقات إنسانية واقعية متحققة ومتعينة بوضوح في مستوى الواقع الفعلي كما في قصة الأستاذ، والمشنقة، والمحصل،، وأحيانا تواجهنا بالرمز والالماح، وتجريد عناصر الواقع والتفاصيل الجزئية إلى إطلاق الأسطورة وعموميتها كما في الثعبان، الكابوس، والشارع والفئران.
قصة الأستاذ :
المحاضر هو عميد الكلية يتفاعل مع الطلبة ويشرح يحلل، يضع أيدي تلاميذه على موطن الداء، لنجد في المقابل تلك الطالبة المتفوقة، والاولى رغم تجاوزها نسبة الغياب، وهي ليست ضمن دائرة التواصل والمشاركة الفعلية، ولكنها تمتلك مواهب بديلة أكثر فاعلية وجودي لهؤلاء الذين يحاضرون في دراسات الجدوى.
(شقراء، خضراء العينين، ذات ابتسامة ساحرة)
لسنا في حاجة للاسترسال في تداعيات الصورة، تفاعل الطلبة مع أستاذهم، العميد، وتلك المقابلة بين حديث الاستغلال الأمثل للموارد وشيزوفرينيا هذا الواقع المتردي، وما تثيره النتيجةمن قضايا فرعية كقرائن شرطية، فلسفة التعليم، وجدواه، تلك الفجوة بين ما يطرح للنقاش والواقع الفعلي، فلم لا يكون العميد مسخا بشكل آخر لتلك الشقراء، أم أن القضية تتجاوز هذا الانفصال المؤلم بين الشعار والواقع، وآلية تعليمية تكرس لعقلية الاسترجاع والحفظ، ولا حيلة للعميد نفسه كجزئية ضمنية لمعطيات هذا الواقع.
أنها النهاية الحتمية لكل المظاريف الصفراء، وهل من أمة في الأرض إلا نحن تغتال القصيدة، كما يقول نزار،،
تلك العقول المهاجرة التي احتفي بها الغرب وقلدها أرفع الأوسمة أولئك الذين لا يحتفون بالحسناوات، والراقصات، فماذا لو بقت تلك العقول بيننا؟!
هل كان سيتشبث بمظروفه الأصفر؟!
لعله كان سيرمي به إلى صندوق القمامة لينساق مع القطيع في أحلام رخيصة فلا يبصر إلا تحت قدميه كالخنازير.
هذه رسالة الكاتب، هامسة دون زعيق، وإن كانت قادرة على إطلاق كل الصرخات المكبوتة داخلنا.
قصة الثعبان :
درويش مخادع يعشم الناس بالماء والذهب، وتذيع شهرته فتستدعي الشيوخ فيرواغ كالثعبان، وهو المعادل الموضوعي الذي يجبر الضابط على اتخاذ نفس موقف الجندي المدان باللا انتماء فيعلن هو أيضا في لحظه موته أنه لا ينتمي لأحد.
قصة المحصل :
يجسد لنا مفهوما في علم الاجتماع هو التماهي، ازاء علاقات قوي لا طاقة لنا بضبطهاأو توجيهها، يتوجه المقهور إلى التماهي في الأقوى فيفرغ طاقات قهره فيمن هو أضعف.
صمت المحصل ازاء عنجهية الرجل الذي يركب وأولاده باشتراك زوجة منقبة ليس حياء في الواقع من التطلع لوجه الزوجة، لكنه الابتزاز الفكري والإرهاب باسم الدين، فإصراره بعد ذلك على قبض ثمن التذكرة كاملة من الجندي الرديف، ثم سلوكه مع القروية يكشف في الواقع عن عصاب قهري وليس قناعة عقلية سوية، المحصل مقهور وتفكيره مقهور، يستسلم لحالة لا واعية من الانتقام من الآخرين الأضعف شأنا.
قصة الشارع والفئران :
نجح المؤلف في توظيف المعادل الموضوعي، في حالة كابوسية من الضياع وانتفاء الروابط الإنسانية، تنتهي برغبة مهزومة في التكاتف مع كلب، بعدما أفضت محاولات الحديث مع بني الإنسان إلى لا شئ.
لا أحد ينظر للزوجة التي تبحث عن زوجها إلا باعتبارها فريسة ممكنة، فلا أحد يغني هنا، حتى الفرقة الموسيقية التي تحوب الشوارع هي في الواقع لا تغني، إنما هو سعار من النشاز.
إن الكاتب ينجح بمهارة في تصوير عالم مفتت لا رابط بين أحد، عالم لا إنساني، ممسوخ، مشوه، أناني، مفعم بالخسة، عالم كابوسي وسرابي،، قد تفتت إلى ذرات مصمتة هائمة في سديم من الأنانية والجشع والتكالب على الغرائز وحدها.
هذا هو عالم أحذية وكلمات، رصدته كاميرا يقظة، يعرف راصدها أي الزوايا الممكنة، هي الأكثر توفيقا، وإنجازا للمهمة.
(هي تجلس على الأرض من الإعياء، وقد اقترب منها صاحب المطعم، كان يتفحصها بعينين حمراوين مريبتين، وهي تتطلع إلى كلب بائع اللبن الهزيل)
فإذا كان هذا ما يعنيه الإنسان لسائر بني جنسه، فإن الكلب( يهز ذيله في سعادة بالغة ويرفع وجهه إليها)
إن شريف يقذف بقارئه في قلب تيه بشع أناني، لا مبالي، لاه بغرائزه الحيوانية، يجد فيه نفسه وحيدا، ضائعا، متألما... ولا أحد...
فهل نأخذ على الكاتب أن يقرن الكلمة التي كرمها الله وشرفها بالحذاء؟!
لعلني لا أكون مبالغا إذا قلت أن عنوان المجموعة كان أكثر توفيقا مما لو حاول الكاتب التلطف بنا، لتجميل وجه المسخ الشائن الذي كرمه الله وشرفه، فابتذله الإنسان ،وامتص ماءه حتي النخاع.
فأحيانا تكون صفعة منبهة أكثر رحمة بنا من تملق الزيف، والغفلة، والوهم كمنطق النعام.
ولعلني أطرح نفس التساول عن الوقت، هل هي قضية الوقت كما يلمح الكاتب، ربما هذه نقطة خلافي الوحيدة مع الكاتب، مع إعجابي واعتزازي بتلك الباقة الجميلة من القصص التي كانت بحجم طموحه وانحيازه لكل ما هو نبيل و إنساني .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...