في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتِّسعينيات، أو على الأقل، خلال النِّصف الثاني من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، اسألوا أمَّهات وآباء التَّلاميذ أو أولياءَ أمورهم "لماذا تبعثون بناتِكم وأبناءَكم إلى المدرسة؟"
الردُّ السريع، التِّلقائي والعفوي هو : "لإتمام دراستهم والحصول على شهادة تُمكِّنهم من الحصول على عملٍ يضمنون به مستقبلَهم". إنه الرَّدُّ الوجيه والمشروع الذي يوجد على طرف ألسنة، تقريبا، جميع المغاربة، ذكوراً وإناثاً، وخصوصا، أولئك الذين ينتظرون الدَّعمَ المادي من بناتِهم وأبنائهم. فما الذي يعنيه هذا الردُّ الوجيه والمشروع؟
ما يعنيه هذا الردُّ الوجيه والمشروع، هو أن نظرة الأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين المغاربة للدور الذي، من المفروض، أن تلعبَه المدرسةُ، قد تغيَّرت. فعِوض أن يَنظرَ المواطنون للمدرسة كمكانٍ للتَّعليم والتربية (بالمعنى البيداغوجي المتمثِّل في بناء شخصية المتعلِّنين فكريا، علميا واجتماعيا)، فإنهم أصبحوا ينظرون لهذه المدرسة كضامنٍ لمستقبل هؤلاء المُتعلِّمين. بل إنهم، بمجرَّد ما يبعثون بناتِهم وأبناءَهم إلى المدرسة، لا يترآى أمامهم إلا النجاح. إن هذه النَّظرة المُتمركِزة حول اعتبار المدرسة كضامنٍ لستقبل المتعلمين نظرةٌ يمكن إدراجُها، علمياً، فيما يُسمَّى ب"النظرة المادية/النفعية une vision matérialo-utilitariste. لماذا؟
لأنه لا يُنتظَر أن يقولَ أحدٌ من المواطنات والمواطنين إن المدرسةَ هي المكان الذي يُكمِّل ما بدأته الأُسرُ من تهذيبٍ وتربيةٍ لبناتِها وأبنائها. ولا يُنتَظَر أن يقولَ أحدٌ إن المدرسة هي المكان الذي يضمن تحرُّرَ émancipation وتفتُّحَ épanouissement المتعلِّمين فكريا واجتماعيا. ولا يُنتظرُ أن يقولَ أحدٌ إن المدرسةَ هي المكان الذي يتعلَّم فيه المُتعلِّمون الفكرَ النقدي وأخذ المبادرة وحلَّ المشكلات واستقلالية الرأي والذات… والدليل على ذلك، أنه، عندما ينتهي المُتعلِّمون من الدروس اليومية في المدرسة، ويعودون إلى منازلهم، غالباً ما يقول لهم الكِبارُ "نوض تْحْفَظِْ"، "واش حْفَظْتِِ"، "إِمْتَ غادي تْحْفَظْ"، "بَرَكَ مْنْ اللَّعْبْ وُنوضْ تْحْفَظْ"... يقولون هذا الكلامَ لأن النَّجاحَ في المدرسة، حسب ما يعتقدون، يلزمه فقط الحِفظُ… وفوق هذا وذاك، مخافةَ أن لا ينجحَ المتعلِّمون ويضيع مستقبلُهم.
بل إن النظرةَ المادية/النفعية طغت وتطغى وستطغى على كلِّ ما له وقعٌ إيجابي على تكوين شخصية المتعلِّمين. وحتى المدرسةُ تأقلمت مع هذه النظرة وأصبحت تُوفِّر للمتعلِّمين نوعين من الشهادات : شهادات عادية معروفة وشهاداتٌ مهنية، من المفروض، أن تُوفِّرَ لحامِلِيها عملاً في سوق الشغل.
فماذا يعني هذا التَّغييرُ الجذري في نظرة الأمهات والآباء وأولياء التلاميذ للمدرسة؟
ما يعنيه هذا التغيير الجذري هو أن أولويةَ المواطنات والمواطنين هي أن المدرسةَ، بصفة عامة، ليست إلا مرحلةً يمرُّ منها المتعلِّمون للحصول على شهادة تضمن لهم عملا في سوق الشغل، وبهذا العمل يضمنون مستقبلَهم. فعوض أن يعتبِرَ المواطنون المدرسةَ مكانَ تعلُّم وتعليمٍ وتهذيبٍ وتربيةٍ وتثقيفٍ وتكوين الشخصية وتحسين السلوك وتنمية المهارات والكفاءات…، فإنهم أختزلوا كلَّ هذه الأدوار في دورٍ واحدٍ متمثِّلٍ في ضمان مستقبل المتعلِّمين. فكيف سيكون موقفُ المواطنات والمواطنين إذا أصبحوا على وعيٍ بأن هذا الدَّورَ، المتمثِّل في كون المدرسة هي الضامن لمستقبل المتعلِّمين، هو نفسُه قد تغيَّرَ، أو على الأقل، إنه في طور التَّغيير. كيف ذلك؟
قبل الإجابة على هذا السُّؤال، أريد، كدعامة لما سأقوله فيما بعد، أن أُخبِرَ القارئَ بما قاله أحد المتعلِّمين لوالده. قال له : قُل لي ما هو راتبُك الشهري وأضمن لك أنه باستطاعتي أن أربحَه في يومٍ واحدٍ أو في يومين أو حتى في أسبوعٍ واحدٍ. ما قاله هذا المتعلِّمُ لوالدِه صحيح. وفيما يلي الدليل القاطع على صحَّته.
مع التَّطوُّر الهائل والخيالي الذي عرفه العلمُ و وليدتُه التِّكنولوجيا، أصبح من الممكن القيامُ بعدد كبيرٍ من الأنشطة البشرية activités humaines أو الأعمال البشرية اليومية travaux humains quotidiens عن بُعد à distance، أي دون التنقُّل من مكان إلى آخر. وهذا يعني أن الشخصَ الذي يقوم بعملٍ ما أو نشاطٍ ما، قد يبقى في منزله أو في أيِّ مكانٍ آخر، دون أن يُكلِّفَ نفسَه عناءَ التّنقُّل.
وأهمُّ ما جاء به التَّطوُّر العلمي والتِّكنولوجي، هو تقريبُ المسافات واقتصاد الوقت والجُهد وتلطيف كل عملٍ كان، في الماضي، شاقا. وفي هذا السياق، ما حصل من تجديدٍ وابتكار في المعلوميات informatique أدَّى إلى جعل التواصل بين الناس سهلا جدا وفوريا immédiat، عبر اختراع الانترنت internet وبفضلِه، ابتكار البريد الإلكتروني والواتساب WhatsApp والفايسبوك Facebook والانستكرام Instagram وتطبيقات applications أخرى كثيرة تسهِّل التواصل على غرار google و chrome و messenger و meet و zoom و tiktok…
كل هذه التطبيقات وُضِعت رهن إشارة المقاولات وعامة الناس الذين وجدوا فيها فرصةً ثمينةً لممارسة أنشطة مدِرَّة لأرباح هائلة، دون مغادرة منازلهم أو مقر سكناهم. ولعل أشهر هذه التطبيقات هي اليوتوب YouTube الذي، بفضل توفيره للصورة والصوت، أصبح كثيرٌ من الناس يُنشِئون قنوات خاصة بهم. ومن خلال هذه القنوات، من الممكن ربح أموال طائلة، عبر الإشهار أو ممارسة التجارة والتعليم عن بُعد أو تقديم الاستشارات أو أي نشاطٍ آخرَ يمكن القيامُ به عن بُعد.
ما هو مهمٌّ، في هذا الشأن، هو إمكانيةُ القيام بعددٍ كبير من الأنشطة أو الأعمال المُدِرَّة لأرباح طائلة دون عناء التنقُّل من مكان لآخر، أي القيام بهذه الأنشطة أو الأعمال عن بُعد. والقيام بهذه الأنشطة والأعمال لا يتطلَّب من المستَعمِل أن يكون ماهرا في المعلوميات أو في لغات البرمجة الحاسوبية les langages informatiques. لماذا؟ لأن تطبيقات التَّواصل جاهزة للاستعمال ولا تتطلَّب أن يكون مستعمِلُها ماهراً في المعلوميات.
فما هي، إذن، العِبرة التي يمكن استنتاجُها من هذا التَّحوُّل الهائل الذي أصبح واقعاً في الحياة اليومية للناس؟
أولا، ما قاله المتعلِّمُ لوالده صحيحٌ على طول الخط. ربح المال أصبح مُتاحاً لشريحةٍ عريضةٍ من الناس، وبدون عناء ومشقة.
ثانيا، العمل، بالمفهوم التَّقليدي، قد يُصبح، مستقبلاً، متجاوزاً. أي أن كثيرا من الأعمال، بالمفهوم المعاصر، لم يعد يتطلب مقرات وأجهزة مكتبية وأثاث… يكفي التَّوفُّر على حاسوب محمول ordinateur portable أو هاتف ذكي smartphone أو حاسوب لوحي tablette… واشتراكٍ في الأنترنت، ليُفتَحَ البابُ على مصراعيه لممارسة أنشطة مُدِرَّة للدخل.
السؤال الذي يفرض نفسَه، في هذا الصدد، هو: "هل هناك انعكاسات على ما تقوم به المدرسة، حاليا، من تعليم وتعلُّم"؟
بالطبع وبكل تأكيد، هناك انعكاسات على المدرسة وعلى ما تقوم به من تعليم وتعلُّم، إن هي بقيت على نمطِها التقليدي للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّكوين. بل ستُصبح متجاوزة ويحدث بينها وبين محيطها (واقعِها) الاجتماعي والاقتصادي تفاوتٌ صارخٌ décalage criant. بل إن كثيراً من المنظومات التربوية التي تُعاني، حالياً، من مُشكلات بنيوية وتربوية، ستنعزل كلِّياً عن المجتمع. بل ستُصبح عالةً على هذا المجتمع وغولاً يلتهم الأموالَ بدون فائدة.
إذن، تجب إعادة النظر، ليس فقط في مفهوم "المدرسة" و"التَّعليم" و"التعلُّم" و"التكوين"، لكن كذلك في مفهوم "العمل".
أولا، فيما يخصُّ المدرسة والتَّعليم والتَّعلُّم، من الضروري أن تتكيَّفَ أدوارُ المدرسة مع ما يحصل من تغييرات في المجتمع، وعلى رأس هذه التغييرات، التَّطوُّر الذي حصل ويحصل في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا. وعلى هذا الأساس، كل المعارف العلمية وغير العلمية التي تُبلِّغها المدرسةُ للمتعلِّمين، يجب أن تُسخَّرَ، حصريا، لبناء الإنسان المغربي، المتحرِّر والمتفتِّح اجتماعيا وفكريا، والقادر على أخذ المبادرات واتخاذ القرارات وحل المشكلات… وباختصار، المدرسة يجب أن تُعلِّمَ المتعلِّمَ كيف يتعلَّم ذاتياً autonomie d'apprentissage ، وخصوصا أن المعرفةَ، بجميع أشكالها، من الممكن أن توفِّرَها شبكات التواصل الاجتماعي.
ثانيا، أما فيما يخص التَّكوين formation، فبالإضافة إلى ماسبق، يجب أن يكون هذا التَّكوينُ مُكيَّفا مع ما حدث ويحدث من تطوُّر في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا. ولعل أهم تطوُّر جاء به هذان العلم والتِّكنولوجيا، هو الذكاء الاصطناعي l'intelligence artificielle. والذكاء الاصطناعي هو، في الحقيقية، تقليدٌ للذكاء البشري عن طريق إنتاج خوارزميات algorithmes التي هي عبارة عن سلسلة من التوجيهات instructions والعمليات opérations التي من الممكن برمجتُها عن طريق المعلوميات informatique لإيجاد حلٍّ أو حلولٍ لصِنفٍ من أصناف المشكلات. هذا هو الذكاء الاصطناعي الذي سيُجبر الناسَ على إعادة النظر في كثيرٍ من المفاهيم البشرية، وعلى رأسها مفهوم "العمل". هذا العمل الذي من الممكن، اعتماداً على الذكاء الاصطناعي، أن يستغنيَ عن اليد العاملة البشرية لاستبدالها ب"الروبوتات" robots.
ثالثاً، بفضل الذكاء الاصطناعي، مفهوم العمل ستطرأ عليه تغييرات جذرية. ولعل أهم تغيير سيعرفه مفهوم العمل هو أن كثيرا من الأعمال، بإمكان الإنسان أن يقومَ بها عن بعد أو عن طريق استبدال اليد العاملة البشرية بالروبوتات. ولهذا، فعالم العمل سينقلب رأساً على عقب.
هذا صحيح، لكن ما يجب توضيحُه، هو أن الذكاءَ الاصطناعي لا يمكن أن يُفكِّر بكيفية مستقلَّة، كما هو الشأن للعقل البشري. بإمكان الإنسان أن يُبرمجَ كثيرا من الأعمال، لكنها ستؤدَّى حسب ما تُمليه عليها الخوارزميات. وهذا دليلُ على أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يحلَّ مخلَّ العقل البشري. إنه ثورةٌ فكرية، علمية، تكنولوجية، لكنه محدودَ الإمكانيات. والذكاء الاصطناعي معمولٌ به، حالياً، في الهواتف الذكية، في الطيران المدني، في الطيران العسكري، في الصناعة الفضائية، في الأسلحة البالِستية armes balistiques، في صناعة السيارات…
ما أختم به هذه المقالة، هو أن مجيءَ الذكاء الاصطناعي سيُغيِّر مفهومَ العمل. ومفهوم العمل مرتبطٌ، إجباريا، بمفهوم المدرسة. كل هذه المفاهيم ستتغيَّر تغييرا جذرياً. وهذا يعني أن نظرةَ الناس لكثير من المفاهيم، من الضروري أن تتغيَّر. ولهذا، فاعتبار المدرسة ضامنا لمستقبل المتعلِّمين قد يطرأ عليه هو الآخر تغييرٌ. لماذا؟ لأنه، مع مجيء الذكاء الاصطناعي، لا أحدَ يعرف ما هو الشكل الذي ستتخذه المدرسة. هل ستحتاج إلى أبنية، إلى إدارة، إلى أساتذة… أم أن المدرسة ستدخل البيوتَ عن طريق الذكاء الاصطناعي؟
وهذا التَّطوُّر الذي عرفته البشريةُ ماضياً، وتعرفه حاليا، وستعرفه مستقبلا، مشارُ إليه في القرآن الكريم، من خلال الآية رقم 44 من سورة الأنعام، التي نصُّها : "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ".
ما نستنتِجه من هذه الآية، هو أن القرآنَ الكريمَ رسم للناس طريق الخير ونصحهم بأن يتَّبعوه. غير أن عالمنا اليوم يتَّجه بسرعة فائقة نحو الماديات matérialisme، وعلى حساب الروحانيات spiritualisme. أي أن العقلَ البشري سيصل إلى مستوى عالي جدا من الإبداع الفكري، العلمي والتِّكنولوجي. وهو ما نلمسُه من خلال قوله، سبحانه وتعالى : "...فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ…". و"كُلِّ شَيْءٍ" تعني، حسب تحليلي الشخصي، كلَّ ما وصل إليه العقلُ البشري من تقدُّمٍ علمي وتكنولوجي.
الردُّ السريع، التِّلقائي والعفوي هو : "لإتمام دراستهم والحصول على شهادة تُمكِّنهم من الحصول على عملٍ يضمنون به مستقبلَهم". إنه الرَّدُّ الوجيه والمشروع الذي يوجد على طرف ألسنة، تقريبا، جميع المغاربة، ذكوراً وإناثاً، وخصوصا، أولئك الذين ينتظرون الدَّعمَ المادي من بناتِهم وأبنائهم. فما الذي يعنيه هذا الردُّ الوجيه والمشروع؟
ما يعنيه هذا الردُّ الوجيه والمشروع، هو أن نظرة الأغلبية الساحقة من المواطنات والمواطنين المغاربة للدور الذي، من المفروض، أن تلعبَه المدرسةُ، قد تغيَّرت. فعِوض أن يَنظرَ المواطنون للمدرسة كمكانٍ للتَّعليم والتربية (بالمعنى البيداغوجي المتمثِّل في بناء شخصية المتعلِّنين فكريا، علميا واجتماعيا)، فإنهم أصبحوا ينظرون لهذه المدرسة كضامنٍ لمستقبل هؤلاء المُتعلِّمين. بل إنهم، بمجرَّد ما يبعثون بناتِهم وأبناءَهم إلى المدرسة، لا يترآى أمامهم إلا النجاح. إن هذه النَّظرة المُتمركِزة حول اعتبار المدرسة كضامنٍ لستقبل المتعلمين نظرةٌ يمكن إدراجُها، علمياً، فيما يُسمَّى ب"النظرة المادية/النفعية une vision matérialo-utilitariste. لماذا؟
لأنه لا يُنتظَر أن يقولَ أحدٌ من المواطنات والمواطنين إن المدرسةَ هي المكان الذي يُكمِّل ما بدأته الأُسرُ من تهذيبٍ وتربيةٍ لبناتِها وأبنائها. ولا يُنتَظَر أن يقولَ أحدٌ إن المدرسة هي المكان الذي يضمن تحرُّرَ émancipation وتفتُّحَ épanouissement المتعلِّمين فكريا واجتماعيا. ولا يُنتظرُ أن يقولَ أحدٌ إن المدرسةَ هي المكان الذي يتعلَّم فيه المُتعلِّمون الفكرَ النقدي وأخذ المبادرة وحلَّ المشكلات واستقلالية الرأي والذات… والدليل على ذلك، أنه، عندما ينتهي المُتعلِّمون من الدروس اليومية في المدرسة، ويعودون إلى منازلهم، غالباً ما يقول لهم الكِبارُ "نوض تْحْفَظِْ"، "واش حْفَظْتِِ"، "إِمْتَ غادي تْحْفَظْ"، "بَرَكَ مْنْ اللَّعْبْ وُنوضْ تْحْفَظْ"... يقولون هذا الكلامَ لأن النَّجاحَ في المدرسة، حسب ما يعتقدون، يلزمه فقط الحِفظُ… وفوق هذا وذاك، مخافةَ أن لا ينجحَ المتعلِّمون ويضيع مستقبلُهم.
بل إن النظرةَ المادية/النفعية طغت وتطغى وستطغى على كلِّ ما له وقعٌ إيجابي على تكوين شخصية المتعلِّمين. وحتى المدرسةُ تأقلمت مع هذه النظرة وأصبحت تُوفِّر للمتعلِّمين نوعين من الشهادات : شهادات عادية معروفة وشهاداتٌ مهنية، من المفروض، أن تُوفِّرَ لحامِلِيها عملاً في سوق الشغل.
فماذا يعني هذا التَّغييرُ الجذري في نظرة الأمهات والآباء وأولياء التلاميذ للمدرسة؟
ما يعنيه هذا التغيير الجذري هو أن أولويةَ المواطنات والمواطنين هي أن المدرسةَ، بصفة عامة، ليست إلا مرحلةً يمرُّ منها المتعلِّمون للحصول على شهادة تضمن لهم عملا في سوق الشغل، وبهذا العمل يضمنون مستقبلَهم. فعوض أن يعتبِرَ المواطنون المدرسةَ مكانَ تعلُّم وتعليمٍ وتهذيبٍ وتربيةٍ وتثقيفٍ وتكوين الشخصية وتحسين السلوك وتنمية المهارات والكفاءات…، فإنهم أختزلوا كلَّ هذه الأدوار في دورٍ واحدٍ متمثِّلٍ في ضمان مستقبل المتعلِّمين. فكيف سيكون موقفُ المواطنات والمواطنين إذا أصبحوا على وعيٍ بأن هذا الدَّورَ، المتمثِّل في كون المدرسة هي الضامن لمستقبل المتعلِّمين، هو نفسُه قد تغيَّرَ، أو على الأقل، إنه في طور التَّغيير. كيف ذلك؟
قبل الإجابة على هذا السُّؤال، أريد، كدعامة لما سأقوله فيما بعد، أن أُخبِرَ القارئَ بما قاله أحد المتعلِّمين لوالده. قال له : قُل لي ما هو راتبُك الشهري وأضمن لك أنه باستطاعتي أن أربحَه في يومٍ واحدٍ أو في يومين أو حتى في أسبوعٍ واحدٍ. ما قاله هذا المتعلِّمُ لوالدِه صحيح. وفيما يلي الدليل القاطع على صحَّته.
مع التَّطوُّر الهائل والخيالي الذي عرفه العلمُ و وليدتُه التِّكنولوجيا، أصبح من الممكن القيامُ بعدد كبيرٍ من الأنشطة البشرية activités humaines أو الأعمال البشرية اليومية travaux humains quotidiens عن بُعد à distance، أي دون التنقُّل من مكان إلى آخر. وهذا يعني أن الشخصَ الذي يقوم بعملٍ ما أو نشاطٍ ما، قد يبقى في منزله أو في أيِّ مكانٍ آخر، دون أن يُكلِّفَ نفسَه عناءَ التّنقُّل.
وأهمُّ ما جاء به التَّطوُّر العلمي والتِّكنولوجي، هو تقريبُ المسافات واقتصاد الوقت والجُهد وتلطيف كل عملٍ كان، في الماضي، شاقا. وفي هذا السياق، ما حصل من تجديدٍ وابتكار في المعلوميات informatique أدَّى إلى جعل التواصل بين الناس سهلا جدا وفوريا immédiat، عبر اختراع الانترنت internet وبفضلِه، ابتكار البريد الإلكتروني والواتساب WhatsApp والفايسبوك Facebook والانستكرام Instagram وتطبيقات applications أخرى كثيرة تسهِّل التواصل على غرار google و chrome و messenger و meet و zoom و tiktok…
كل هذه التطبيقات وُضِعت رهن إشارة المقاولات وعامة الناس الذين وجدوا فيها فرصةً ثمينةً لممارسة أنشطة مدِرَّة لأرباح هائلة، دون مغادرة منازلهم أو مقر سكناهم. ولعل أشهر هذه التطبيقات هي اليوتوب YouTube الذي، بفضل توفيره للصورة والصوت، أصبح كثيرٌ من الناس يُنشِئون قنوات خاصة بهم. ومن خلال هذه القنوات، من الممكن ربح أموال طائلة، عبر الإشهار أو ممارسة التجارة والتعليم عن بُعد أو تقديم الاستشارات أو أي نشاطٍ آخرَ يمكن القيامُ به عن بُعد.
ما هو مهمٌّ، في هذا الشأن، هو إمكانيةُ القيام بعددٍ كبير من الأنشطة أو الأعمال المُدِرَّة لأرباح طائلة دون عناء التنقُّل من مكان لآخر، أي القيام بهذه الأنشطة أو الأعمال عن بُعد. والقيام بهذه الأنشطة والأعمال لا يتطلَّب من المستَعمِل أن يكون ماهرا في المعلوميات أو في لغات البرمجة الحاسوبية les langages informatiques. لماذا؟ لأن تطبيقات التَّواصل جاهزة للاستعمال ولا تتطلَّب أن يكون مستعمِلُها ماهراً في المعلوميات.
فما هي، إذن، العِبرة التي يمكن استنتاجُها من هذا التَّحوُّل الهائل الذي أصبح واقعاً في الحياة اليومية للناس؟
أولا، ما قاله المتعلِّمُ لوالده صحيحٌ على طول الخط. ربح المال أصبح مُتاحاً لشريحةٍ عريضةٍ من الناس، وبدون عناء ومشقة.
ثانيا، العمل، بالمفهوم التَّقليدي، قد يُصبح، مستقبلاً، متجاوزاً. أي أن كثيرا من الأعمال، بالمفهوم المعاصر، لم يعد يتطلب مقرات وأجهزة مكتبية وأثاث… يكفي التَّوفُّر على حاسوب محمول ordinateur portable أو هاتف ذكي smartphone أو حاسوب لوحي tablette… واشتراكٍ في الأنترنت، ليُفتَحَ البابُ على مصراعيه لممارسة أنشطة مُدِرَّة للدخل.
السؤال الذي يفرض نفسَه، في هذا الصدد، هو: "هل هناك انعكاسات على ما تقوم به المدرسة، حاليا، من تعليم وتعلُّم"؟
بالطبع وبكل تأكيد، هناك انعكاسات على المدرسة وعلى ما تقوم به من تعليم وتعلُّم، إن هي بقيت على نمطِها التقليدي للتَّعليم والتَّعلُّم والتَّكوين. بل ستُصبح متجاوزة ويحدث بينها وبين محيطها (واقعِها) الاجتماعي والاقتصادي تفاوتٌ صارخٌ décalage criant. بل إن كثيراً من المنظومات التربوية التي تُعاني، حالياً، من مُشكلات بنيوية وتربوية، ستنعزل كلِّياً عن المجتمع. بل ستُصبح عالةً على هذا المجتمع وغولاً يلتهم الأموالَ بدون فائدة.
إذن، تجب إعادة النظر، ليس فقط في مفهوم "المدرسة" و"التَّعليم" و"التعلُّم" و"التكوين"، لكن كذلك في مفهوم "العمل".
أولا، فيما يخصُّ المدرسة والتَّعليم والتَّعلُّم، من الضروري أن تتكيَّفَ أدوارُ المدرسة مع ما يحصل من تغييرات في المجتمع، وعلى رأس هذه التغييرات، التَّطوُّر الذي حصل ويحصل في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا. وعلى هذا الأساس، كل المعارف العلمية وغير العلمية التي تُبلِّغها المدرسةُ للمتعلِّمين، يجب أن تُسخَّرَ، حصريا، لبناء الإنسان المغربي، المتحرِّر والمتفتِّح اجتماعيا وفكريا، والقادر على أخذ المبادرات واتخاذ القرارات وحل المشكلات… وباختصار، المدرسة يجب أن تُعلِّمَ المتعلِّمَ كيف يتعلَّم ذاتياً autonomie d'apprentissage ، وخصوصا أن المعرفةَ، بجميع أشكالها، من الممكن أن توفِّرَها شبكات التواصل الاجتماعي.
ثانيا، أما فيما يخص التَّكوين formation، فبالإضافة إلى ماسبق، يجب أن يكون هذا التَّكوينُ مُكيَّفا مع ما حدث ويحدث من تطوُّر في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا. ولعل أهم تطوُّر جاء به هذان العلم والتِّكنولوجيا، هو الذكاء الاصطناعي l'intelligence artificielle. والذكاء الاصطناعي هو، في الحقيقية، تقليدٌ للذكاء البشري عن طريق إنتاج خوارزميات algorithmes التي هي عبارة عن سلسلة من التوجيهات instructions والعمليات opérations التي من الممكن برمجتُها عن طريق المعلوميات informatique لإيجاد حلٍّ أو حلولٍ لصِنفٍ من أصناف المشكلات. هذا هو الذكاء الاصطناعي الذي سيُجبر الناسَ على إعادة النظر في كثيرٍ من المفاهيم البشرية، وعلى رأسها مفهوم "العمل". هذا العمل الذي من الممكن، اعتماداً على الذكاء الاصطناعي، أن يستغنيَ عن اليد العاملة البشرية لاستبدالها ب"الروبوتات" robots.
ثالثاً، بفضل الذكاء الاصطناعي، مفهوم العمل ستطرأ عليه تغييرات جذرية. ولعل أهم تغيير سيعرفه مفهوم العمل هو أن كثيرا من الأعمال، بإمكان الإنسان أن يقومَ بها عن بعد أو عن طريق استبدال اليد العاملة البشرية بالروبوتات. ولهذا، فعالم العمل سينقلب رأساً على عقب.
هذا صحيح، لكن ما يجب توضيحُه، هو أن الذكاءَ الاصطناعي لا يمكن أن يُفكِّر بكيفية مستقلَّة، كما هو الشأن للعقل البشري. بإمكان الإنسان أن يُبرمجَ كثيرا من الأعمال، لكنها ستؤدَّى حسب ما تُمليه عليها الخوارزميات. وهذا دليلُ على أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يحلَّ مخلَّ العقل البشري. إنه ثورةٌ فكرية، علمية، تكنولوجية، لكنه محدودَ الإمكانيات. والذكاء الاصطناعي معمولٌ به، حالياً، في الهواتف الذكية، في الطيران المدني، في الطيران العسكري، في الصناعة الفضائية، في الأسلحة البالِستية armes balistiques، في صناعة السيارات…
ما أختم به هذه المقالة، هو أن مجيءَ الذكاء الاصطناعي سيُغيِّر مفهومَ العمل. ومفهوم العمل مرتبطٌ، إجباريا، بمفهوم المدرسة. كل هذه المفاهيم ستتغيَّر تغييرا جذرياً. وهذا يعني أن نظرةَ الناس لكثير من المفاهيم، من الضروري أن تتغيَّر. ولهذا، فاعتبار المدرسة ضامنا لمستقبل المتعلِّمين قد يطرأ عليه هو الآخر تغييرٌ. لماذا؟ لأنه، مع مجيء الذكاء الاصطناعي، لا أحدَ يعرف ما هو الشكل الذي ستتخذه المدرسة. هل ستحتاج إلى أبنية، إلى إدارة، إلى أساتذة… أم أن المدرسة ستدخل البيوتَ عن طريق الذكاء الاصطناعي؟
وهذا التَّطوُّر الذي عرفته البشريةُ ماضياً، وتعرفه حاليا، وستعرفه مستقبلا، مشارُ إليه في القرآن الكريم، من خلال الآية رقم 44 من سورة الأنعام، التي نصُّها : "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ".
ما نستنتِجه من هذه الآية، هو أن القرآنَ الكريمَ رسم للناس طريق الخير ونصحهم بأن يتَّبعوه. غير أن عالمنا اليوم يتَّجه بسرعة فائقة نحو الماديات matérialisme، وعلى حساب الروحانيات spiritualisme. أي أن العقلَ البشري سيصل إلى مستوى عالي جدا من الإبداع الفكري، العلمي والتِّكنولوجي. وهو ما نلمسُه من خلال قوله، سبحانه وتعالى : "...فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ…". و"كُلِّ شَيْءٍ" تعني، حسب تحليلي الشخصي، كلَّ ما وصل إليه العقلُ البشري من تقدُّمٍ علمي وتكنولوجي.