عزيز معيفي - حين يتحول المغرب الأخضر إلى فرجة ساخرة

حاميد اليوسفي يملك فوق عشر بصمات، بصمة من نوع خاص.. بصمة لا ترتبط بالخطوط التي تعلو أطراف الأصابع، وتجعلها متفردة ودالة على صاحبها:
إنها بصمة الكتابة القصصية ..
فوق كل ذلك يمكن استشعار أثر التواصل الفني الذي يحدثه هذا القاص المقتدر في نفس القارئ بعد أن حوله إلى ثمرات ناضجة متدلية من أغصان شجرة الإبداع، وقد سقاها من شغفه بالمعاني الحقيقية التي قد تتولد عن فرح بسيط في خضم دهر من المعاناة..
من يُحس بظمأ المتلقي لنسمة الإبداع المتجذر في الحياة، من المؤكد أنه قُدّ من صخر القناعة بأحقية الإنسان المغلوب في أن يصرخ طلبا لحقه في الحرية..
غير أن هذا كله لا ينفي قدرته الى أن يكمن للمتلقي في منعرج من المنعرجات الفنية، ويفاجئه بحركة بهلوانية نيسينية1 تجعله يغادر موقع القارئ المستهلك، ويستبدله بموقع القارئ المستكشف لما استشكل من أمور الحياة..
في نص "من الأخضر المخطط أم نحن؟"، يوضع المتلقي في موضع الغر الذي لا يستطيع فك طلاسم التلاعب بحقه في توزيع الثروة.. تماما كما العمة "عائشة"، وهي تتساءل عن مخطط بلغ سبعة عشر سنة من عمره، وفعل ما فعل بالبلد، بحيث أدخله في فقر ليس له عهد به، ومع ذلك هي لا تدرك هل صفة الأخضر تعود إلى لونه أم إلى غباء المواطن الذي اكتفى باستهلاك "الكذب" بدل ما كانت تجود به البادية المغربية.
حصل انزياح في الدليل "أخضر" معجميا، بحيث تحول من الدلالة على البعد البصري إلى الدلالة على غياب النباهة في الإدراك، وهو ما يجعل القارئ يكتشف ما يغلف واقع الحال من ادعاءات أيدولوجية الغرض منها إخفاء فئات اجتماعية حولت نشاطها الاقتصادي إلى ما يشبه نهب الثروات الفلاحية. والحال أن ما لا يقوله المخطط الأخضر عمل السارد على كشفه بعد فضح عملية اخفاء مزدوجة:
*إخفاء أن المغرب الأخضر كان موجها لفئات من البرجوازية الكمبرادورية، وليس للفلاح المغربي كيفما كان متوسطا أو صغيرا.
*ما تم تقديمه من معطيات دالة على المشروع لا تكشف مخاطره على الفرشة المائية، بفضل اعتماده على السقي بالتنقيط. وهي عملية خطيرة تؤدي إلى تجفيف الفرشة المائية في حالة توالي سنوات الجفاف.
المعلومات التي يقدمها محرك البحث "جوجل" لا تتضمن كل ما يشير إلى ما حصل من أعطاب جعلت من هذا المشروع يحول البلد إلى قفة "أوروبا"، في حين ارتفعت أسعار الخضر واللحوم، وبقي المواطن في وضع المتفرج المتابع لفئات سرطانية، اغتنت بسرعة دون أن تأبه بما سيحصل فيما بعد للبلد
جعل السارد شخصية "هاشم" شخصية تتميز بخفة الدم، وبخيال واسع، قادر على استيعاب أساليب التخفي التي يمارسها القائمون على برنامج المغرب الأخضر الذي أخل بالتوازن السوسيولوجي بين البادية والمدينة، وحول النشاط الفلاحي إلى فرصة لامتصاص الأرباح!! ولا حاجة للتذكر بأن الدولة كقوانين ومؤسسات لم تسع إلا لتسمين السمين وإغراق الغث في نومه ومآله.
عادة ما تتميز مناقشة البرامج السياسية والتنموية بالجفاف، لذلك يصعب الانخراط فيها قصصيا. غير أن بصمة اليوسفي القصصية، حولت هذا النقاش إلى مجرد حديث عائلي بين "عائشة" وابن أخيها "هاشم"، كما أنزلته من سماء النخبة كالبرلمان، والتلفزة الرسمية، والصحافة الصفراء بشقيها الورقي والوسائطي المرئي، وجعلته نقاشا عاديا بسيطا ينخرط فيه الكل.
هذا التحول في المنزلة، يُعزى أساسا للحس الساخر الذي طبع أسلوب اليوسفي القصصي. فهو قادر على التقاط التناقضات، واستغلالها بشكل كاريكاتوري، قد يُعطي عكس ما يراد منها.
"ماذا سيعمل المخطط الأخضر؟ قالوا بأنه سيطور إنتاج الدواجن واللحوم الحمراء والخضراوات والبواكر والحبوب والأرز والنباتات الزيتية وأركان والزعفران.. الخ"
يتضح من خلال التكرار أن هذا المخطط يهدف إلى خلق فرص حقيقية لإنتاج الثروة.. والحال أن كل المنتوجات المذكورة تم تحويلها إلى التصدير ـ شمالا نحو أوروبا ـ وجنوبا نحو موريطانيا ومالي ـ، اشتعلت أسعارها وأصبحت في عداد الممتنع الذي لا تستطيع إليه القدرة الشرائية سبيلا.
في ظل غياب نقاش عمومي ينبه إلى مخاطر المخطط الأخضر، فإن هذا النص القصصي أشعل فتيل الاهتمام لدى القارئ النبيه و"النموذجي" حسب تعبير أومبرتو إيكو، وحوّل ما قد يدعيه البعض من أحقية في الاستيلاء على ثروات البلد إلى مجرد نهب وسرقة لا يستحق أن نتعامل معه إلا بالرفض والسخرية.
الهامش:


ـ نيسينية1: نسبة إلى القاص التركي الرائع عزيز نيسين


مكناس 15 / 10 / 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...