طلحة جبريل - الصحراء في الأدب والمخيلة العربية...

كانت ثمة محاولة في الستينات قام بها أدباء سودانيون لإيجاد هوية الكاتب العربي في " إفريقيا العربية".

كانت تلك المحاولة في واقع الأمر نتاج أسئلة مقلقة ، أسئلة حائرة حول صياغة هوية لأدب عربي بعمق أفريقي .

حاولت تلك الثلة من الأدباء أن تخلق تزاوجاً طبيعياً بين حالتين جغرافيتين هما في الوقت نفسه حالتين للإبداع .

ولم يجد أولئك الأدباء كبير عناء ليقولوا لنا إن هذا الأدب العربي الإفريقي هو بالضبط يمثله ذلك اللقاء الطبيعي بين " الغابة والصحراء " ، لذلك حاولوا الترويج لفكرة " جماع الغابة والصحراء " كوعاء أدبي وكهوية أيضاً.

في تلك الفترة كان الطيب صالح قد كتب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" ، وربما التقط أولئك الأدباء بعض الأفكار حول هذه العلاقة بين العروبة والأفريقية ، بين الغابة والصحراء حين كتب الطيب صالح على لسان مصطفى سعيد بطل الرواية يقول " نعم. هذا أنا- وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ورأسي إفريقي يمور بطفولة شريرة ".

لكن تلك المحاولة ، أي خلق علاقة أدبية على أساس جماع " الغابة والصحراء "

بدت محاولة غير ذات معنى في سنوات لاحقة عندما أصبح الأدب نفسه يتخلص في قيوده المحلية في كل مكان وينزع نزوعاً كونياً . يمكن للصحراء كركن أساسي من أركان المخيلة الأدبية العربية أن نبقى كما هي ، وترفد الأدب العالمي بمكنوناتها ، كما يمكن " للغابة" أن تعكس واقع حالها الإبداعي ، وتصبح جزءً أصيلاً من " الأدب الكوني ".

وبالتالي يمكن أن نعد وول سونيكا النيجري كواحد من أبرز مائة كاتب في القرن العشرين ، والطيب صالح كذلك كواحد من أبرز مائة كاتب كما قرر ذلك الدانماركيون .

واحد إفريقي "غابوي " إذا جاز التعبير ، وهو يجوز في دلالته الإبداعية ، وآخر عربي صحراوي ، أيضاً إذا جاز التعبير وهو يجوز . كلاهما يتكاملان في قارة المستقبل قارتنا جميعاً إفريقيا .

وإذا كنا بهذا التوضيح كما بدا لي شخصياً فد جعلنا الصحراء هي الفضاء الملهـم للأدب العربي ، دعونا نقول لماذا ظلت " الصحراء" تتبوأ هذه المكانة في المخيلة العربية ، بكلمات أخرى لماذا أصبحتا هي المحور إلى الأدب العربي .

أظن أنه في بعض الأحيان سيكون مجدياً أن نصيخ السمع لرأي آخرين من خارج

نطاق عالمنا العربي . لنتبين بعض الأمور الني لا تلفت انتباهنا لأننا ببساطة نعيشها ، ونتعايش معها .

سأستعين في هذا الصدد برأي المستشرقة الأمريكية كونستتين كولي الأستاذة في

جامعة فيسار في نيويورك حول تأثيرات الصحراء على المخيلة والإبداع العربي ، وهذه السيدة يعتد برأيهـا لسببين لأنها أقامت فترة طويلة في المنطقة العربية ودرست أحوالها دون تعصب أو تحيز ، ثم لنق كتاباتها تتسم . بالموضوعية والنزاهة

حول العالم العربي خصوصاً حول ما يمكن أن نسميهم " بالعرب الأفارقة " أو الأفارقة العرب " إن. شئتم .

تقول السيدة كولي " لم أكن أفهم لماذا يحتفي العرب كل هذا الاحتفاء بالصحراء . كيف تكون كثبان الرمال والماء الذي يبدو سراباً والهجير والريح ملهماً بل كيف يمكن أن تكون اللاحياة في الصحاري هي بالضبط الحياة عند المبدعين وفي تراث العرب ؟ وحتى في الليل كيف يكون الظلام الدامس في الصحاري أو النجوم البعيدة جدا مادة للإبداع كذلك ؟ " .

هكذا طرحت السيدة كولي أسئلتها ، وربما لحسن حظنا فإنه الإجابة على تلك الأسئلة كانت موجزة مركزة والأهم من ذلك واضحة وموضوعية ومقنعة .

تقول كولي " إن الصحراء ليست بالضبط حيوات ( جمع حياة ) تزخر بأشياء تلهم

المبدعين في العالم العربي ، بل هي مكان يجعل العرب يتأملون... ويذهب هذا التأمل إلى حدوده القصوى إلى حد البحث عن أجوبة كونية UNIVERSAL وفي خلال عملية البحث تتولد العملية الإبداعية. إن جذور العرب تعود إلى هذا الاتساع المترامي أي الصحراء ، وهم يمزجون في غالب الأحيان بين الماضي والحاضر والمدهش أنهم يبحثون أيضاً في المستقبل ، لذلك ستبقى الصحراء أي المكان واللامكان حاضرة باستمرار في الكتابة العربية وفي الإبداع العربي ".

وتكشف لنا هذه المستشرفة عن مسألة ربما تثير جدلاً لكنها تستحق الانتباه حين تقول " إن العرب عبروا البحار والمحيطات حين خرجوا من أرضهم يبشرون بالدين الجديد وحتى أرضهم الأصلية تحمل أسم شبه الجزيرة العربية " لأن البحار تحيط بها ورغم ذلك فإنهم لا يأبهون إطلاقاً بالبحر ، بل إنهم وهم على بعد آلاف الكيلومترات من " شبه الجزيرة " كان بعض مبدعيهم بحنون إلى أرضى لم تطأها أقدامهم لكنها موجودة في كتاباتهم وهو ما نجده في أدب الأندلس ".

هكذا التقطت هذه المستشرقة مسألة الصحراء في المخيلة العربية.

لكن هل من الممكن أن نتحدث عن كل هذا الدور " للصحراء " في المخيلة العربية دون أن نقف عند الأداة. أي اللغة العربية.

لا شك أن ذلك سيكون عملاً مبتسراً.

لقد اشتهدت بمستشرقة أمريكية عند الحديث عن مسألة " الصحراء " وسأستهل الجزء الآخر من هذه المداخلة بكلمة جميلة قالها في حق اللغة العربية المستشرق الروسي بيرلتس قال بيرلتس " إن العربية هي لاتينية الشرق ".

ويبدو لي أن وجه الشبه هنا في الانتشار والشمول . لقد عمت العربية في كل أجزاء العالم ، وكانت في يوم من أيام هذا الكون لغة العلوم والفلسفة. حتى الأدب العربي القديم عرف لدى شعوب العالم القديم وبالطبع الحديث . والقاعدة الذهبية لهذا الأدب معترف به قبل أن تعد الجوائز الكبرى ، بدءً بامرؤ القيس الكندي وانتهاءً بالعديد من شعراء العصور المتأخرة ازدحمت دوائر المعارف الأوربية بإنتاج وترجمات أولئك الشعراء ، وكان تأثير المقامة العربية على القصة الأوربية في أدب القرنين السادس عشر والسابع عشر واضحاً على وجه التحديد .

وقبل حلول القرن العشرين أخذت النهضة الأوربية تعكس آثارها على أدب الشرق وحضارته بعامة وعلى الآداب والفنون بصفة خاصة ووضح أثرها فيما سمي بحركة " المودرنيزم " التي كان من نتاجها ظهور أدب النهضة العربية في القرن الماضي .

إن القدرة الإبداعية الكامنة في اللغة العربية من حيث هي كلغة لا يمكن اختزالها في هذه الورقة . ذلك أمر مختلف يجب أن يكون له مكانه وزمانه .

لذلك سأختم بفكرة حول الإبداع الأدبي من حيث هو كعمل راق يقوم لهه بشر راقون .

الإبداع في رأيي يمر من ثلاث درجات : النقاء الذاتي للمبدع . ثم مرحلة الصورة الذهنية والاندماج معها . ثم تجسيد ذلك في صورة محسوسة . هذه هو كما يبدو الطريق فيما يتعلق بالإبداع الأدبي .

وببدو دون تعصب أو تحيز ، أن افضل مكان للتدرج بهذه الكيفية هو بالضبط : الصحراء .

لقد منحنا "المكان " وقد كتب باشلار الكثير جداً عن فلسفة المكان ، الكثير ، والصحراء كمكان قادرة أن تمنحنا الكثير أيضاً.

منها يأتي الخير ومنها يأتي الشر كما قالت البدو قديماً. ونحن لا نأمل إلا الخير .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...