د. بوزيد الغلى - الصحراء والكتابة: من زمن الحكاية إلى زمن الرواية..

[HEADING=2]ليس سرا أن السرد المكتوب في الصحراء لا يزال طريّ العود، نظراً لحداثة سنه، رغم عراقة تقاليد الكتابة في المغرب الصحراوي الذي ألف أبناؤه في الماضي لفيفاً من الكتب التي تراوحت بين الشعر والنثر، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر مؤلفات الشيخ محمد المامي والشيخ ماء العينين وغيرهما كثير.

ولا يسوغ الكلام عن السرد المكتوب، قصة كان أو رحلة أو رواية أو نصا مسرحيا دون التنويه بغلبة الثقافة الشفهية وتسيّدها طيلة حقب متطاولة، فالنصوص السردية بالصحراء إنما خرجت من تحت معطف الثقافة الشفهية التي أنتجت الحكايات الشعبية والأشكال الفرجوية، فضلا عن الأشعار والألغاز والأمثال الحسانية، وإذا كان من أوائل النصوص السردية المكتوبة "الرحلة المعينية" لابن العتيق، فإن ذلك لا يعني غياب السرد المكتوب عن المجال الصحراوي الذي يصعب من الناحية الثقافية فصله عن محيطه وامتداده البيضاني الذي نما فيه السرد واشتد عوده، خاصة في القطر الموريتاني الذي أنجزت عنه July Blalack رسالة جامعية مهمة شملت التعريف بمنجزه النثري على امتداد عقود عديدة.

ومع صعوبة وضع تحقيب دقيق لصيرورة السرد المكتوب في الصحراء خلال الفترة الاستعمارية وما قبلها، فإن المعول عليه، أن انحسار زمن البداوة والترحال بعد استرجاع الصحراء، لم يخلق طفرة محايثة من حيث الانتقال من السرد الشفهي بأجناسه المذكورة آنفا إلى السرد المكتوب، بقدر ما أثمر هذه الطفرة وقفُ إطلاق النار مع غرة التسعينات والإفراج عن معتقلي سنوات الجمر والرصاص ثم ارتفاع نسب المتعلمين،ودليل ذلك يتمثل في ثلاثة مؤشرات:

-تاريخ صدور أول رواية بالصحراء هو 1997 (لا أحد يعرف ما أريده الفائزة بجائزة في لبنان يومها)

-أول نص سردي يكشف حقائق مؤلمة عن سنوات الجمر والرصاص هو نص "أنشودة الصحراء الدامية" للقاضي ماء العينين ماء العينين، تقديم إدريس نقوري.

-أول سيرة سجنية توثق ما جرى في معتقلات أكدز وقلعة مكونة هو "ليال بلا قمر" الصادر تباعا باللغتين العربية والفرنسية عن صاحبه الطبيب الدكتور عبد الرحمان خواجة الذي قضى 15 سنة سجنا دون محاكمة.

لقد انتبهت أوديت دوبيكَودو إلى أن الصحراء فضاء يشجع على الإبداع ويلهب الخيال، إذ أوردت خلال زيارتها قرية أسا في الخمسينات أغنيات أطفال تتضمن أساطير وأحداثاً خيالية، فخلصت إلى أن رحابة الصحراء تناسب الخيال الجامح، وليس خافيا أن ذلك الخيال الشاسع هو الذي شجع على إنتاج حكايات خرافية وعجيبة من قبيل حكايات اسريسر ذهبو واسميميع الندى المشبعة بالتحول métamorphose وتغيير الملامح transfiguration، فضلا عن روح التفكه والدعابة التي تغلب على مزاج المجتمع الصحراوي الذي يطبق بدهاء مضمون المثل القائل: "رب جُديدة في لُعيبة" كناية عن تصريف الجد في مقام الهزل، وأحسب أن من مقومات بلاغة السرد الشفهي التي تسللت إلى بعض نصوص السرد المكتوب القدرةُ على استخدام التورية من خلال ما يسمى " تكحال لكلام"، فمادام ما كل ما يعلم يقال، فإن السرّاد يلجؤون إلى تورية وحجب الكلام المقصود بمعنى ظاهر غير مقصود، وقد سبق أن أبرزت هذه السمة التي تسم السرد البيضاني عامة في سياق دراسة الضحك والهزل في رواية الكاتب الموريتاني محمد ولد أمين "منينة بلانشيه".

إن الانتقال من زمن الحكاية إلى زمن الرواية المتساوق مع الانتقال من الشفهي إلى المدون، يطرح أسئلة حرية بالدراسة والتحليل، وذلك من قبيل: ما حجم حضور الحكاية الشعبية والتراث الشفهي بشكل عام في السرد الصحراوي الحديث، هل حدثت قطيعة أم أن أصداء الثقافة الشفهية كامنة ومتجلية في السرد المكتوب؟.

في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن النصوص المسرحية التي صدرت إلى غاية الآن تكرس الوصل مع الثقافة الشعبية بشكل واسع، إذ لا نكاد نجد نصا مسرحيا مكتوبا بالفصحى، بينما نعثر على نصوص مسرحية كثيرة أنتجت ونشرت بالحسانية، من قبيل تلك التي جمعها الباحث الدكتور اسليمة أمرز في كتاب : الأمل بأبعاد ثلاثة إضافة إلى نصوص أخرى نشرتها جمعيات نشيطة في ميدان المسرح، وأحسب أن هذه الخاصية، أي الكتابة بالحسانية فرضَها عاملان:

-الرغبة في التواصل مع الجمهور الذي يتحدث ويفهم الحسانية أكثر من أية لهجة أو لغة أخرى.

-الرغبة في تأصيل المسرح الحساني الذي خرج من رحم الأشكال الفرجوية ما قبل المسرحية مثل نوادر شرتات، شيباني يلوّد لجمالو، لبيشيدي...

في مجال القصة، نجد خطين سرديين متمايزين وسما الكتابة القصصية التي تتربع على عرشها النساء في الصحراء كما تربعت على عروش البطولة في كثير من الحكايات الشعبية نساء من صنع الخيال مثل سريسر ذهبو وبطلات حكاية "عزة ومعيزيزة " "لكَريعة"، الحادكة والخايبة"، فسعاد ماء العينين التي تتسيد مجال الكتابة القصصية بالفرنسية لم تغادر محطة الكتابة عن المجتمع الحساني وشجونه، وكأنها تفكر بالحسانية وتكتب بالفرنسية كما أوضحت في مقالة منشورة على موقع جنة كتب تحت عنوان: "حين تفكر بالحسانية وتكتب بالفرنسية"، إذ أن الكتابة بلغة أخرى كما أشار عبد الفتاح كيليطو في كتابه الهام "أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية" لا تعني التخلص من سلطة الثقافة واللغة الأم، فقد عملت القاصة على تسريد كثير من السمات الثقافية لمجتمع الصحراء بأسلوب نقدي لاذع أحيانا يهاجم تسمين الفتاة والغيرة الزائدة والثأر ...وغير ذلك، أما الكاتبة المقتدرة البتول لمديميغ، فقد كتبت قصصا جميلة متشحة برداء الفاجعة والحزن موقظة من رماد الثقافة العربية نموذج زرقاء اليمامة التي صاحت، كما صاحت هي في مجموعتها "أيام معتمة" و"مرثية رجل": أريد أبي حيّا"...، وليس سراً أن تجربة الكتابة القصصية التي خاضت غمارها هذه الكاتبة القديرة، توجت بتجربة رائدة في كتابة "الألم والوجع" الذي جثم على صدور أهل الصحراء ردحا من الزمن (الاعتقال التعسفي، الموت في السجن أو بسبب الألغام)،وذلك بصدور روايتها الأولى : "وجع جنوبي" وروايتها الثانية: "أماكن ملغومة" التي اشتغلت فيها على مشكل الألغام وكلفته البشرية والإنسانية.

ولا يخفف وطأة الألم والوجع سوى الانتقال إلى نمط كتابة قصصية تزاوج بين الهزل والسخرية السوداء، وهو النمط الذي جسدته الكاتبة سلمى أمانة الله في مجموعتها القصصية التي تناولتُها في مقالة منشورة بجريدة النهار الكويتية تحت عنوان:"معالم السخرية السوداء في نص "تي جي في TGV".

وإذا برعت الكاتبات الصحراويات في الكتابة القصصية، فإن لهن نصيباً معلوما من الكتابة الروائية التي تمتاز بطول النفس السردي وتشابك الأحداث وتنامي الشخصيات الدائرية خلافا لما تسمح به القصة، فقد صدرت لكل من البتول لمديميغ وسلمى أمانة الله ويحانثُ ماء العينين روايات تفتح أفق إمكان الاشتغال النقدي على سمات السرد النسوي في الصحراء، وقد يكون من قبيل المصادرة على المطلوب التأكيد على أن حرب الصحراء أورثت سكانها إحساساً بجرحِ في الذاكرة الجماعية ينز منذ زمن الحروب القبلية (زمن الغزيان) الذي قدّ من حكاياته المشبعة بالألم والأمل والحب والعناد الكاتب "أحمد بطاح" روايته الجميلة (الحب الآتي من الشرق).

ولاشك أن التحولات التي شهدها مجتمع الصحراء بعد رحيل الاستعمار قد وجدت طريقها إلى السرد الروائي، فبالتوازي مع روايتي كولومينا والعيون النازفة اللتين عملتا على تسريد التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها عيون الساقية الحمراء بعيد رحيل الاستعمار الاسباني، خرج من جبة الاهتمام بما تلا المسيرة الخضراء من تحولات وبروز نخب مكنتها الظروف من الارتقاء الاجتماعي من وضعية (راعي الغنم) إلى شيخ القبيلة رواية جديرة بالانتباه والاهتمام نظراً لما تطرحه من قضايا وإشكالات بأسلوب سردي متين، أعني رواية "إمارة البئر" للكاتب محمد سالم الشرقاوي التي اعتبرتها في دراسة غير منشورة نموذجا حيا للسرد البدوي المنفتح على مسألة تغير القيم.

وليس يخفى أن السرد الروائي يتيح مساحات واسعة لتناول قضايا المجتمع وتحولاته، وكما عمل الكاتب يحظيه بوهدا على تسريد مشاكل تتعلق بالهجرة السرية عير قوارب الموت، استخصلتُ في مقالة نقدية عن الموسيقى والسرد في الصحراء أن الاختيارات الموسيقية التي انتقلت في رواية كولومينا من الميل إلى الموسيقى الاسبانية نحو الرجوع إلى الموسيقى التراثية الحسانية يمثل انعطافة هامة نحو الاهتمام المجتمعي على مستوى الذوق بالخصوصيات المحلية التي لم تتخلص من أثر التمايز بين الفئات الاجتماعية التي يثيرها بدهاء وذكاء الروائي بوسحاب أهل اعلي الذي يلمز على لسان إحدى شخصياته صاحب الطبل بانتمائه إلى فئة الصناع التقليديين، كي يصل إلى نقد مبطن حينا معلنا حينا للعُقد الاجتماعية التي تحول دون زواج شاب من فئة الصناع بفتاة من فئة حسان/ المحاربون.

وبغض النظر عن السرد الروائي الذي شهد طفرة ملموسة تمثلت على مستوى الكم، لا يزال أدب الرحلة يتلمس طريقه، إذ صدرت إلى حد الآن ثلاثة نصوص رحلية، هي : من فم الواد إلى حيدر آباد، النيل لا ضحك كثيرا، أحد عشر يوما في السودان.


شكرا لكم على حسن استماعكم



د. بوزيد الغلى


* ورقة قدمت في المحمدية[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...