ليلى تباني - الذكاء الاصطناعي و الإبداع...

هل سيموت الفنان ؟ وهل سيموت الكاتب المبدع في ظلّ ثورة التكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي ؟ وهل يشكّل الذكاء الاصطناعي إبداعا حقيقيا؟
للإجابة على تلك التساؤلات ، يجب أولا أن نفهم طبيعة الإبداع. ومفهوم الذكاء الاصطناعي .
يعرف الإبداع بأنّه لحظة جنون تخرجنا عن النمطية ، لحظة القدرة على توليد أفكار أو أعمال جديدة وغير مألوفة. وفق ذلك فهو سمة حصرية للبشر، نتيجة تفاعلهم العاطفي العقلي مع العالم المحيط وخبراتهم الشخصية.
أمّا الذكاء الاصطناعيفهومحاولة لتعليم الآلات محاكاة القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، من أجل تسهيل حياة البشر، وجعل الآلات تؤدي مهام كثيرة كانت تأخذ جهدا ووقتا كبيرا من البشر . ويعدّ من أبرز التكنولوجيات التي أثارت نقاشات عميقة حول تأثيره المحتمل على حياة البشر ومستقبل الإبداع.ومع التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي، بدأت تظهر مؤشرات تدلّ على أن الذكاء الاصطناعي يمكنه، إلى حد ما "محاكاة" الإبداع البشري. على سبيل المثال، وعلى إثر ذلك تم تطوير خوارزميات وبرامج قادرة على إنتاج متفرّد في مختلف المجالات سواء العلمية أو الفنيّة أو حتى الأدبية منها ، فلو طرقنا باب الفن على سبيل المثال تصادفنا لوحات فنية غاية في الجمال والتنسيق ، ونتفاجأ بأنّها صممت بالذكاء الاصطناعي بناء على أوصاف نصية تُعطى له. هذه اللوحات ليست مجرد نسخ ، بل هي أعمال جديدة تجمع بين عناصر تعلّمها الذكاء الاصطناعي من ملايين الصور واللوحات التي تم تدريبه عليها.فمنذ تطوّره، أصبح السؤال حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يحلّ محل الإنسان في مجالات الإبداع مثل الرسم، التأليف الموسيقي، وكتابة الروايات أمرا محوريا !
وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يبدع حقّا من وحي خياله؟
في هذا السياق، يجب أن ندرك أن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك خيالا بالمعنى الذي نعرفه نحن كبشر. كل ما يقوم به الذكاء الاصطناعي يعتمد على خوارزميات تقوم بتحليل كميات ضخمة من البيانات والمعلومات السابقة، ثم إعادة توليفها بشكل جديد. الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يرسم أو يؤلف مقطوعة موسيقية، لكنه لا يفعل ذلك من خلال شعور أو خيال داخلي، بل بناء على الأنماط التي تعلّمها من البيانات.
أمّافي عالم الموسيقى، تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتأليف معزوفات موسيقية تستطيع تحريك مشاعر المستمعين. هذه المقطوعات، رغم كونها نتاجا لخوارزميات، أثبتت أنها قادرة على إنتاج نغمات وانسجامات موسيقية تضاهي إبداع البشر. ولكن، كما هو الحال مع الرسم، يظل هذا الإبداع محاكاة مبنية على نماذج وتعليمات تم تغذيتها للذكاء الاصطناعي مسبقا.
و إذا ما انتقلنا إلى مجال الأدب، نجد أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على كتابة القصص والروايات. بفضل التطورات في معالجة اللّغة الطبيعية، إذ يمكن يؤلّف نصوصا طويلة ومعقدة تروي قصصاوروايات ذات حبكات وتسلسلات أحداث متماسكة. على سبيل المثال، لدرجة أنّه يمكن أن يكتب قصة رومانسية أو رواية خيال علمي مليئة بالمفاجآت. لكن السؤال الأساسي هو: هل يمكن لهذه القصص أن تلامس القارئ بنفس العمق الذي توفره إبداعات الإنسان؟

الإجابة هنا غير دقيقة وغير حاسمة طالما أنّ النقاش ممتدّ في سيرورة تجمع بين الذكاء الاصطناعي والإبداع الانساني كي يظلاّ في موضع جدل . طالما أنّ الذكاء الاصطناعي قادر على توليد قصصوروايات وقصائد ونصوص خارقة من حيث التنظيم والحبكة واللّغة وربّما الإمتاع حتّى ، لكنّ حدوده تقف عند منعطف يجعله يعجز عمّا يبرع فيه العقل الإنساني وما لا يمكنه فعله، من حيث قدرته على التحليل والتفكير بالقياس كما يفعل البشر من جهة ،و من جهة أخرى عجزهعن الفهم العميق للعواطف البشرية و التأويل الفلسفي، والتجربة الشخصية التي تجعل الأدب البشري فريدا قوامه الابتكار والابداع ، وإذا ما تأملنا قدرة البشر نجد قوامها الجنون اللّحظي والفوضى في كلّ مجالات الحياة ، تلك اللّحظة المجنونة هي التي جعلت ارخميدس يخرج من حمّامه مفعما بلحظة اكتشاف ترفقها عبارة "يوريكا" حين اكتشافه لدافعة الضغط الهوائي ، هو ذات الجنون الذي استغل فيه انشتاين منطق ابستمولوجي فلسفي ،لنقد مركزية الكون وثوابت فيزياء نيوتن ، ويشكّك في أبعاد الكون ليضيف الزمان كبعد رابع لأبعاد المكان . وتظلّ الفوضى والجنون سمتين تخصان البشر حتّى في المجال الإبداعي الفنّي والأدبي ، فمن غير المحتمل ومهما بلغ الذكاء الاصطناعي من تقدّم أن ينتج مقطوعات تضاهي تلك التي أبدعها "موزارت " أو لوحات كتلك التي رسمها "بيكاسو" ، أو نصوصا كتلك التي ألّفها "كافكا " أو شعرا كالذي نطق به "نيرودا" أو "أدونيس" ...والمبرّر في ذلك قويّ ، كون الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن نبرمجه فلسفيا ، فلا خوارزميات يمكنها أن تنتج لنا جنون " فوكو " أو عبقرية "نتشة " أو حكمة " كونفوشيوس". وفي سياق الأدب كان لا بدّ أن نسلّم بأن الأخير قوامه البلاغة والبديع ،على الأقل الأدب العربي ، فلو فرضنا بأن البرمجة المحكمة للذكاء الاصطناعي تمكّنت من نسج نصوص جيّدة من حيث المبنى ببديع لغوي عذب قد يتفوّق على إبداع الكتاب ، وقد يُظهر قدرة فائقة على تنظيم النصوص من حيث القواعد اللغوية والتماسك البنيوي. ففي الشعركفرع من فروع الأدب ، قد ينجح في نظم أبيات متزنة من حيث الوزن والقافية، لكن غالبا ما تكون خالية من الشعور الحقيقي أو الابتكار اللغوي الذي يميز كبار الشعراء. فنعود لنشهد عجز التكنولوجيا عن البلاغة التي تخضع للاستعارات والكنايات وهيهات أن يتمكن منها ، ويحضرني في هذا السياق بيت بليغ جدّا للشاعر الجزائري " ابراهيم صدّيقي " يختصر كلّ ما قلناه حول براعة الذكاء الاصطناعي :
سرّ الكنايات في الفوضـــــــــى // فإن هدأت أنجبت شعراء كلّهم موتى
لو تأمّلنا البيت والقصيدة ككّل سنجزم حتما أن البرمجة الخوارزمية ستعجز عن نظم قصائد موشّاة بالبلاغة والبديع ، مشحونة بالمشاعر والتساؤلات الفلسفية . علينا أن نسلّم بأنّ الذكاء الإصطناعيسيعجز في أن يندهش ؟ في أن يلطم ؟في أن يبتهج و ينسجم عاطفيا ؟ في أن ينظّم شعرا كقول :
أنا و إن كنت الأخير زمانه // لآت بما لا تستطعهالأوائل .
سرّ الابتكار والإبداع في الجنون ...وسرّ الجنون في الخروج عن المألوف وهي المرحلة التي يعجز عنها الذكاء الاصطناعي .
أما عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، فهو مجال مفتوح على العديد من الاحتمالات.بينما يزداد تطورا يوما بعد يوم، يبقى السؤال الأهم هو: هل سيظل الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة للإنسان، أم سيصبح في يوم من الأيام قادرا على الإبداع بشكل مستقل؟ لحدّ الآن يبقى الذكاء الاصطناعي أداة قوية يمكن أن توسع إمكانيات الإبداع البشري، ولكنه لا يزال يفتقر إلى الوعي أو القدرة على التفكير المستقل.


بقلم ليلى تبّاني ـ الجزائر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...