د. أحمد الحطاب - تناقل الأحاديث النبوية من راوٍ إلى آخر يجعل متتبِّعَ الشأن الديني يطرح أسئلة يفرضها العقلُ النَّيِّرُ والمستنيرُ

"العقل النيِّر" يعني العقل النافذ والثاقب. وهذا النوع من العقول لا تُمطره السماء. إنه عقلٌ تطلَّب بناءُه جهداً دؤوبا واحتكاكٌا قريبا من الواقع بجميع تجلِّياتِه واكتساب تجارب من الحياة والتَّوفُّر على رصيد معرفي واسع. إضافةً إلى أن "العقل النيِّر" لا يقبل أي شيءٍ إلا بعد تمريرِه من مصفاة النقد، أي مصفاة المنطق.

أما العقل المستنير، فهو العقل التي يستفيد من ما راكمه العقل النَّير من تجارب ومعارف وما مارسه من نقد وأخذٍ وردٍّ، الكل يكون منطلقا للتفكير والتصرف.

واجتماع "العقل النيِّر" و"العقل المستنير" عند الشخص الواحد، هو الذي يمكِّن هذا الشخصَ، ليس فقط من تدبُّر آيات القرآن الكريم، بل من تدبُّر أمور الحياة بجميع أبعادها.

بعد هءا التوضيح، أريد أن أطرحَ سؤالا قد لا يُعجب مضمونُه الكثيرَ من الناس. وقبل أن أطرحَه، أتمنى أن لا يُدركَ هؤلاء الناس أنني ضدَّ الأحاديث النبوية الشريفة. لا، أبدا وألف لا. أنا، وبدون تردُّدِ مع هذه الأحاديث، لكن تلك التي نطق بها فعلا الرسول (ص) ولا تُخالف القرآن الكريم ولا تستفزُّ العقولَ.

الله، سبحانه وتعالى، أوصانا ويوصينا باستعمال العقل استعمالا رشيدا إذ في العديد من آيات القرآن الكريم، عندما يريد سبحانه تنبيهَ الناس لهديهم إلى الصراط المُستقيم، يُنْهي هذه الآيات بعبارة : "أولي الألباب"، أي أصحاب العقول النَّيِّرة والمستنيرة. وكمثال لهذه الآيات، الآية 19 من سورة الرعد : "...إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْباب". يتذكًر، في هذه الآية، تعني يتَّعِظ أصحابُ العقول النَّيِّرة المستديرة. والسؤال الذي أريد أن أطرحَه، تفرِضه العقول النَّيِّرة والمستنيرة، التي تقرأ القرآنَ الكريمَ بتبصُّرٍ وتمعُّنٍ وتدبُّرٍ.

السؤال هو : "هل بقيت أقوال (أحاديث) الرسول (ص) وفيَّةً للفظ كما نطق بها والحال أن تجميعَها في كُتبٍ، وعلى رأسِها كتاب "صحيح البخاري"، لم يتم إلا بعد مرور فترة طويلة من الزمن على وفاته؟

توفٍّي الرسول سنة 632م بينما البخاري ازداد سنة 810م مع العلم أن البخاري لم يهتم بهذه الأحاديث إلا بعد مرور سنوات على ازدياده. وهذا يعني أنه مضى على وفاة الرسول ،(ص) ما يناهز قرنين من الزمان، لما بدأ البخاري بتجميع الأحاديث النبوية.

وما يثير الانتباهَ أن الأحاديثَ انتقلت من شيخ إلى آخرَ أو من راوٍ إلى آخرَ عن طريق العنْعَنة، أي روى فلان عن فلان. وهذا معناه أن الانتقال من فلان إلى فلان كان شفويا. وبعبارةٍ أخرى، كان الانتقالُ، من راوٍ إلى آخر، غير مكتوب، أسود على أبيض، أو غير مُدوَّنٍ.

وهنا، العقل النَّيِّرُ والمستنيرُ يفرض طرحَ أسئلة أخرى لا تقل أهمِّيةً عن السؤال الأول الذي أعتبره، أنا شخصيا، مِحوريا. فما هي هذه الأسئلة؟ إليكموها :

1."هل يُعقَل أن لا يتمَّ تغيير أقوال (أحاديث) الرسول (ص) شكلاً ومضمونا عند انتقالها من شخص لآخر وعبر حقبة طويلة (قرنين) من الزم،ان"؟

2."هل يُعقلُ أن لا تتأثر هذه الأقوال عند انتقالها من شخص إلى آخر بالزمان و المكان، أي بالظروف الاجتماعية، الثقافية والسياسية التي يعيش فيها الناقل أو الراوي"؟

3."هل يُعقل أن لا تتأثر هذه الأقوال بالخلفيات الفكرية للناقل وخصوصا منها معتقداته ومصالحه الشخصية البيِّنة والخفية؟

4."وأكثر من هذا و ذاك، لماذا تعدُّدت الصِّحاح؟

5.هل هذا يعني أن صحيحَ فلان أصحُّ من صحيح فلان آخر؟

6.أم "هل هناك عواملٌ أخرى، قد تكون شخصيةً أو جماعيةً، اجتماعيةً، ثقافيةً وسياسيةً"؟

والآن، دعوني أجيب على هذه الأسئلة الستة، دفعةً واجدةً، بعد تحليلها ثم الإدلاء برأيي الشخصي إزاءَها.

ما أقصد بهذه الأسئلة الستة هو انتقال الأحاديث من راوٍ إلى آخرَ دون أن يطرأَ عليها أي تغييرٍ لفظاً ومعنًى. "لفظاً" تعني تناقل الأحاديث كما نطق بها الرسول (ص). أما "معنًى"، فتعني دون أن يَستبدِلَ الراوي كلمةً أو كلماتٍ بأخرى. فماذا يقول العقلُ النَّيِّر والمستنيرُ في هذا الشأن؟

أولا، ما أريد أن أُثيرَ إليه الانتباهَ، هو أن التَّواصلَ ليس هو ما يتفوَّه به القائلُ. بل التَّواصلُ هو ما يفهمه أو يُدركه الآخرون من ما تلقوه من معلومات. وبعبارة أخرى، القائل ليس مُتأَكِّدا من أن المُتلقِّي قد أدرك أو فهِم ما تحملُه رسالة التَّواصل.

انطلاقا من هذا التوضيح، قد يصعب على أي راوٍ أن يّدرك معنى الأحاديث، أولا، كما صدرت عن الرسول (ص)، وثانيا، كما أدركها الراوي الذي قبله أو الذي جاء من بعده. علما أن الإدراكَ والفهمَ لهما علاقة وطيدة بالخلفيات الفكرية والثقافية للأشخاص. وهذه الخلفيات تختلف من شخصٍ إلى آخر حسب ما يحيط به من ظروف الزمان والمكان. فما بالك بأقوال (أحاديث) مرَّ على النُّطقِ بها ما يناهز قرنين من الزمان؟ وبالتالي، يستحيل أن لا يطرأَ على الأحاديث النبوية أي تغييرٍ زماناً ومكاناً.

ومن جهةٍ أخرى، كلُّ مَن يقول إن الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، كلها صحيحة، فهذا القائل (الراوي) يفترض أن الخلفيات الفكرية التي كانت سائدةً في عهد الرسول، هي نفسُها السائدة في عصر البخاري. وهذا شيءٌ لا يقبله العقلُ ويُستَنتَجُ منه أن المجتمعات التي عاشت في الفترة الفاصِلة بين وفاة الرسول وظهور البخاري، كانت مجتمعات جامدة فكرياً، ثقافياً وسياسياً. وهذا شيءٌ آخر لا يقبله العقل ما دام الإنتاج الفكري يختلف من جيلٍ إلى آخرَ وما دامت البلدان يحكمها ناسٌ مختلفون من حيث إدراكِهم للسياسة.

ثم مَن يقول إن الأحاديث الواردة في صحيح البخاري كلها صحيحة، فإنه يجزم بأن الرُّواةَ كلهم موثوقٌ بهم، أو كما يقول علماء وفقتاء الدين، "كلُّهم عُدولٌ"، أي من الطبيعي أن يثقَ فيهم الناسُ ثقةً عمياء. علما أن الرُّواةَ أبناء بيئتِهم، أي لهم معتقداتُهم leurs croyances ولهم مصالحٌ شخصية مُعلنة وغير مُعلنة. من المستحيل أن لا يتأثَّرَ الرُّواةُ بمعتقداتِهم وان لا يسعون إلى تحقيق مصالحِهم.

واختلاف الخلفيات الفكرية والثقافية هو الذي أدَّى إلى تعدُد الصِّحاح بدأً بالبخاري ومرورا بمسلم والنسائي وأبي داود والترميدي وابن ماجة. والأحاديث المروية في هذه الصِّحاح تختلف من حيث العدد. وما هو صحيح في أحدِهم قد يُضعَّف في الكتب الأخرى وهكذا. لماذا؟ لأن كلَّ شيخٍ يرى الأحاديث انطلاقا من قناعاته الفكرية والثقافية. بل إن تعدُّدَ الصِّحاح يمكن تفسيره بتعدُّد وِجهات النطر والرؤيات وحتى بتضارب المصالح الشخصية والجماعية.

و أخيرا، لا أريد أن يُفهم من كلامي أن كل ما جاء في الصِّحاح من أحاديث مخالف شكلا ومضمونا لما نطق به الرسول (ص). لا. ليس هذا هو قصدي. لكن من المُؤكَّد أن البعض من هذه الأحاديث، إما غير منسوبة للرسول (ص)، وإما تعرَّض لتغيير مُتعمَّد أو غير مُتعمَّد اعتمادا على ما سبق ذكرُه. وخصوصا أن العديد من الناقلين لم يعايشوا الرسول (ص). أظن أن مَن يُقَوِّلُ الرسولَ (ص) ما لم يَقُلْهُ، يكذب عليه و يكذب على الناس. بل إن بعضَ الأحاديث تسيء للرسول وللإسلام، هذا إن لم تتناقض مع القرآن الكريم وتدفع كثيراً من الناسَ إلى التَّطرُّف الديني الذي تعاني منه بلدانٌ إسلامية كثيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...