جمعي شايبي - ملحمة الحرافيش... نجيب محفوظ .

صعب على كل أديب بلوغ قمم الإبداع الشمآء والأصعب على من بلغها بعد عمر من مخاضات البذل والعطآء أن يضمن على تلك القمم ديمومة البقاء .
وأديب الأدباء هو ذاك الذي يقتطع لك من فراديس أخيلته مع كل نص تذكرة للدهشة وأمتع الرحلات والأسفار.
وهذا حالنا مع القامة الأدبية السامقة وأبو الرواية العربية عن جدارة واقتدار الراحل نجيب محفوظ .
بعدما قرأت له ثلاثيته الخالدة ( بين القصرين . قصر الشوق . السكرية ) ظننتني لن أحظى بمتعة تحاكيها ولما قرأت أكثر رواياته إثارة للجدل والتي تعرض بسببها إلى محاولة اغتيال فاشلة غادرة حمقاء كادت تكلفه روحه النبيلة المعطآء ( أولاد حارتنا ) وجدتني أعانق مجددا من خلالها عوالم إبداعاته المبهرة ومداراتها المفضية على فضاءات الدهشة والإرباك .
وها أنا مرة أخرى أجدني متماهي الوجدان منصهر الروح في هالة تحفته المائزة ملحمة الحرافيش .
لأضرب لي مواعيدا أخرى مع أدب صاحب نوبل للآداب من خلال مايزال في انتظاري من نصوص متبقية في قادم الأيام وقابلها إن كان لنا من الحياة نصيب ومن العمر بقية .
شد انتباهي أن نجيب محفوظ يكتب كل نص بلغة سردية مستقلة بذاتها عن سرديات باقي النصوص لكن القاسم المشترك بينها هو قدرته العجيبة على تقديم أشهى وأرقى الأطباق الفكرية على مائدة الأدب لذائقتنا الأدبية التي لا تستسيغ غير النصوص المعيارية المتفردة من حيث السرد واللغة الحوارية وسيميائية الشخوص والحبكة والطرح الفكري العميق ذاك الذي لن يملك مفاتيح بوابات دلالاته المغلقة وكلمة السر لشيفرات رمزياته المبطنة إلا من كان ضليعا في استنطاق كل مصمت عنه مخبوء بين السطور .
يبتدع لنا نجيب محفوظ حارة مختلقة من مخياله الخصيب سماها حارة الحرافيش واختلق لها طبقية وتراتبية اجتماعية جلها من البسطاء الكادحين والبائسين المعدمين وابتكر لهم سلطة الفتونة التي لا يساسون إلا بناموسها مهما ترتب عنها من تداعيات متناقضة .



وبعشرة قصص سيرية رصد سيرورة تاريخها جيلا من بعد جيل بأسلوب حكائي غاية في المتعة والتشويق يصاول من فرط روعته جمالية سرديات ألف ليلة وليلة ويماثلها لكأنه ورث عن شهرزاد ربيع اللغة الطالع على لسانها وامتلك سر سحر حكيها الفتان دون أن يجاريه في عبقريته قاص ولا حكآء .
حيث تتبدى من خلال روائع نصوصه تجليات تبوغه الفذ وذكائه الملفت الوقاد وعبقريته المتفردة .
إن ملحمة حارة الحرافيش وإن كانت حارة مختلقة بكل ساكنتها وأحداثها المتخيلة ليست نصا سهلا يقرأ للتسلية وملء الفراغات كسائر النصوص المستهلكة كالوجبات السريعة والأكل المعلبة وأدب الومضات .
وإن كان ينسب جنسها إلى المدرسة الواقعية فإنها أيضا مادة فلسفية دسمة تعلمنا كيف تستقرأ دواخل المجتمعات وسوسيولوجيات جماهيرها المعقدة كما تطلعنا على تفاصيل وكواليس وخبايا أنظمة حكمها على مختلف الميادين والأصعدة .
يفتتح نجيب محفوظ ملحمته بسرد سيرة ذلك المولود الحدث البكآء ساعة الفجر اللقيط المتروك للصدف والقدر قلبا يتيما ضعيفا مدفونا في ظلمة الإثم يلتقطه القارئ الضرير الشيخ عفرة زيدان الذي كان يشق طريقه بعصاه وهو يروم كعادته آداء فريضة الفجر في الحسين من بعد ما تناهى لأذنيه بكاء الوليد المخلف في الظلمة والبرد فيقفل به راجعا أدراجه صوب البيت ومن بعد تشاور مع زوجته العاقر سكينة يتخذ قرار تبنيه وسمي عاشور عبدالله فأشرفا على حسن تربيته وتهذيبه على أحسن مايكون رغم فقرهما المدقع إلى أن اشتد عوده وأتاه الله بسطة في الخلقة وحسن الخلق وكانت آخر وصية الشيخ عفرة له قبيل وفاته بأن ينذر قوته لخدمة الناس لا للشيطان .
توفي الشيخ عفرة والتحقت زوجته سكينة بأهلها وبقي عاشور وحيدا من بعد ما فارق درويش اخو الشيخ عفرة فراقا حتميا فرضه اختلاف الطباع والخلق وكان ما كان من حكاية عاشور إلى أن صار فتوة حارة الحرافيش التي حكمها بالقوة والعدل ومحاسن الأخلاق لفترة طويلة إلى أن اختفى اختفاء مفاجئا محيرا وغدا أسطورة تتوارثها اجيال الحرافيش في حارتهم .
وكان لآل الناجي وأحفاده المتناسلين من صلبه أن شغلوا منصب الفتوة لكن من بين عشرتهم سبعة شغلوها على غير نهج جدهم الأكبر .
إذ كانت فتوة جدهم عاشور الناجي أصالة تكدرت بلوثة المجون والجنون والخيانة والعربدة والسفه طالت الكثيرين ممن تولوا الفتونة من بعده باستثناء شمس الدين وفتح الباب وعاشور الناجي المسمى تبركا باسم جده الأول .
لكأن غير الثلاثة المذكورين من آل الناجي سلسلة صدئة من الدعلرة والإجرام والمجون إلى أن أعاد في الأخير عاشور لفتنونة الناجي أصالتها وكل ما خلفت من طيب الذكر ومحاسن الأثر .
لم أصب اهتمامي بقراءة ملحمة الحرافيش على تلخيصها وإن كانت كل قصة من قصصها العشر جديرة بأن تحلل على حدى لما فيها من مضامين ورؤى وإنما كان كل اهتمامي في محاولة استطاق رموز ودلاليات مجموعها .
لقد وظف نجبب محفوظ في النص العديد من الثيمات التي ابتنى عليها صرح منجزه العظيم كالقوة والعدل والمال والقناعة والجشع والغنى والفقر والعفة والزنى والنفاق والورع والخمر والنساء والجمال والسياسة والزمن والثورة والخنوع لكن أهمها على الإطلاق هي القوة والعدل والأخلاق والزمن والثورة والجنوع .
ومن خلال هذا التوظيف المتقن تبلورت لدي مفاهيم حول النص وتبدت لي بعض مقاصده المبهمة .
كأن نعلم بأن أيما قوة بلا أخلاق ماهي إلا طغبان ماثل وكل أخلاق بلا قوة ماهي إلا الضعف المقيت والهوان القاتل .
إن كل قصة من هذه الملحمة تأسر القلوب وتخلب من فرط إدهاشها الألباب لكني أجدني أولي أكبر اهتمامي بالحكاية السابعة من ملحمة الحرافيش قصة جلال الذي رام الخلود وابتنى له مئذنة شاهقة لتشهد على خلوده فلم تشهد إلا على فنائه المريع وأدهشني هنا نجيب محفوظ فعلا ببراعته في توظيف ثيمة الزمن .
في حكاية سارق النغمة نجح الفتوة فتح الباب بإشعال ثورة توالدت من حسن طباعه لكنها فشلت في آخر الأمر ببنما نجح صاحب الحكاية الأخيرة الموسومة بالتوت والنبوت عاشور الناجي في ثتبيت ركائز فتونته رغم أنه قاسم الذي قبله طرق سبيل الثورة كخيار وذلك ما يدفعني لأقول بأن أي ثورة يوقد جذوتها الجياع لن تنجح بتوافر الطعام .
وأن الثورة تنجح بخلق وعي جمعوي يقدس الحرية ويمقت الطغيان والإستبداد .
فأيما جائع إستملته إليك بالإشباع إلا وكان معك ببطنه وما إن جاع إلا وثار عليك .
وكل ثائر حر وإن جاع يظل معك خلو العقل والروح من الأطماع سوى طمعه في الحرية .

جمعي شايبي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...