الفصل الثاني من تدبير المتوحد
تكلم ابن باجَّه في هذا الفصل عن أعمال الإنسان، والفرق بينها وبين أعمال الحيوان. أمّا الأعمال البشرية المحضة الخاصة بالإنسان فهي الصادرة عن الإرادة المطلقة: أي الإرادة المصحوبة بالاختيار والروية والتفكير الحر، لا عن غريزة ثابتة في الإنسان ثبوتها في الحيوان. وقد يشارك الإنسان الحيوان في بعض أفعاله كأن يهرب من مفزع أو يكسر عوداً خدشه، لأنه خدشه فقط، فهذا عمل حيواني، أمّا أن يكسره لئلاّ يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك عمل إنساني.
فالعمل الحيواني إذاً هو الذي يصدر عن انفعال نفساني وغريزة ثابتة كالغضب والخوف، أمّا العمل الإنساني فهو الذي يوحيه الفكر سواءٌ تقدم الفكر انفعالٌ نفساني أو مؤثر غريزي أم أتى بعده، وسواء كانت الفكرة يقينية أو مظنونة. ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانيةً على الإطلاق - لأنها على الأقل يصحبها التفكير في تنفيذها - أمّا الأعمال الإنسانية البحتة فقد توحد، وإذا تعاونت الغريزة والفكر كان النهوض للعقل أقوى.
وأمّا من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى ما يحدث في النفس البهيمية ففعله أولى أن يسمى إلهياً لا إنسانياً
ولهذا وجب على المتوحِّد أن يكون فاضلاً حتى إذا قضت النفس الناطقة بأمرٍ لم تعاند فيه النفس البهيمية، لأنها إذا عاندت وضعت العراقيل والصعاب، وكان حدوث العمل بكرهٍ وعسر. والرجل الذي تتغلب فيه النفس الحيوانية على الناطقة أقل من الحيوان لأن الحيوان يسير على طبيعته وسجيته، أمّا هذا النوع من الرجال الذي يملك الفكر الإنساني، ويمكنه أن يتقن العمل ويتقاعد عن ذلك فهو أقل من الحيوان؛ لأنه مع ذكائه ووقوفه على الخير والشر تراه يتبع الحيوان، ومثل الذكاء في هذه الحال مثل الغذاء الشهي يعطي لبدن سقيم.
إن الجماد يتحرك إلى أسفل بالطبيعة، وليس له قصد في حركته، والعمل الحيواني في النفس كالغذاء والتولد والنمو يتم بدون قصد أي يتم بالطبيعة والغريزة. أمّا العمل الإنساني فهو يصد دائماً عن تفكير وإرادة منَّا ولذلك كان في قدرتنا التحكم فيه، وعلى هذا فالغايات والعلل النهائية لا تعين ولا تحدّد إلا بالأعمال الإنسانية التي هي مدار البحث.
الفصل الثالث
بعد أن تكلم على الأعمال الإنسانية التي تحدد الغاية، وأن الغاية التي يجب أن يتوخاها المتوحد هي النفاذ إلى المعقولات أخذ يفرق بين الروح والنفس، وليس للمؤلف رأي خاص، وإنما يردد ما ارتآه الفلاسفة ثم يتطرق إلى العالم الروحاني ويرى ابن باجة أنه أربعة: العقول الفلكية، والعقل الفعّال، والعقل الهيولاني، والجزء المفكر من النفس الإنسانية بما يشتمل عليه من قوى كالغنطاسيا والخيال، والذاكرة والمفكرة. . . الخ.
أما العقول الفلكية فلا علاقة لها بالمادة، وأما العقل الفعال فهو الذي يشكل المادة ويظهرها في صور مختلفة، وأما العقل الهيولاني فهو الذي يشمل الأشياء المادية المعقولة
الفصل الرابع
في غايات أعمال الإنسان، فأعمال تخدم البدن، كالأكل والشرب واللبس، وغايتها التمتع المادي، وإتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها، وأعمال غايتها خدمة الروح وتشكيلها (الروح بما فيه الجزء الحيواني والمفكر) وتلك الأعمال تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي نقصد إليها نبلاً وخسة: (أ) فمنها ما يلذ للحس الباطني كغرور بعض الناس بارتداء الثياب الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الداخلية (ب) ومنها ما يلذ الخيال كأن يتسلح الإنسان في غير أوقات الحرب (ح) ومنها ما يقصد به التسلية والسرور كاجتماع الأحباب والألعاب، والعلاقات الشريفة بالمرأة والترفه والسكن الجميل، واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر (د) الأعمال التي غايتها كمال العقل والفكر كأن يدرس رجل علماً لذاته كي يكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يقدم على الأعمال الشريفة الكريمة بدون ترقب نتيجة معينة الفصل الخامس
إن من يقتصر على الأعمال الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، ومن يهمل الوجود الجسماني ألبته يعمل ضد القانون الطبيعي، هذا لا يجوز إلا في حالات استثنائية حيث يكون احتقار الحياة فرضاً على الإنسان كأن يموت في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن أن يصل الرجل المادي إلى السعادة
وعلى المتوحد ألا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان وسيلة في مدِّ أجله، وعليه ألا يقدم العمل الجسماني على الروحاني أبداً؛ ثم لا يأخذ من أرقى أنواع الأعمال الروحانية إلا ما كان ضرورياً للمعقول؛ ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بالعمل الجسماني يكون مخلوقاً إنسانياً، وبالروحاني يكون مخلوقاً أرفع، وبالمعقول يصير معقولاً سامياً إلهياً.
فالفيلسوف إذاً إنسان سام إلهي على شرط أن يختار من كل نوع من الأعمال صفة، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يميز نفسه عن الجميع بأعماله المتناهية في الرفعة والمجد، فإذا ما وصل الإنسان إلى الغرض النهائي، أي عند ما يفقه العقول البسيطة والعقول المفارقة يصير واحداً منها (يظهر أن هذا في الحياة الدنيا وفيه مخالفة للفارابي، ويمكن أن يسمى مخلوقاً إلهياً بحق وجدارة
الفصل السادس والسابع والثامن
على الرغم من أن الفكرة التي يرمي إليها ابن باجه في هذه الفصول غامضة كما صرح بذلك ابن رشد، وعلى الرغم من أن الفصل الثامن والأخير وجد في النسخ ناقصاً فإنا نستطيع أن نوجز ما يريده ابن باجه فيما يأتي:
إن الهيولي لا يمكن أن توجد مجرد عن صورة ما، أما الصورة فقد توجد مجردة عن الهيولي، وإلا لما استطعنا أن نتصور إمكان أي تغير، لأن التغير إنما يكون ممكناً بتعاقب الصور الجوهرية، وهذه الصور من أدناها وهي الصورة الهيولانية إلى أعلاها وهي العقل المفارق - العقل الفعال - تؤلف سلسلة والعقل الإنساني يجتاز في تكامله مراحل تقابل تلك السلسلة حتى يصير عقلاً كاملاً
وفي النفس الإنسانية قوى مختلفة فمنها ما يدرك المحسوسات ومقره (الغنطاسيا) أو الحس المشترك، ومنها القوة المتخيلة التي تظهر في الميل الطبيعي ' والشهوة، وهذان مشتركان في الإنسان والحيوان، ومنها القوة الفكرية. وهناك نوعٌ موهوب من الناس عنده قوة أخرى لا تحتاج في إدراك الأشياء إلى برهان أو دليل، وإنما يكون ذلك بطريق الوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، وهذان النوعان الأخيران خاصان بالإنسان
ولأجل أن يدرك الإنسان كماله يدرك أولاً الصور المعقولة للجسمانيات، ثم تصورات النفس المترددة بين الحس (القوة القوة المتخيلة)، ثم العقل الإنساني في ذاته، ثم العقل الفعال، الذي فوقه، وينتهي إلى إدراك عقول الأفلاك المفارقة، ويترقى الإنسان في هذا السلم ويصل إلى ما هو فوق طور العقل وإلى ما هو إلهي
ويقول المؤلف: (إن العقل الفعال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وكل نوع من الكليات يوحد في العقل الفعال كوحدة، وعلى هذا فعلم هذا العقل المفارق واحد وإن كانت موضوعاته مختلفة بتعدد الأنواع، وإنما كانت متعددة لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي إمكان العقل بالفعل أن يقرب هذه الكليات منه ويدركها ولأجل هذا كان الإنسان أقرب المخلوقات إلى العقل الفعال. فالعقل الإنساني يصل إلى معرفة الكلي بشروق نور العقل الفعال، وكل إحساس أو تخيل غير معرفة الكلي فهو معرفة خادعة. إن العقل الإنساني يصل إلى كماله بالمعرفة العقلية لا بالخيالات الصوفية الدينية التي لا تبرأ من شوائب الحس. والنظر العقلي هو السعادة العظمى لأن غايته المعقولات كلها. وإذا كان الكلي بهذه المثابة فلا يمكن القول ببقاء العقول الإنسانية بعد هذه الحياة)
أما النفس التي تدرك الجزئيات بتخيلها لها على نحو يجمع بين الإحساس والتعقل والتي يتجلى وجودها في شهوات متعددة وأفعال متنوعة كما مر فقد تستطيع البقاء بعد الموت وتلقى الثواب والعقاب. إن العقل أو الجزء المفكر في النفس واحد في كل عاقل، وعقل الإنسانية في جملتها هو وحده الأزلي وذلك باتحاده بالعقل الفعال. وقد تأثرت الأفكار المسيحية بنظرية وحدة النفوس هذه إبان القرون الوسطى وعرفت بنظرية ابن رشد
ويقول مونك: (إن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة السامية، وكيف يتصل العقل الإنساني والعقل الفعال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنه مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعية لإتمام هذا الاتصال) هي إشراق نور العقل الفعال على العقل الإنساني.
المتوحد
والواضح عند ابن باجه هو ذلك الطريق الخلقي الذي رسمه للمتوحد والذي ينصحه فيه ألا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له إلا غاية روحانية نفسانية (التي تتردد بين الحس والعقل)، ولو في أرقى أنواعها، وواجبه أن يرتبط بالفلاسفة والحكماء، ولما كان هؤلاء يوجدون بقلة في بعض الأمكنة وتخلو منهم أمكنة أخرى، وجب على المتوحد أن يبتعد عن الناس قدر الإمكان، ولا يختلط بهم إلا لأجل الضروريات بمقدار ضروري، كما يجب عليه أن يعطي نفسه بأكمله لتعليمه الإلهي، وأن يضيء لمن حوله كالنور، ويهب نفسه سراً لإدراك علم الخالق كما لو كان ذلك أمراً معيباً، وعليه أن يرتاد الأماكن التي بها العلماء والحكماء إن وجدهم، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة. ولا يرى ابن باجه في هذا التوحد مناقضةً لعلوم السياسة التي تقول: إن مجانبة الناس خطأ؛ ولا العلوم الطبيعية التي تقول: بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظرياً إذا تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولما كان هذا بادراً وجب على المتوحد الابتعاد عن المجتمع.
(بيروت)
عمر الدسوقي
مجلة الرسالة - العدد 465
بتاريخ: 01 - 06 - 1942
تكلم ابن باجَّه في هذا الفصل عن أعمال الإنسان، والفرق بينها وبين أعمال الحيوان. أمّا الأعمال البشرية المحضة الخاصة بالإنسان فهي الصادرة عن الإرادة المطلقة: أي الإرادة المصحوبة بالاختيار والروية والتفكير الحر، لا عن غريزة ثابتة في الإنسان ثبوتها في الحيوان. وقد يشارك الإنسان الحيوان في بعض أفعاله كأن يهرب من مفزع أو يكسر عوداً خدشه، لأنه خدشه فقط، فهذا عمل حيواني، أمّا أن يكسره لئلاّ يخدش غيره أو عن روية توجب كسره فذلك عمل إنساني.
فالعمل الحيواني إذاً هو الذي يصدر عن انفعال نفساني وغريزة ثابتة كالغضب والخوف، أمّا العمل الإنساني فهو الذي يوحيه الفكر سواءٌ تقدم الفكر انفعالٌ نفساني أو مؤثر غريزي أم أتى بعده، وسواء كانت الفكرة يقينية أو مظنونة. ويندر أن تكون أعمال الإنسان حيوانيةً على الإطلاق - لأنها على الأقل يصحبها التفكير في تنفيذها - أمّا الأعمال الإنسانية البحتة فقد توحد، وإذا تعاونت الغريزة والفكر كان النهوض للعقل أقوى.
وأمّا من يفعل الفعل لأجل الرأي والصواب، ولا يلتفت إلى ما يحدث في النفس البهيمية ففعله أولى أن يسمى إلهياً لا إنسانياً
ولهذا وجب على المتوحِّد أن يكون فاضلاً حتى إذا قضت النفس الناطقة بأمرٍ لم تعاند فيه النفس البهيمية، لأنها إذا عاندت وضعت العراقيل والصعاب، وكان حدوث العمل بكرهٍ وعسر. والرجل الذي تتغلب فيه النفس الحيوانية على الناطقة أقل من الحيوان لأن الحيوان يسير على طبيعته وسجيته، أمّا هذا النوع من الرجال الذي يملك الفكر الإنساني، ويمكنه أن يتقن العمل ويتقاعد عن ذلك فهو أقل من الحيوان؛ لأنه مع ذكائه ووقوفه على الخير والشر تراه يتبع الحيوان، ومثل الذكاء في هذه الحال مثل الغذاء الشهي يعطي لبدن سقيم.
إن الجماد يتحرك إلى أسفل بالطبيعة، وليس له قصد في حركته، والعمل الحيواني في النفس كالغذاء والتولد والنمو يتم بدون قصد أي يتم بالطبيعة والغريزة. أمّا العمل الإنساني فهو يصد دائماً عن تفكير وإرادة منَّا ولذلك كان في قدرتنا التحكم فيه، وعلى هذا فالغايات والعلل النهائية لا تعين ولا تحدّد إلا بالأعمال الإنسانية التي هي مدار البحث.
الفصل الثالث
بعد أن تكلم على الأعمال الإنسانية التي تحدد الغاية، وأن الغاية التي يجب أن يتوخاها المتوحد هي النفاذ إلى المعقولات أخذ يفرق بين الروح والنفس، وليس للمؤلف رأي خاص، وإنما يردد ما ارتآه الفلاسفة ثم يتطرق إلى العالم الروحاني ويرى ابن باجة أنه أربعة: العقول الفلكية، والعقل الفعّال، والعقل الهيولاني، والجزء المفكر من النفس الإنسانية بما يشتمل عليه من قوى كالغنطاسيا والخيال، والذاكرة والمفكرة. . . الخ.
أما العقول الفلكية فلا علاقة لها بالمادة، وأما العقل الفعال فهو الذي يشكل المادة ويظهرها في صور مختلفة، وأما العقل الهيولاني فهو الذي يشمل الأشياء المادية المعقولة
الفصل الرابع
في غايات أعمال الإنسان، فأعمال تخدم البدن، كالأكل والشرب واللبس، وغايتها التمتع المادي، وإتمام الشكل الجسماني ولا ينبغي إهمالها، وأعمال غايتها خدمة الروح وتشكيلها (الروح بما فيه الجزء الحيواني والمفكر) وتلك الأعمال تختلف باختلاف طبيعة الأشياء التي نقصد إليها نبلاً وخسة: (أ) فمنها ما يلذ للحس الباطني كغرور بعض الناس بارتداء الثياب الجميلة في الظاهر وهم يهملون الملابس الداخلية (ب) ومنها ما يلذ الخيال كأن يتسلح الإنسان في غير أوقات الحرب (ح) ومنها ما يقصد به التسلية والسرور كاجتماع الأحباب والألعاب، والعلاقات الشريفة بالمرأة والترفه والسكن الجميل، واقتناء الأثاث والبلاغة والشعر (د) الأعمال التي غايتها كمال العقل والفكر كأن يدرس رجل علماً لذاته كي يكمل عقله لا ليعود عليه بنفع مادي، أو كأن يقدم على الأعمال الشريفة الكريمة بدون ترقب نتيجة معينة الفصل الخامس
إن من يقتصر على الأعمال الجسمانية يضع نفسه في صفوف الحيوان، ومن يهمل الوجود الجسماني ألبته يعمل ضد القانون الطبيعي، هذا لا يجوز إلا في حالات استثنائية حيث يكون احتقار الحياة فرضاً على الإنسان كأن يموت في سبيل الدفاع عن الوطن أو الدين، ولا يمكن أن يصل الرجل المادي إلى السعادة
وعلى المتوحد ألا يتناول من الأعمال الجسمانية إلا ما كان وسيلة في مدِّ أجله، وعليه ألا يقدم العمل الجسماني على الروحاني أبداً؛ ثم لا يأخذ من أرقى أنواع الأعمال الروحانية إلا ما كان ضرورياً للمعقول؛ ثم يتعلق في النهاية بالمعقول المطلق؛ لأنه بالعمل الجسماني يكون مخلوقاً إنسانياً، وبالروحاني يكون مخلوقاً أرفع، وبالمعقول يصير معقولاً سامياً إلهياً.
فالفيلسوف إذاً إنسان سام إلهي على شرط أن يختار من كل نوع من الأعمال صفة، وأن يختلط بأهل كل طبقة من الناس لأجل أسمى ما في كل واحد منهم من الصفات، وأن يميز نفسه عن الجميع بأعماله المتناهية في الرفعة والمجد، فإذا ما وصل الإنسان إلى الغرض النهائي، أي عند ما يفقه العقول البسيطة والعقول المفارقة يصير واحداً منها (يظهر أن هذا في الحياة الدنيا وفيه مخالفة للفارابي، ويمكن أن يسمى مخلوقاً إلهياً بحق وجدارة
الفصل السادس والسابع والثامن
على الرغم من أن الفكرة التي يرمي إليها ابن باجه في هذه الفصول غامضة كما صرح بذلك ابن رشد، وعلى الرغم من أن الفصل الثامن والأخير وجد في النسخ ناقصاً فإنا نستطيع أن نوجز ما يريده ابن باجه فيما يأتي:
إن الهيولي لا يمكن أن توجد مجرد عن صورة ما، أما الصورة فقد توجد مجردة عن الهيولي، وإلا لما استطعنا أن نتصور إمكان أي تغير، لأن التغير إنما يكون ممكناً بتعاقب الصور الجوهرية، وهذه الصور من أدناها وهي الصورة الهيولانية إلى أعلاها وهي العقل المفارق - العقل الفعال - تؤلف سلسلة والعقل الإنساني يجتاز في تكامله مراحل تقابل تلك السلسلة حتى يصير عقلاً كاملاً
وفي النفس الإنسانية قوى مختلفة فمنها ما يدرك المحسوسات ومقره (الغنطاسيا) أو الحس المشترك، ومنها القوة المتخيلة التي تظهر في الميل الطبيعي ' والشهوة، وهذان مشتركان في الإنسان والحيوان، ومنها القوة الفكرية. وهناك نوعٌ موهوب من الناس عنده قوة أخرى لا تحتاج في إدراك الأشياء إلى برهان أو دليل، وإنما يكون ذلك بطريق الوحي والإلهام والرؤيا الصادقة، وهذان النوعان الأخيران خاصان بالإنسان
ولأجل أن يدرك الإنسان كماله يدرك أولاً الصور المعقولة للجسمانيات، ثم تصورات النفس المترددة بين الحس (القوة القوة المتخيلة)، ثم العقل الإنساني في ذاته، ثم العقل الفعال، الذي فوقه، وينتهي إلى إدراك عقول الأفلاك المفارقة، ويترقى الإنسان في هذا السلم ويصل إلى ما هو فوق طور العقل وإلى ما هو إلهي
ويقول المؤلف: (إن العقل الفعال لا ينقسم أي لا يتجزأ، وكل نوع من الكليات يوحد في العقل الفعال كوحدة، وعلى هذا فعلم هذا العقل المفارق واحد وإن كانت موضوعاته مختلفة بتعدد الأنواع، وإنما كانت متعددة لأنها تظهر في مواد مختلفة. وفي إمكان العقل بالفعل أن يقرب هذه الكليات منه ويدركها ولأجل هذا كان الإنسان أقرب المخلوقات إلى العقل الفعال. فالعقل الإنساني يصل إلى معرفة الكلي بشروق نور العقل الفعال، وكل إحساس أو تخيل غير معرفة الكلي فهو معرفة خادعة. إن العقل الإنساني يصل إلى كماله بالمعرفة العقلية لا بالخيالات الصوفية الدينية التي لا تبرأ من شوائب الحس. والنظر العقلي هو السعادة العظمى لأن غايته المعقولات كلها. وإذا كان الكلي بهذه المثابة فلا يمكن القول ببقاء العقول الإنسانية بعد هذه الحياة)
أما النفس التي تدرك الجزئيات بتخيلها لها على نحو يجمع بين الإحساس والتعقل والتي يتجلى وجودها في شهوات متعددة وأفعال متنوعة كما مر فقد تستطيع البقاء بعد الموت وتلقى الثواب والعقاب. إن العقل أو الجزء المفكر في النفس واحد في كل عاقل، وعقل الإنسانية في جملتها هو وحده الأزلي وذلك باتحاده بالعقل الفعال. وقد تأثرت الأفكار المسيحية بنظرية وحدة النفوس هذه إبان القرون الوسطى وعرفت بنظرية ابن رشد
ويقول مونك: (إن ابن باجه لا يوضح بجلاء الطريق التي تتم بها تلك الحركة السامية، وكيف يتصل العقل الإنساني والعقل الفعال العام، وقد رأينا في رسالة الوداع أنه مضطر إلى إدخال قوة فوق الطبيعية لإتمام هذا الاتصال) هي إشراق نور العقل الفعال على العقل الإنساني.
المتوحد
والواضح عند ابن باجه هو ذلك الطريق الخلقي الذي رسمه للمتوحد والذي ينصحه فيه ألا يرتبط بالرجل المادي ولا بالرجل الذي ليس له إلا غاية روحانية نفسانية (التي تتردد بين الحس والعقل)، ولو في أرقى أنواعها، وواجبه أن يرتبط بالفلاسفة والحكماء، ولما كان هؤلاء يوجدون بقلة في بعض الأمكنة وتخلو منهم أمكنة أخرى، وجب على المتوحد أن يبتعد عن الناس قدر الإمكان، ولا يختلط بهم إلا لأجل الضروريات بمقدار ضروري، كما يجب عليه أن يعطي نفسه بأكمله لتعليمه الإلهي، وأن يضيء لمن حوله كالنور، ويهب نفسه سراً لإدراك علم الخالق كما لو كان ذلك أمراً معيباً، وعليه أن يرتاد الأماكن التي بها العلماء والحكماء إن وجدهم، وأن يجتنب الشبان القليلي الخبرة. ولا يرى ابن باجه في هذا التوحد مناقضةً لعلوم السياسة التي تقول: إن مجانبة الناس خطأ؛ ولا العلوم الطبيعية التي تقول: بأن الإنسان مدني بالطبع؛ لأن هذين المبدأين صحيحان نظرياً إذا تملك الرجال كمالاتهم الطبيعية، ولما كان هذا بادراً وجب على المتوحد الابتعاد عن المجتمع.
(بيروت)
عمر الدسوقي
مجلة الرسالة - العدد 465
بتاريخ: 01 - 06 - 1942