فؤاد الجشي - رحلة في عالم "بائع الأديان": بين الواقع والخيال للكاتب العراقي سالم حميد

رواية "بائع الأديان" للكاتب العراقي سالم حميد، هي عمل أدبي يتحدّى الحدود بين الواقع والخيال، حيث يمزج الكاتب ببراعة بين السرد الأدبي والتحليل التاريخي ليقدّم لنا قصة تتناول قضية تاريخية معقّدة، تجمع بين الحب والخيال والتاريخ.تتناول الرواية قصة "أيسر"، الشخصية المحورية، التي تجد نفسها في قلب العراق الحديث، حيث يتداخل الماضي العريق مع الحاضر المضطرب.



في هذه المقالة، سنسلّط الضوء على أهم جوانب الرواية، بدءًا من استخدام الكاتب للتقنيات السردية وانتهاءً بالرسائل العميقة التي تطرحهاالرواية والتي تعتبر شهادة على عصور مختلفة. حيث ينقلنا المؤلف عبر الزمن إلى عصور بابل وسومر، لنعيش تفاصيلها من خلال شخصية أيسر. فقد وجد الكاتب في هذه الشخصيات القديمة رابطًا يجمعها مع الأحداث المعاصرة التي تمرّ بها الشخصية الرئيسية.
فنرى أيسر، الشخصية المحورية، وقد وُضع في موقع مركزي في بعثة استكشافية تهدف إلى التنقيب عن سرقة آثار مدينة العمارة العراقية، بَيْدَ أنّ هذه البعثة تخفي وراءها أغراضًا أكثر غموضًا وهي إشاعة البحث بين الجمهور بالبحث عن المقابر الجماعية التي شهدها العراق في حقب سابقة.في سياق هذه الرحلة، يواجه أيسر أحداثًا معقدة وغير متوقعة، إذ تتشابك حياته مع حبكة الرواية التي يكتبها، ويجد نفسه عالقًا بين أبعاد متعددة من الزمن، حيث يعود به الزمن إلى تلك الحقبة العريقة، ليعيش من جديد الصراعات الداخلية والخارجية.
الكاتب هنا يبرز قدرته الفائقة على خلق تداخل في السرد، بحيث يشعر القارئ وكأنه يسافر عبر الزمن ويعيش تلك الأحداث بنفسه من العناصر اللافتة في "بائع الأديان" هو استخدام الكاتب للضمائر المختلفة في السرد. فهو يتنقل ببراعة بين الضمير الغائب والمخاطب والمتكلم، مما يضفي على النص ديناميكية وحيوية تجذب القارئ. هذا الاستخدام المتنوع للضمائر يمنح كلّ شخصية صوتًا مميزًا، ويجعل القارئ يشعر بأنه في حوار مباشر مع الشخصيات، أو كأنه يشاهد الأحداث من بعيد، أو حتى يعيشها من داخل عقول الشخصيات.
أحد أروع عناصر رواية "بائع الأديان" هو الأسلوب الأدبي البليغ الذي يستخدمه سالم حميد. يبرز الكاتب مهاراته في استخدام اللغة بطريقة جذابة، مما يُشعر القارئ بالتوتر والتفاعل المستمر مع الأحداث. تتنوع الجمل والتراكيب بشكل يجعل النص ديناميكيًا ويحث القارئ على مواصلة القراءة بشغف. إنّ القدرة على التعبير عن الصراعات الداخلية والتفاصيل الدقيقة في نفسيات الشخصيات تُظهر براعة الكاتب وقدرته على رسم لوحة فنية متكاملة عبر الكلمات.
من العناصر المميزة في رواية "بائع الأديان" هو ارتباط الحب بالتاريخ. فالعلاقة التي تتشكل بين الشخصيات لا تحدث في فراغ، بل تتأثر بالأحداث التاريخية والسياسية التي تحيط بها. المؤلف يستخدم هذه العلاقة بين الحب كأداة لخلق ديناميكية خاصة في القصة، حيث نجد الحب لا يأتي هنا كعنصر رومانسي بحت، بل يتداخل مع الأزمات والصراعات التي تمرّ بها الشخصيات. هذا التداخل يجعل الحب يظهر في الرواية كمصدر أمل في وسط الظلام، ولكنه في الوقت أصبحوهمًا، لأنه يجد نفسه مجبرًا على مواجهة الواقع القاسي الذي يعترض طريقه.
إلى جانب السرد الدرامي، استغلّالكاتب الرمزية بشكل جميل لخلق عمق إضافي للرواية. فقد اعتمد على قصص كلكامش وإنكيدو، وجعلها تتداخل مع أحداث الرواية، ليخلق من خلالها حوارًا بين الماضي والحاضر. هذه الرمزية تعكس ارتباط العراق بثقافته العريقة وحضارته القديمة، التي ما زالت تؤثر على حاضره. فعلى سبيل المثال، حوار كلكامش عن الخلود يجسّد فكرة الخلود التي يسعى إليها الإنسان منذ الأزل، وكيف أنّ الإنسان يعجز عن إدراك معنى الخلود الذي قد يصبح عبئًا لا طعم له كما صوره الكاتب.
هذه الرمزية تجعل القارئ يتساءل عن معنى الحياة والموت، وعن جدوى البحث عن الأبدية، كما أنّها تعكس تساؤلات أيسر نفسه، الذي يجد نفسه في خضم صراع بين البحث عن الحقيقة والعيش في ظلّ ذكريات مؤلمة من ماضيه الشخصي وماضي بلده.
نجاح رواية "بائع الأديان" يكمن في قدرتها على الجمع بين السرد القصصي العميق والتحليل الفلسفي، فهي رواية في الوقت ذاته تنقلنا إلى عالم خيالي مليء بالرمزية. المؤلف العراقي سالم حميد استطاع ببراعة أن يقدّم لنا نصًا يحمل في طيّاته رسالة إنسانية عميقة، تجعل القارئ يتأمل في حياته ومعتقداته، ويعيد النظر في قضايا مثل الخلود والموت والانتماء.
يمكن القول إنّ "بائع الأديان" ليست مجرد رواية عابرة، بل هي عمل أدبي يستحقّ القراءة والتأمل. هي دعوة للقارئ للتفكير في الإنسان وتاريخه، وفي مسعاه الأزلي للبحث عن الحقيقة والجمال وسط عالم مليء بالتناقضات. هذه الرواية تذكرنا بأنّ الماضي والحاضر هما وجهان لعملة واحدة، وأنّ الإنسان، رغم كلّ آلامه ومآسيه، يبقى دائمًا في رحلة بحث عن الخلاص.
بائع الأديان" ليست مجرّد رواية لتمضية الوقت، بل هي رحلة فكرية وروحية تدعو القارئ للغوص في أعماق النفس البشرية، ولإعادة النظر في العلاقة بين الماضي والحاضر. إنّها عمل يتحدّى القارئ ويدفعه للتفكير في معنى الوجود، وفي إمكانية العثور على الأمل في وسط الظلام.

فؤاد الجشي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...