مقدِّمة: في الرسم الهندسيِّ، حين تتعقَّد التَّفاصيل داخل جسم ما، علينا أن نجري ذلك القطع الَّذي يؤمِّن لنا القدرة على إبصار الأَحشاء، تفاصيل الأَحشاء، بدقَّة، كي يصبح بوسعنا الاطِّلاع على ما تحوي داخلها....بالتَّفصيل، ما يعطينا القدرة على رسمها، ثمَّ أَحياناً، حين تكون الأُمور أَكثر تعقيداً، يصبح لزاماً علينا أَن نجري قطعاً في القطع، وهكذا دواليك، حتَّى يصبح بوسعنا إظهار التَفاصيل المدروسة كافَّة، وقد يصبح هذا الأَمر أَكثر تعقيداً بكثير حين نجري هذه القطوع على الفكرة، أو على تلك الأَفكار الكامنة وراء أَحداث قد تبدو في الظَّاهر طبيعية لكنها ليست كذلك.
قطع 1: قطع في الزَّمن: لم يكن الزَّمن يوماً كليَّاً، لكنَّنا نحن من اعتقدنا ذلك لزمن طويل، ثمَّ اكتشفنا أَنَّ لكلِّ مكان زمنه الخاص، ثمَّ حين دققنا النَّظر جيِّداً في تفاصيل الواقع وجدنا أَنَّ لكلِّ مجموعة منَّا زمنها الخاص، ولكلِّ شخص داخل المجموعة زمنه الخاص، فالزَّمن هو إحساسنا بالزَّمن، من هنا، لا يمكن أَن نقارن الزَّمن خارج السِّجن، بالزَّمن داخله، فالزَّمن خارج السِّجن هو زمن المكان كلِّه، بكلِّ امتداداته اللامتناهية، يحتوي المكان، ومن يدبُّ في المكان، وبما أَنَّ المكان رحب فالزَّمن رحب أَيضاً، أَما الزَّمن داخل المعتقل فهو أَسير أَيضاً، داخل الجدران، يمتدَّ حسب واقع المكان في الامتداد، ولأَنَّ الزَّمن يفرض شروطه اللامتناهية على الواقع، وعلى المكان، يتمدَّد بقدر وسع المكان، ستجده داخل المعتقل، أكثر تعقيداً، مكثَّفاً، وأَكثر بطئاً، بل إنَّه يذهب إلى أَبعد من ذلك، إنَّه يتمدَّد داخل البشر لضيق المكان، ما يعني أَنَّ الإحساس بالزَّمن قد يصبح معكوساً، حيث يصبح الزَّمن قنبلة موقوتة تهدِّد كلَّ من يعيش هذا الواقع.
هل يمكن عودة الزَّمن إلى الصِّفر، إلى البداية؟ منطقيَّاً، نعم، حين يبدأُ زمن الاعتقال يكون الزَّمن صفراً، فينا، داخلنا، لأَنَّ علاقتنا بالزَّمن تصبح عكسيَّة تماماً.
إنَّنا هنا نخرج من زمن إلى زمن، نتيجة لخروجنا من مكان إلى مكان آخر.
قطع 2: المكان هو فكرة عن المكان لا أَكثر، يتصاغر المكان، يضيق، العالم سيغدو أَربعة جدران هي أَبعاد المعتقل، وأَحياناً الزِّنزانة، والعالم كلُّه يغدو فكرة فقط، أَيضاً، داخل الرَّأس، ويتحوَّل إلى ذكريات، سيختفي من الحضور، من الزَّمن الذَّاتي، ويصبح منتمياً إلى الذَّاكرة.
سنعيش ذلك التَّناقض القاسي بين المكان الحقيقيِّ، وفكرتنا عن المكان، تلك الفكرة الَّتي تبقى عالقة في الوعي، في الذَّاكرة، وتبدأُ تفاصيلها بالتشوُّه رويداً رويداً، وصولاً إلى إعادة تشكيل المكان كليَّاً، بعد الحذف، والإضافات، ببطء، وهدوء، وصولاً إلى خلق صورة للمكان لا تمتُ للواقع بصلة كبيرة.
قطع 3: المسمَّيات...ومن ذلك قوله تعالى في الكتاب الحكيم" وعلّم آدم الأَسماء كلَّها" سيخرج آدم إذن من وعي إلى وعي، ومن دلالة إلى دلالة، ستتضخَّم مفاهيم كثيرة، وتتضاءل مفاهيم أُخرى حتَّى تنتهي، وتذوب، وتتلاشى، سيكبر مفهوم الحريَّة، والانتظار، والأَمل، والصَّبر، والحبِّ، والتَّضحية، والعمر، والضَّوء، والشَّمس، والقمر، واللَّيل، والنَّهار، وتتلاشى أَو تضعف مفاهيم الاقتران، الجنس، الزواج، اللَّمس، الذَّوق، الأَلوان، الغيرة، السَّفر، الجسد، وغيرها الكثير.
سيعيد الوعي ترتيب علاقته بالمفاهيم وإسقاطاتها، بالمادَّة ومسمَّياتها، فباب الزنزانة لا يشبه باب البيت بشيء وإن حمل كلاهما المسمَّى ذاته، والشمس التي كنا نمر عليها مرور الكرام دون أن تلفت انتباهنا ستصبح عزيزة وجميلة وغالية، والجدار ما عاد يحمل مفهوم الجدار في الخارج، سيواظب المقهور على الوقوف أمام النافذة التي تطل على حي رفيديا في نابلس طوال إقامته في معتقل جنيد، سيراقب عائلة بعينها من النَّافذة، من بعيد بعيد، سيعيش معها في وجدانه، في خياله، وسيشعر بالألفة وكأنه فرد منها، لكنَّه، مع ذلك، سيعيد تفسير كلِّ الوقائع والأَحداث والبيانات وفقاً للوعي المُكتسب.
قطع 4: الشُّعور...كل ذلك بالضَّرورة سيقودنا إلى وعي مختلف لا محالة، من هنا، يصطدم في العادة أُولئك الَّذين يغادرون المعتقلات بالواقع في الخارج، خصوصاً حين يقضون فترات طويلة داخل هذه المعتقلات.
مع انحراف دلالات الأَشياء الماديَّة، والأَحداث، ستختلف لغة الاستقبال في الوعي، والانطباعات، فثمَّة ما سيصبح أَكبر بكثير من معاييره المألوفة في الخارج، وثمَّة ما سيحدث له العكس، سيصغر، أَو يتلاشى، وينتهي.
إنَّه شرط الدَّاخل، أَو شروط الدَّاخل إن شئنا، ومعطياته، وأَدواته، سيصبح للجدار دلالات لا يمكن أن يحملها أي جدار في الخارج حتى جدار برلين ذاته، أو جدار الصين على عظمته، إنَّه جدار لا يعني أَحدا، ولا يشير إلا إلى تلك الأشياء الجوانيَّة لشخص بعينه.
وحين تظهر ننَّا من زيتا، حين تحاول أن تكسر ذلك المنطق الذي لا يمكن في الحقيقة كسره نتيجة للشُّروط المذكورة أعلاه، ستفشل في نهاية المطاف.
ستحاول، وتناضل، وتجادل، وتتعذَّب، وتعذِّب، وتتسامى، وتتبخَّر، وتتأمَّل، وتأمل، وستسلِّم مفاتيح حبِّها لسجين خلف القضبان للقدر، وتنسحب من المشهد، في نهاية المطاف، بصورة دراماتيكيَّة، إنَّه الأَمل، لكنَّه أمل محكوم بالشُّروط الَّتي لا نحاول تجاوزها فحسب، إنَّما اجتيازها بالقفز عنها، ستصبح في لحظة ما، بعد انسحابها من المشهد كلِّه، هي الجدار، والملاذ، لكن ضمن شرط التمثُّل عبر مفاهيم الدَّاخل لا الخارج، فالمسألة لا تحتمل التَّواصل الماديَّ الَّذي يشبه إلى حدٍّ بعيد تواصل ما قبل الموت بما بعده، أو الماديِّ بالميتافيزيقي، ستتحوَّل إلى حالة، فكرة، وآنذاك فقط يمكن للأسير أن يتعايش معها.
قطع 5: ذات يوم، غودو سيعود لا محالة...هكذا قال الأَسير.
[*] مداخلة في ندوة "أسرى يكتبون" في رابطة الكتاب الأردنيين (الخميس 17.10.2024)
أحمد أبو سليم
قطع 1: قطع في الزَّمن: لم يكن الزَّمن يوماً كليَّاً، لكنَّنا نحن من اعتقدنا ذلك لزمن طويل، ثمَّ اكتشفنا أَنَّ لكلِّ مكان زمنه الخاص، ثمَّ حين دققنا النَّظر جيِّداً في تفاصيل الواقع وجدنا أَنَّ لكلِّ مجموعة منَّا زمنها الخاص، ولكلِّ شخص داخل المجموعة زمنه الخاص، فالزَّمن هو إحساسنا بالزَّمن، من هنا، لا يمكن أَن نقارن الزَّمن خارج السِّجن، بالزَّمن داخله، فالزَّمن خارج السِّجن هو زمن المكان كلِّه، بكلِّ امتداداته اللامتناهية، يحتوي المكان، ومن يدبُّ في المكان، وبما أَنَّ المكان رحب فالزَّمن رحب أَيضاً، أَما الزَّمن داخل المعتقل فهو أَسير أَيضاً، داخل الجدران، يمتدَّ حسب واقع المكان في الامتداد، ولأَنَّ الزَّمن يفرض شروطه اللامتناهية على الواقع، وعلى المكان، يتمدَّد بقدر وسع المكان، ستجده داخل المعتقل، أكثر تعقيداً، مكثَّفاً، وأَكثر بطئاً، بل إنَّه يذهب إلى أَبعد من ذلك، إنَّه يتمدَّد داخل البشر لضيق المكان، ما يعني أَنَّ الإحساس بالزَّمن قد يصبح معكوساً، حيث يصبح الزَّمن قنبلة موقوتة تهدِّد كلَّ من يعيش هذا الواقع.
هل يمكن عودة الزَّمن إلى الصِّفر، إلى البداية؟ منطقيَّاً، نعم، حين يبدأُ زمن الاعتقال يكون الزَّمن صفراً، فينا، داخلنا، لأَنَّ علاقتنا بالزَّمن تصبح عكسيَّة تماماً.
إنَّنا هنا نخرج من زمن إلى زمن، نتيجة لخروجنا من مكان إلى مكان آخر.
قطع 2: المكان هو فكرة عن المكان لا أَكثر، يتصاغر المكان، يضيق، العالم سيغدو أَربعة جدران هي أَبعاد المعتقل، وأَحياناً الزِّنزانة، والعالم كلُّه يغدو فكرة فقط، أَيضاً، داخل الرَّأس، ويتحوَّل إلى ذكريات، سيختفي من الحضور، من الزَّمن الذَّاتي، ويصبح منتمياً إلى الذَّاكرة.
سنعيش ذلك التَّناقض القاسي بين المكان الحقيقيِّ، وفكرتنا عن المكان، تلك الفكرة الَّتي تبقى عالقة في الوعي، في الذَّاكرة، وتبدأُ تفاصيلها بالتشوُّه رويداً رويداً، وصولاً إلى إعادة تشكيل المكان كليَّاً، بعد الحذف، والإضافات، ببطء، وهدوء، وصولاً إلى خلق صورة للمكان لا تمتُ للواقع بصلة كبيرة.
قطع 3: المسمَّيات...ومن ذلك قوله تعالى في الكتاب الحكيم" وعلّم آدم الأَسماء كلَّها" سيخرج آدم إذن من وعي إلى وعي، ومن دلالة إلى دلالة، ستتضخَّم مفاهيم كثيرة، وتتضاءل مفاهيم أُخرى حتَّى تنتهي، وتذوب، وتتلاشى، سيكبر مفهوم الحريَّة، والانتظار، والأَمل، والصَّبر، والحبِّ، والتَّضحية، والعمر، والضَّوء، والشَّمس، والقمر، واللَّيل، والنَّهار، وتتلاشى أَو تضعف مفاهيم الاقتران، الجنس، الزواج، اللَّمس، الذَّوق، الأَلوان، الغيرة، السَّفر، الجسد، وغيرها الكثير.
سيعيد الوعي ترتيب علاقته بالمفاهيم وإسقاطاتها، بالمادَّة ومسمَّياتها، فباب الزنزانة لا يشبه باب البيت بشيء وإن حمل كلاهما المسمَّى ذاته، والشمس التي كنا نمر عليها مرور الكرام دون أن تلفت انتباهنا ستصبح عزيزة وجميلة وغالية، والجدار ما عاد يحمل مفهوم الجدار في الخارج، سيواظب المقهور على الوقوف أمام النافذة التي تطل على حي رفيديا في نابلس طوال إقامته في معتقل جنيد، سيراقب عائلة بعينها من النَّافذة، من بعيد بعيد، سيعيش معها في وجدانه، في خياله، وسيشعر بالألفة وكأنه فرد منها، لكنَّه، مع ذلك، سيعيد تفسير كلِّ الوقائع والأَحداث والبيانات وفقاً للوعي المُكتسب.
قطع 4: الشُّعور...كل ذلك بالضَّرورة سيقودنا إلى وعي مختلف لا محالة، من هنا، يصطدم في العادة أُولئك الَّذين يغادرون المعتقلات بالواقع في الخارج، خصوصاً حين يقضون فترات طويلة داخل هذه المعتقلات.
مع انحراف دلالات الأَشياء الماديَّة، والأَحداث، ستختلف لغة الاستقبال في الوعي، والانطباعات، فثمَّة ما سيصبح أَكبر بكثير من معاييره المألوفة في الخارج، وثمَّة ما سيحدث له العكس، سيصغر، أَو يتلاشى، وينتهي.
إنَّه شرط الدَّاخل، أَو شروط الدَّاخل إن شئنا، ومعطياته، وأَدواته، سيصبح للجدار دلالات لا يمكن أن يحملها أي جدار في الخارج حتى جدار برلين ذاته، أو جدار الصين على عظمته، إنَّه جدار لا يعني أَحدا، ولا يشير إلا إلى تلك الأشياء الجوانيَّة لشخص بعينه.
وحين تظهر ننَّا من زيتا، حين تحاول أن تكسر ذلك المنطق الذي لا يمكن في الحقيقة كسره نتيجة للشُّروط المذكورة أعلاه، ستفشل في نهاية المطاف.
ستحاول، وتناضل، وتجادل، وتتعذَّب، وتعذِّب، وتتسامى، وتتبخَّر، وتتأمَّل، وتأمل، وستسلِّم مفاتيح حبِّها لسجين خلف القضبان للقدر، وتنسحب من المشهد، في نهاية المطاف، بصورة دراماتيكيَّة، إنَّه الأَمل، لكنَّه أمل محكوم بالشُّروط الَّتي لا نحاول تجاوزها فحسب، إنَّما اجتيازها بالقفز عنها، ستصبح في لحظة ما، بعد انسحابها من المشهد كلِّه، هي الجدار، والملاذ، لكن ضمن شرط التمثُّل عبر مفاهيم الدَّاخل لا الخارج، فالمسألة لا تحتمل التَّواصل الماديَّ الَّذي يشبه إلى حدٍّ بعيد تواصل ما قبل الموت بما بعده، أو الماديِّ بالميتافيزيقي، ستتحوَّل إلى حالة، فكرة، وآنذاك فقط يمكن للأسير أن يتعايش معها.
قطع 5: ذات يوم، غودو سيعود لا محالة...هكذا قال الأَسير.
[*] مداخلة في ندوة "أسرى يكتبون" في رابطة الكتاب الأردنيين (الخميس 17.10.2024)
أحمد أبو سليم