تعود معرفتي بقامات أدبيّة وإنسانيّة وصروح ثقافيّة من الأردن إلى فترة لن توصف بالقصر؛ إذ الأعوام التي تنيف على عقدين كاملين قد أتحفتني بالكثير من الارتباط الجميل أدبيّاً ومعرفيّاً وإداريّاً وشخصيّاً مع الأفراد والمؤسّسات على مستوى الوطن العربيّ، كانتْ خير مدد ومداد سطّرتْ بهما صفحات من سفر الذّاكرة الحائمة في تهائم العروبة وأنجادها من السّاحل الأطلنطيّ والدّول المغاربيّة وأرض الفراعنة إلى بلاد الشّام وبلد الحرمين الشّريفين ودول الخليج المختلفة.
هي ذكريات تتشابك أذرعها، وأضلعها تتلاحم، كأنّها هيكل حيٌّ وكائن متنّفس، أو كلٌّ لا يتفرّع، أو جزء لا يتجزّأ، وإنْ أصدرت الفيزياء وكتاب تشكيك الزّمان إلى الماضي والحال والمستقبل أحكاماً تمنطق نواميس الخلق ورياضيّات البقاء ضدّ هذا الكاتب ورأيه.
القلم مسؤول؛ لأنّه يبوح حرفاً بما يلهمه العقل به، ومسؤوليّة القلم العربيّ مسألة تحفّها مخاطرات ومراهنات مصدرها تاريخ الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ الذي شهد ألواناً من المدّ والجزر، كما شهد تأرجُحات في كفّتي العدالة في سياقات تحتكم إلى مرجعيّات سياسيّة وثقافيّة وتربويّة تمنطق التّغريب والاغتراب، هي موجات تتعالى، وتنحني وِفْقَ قوانين الارتطام.
الأدب مسؤول؛ لأنّه أداة تربويّة بالدّرجة الأولى على الرّغم من احتوائه على جماليّات ترفيهيّة يتلهّى بها سكّان أبراج ناطحات سحاب عاجيّة أو سذجة العقول وأصحاب مدارك مدجّنة أو هجينة، فإنّ هذا البعد الجماليّ والتّرفيهيّ أيضاً من شأنه أن يخلق وعياً يحاسب الذّات على حين غفلة، ويوقظه، وهو شبه يقظ أو شبه نائم.
مهما تشدّقنا بمنطق الطّوباويّة أو أرجوانيّة المنطلق أو الفكر الرّبيعيّ فإنّ هناك حقلاً لا نقف فيه إلّا ونحن على أقصى درجة من الجديّة والرّصانة، وهو حقل أدب الأطفال وتربيّتهم؛ فالطّفل الذي نولده توأماً للغد والمستقبل المستشرف نربّيه باعتبار أنّه الجزء الأفضل منّا، الأمر الذي لا يترك أيّ مجال للهوادة والتّقصير في التّربية المثاليّة ماديّاً و معنويّاً.
ما الأدب العالميّ والعربيّ بأقطابهما في هذا السّياق، مثل: شارلز بيرو (1628-1703م)، وأنطوان جالان (1646-1715م)، وجيكوب غريم (1785-1863م)، وفلهلم غريم (1786-1859م)، ولويس كارول (1832-1898م)، وهانز كرستين اندرسون (1805-1875م)، ومثل: أحمد شوقي (1868-1932م)، وكامل الكيلانيّ (1897-1959م)، وسليمان العيسى (1921-2013م)، وسليم بركات، وأحمد نجيب، وعلي الحديديّ، وجعفر الصّادق، ويوسف الشّريف، ومحمود فهمي، ومحمد العروسيّ، وعبده خال، وعلويّ الصّافي، وعبد الرّحمن المريخيّ، وعلي الخليليّ، وسناء الشّعلان مؤلّفة رواية (أصدقاء ديمة) الحائزة على جائزة كتارا لأدب الأطفال في دورتها الرّابعة الموافقة للعامّ، ونعيمة المشايخ الحائزة على لقب الأمّ المثاليّة للعام 2017، ولقب سفيرة الرّحمة، والحائزة على وسام القيادة والإبداع للعام 2021من الاتّحاد الدّوليّ للقادة والمبدعين العرب –بين آخرين- سوى تجسيد لعمق هذا الوعي وصرامة هذه المسؤوليّة.
أمّا القلم تجاه تسجيل الآخر، ورسمه في ذاكرة الصّفحات، وهو المسمّى بأدب الرّحلات، فلا يقلّ أهمّيّة وخطورة عن ذي قبل، بل يزداد حساسيّة وخطورة لأنّ الموضوع مرتبط بالآخر الجغرافيّ والذّهنيّ والثّقافيّ، ولا نخوض في تفاصيل هذا الموضوع الذي يغرينا أكثر بغرائبه؛ إذ إنّ الرّحالة يسحرهم الظّاهر القشوريّ الذي ينفذ من خلاله إلى الباطن الجوهريّ، وقلّما يُفلتْ من بطشه به وفتكه.
من هنا خطورة المسؤوليّة التي يكابدها الرّحالة في الأدب العالميّ، ويكفينا أن نتذّكر شخصيّات مثل: فاهيان (337-422م)، وهوين سونج (602-664م)، وابن بطّوطة (1304-1377م)، وابن جبير (1145-1214م)، وناصر خسرو (1003-1077م)، وأوليا جلبي (1611-1682م)، وماركو بولو (1254-1324م)، وجيمس بوسويل (1740-1795م)، وجيمس كوك (1728-1779م)، وعشرات سواهم.
لكن الرّحلات التى جمعتْ بين الأمّ والبنت مثل: رحلات (جيتيفر ورث)، و(آن كيد تيلر)، و(كلير و ميا فونتين)، و(منا هوارد)، و(ديب اسبيرا)، و(فيونا فيلد)، و(إيما هاميجان)، و(كاترين آليوت)، و(إيليس فيتزجرالد)، وآخرين هي ذات مغزى يختلف عن البقيّة لأنّها صادرة من معين مزدوج؛ فهي عدسات تعكس قوس قزح الألوان في اتّحاد المركز، وهنا يتراءى لنا المشهد محمّلاً بأفانين جماليّة تذهب بعيداً في عمليّات التّبئير والتّشفير بمنطلقات تسترشد بقواعد التّوطين والتّغريب.
في هذا السّياق استحضر رحلة نعيمة المشايخ مع ابنتها الأديبة وشمس الإبداع العربيّ الأستاذة الدّكتورة سناء الشّعلان في بلد العجائب و الغرائب والمتناقضات في كتابها الرّحليّ الشّهير (الطّريق إلى كريشنا) (1): الهند التي قد تبدو بعض عجائبها كأنّها من بلد الواق واق، إن لم تكن من كوكب آخر بعيد عن الأرض في أبراجنا الفلكيّة.
قبل أن يسطّر قلمي ما سيمليه عليه الذّهن عن ثنائيّة الذّات في أحاديّة المركز بخصوصيّة الأمومة والبنوتة وظواهر التّغريب والتّبئير كما يتراءى لي في شخصيّتي نعيمة المشايخ وابنتها سناء باعتبارهما اسمين قد سجّلا حضورهما القويّ إنسانيّاً وأدبيّاً في أدب الرّحلات وأدب الأطفال في سياق هذا المقال.
تحضرني أسئلة قلّما تنفلتْ حين الكلام في موضوعات هي أقرب إلى الألم منها إلى السّعادة: هل الكتابة عن الأمّ هي كتابة الألم؟ ألم المخاض والولادة والتّربية والحبّ والتّفاني والتّضحية؟ وهل المسؤوليّة ألم؟ ومتى تتلاحم الآلام بالسّعادات والمسؤوليّات بالاحتفالات؟ ما معنى التّبعيض والانشقاق في كلّ يحوي وحدتين: الأمومة والبنوتة؟ مع أسئلة فلسفيّة ودينيّة تتمثّل في تأنيث القوّة الخلّاقة (الألوهية) في الأساطير الهنديّة والفرعونيّة والإغريقيّة، وتلطيفها في جماليّات لا تكتمل بغيابها أو إقصائها سرديّات الحبّ والغرام التي شاطرها الآلهة مع الإنسان في قصص الهنود و اليونانيين و المصريين و السّومريين و سواهم؟
لا نجهل أنّنا نحتاج إلى الكثير من الكلام حين الولوج في مثل هذا الموضوع وتضاعيف ما يندرج ضمن الردّ والقدح هي مقدّمة أساسيّة لمدوّنة التّلقّي الواعي.
لعلّ الإجابة تتلخّص في قول الشّاعر الأرديّ الشّهير محمد إقبال (1877-1938م) فيما معناه: لم تقدر أن تكتب محاورات أفلاطون، بيد أنّها هي الشعلة التى ألهبت الشّرارة.
أرى أنّ الأديبة الوجوديّة الفرنسيّة ومؤلّفة كتاب (الجنس الآخر)(Le Duexième Sexe) سيمون دى بوفوار (1908-1986م) – نظراً إلى بعض جوانب الموضوع التي لا تخلو من تعتم وحساسيّة وبخس وتطفيف – قد أهملت السّامي الأسطوريّ والواقعيّ في شأن المرأة والأمّ في قولها: "إنّنا لا نُولد نساءً، بل نصبح نساءً"، مثل تغاضيها عن عظمة تلاقح الأمومة والبنوتة وجمال الخلق النّابع من هذا التّلاقح الذي أسهم كثيراً في إثراء المشهد الأدبيّ العالميّ.
هنا استحضر صوراً من الآداب العالميّة الكلاسيكيّة والحديثة والمعاصرة على حدّ سواء، وهي خير مثال على تلاقح الأمومة والبنوتة (مقابل الأبوّة والبنوّة) في تجربة الوعي الكينونيّ والمعرفيّ والإبداعيّ، وتتميّز بتعدّديّة مرجعيّة من أساطير أوّليّة إلى روايات وقصص سجّلت حضورها القويّ في أوساط التّلقّي العالميّ: كاتلين شين (الويزمانون الثلاثة من ويست بورت)، وجاكلين ميتشارد (قعرالبحر)، ومونا سامبسون (وأينما ولكن هنا)، وكولم توابين (الأمّهات و البنون)، وإيليسا البرت (بعد الولادة)، وإيمي تان (وادي الحيرة)، وإيلينا فرانتي (البنت المفقودة)، وآن باشيت (قديس الكذّابين)، وجوجو مويس (واحد مع واحد)، وماغي فاريل (اليد التي أمسكت بيدي أوّل مرة)، وجيسيكا سوفر (غدا ستوجد المشمشات)، وجاميكا كنكائد (إيني جون)، ونيستل نج (النّيران في كلّ مكان)، ولوري فرينكل (وهذا هو المعهود)، وإيميلي أدريان (هنا كلّ شيء تحت السّيطرة)، ولين استيجر (الضّرورة)، وإيلينور استروتهر (شرح جميل)، وأوشن فونج (في الأرض نحن الفاتنات)، ونانسي جويون كيم (قصّة مينا لي الأخيرة)، وإيميلي جولد (الألحان الجميلة)، وفينيسا ديفنبوغ (لم نطلب الأجنحة)، وسواها.
إنّ هذه الرّوايات تبحر بالقارئ في أغوار الأمومة؛ فهي عدسات تكبّر خفايا تجربة الحياة في زاوية يكتنفها الكثير من الغموض الجميل، ولن يخلف البوح به في عمل أدبيّ أو سجّل حياتي سوى الحبّ والتّفاني الذي لا يخضع للتّقنين الظّاهريّ أيّاً كان.
الأمومة مقدّسة، وهذا ما تنطق به الأساطير والشّرائع والتّقنينات والأدبيّات، وهي تجسّد معاني الحبّ والعظمة والتّضحية كلّها، وهي بوّابة الفردوس وطريق النّجاة وسرّ السّعادة الكبرى؛ فالأرض هي الأمّ، وهي "الشكتي" (القوّة) وفق الحكمة الهنديّة القديمة، ونهر الجانج هي الأمّ أيضاً، وأمثلة كنتي وسيتا ويشودا وكوشليا وباروتي وستياوتي ودروبدي وكاندهاري ومندودري ومينكا وأوروشي وشاكنتلا –من بين عشرات أخرى– تمثّل لنا معدل الأمومة في تعدّديّة أدوار كلّها قوّة وحبّ و إبداع وجمال في الأساطير والأدبيّات الهنديّة.
لا يختلف الأمر في الأساطير الإغريقيّة؛ إذ غايا وفينوس وريا وغيرها– كما يشرح لنا هيسواد في كتابه (ثيوجوني) هنّ أمّهات عرفن بأدوارهنّ الرّئيسة في عمليّات الكون والخلق.
لا ننسى إيزيس ربّة القمر لدى قدماء المصريين، وعشتروت سيّدة الأموريين والكنعانييّن وآلهة الحبّ والجمال والخصوبة، وهي إنانا لدي السّومريين.
أمّا السّرديّات العربيّة الحديثة والمعاصرة، فهي أيضاً ممّا انصبّ الاهتمام على الفاعل الأنثويّ في سياق الأدوار والحبّكة، ومن أكبر الأمثلة على ذلك أعمال نجيب محفوظ وخيري شلبي وعبد الحميد جودت السّحار ومنى الشّيمي وآخرين.
فدور الأمّ النّقيّة (أمينة) في ثلاثيّة نجيب محفوظ (1911-2006م) (بين القصرين) و(قصر الشّوق) و(السكريّة) التي تجمع بين براءة الفطرة وقوّة الصّلابة في الدّفاع عن أسرتها وأولادها بمعدل يرفعها إلى درجة النّمط الإنسانيّ الشّامل، ويعادله دور الأمّ في رواية (بداية و نهاية) للرّوائيّ نفسه في حالة أكثر قساوة من المعهود عادة، وهي حالة غياب الأب وانهيار الأسرة تحت وطأة الظّروف، وتولّي الأمّ لأعبائها بصلابة تتماهي مع الحبّ والتّفاني.
بينما تتجلّى شخصيّة الأمّ المصريّة (شخصيّة الحاجّة فاطمة تعلبة) في الرّيف مثل عمود الخيمة ووتد الأسرة في رواية (الوتد) لخيري شلبي ( 1938-2011م)؛ فهي تصنع مجتمعاً صغيراً قائماً على الوحدة و التّكافل والاندماج، وقد خلق عبد الحميد جودة السّحار (1913-1974م) دوراً قويّاً للأمّ في روايتي (أمّ العروسة) و(الحفيد) في وسط ريفي متمثّلاً في قوّة وصلابة وإخلاص نموذجيّ يتحوّل إلى ضابط الميزان الذى يحمي الحياة من الاضطراب والاختلال.
نجد نفس الدّور القويّ للأمّ في رواية منى الشّيميّ -من مواليد 1968م- (بحجم حبّة عنب) التي تصوّر تقلبّات عائليّة قاسيّة ومؤلمة في جيل يتعايش وسط انشقاقات نفسيّة ترجع إلى فروق الحاضر والغابر في غمار تجارب إنسانيّة في بيئة صغيرة ومحدودة.
إنّ مثل هذه الصّور تتراءى لنا في موكب أدبيّ يحاور فيه المحلّيّ العالميّ؛ إذ التّجربة الإنسانيّة في جوهرها تتخطّى حدود الجغرافيا وفواصل التّاريخ لتنصبّ في بحر تتلاطم أمواجه، بينما قعره يخفي أعاجيب مشتركة، وهذا ما يفرزه لنا الأدب العالميّ في مختلف ألوانه وبُناه اللّغويّة والفنيّة والجماليّة ومشترك همومه الجوهريّة: (الأمّ) للرّوسيّ ميكسيم جوركي (1868-1936م)، و(الأمّ) الإيطالية جراتسيا داليدا (1871-1936م) و(شجاعة الأمّ وأبناءها) للألمانيّ برتولت بريخت ( 1898-1956م)، و(الأمّ) للأمريكية بيرل باك (1892-1973م)، و(باولا) للتّشيليّة إيزابيل اللّينديّ (من مواليد 1942م)، و(لأرض الطيّبة)، مع ثلّة من الأوّلين ذكروا في الأسطر السّالفة.
أوّل ما لمحتْ وجه نعيمة المشايخ كان في ندوة دوليّة عقدها قسم اللّغة الدّراسات العربيّة والإفريقيّة في جامعة (جواهر لآل نهرو) بمبادرة من صديقي البروفيسور مجيب الرّحمن وزملائه يوم 28 مارس 2016م، حيث كنتُ المتحدّث الرّئيسيّ في الجلسة الافتتاحيّة، وكانت الأمّ نعيمة المشايخ إلى جانب الأديبة الدّكتورة سناء الشّعلان التي لبستْ حلّة حمراء بزينة فلسطينيّة، وقد سرقت الضّيفتان المبجّلتان الجليلتان أنظار الحضور أثناء التّعارف وفترة احتساء الشاي، وتحدّثنا في شؤون الأدب والثّقافة والسّياسة في الوطن العربيّ لاسيما في الأردن، وتبادلنا الآراء في جلسات علميّة وفترات الاستراحة، وكلّما تجاذبنا أطراف الحديث مع نعيمة المشايخ شعرتُ أنّني أمام كائن ملائكيّ هو رمز للصّفاء والنّقاء والعمق المتبصّر مقابل سناء الشّعلان التي أبهرت الجميع بجمالها الفكريّ وسحرها البيانيّ مع جاذبيّة وجهها الذي يصرع العشّاق.
اللّقاء الثّاني مع الأديبتين الأمّ نعيمة المشايخ والابنة سناء الشّعلان كان في ندوة في مدينة (كولكتا) عقدها قسم اللّغة العربيّة والفارسيّة في آخر شهر مارس 2016م برئاسة صديقي البروفيسور إشارت علي ملا، وشاركتُ فيها متحدّثاً رئيسيّاً، والجلسات كانتْ أطول من المعتاد، مع استراحات وجولات في (مدينة السّعادة)، وهي ما يلقّبون بها مدينة (كولكتا) عاصمة الهند أيّام الاستعمار الإنكليزيّ، وهي مدينة ما زالتْ تحتفظ ببقابا مستوطنات هولنديّة ودنماركيّة وفرنسيّة، إلى جانب المعالم الأثرية للامبراطورية البريطانية.
هنا شاركتْ مع الأمّ والبنت نزهات وجلسات وموائد في أماكن جميلة جدّاً مثل الجزيرة الاصطناعيّة ووجبة العشاء في مطعم شهير على السّاحل، ومطعم جايسالمير في (سالت ليك سيتي الفاخرة)، مع صديقنا الدّكتور عبد القادر بخوش أستاذ دراسة الأديان المقارنة في كليّة الشريعة وأصول الدّين في جامعة قطر. كان لهذين اللّقائين امتداد جميل في الهند وفي الأردن أثناء زياراتي للمملكة الهاشميّة.
لماذا أرى اشتراكاً في المركز في قوس قزح إنسانيّ وأدبيّ رسم ظلاله في المتجسّد الإنسانيّ والأدبيّ من ذاتين اثنتين، هما نعيمة المشايخ وسناء الشّعلان.
في ثنايا الكلام في رحلة أمّ بطبوطة في الكتاب الرّحليّ (الطّريق إلى كريشنا) يجد القارئ أروع نماذج الجمع بين الجمال والإيمان والأمومة، وتستوقفني بوجه خاصّ نبرات نصادفها مبعثرة في فصول الكتاب جميعها، منها في فصل (أنا وأمّي نعيمة المشايخ في كشمير) الذي تصوّر فيه سناء ونعيمة جمال جبل غلمبرغ في كشمير، في "زيارة سحرية جميلة في أرض الله الجميلة المعلّقة فوق الجبال حيث أرض الفردوس المفقود... عندما نظرت أمّي في ذلك الفضاء اللّجي البارد الذي يتمدّد على أعالي الجبال في كشمير الهنديّة، وطارتْ نظراتها نحو أسفل الشّواهق التي تسلّقنا في رحلة الصّعود إلى إحدى قمم جبال الهيمالايا، بلعتْ ريقها بصعوبة والبرودة تلفح قسماتها، وصدحتْ "الله أكبر"، مجللة الصّوت دهشة منها ممّا رأتْ حولها من عجائب والبرودة والجمال والارتفاع الباذخ، ثم بدأتْ تصلّي صلاة الظّهر حاضرة على الثلّج بخشوع حارّ شعر أنّه يذيب صقيع الثّلج حيث يسجد جسدها الحنون الطيّب المترع بحرارة الإيمان والأمومة... عندما كانتْ أمّي تصلّي فوق الثلج، كنتث أراقبُ جسدها الطيّب المنهك بأمومة عريضة عمرها أربعون عاماً لاثني عشر ابناً وابنة تفانت في تربيتهم ورعايتهم والعطف عليهم، وتذكّرت تلك الشّتاءات القديمة عندما تدسّ أيدينا الباردة الصّغيرة في صدرها كي تفيض أجسادنا بدفء على أمومتها الغامرة... هذا الثّلج البارد المترامي في كلّ مكان حتى الأفق يحتاج ألف عام من حنان أمّي كي يذوب كلّه، لكن ما حاجتي لأن تذيبه أمّي؟ ونحن من جئنا من البعيد، و تجشمنا الصّعاب والمشاق والتّعب كي نراه ونطأ بياضه الصّارخ، ونهتف بانتصار و غرور: نحن هنا". (2)
يزور الهند ملايين من الرّحالة والسّياح والزّوّار طوال العامّ من كلّ حدب؛ فهي متحف حيّ لعبقريّة التّفاعل بين الإنسان والآلهة، وهنا يعرف الإنسان معنى أوسع لتبئير تنويعيّ للأساطير والمعتقدات والأعراق والألسّنة والقيم والطقّوس وغزو النّجوم والجمال والأبّهة والثّراء الفاحش والفقر المدقع.
حقّاً إنّ الهند جمهوريّة للتّعدديّة العقديّة حيث تقطن المضادّات الاقتصاديّة والثّقافيّة والقيميّة منذ زمن الفيدات والأوبنيشادات كأنّها رضائع لبان، فهنا أباطرة كلّ ما يخطر على بالنا، وهناك تاج محل ذلك الجمال الخالد الذى نحته حبّ امبراطور هو شاه جهان (1592-1666م)، ليحوّله إلى أسطورة حيّة وأحد عجائب الدّنيا السّبعة، وقلّما يفوت سائح أو زائر تطأ قدماه الهند أن يختلس -على الأقلّ- نظرة على جمال هذه الأعجوبة التي تبهر أنظارنا بأجمل قصيدة حبّ قُرضتْ على أبدع أوزان من المرمر والأحجار الكريمة؛ فهي عروض مرمريّة تضاهي أجمل ما نعرفه من سحر الأوزان الخليليّة اللّفظيّة، وما رأيكَ في جمال الموسيقى التى يعزفها عود الحبّ اللامرئي واللّالفظيّ التي يسمعها كلّ مَنْ أوتى نصيباً من الحبّ –العذري أو سواه– في حياته؟
إنّ هذا المشهد الجميل والموقف السّاحر يجعلنا ننخرط في بوتقة الهيام السّرمديّ الذي يبوح بأسرار ما ورائيّة وعلى قاب قوسين من حظيرة القدس الشّعريّة تلك التي تغنى بها قديسو الصّوفيّة، مثل: فريد الدّين العطّار النّيسابوريّ (1164-1221م)، ومحيي الدّين بن عربيّ الأندلسيّ (1165-1240م)، وفخر الدّين العراقيّ (1213-1289م)، و جلال الدّين الرّوميّ (1207-1273م)، وآخرين.
إنّ وفقة على تاج محل تسطّر على لوحة أحاسيسنا خطوطاً وظلالاً تتأبّى على المعدّلات الرّياضيّة وقواعد دراسة الفنون تقعيدها وتشفيرها عادة، من ثمّة تفكّ لنا بعض أسرار دمعة أو دمعتين تتغلّبان على التّحمّل المصطنع من الذين يصعب عليهم التفات المتحملقين في وجوه المارة والزّوّار، كأنّهم ضُبطوا حين ارتكاب الجريمة.
مثل هذه الدّمعة في عيني نعيمة المشايخ تستوقفنا، وهي تقف متأمّلة أمام قبرين من الرّخام: شاه جهان وممتاز محل، و قصّة الحبّ التي يراها الزّوّار بعد أن قرؤوا عنها – أو لم يقرؤوا عنها– في الكتب أو سمعوها، أو لم يسمعوها من سندبادهم.
"وقفت أمّ بطبوطة (نعيمة المشايخ) أمام القبر المرمريّ المهيب بعد أن أصغت باهتمام لقصّة الإمبراطور المغوليّ العاشق شاه جهان الذي بنى تاج مجل كاملاً ضريحاً أسطوريّاً لزوجته الثّالثة أرجمند بانو بيجم الملقّبة بممتاز محل التي كانت الأقرب إلى نفسه من زوجاته ومحظياته كلّهنّ، وتوفيّتْ أثناء ولادتها لطفلها الرّابع عشر... تأمّلت القبر بما فيه من عظمة لا تناسب حطام الموت، لكنّها تنسجم مع أهوال العشق ومدامع العشق والصّبابة والافتتان عند أهل العروش... تنهدّتْ أمّ بطبوطة بحسرة، ثم انثنتْ إلى جانب الحاجز المرمريّ الأبيض المزخرف، دارتْ بيسر دمعة برقتْ حرقتها في عيني... إلّا أنّ حزناً داهم روحها، فختفت ابتسامتها على حين غرّة بعد أن دخلنا غرفة دفن الامبراطور وزوجته في تاج محلّ... اقتربتْ منها أكثر لأكون أوّل مَنْ يمسح دمعتها، ويعرف سرّ كدرها المفاجئ، وعندما أصبحتْ أنفاسها السّخينة في محاذاة خدي سألتها بحنو وقلق: ما الذى أبكاكِ وأزعجكِ يا أمّي؟ أجابتني بحرقة: انظري ماذا يفعل الرّجال لزوجاتهم؟ هل سيبني أبوكِ لي ضريحاً عظيماً كهذا إنْ متُ قبله؟ طبعاً هو لن يفعل ذلك، فهو حتى لم يبنِ لي قصراً في حياته، فكيف يفعل ذلك بعد مماتي؟" (3)
هنا نعرف بعض أسرار الذّات الإنسانيّة التي تحيّرنا بأعاجيبها وأحاجيها النّفسيّة الضّاربة في أعماق الشّعريّة والواقع المعاش.
من المنظور الأدبيّ والإنسانيّ أجد شخصيّة نعيمة المشايخ مع ابنتها الأديبة سناء حلقة رائعة من قصص العظمة التي ترمز إليها الذّات الأنثى الخلّاقة التي ظلّتْ دوّامة حيرة وإرباك وغيرة وإباء وثورة وهدنة وتعالي وانحناء وتغريب ومؤانسة، وهي كلّها من تاريخ الصّفاء والوفاء والتّضحية وبناء الذّات في هياكل أخرى متلاحمة فيما بينها في الجوهر، مع تعدّدية ألوان في قوس قزح يوصل بين القطبين ليصنع منهما أحاديّة رائعة.
الإحالات:
1- الطّريق إلى كريشنا: رحلات في كشمير والهند: سناء شعلان، ط1، منشورات ضمن سلاسل (ارتياد الآفاق) عن دار السّويديّ للنّشر والتّوزيع في أبوظبيّ/ الإمارات العربيّة المتّحدة، والمؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت/ لبنان، ودار الفارس للنّشر والتّوزيع عمان، الأردن، 2023
2- نفسه: ص 28-29
3- نفسه: ص 34
أ. د. محمد ثناء الله النّدويّ/ الهند.
هي ذكريات تتشابك أذرعها، وأضلعها تتلاحم، كأنّها هيكل حيٌّ وكائن متنّفس، أو كلٌّ لا يتفرّع، أو جزء لا يتجزّأ، وإنْ أصدرت الفيزياء وكتاب تشكيك الزّمان إلى الماضي والحال والمستقبل أحكاماً تمنطق نواميس الخلق ورياضيّات البقاء ضدّ هذا الكاتب ورأيه.
القلم مسؤول؛ لأنّه يبوح حرفاً بما يلهمه العقل به، ومسؤوليّة القلم العربيّ مسألة تحفّها مخاطرات ومراهنات مصدرها تاريخ الوطن العربيّ والعالم الإسلاميّ الذي شهد ألواناً من المدّ والجزر، كما شهد تأرجُحات في كفّتي العدالة في سياقات تحتكم إلى مرجعيّات سياسيّة وثقافيّة وتربويّة تمنطق التّغريب والاغتراب، هي موجات تتعالى، وتنحني وِفْقَ قوانين الارتطام.
الأدب مسؤول؛ لأنّه أداة تربويّة بالدّرجة الأولى على الرّغم من احتوائه على جماليّات ترفيهيّة يتلهّى بها سكّان أبراج ناطحات سحاب عاجيّة أو سذجة العقول وأصحاب مدارك مدجّنة أو هجينة، فإنّ هذا البعد الجماليّ والتّرفيهيّ أيضاً من شأنه أن يخلق وعياً يحاسب الذّات على حين غفلة، ويوقظه، وهو شبه يقظ أو شبه نائم.
مهما تشدّقنا بمنطق الطّوباويّة أو أرجوانيّة المنطلق أو الفكر الرّبيعيّ فإنّ هناك حقلاً لا نقف فيه إلّا ونحن على أقصى درجة من الجديّة والرّصانة، وهو حقل أدب الأطفال وتربيّتهم؛ فالطّفل الذي نولده توأماً للغد والمستقبل المستشرف نربّيه باعتبار أنّه الجزء الأفضل منّا، الأمر الذي لا يترك أيّ مجال للهوادة والتّقصير في التّربية المثاليّة ماديّاً و معنويّاً.
ما الأدب العالميّ والعربيّ بأقطابهما في هذا السّياق، مثل: شارلز بيرو (1628-1703م)، وأنطوان جالان (1646-1715م)، وجيكوب غريم (1785-1863م)، وفلهلم غريم (1786-1859م)، ولويس كارول (1832-1898م)، وهانز كرستين اندرسون (1805-1875م)، ومثل: أحمد شوقي (1868-1932م)، وكامل الكيلانيّ (1897-1959م)، وسليمان العيسى (1921-2013م)، وسليم بركات، وأحمد نجيب، وعلي الحديديّ، وجعفر الصّادق، ويوسف الشّريف، ومحمود فهمي، ومحمد العروسيّ، وعبده خال، وعلويّ الصّافي، وعبد الرّحمن المريخيّ، وعلي الخليليّ، وسناء الشّعلان مؤلّفة رواية (أصدقاء ديمة) الحائزة على جائزة كتارا لأدب الأطفال في دورتها الرّابعة الموافقة للعامّ، ونعيمة المشايخ الحائزة على لقب الأمّ المثاليّة للعام 2017، ولقب سفيرة الرّحمة، والحائزة على وسام القيادة والإبداع للعام 2021من الاتّحاد الدّوليّ للقادة والمبدعين العرب –بين آخرين- سوى تجسيد لعمق هذا الوعي وصرامة هذه المسؤوليّة.
أمّا القلم تجاه تسجيل الآخر، ورسمه في ذاكرة الصّفحات، وهو المسمّى بأدب الرّحلات، فلا يقلّ أهمّيّة وخطورة عن ذي قبل، بل يزداد حساسيّة وخطورة لأنّ الموضوع مرتبط بالآخر الجغرافيّ والذّهنيّ والثّقافيّ، ولا نخوض في تفاصيل هذا الموضوع الذي يغرينا أكثر بغرائبه؛ إذ إنّ الرّحالة يسحرهم الظّاهر القشوريّ الذي ينفذ من خلاله إلى الباطن الجوهريّ، وقلّما يُفلتْ من بطشه به وفتكه.
من هنا خطورة المسؤوليّة التي يكابدها الرّحالة في الأدب العالميّ، ويكفينا أن نتذّكر شخصيّات مثل: فاهيان (337-422م)، وهوين سونج (602-664م)، وابن بطّوطة (1304-1377م)، وابن جبير (1145-1214م)، وناصر خسرو (1003-1077م)، وأوليا جلبي (1611-1682م)، وماركو بولو (1254-1324م)، وجيمس بوسويل (1740-1795م)، وجيمس كوك (1728-1779م)، وعشرات سواهم.
لكن الرّحلات التى جمعتْ بين الأمّ والبنت مثل: رحلات (جيتيفر ورث)، و(آن كيد تيلر)، و(كلير و ميا فونتين)، و(منا هوارد)، و(ديب اسبيرا)، و(فيونا فيلد)، و(إيما هاميجان)، و(كاترين آليوت)، و(إيليس فيتزجرالد)، وآخرين هي ذات مغزى يختلف عن البقيّة لأنّها صادرة من معين مزدوج؛ فهي عدسات تعكس قوس قزح الألوان في اتّحاد المركز، وهنا يتراءى لنا المشهد محمّلاً بأفانين جماليّة تذهب بعيداً في عمليّات التّبئير والتّشفير بمنطلقات تسترشد بقواعد التّوطين والتّغريب.
في هذا السّياق استحضر رحلة نعيمة المشايخ مع ابنتها الأديبة وشمس الإبداع العربيّ الأستاذة الدّكتورة سناء الشّعلان في بلد العجائب و الغرائب والمتناقضات في كتابها الرّحليّ الشّهير (الطّريق إلى كريشنا) (1): الهند التي قد تبدو بعض عجائبها كأنّها من بلد الواق واق، إن لم تكن من كوكب آخر بعيد عن الأرض في أبراجنا الفلكيّة.
قبل أن يسطّر قلمي ما سيمليه عليه الذّهن عن ثنائيّة الذّات في أحاديّة المركز بخصوصيّة الأمومة والبنوتة وظواهر التّغريب والتّبئير كما يتراءى لي في شخصيّتي نعيمة المشايخ وابنتها سناء باعتبارهما اسمين قد سجّلا حضورهما القويّ إنسانيّاً وأدبيّاً في أدب الرّحلات وأدب الأطفال في سياق هذا المقال.
تحضرني أسئلة قلّما تنفلتْ حين الكلام في موضوعات هي أقرب إلى الألم منها إلى السّعادة: هل الكتابة عن الأمّ هي كتابة الألم؟ ألم المخاض والولادة والتّربية والحبّ والتّفاني والتّضحية؟ وهل المسؤوليّة ألم؟ ومتى تتلاحم الآلام بالسّعادات والمسؤوليّات بالاحتفالات؟ ما معنى التّبعيض والانشقاق في كلّ يحوي وحدتين: الأمومة والبنوتة؟ مع أسئلة فلسفيّة ودينيّة تتمثّل في تأنيث القوّة الخلّاقة (الألوهية) في الأساطير الهنديّة والفرعونيّة والإغريقيّة، وتلطيفها في جماليّات لا تكتمل بغيابها أو إقصائها سرديّات الحبّ والغرام التي شاطرها الآلهة مع الإنسان في قصص الهنود و اليونانيين و المصريين و السّومريين و سواهم؟
لا نجهل أنّنا نحتاج إلى الكثير من الكلام حين الولوج في مثل هذا الموضوع وتضاعيف ما يندرج ضمن الردّ والقدح هي مقدّمة أساسيّة لمدوّنة التّلقّي الواعي.
لعلّ الإجابة تتلخّص في قول الشّاعر الأرديّ الشّهير محمد إقبال (1877-1938م) فيما معناه: لم تقدر أن تكتب محاورات أفلاطون، بيد أنّها هي الشعلة التى ألهبت الشّرارة.
أرى أنّ الأديبة الوجوديّة الفرنسيّة ومؤلّفة كتاب (الجنس الآخر)(Le Duexième Sexe) سيمون دى بوفوار (1908-1986م) – نظراً إلى بعض جوانب الموضوع التي لا تخلو من تعتم وحساسيّة وبخس وتطفيف – قد أهملت السّامي الأسطوريّ والواقعيّ في شأن المرأة والأمّ في قولها: "إنّنا لا نُولد نساءً، بل نصبح نساءً"، مثل تغاضيها عن عظمة تلاقح الأمومة والبنوتة وجمال الخلق النّابع من هذا التّلاقح الذي أسهم كثيراً في إثراء المشهد الأدبيّ العالميّ.
هنا استحضر صوراً من الآداب العالميّة الكلاسيكيّة والحديثة والمعاصرة على حدّ سواء، وهي خير مثال على تلاقح الأمومة والبنوتة (مقابل الأبوّة والبنوّة) في تجربة الوعي الكينونيّ والمعرفيّ والإبداعيّ، وتتميّز بتعدّديّة مرجعيّة من أساطير أوّليّة إلى روايات وقصص سجّلت حضورها القويّ في أوساط التّلقّي العالميّ: كاتلين شين (الويزمانون الثلاثة من ويست بورت)، وجاكلين ميتشارد (قعرالبحر)، ومونا سامبسون (وأينما ولكن هنا)، وكولم توابين (الأمّهات و البنون)، وإيليسا البرت (بعد الولادة)، وإيمي تان (وادي الحيرة)، وإيلينا فرانتي (البنت المفقودة)، وآن باشيت (قديس الكذّابين)، وجوجو مويس (واحد مع واحد)، وماغي فاريل (اليد التي أمسكت بيدي أوّل مرة)، وجيسيكا سوفر (غدا ستوجد المشمشات)، وجاميكا كنكائد (إيني جون)، ونيستل نج (النّيران في كلّ مكان)، ولوري فرينكل (وهذا هو المعهود)، وإيميلي أدريان (هنا كلّ شيء تحت السّيطرة)، ولين استيجر (الضّرورة)، وإيلينور استروتهر (شرح جميل)، وأوشن فونج (في الأرض نحن الفاتنات)، ونانسي جويون كيم (قصّة مينا لي الأخيرة)، وإيميلي جولد (الألحان الجميلة)، وفينيسا ديفنبوغ (لم نطلب الأجنحة)، وسواها.
إنّ هذه الرّوايات تبحر بالقارئ في أغوار الأمومة؛ فهي عدسات تكبّر خفايا تجربة الحياة في زاوية يكتنفها الكثير من الغموض الجميل، ولن يخلف البوح به في عمل أدبيّ أو سجّل حياتي سوى الحبّ والتّفاني الذي لا يخضع للتّقنين الظّاهريّ أيّاً كان.
الأمومة مقدّسة، وهذا ما تنطق به الأساطير والشّرائع والتّقنينات والأدبيّات، وهي تجسّد معاني الحبّ والعظمة والتّضحية كلّها، وهي بوّابة الفردوس وطريق النّجاة وسرّ السّعادة الكبرى؛ فالأرض هي الأمّ، وهي "الشكتي" (القوّة) وفق الحكمة الهنديّة القديمة، ونهر الجانج هي الأمّ أيضاً، وأمثلة كنتي وسيتا ويشودا وكوشليا وباروتي وستياوتي ودروبدي وكاندهاري ومندودري ومينكا وأوروشي وشاكنتلا –من بين عشرات أخرى– تمثّل لنا معدل الأمومة في تعدّديّة أدوار كلّها قوّة وحبّ و إبداع وجمال في الأساطير والأدبيّات الهنديّة.
لا يختلف الأمر في الأساطير الإغريقيّة؛ إذ غايا وفينوس وريا وغيرها– كما يشرح لنا هيسواد في كتابه (ثيوجوني) هنّ أمّهات عرفن بأدوارهنّ الرّئيسة في عمليّات الكون والخلق.
لا ننسى إيزيس ربّة القمر لدى قدماء المصريين، وعشتروت سيّدة الأموريين والكنعانييّن وآلهة الحبّ والجمال والخصوبة، وهي إنانا لدي السّومريين.
أمّا السّرديّات العربيّة الحديثة والمعاصرة، فهي أيضاً ممّا انصبّ الاهتمام على الفاعل الأنثويّ في سياق الأدوار والحبّكة، ومن أكبر الأمثلة على ذلك أعمال نجيب محفوظ وخيري شلبي وعبد الحميد جودت السّحار ومنى الشّيمي وآخرين.
فدور الأمّ النّقيّة (أمينة) في ثلاثيّة نجيب محفوظ (1911-2006م) (بين القصرين) و(قصر الشّوق) و(السكريّة) التي تجمع بين براءة الفطرة وقوّة الصّلابة في الدّفاع عن أسرتها وأولادها بمعدل يرفعها إلى درجة النّمط الإنسانيّ الشّامل، ويعادله دور الأمّ في رواية (بداية و نهاية) للرّوائيّ نفسه في حالة أكثر قساوة من المعهود عادة، وهي حالة غياب الأب وانهيار الأسرة تحت وطأة الظّروف، وتولّي الأمّ لأعبائها بصلابة تتماهي مع الحبّ والتّفاني.
بينما تتجلّى شخصيّة الأمّ المصريّة (شخصيّة الحاجّة فاطمة تعلبة) في الرّيف مثل عمود الخيمة ووتد الأسرة في رواية (الوتد) لخيري شلبي ( 1938-2011م)؛ فهي تصنع مجتمعاً صغيراً قائماً على الوحدة و التّكافل والاندماج، وقد خلق عبد الحميد جودة السّحار (1913-1974م) دوراً قويّاً للأمّ في روايتي (أمّ العروسة) و(الحفيد) في وسط ريفي متمثّلاً في قوّة وصلابة وإخلاص نموذجيّ يتحوّل إلى ضابط الميزان الذى يحمي الحياة من الاضطراب والاختلال.
نجد نفس الدّور القويّ للأمّ في رواية منى الشّيميّ -من مواليد 1968م- (بحجم حبّة عنب) التي تصوّر تقلبّات عائليّة قاسيّة ومؤلمة في جيل يتعايش وسط انشقاقات نفسيّة ترجع إلى فروق الحاضر والغابر في غمار تجارب إنسانيّة في بيئة صغيرة ومحدودة.
إنّ مثل هذه الصّور تتراءى لنا في موكب أدبيّ يحاور فيه المحلّيّ العالميّ؛ إذ التّجربة الإنسانيّة في جوهرها تتخطّى حدود الجغرافيا وفواصل التّاريخ لتنصبّ في بحر تتلاطم أمواجه، بينما قعره يخفي أعاجيب مشتركة، وهذا ما يفرزه لنا الأدب العالميّ في مختلف ألوانه وبُناه اللّغويّة والفنيّة والجماليّة ومشترك همومه الجوهريّة: (الأمّ) للرّوسيّ ميكسيم جوركي (1868-1936م)، و(الأمّ) الإيطالية جراتسيا داليدا (1871-1936م) و(شجاعة الأمّ وأبناءها) للألمانيّ برتولت بريخت ( 1898-1956م)، و(الأمّ) للأمريكية بيرل باك (1892-1973م)، و(باولا) للتّشيليّة إيزابيل اللّينديّ (من مواليد 1942م)، و(لأرض الطيّبة)، مع ثلّة من الأوّلين ذكروا في الأسطر السّالفة.
أوّل ما لمحتْ وجه نعيمة المشايخ كان في ندوة دوليّة عقدها قسم اللّغة الدّراسات العربيّة والإفريقيّة في جامعة (جواهر لآل نهرو) بمبادرة من صديقي البروفيسور مجيب الرّحمن وزملائه يوم 28 مارس 2016م، حيث كنتُ المتحدّث الرّئيسيّ في الجلسة الافتتاحيّة، وكانت الأمّ نعيمة المشايخ إلى جانب الأديبة الدّكتورة سناء الشّعلان التي لبستْ حلّة حمراء بزينة فلسطينيّة، وقد سرقت الضّيفتان المبجّلتان الجليلتان أنظار الحضور أثناء التّعارف وفترة احتساء الشاي، وتحدّثنا في شؤون الأدب والثّقافة والسّياسة في الوطن العربيّ لاسيما في الأردن، وتبادلنا الآراء في جلسات علميّة وفترات الاستراحة، وكلّما تجاذبنا أطراف الحديث مع نعيمة المشايخ شعرتُ أنّني أمام كائن ملائكيّ هو رمز للصّفاء والنّقاء والعمق المتبصّر مقابل سناء الشّعلان التي أبهرت الجميع بجمالها الفكريّ وسحرها البيانيّ مع جاذبيّة وجهها الذي يصرع العشّاق.
اللّقاء الثّاني مع الأديبتين الأمّ نعيمة المشايخ والابنة سناء الشّعلان كان في ندوة في مدينة (كولكتا) عقدها قسم اللّغة العربيّة والفارسيّة في آخر شهر مارس 2016م برئاسة صديقي البروفيسور إشارت علي ملا، وشاركتُ فيها متحدّثاً رئيسيّاً، والجلسات كانتْ أطول من المعتاد، مع استراحات وجولات في (مدينة السّعادة)، وهي ما يلقّبون بها مدينة (كولكتا) عاصمة الهند أيّام الاستعمار الإنكليزيّ، وهي مدينة ما زالتْ تحتفظ ببقابا مستوطنات هولنديّة ودنماركيّة وفرنسيّة، إلى جانب المعالم الأثرية للامبراطورية البريطانية.
هنا شاركتْ مع الأمّ والبنت نزهات وجلسات وموائد في أماكن جميلة جدّاً مثل الجزيرة الاصطناعيّة ووجبة العشاء في مطعم شهير على السّاحل، ومطعم جايسالمير في (سالت ليك سيتي الفاخرة)، مع صديقنا الدّكتور عبد القادر بخوش أستاذ دراسة الأديان المقارنة في كليّة الشريعة وأصول الدّين في جامعة قطر. كان لهذين اللّقائين امتداد جميل في الهند وفي الأردن أثناء زياراتي للمملكة الهاشميّة.
لماذا أرى اشتراكاً في المركز في قوس قزح إنسانيّ وأدبيّ رسم ظلاله في المتجسّد الإنسانيّ والأدبيّ من ذاتين اثنتين، هما نعيمة المشايخ وسناء الشّعلان.
في ثنايا الكلام في رحلة أمّ بطبوطة في الكتاب الرّحليّ (الطّريق إلى كريشنا) يجد القارئ أروع نماذج الجمع بين الجمال والإيمان والأمومة، وتستوقفني بوجه خاصّ نبرات نصادفها مبعثرة في فصول الكتاب جميعها، منها في فصل (أنا وأمّي نعيمة المشايخ في كشمير) الذي تصوّر فيه سناء ونعيمة جمال جبل غلمبرغ في كشمير، في "زيارة سحرية جميلة في أرض الله الجميلة المعلّقة فوق الجبال حيث أرض الفردوس المفقود... عندما نظرت أمّي في ذلك الفضاء اللّجي البارد الذي يتمدّد على أعالي الجبال في كشمير الهنديّة، وطارتْ نظراتها نحو أسفل الشّواهق التي تسلّقنا في رحلة الصّعود إلى إحدى قمم جبال الهيمالايا، بلعتْ ريقها بصعوبة والبرودة تلفح قسماتها، وصدحتْ "الله أكبر"، مجللة الصّوت دهشة منها ممّا رأتْ حولها من عجائب والبرودة والجمال والارتفاع الباذخ، ثم بدأتْ تصلّي صلاة الظّهر حاضرة على الثلّج بخشوع حارّ شعر أنّه يذيب صقيع الثّلج حيث يسجد جسدها الحنون الطيّب المترع بحرارة الإيمان والأمومة... عندما كانتْ أمّي تصلّي فوق الثلج، كنتث أراقبُ جسدها الطيّب المنهك بأمومة عريضة عمرها أربعون عاماً لاثني عشر ابناً وابنة تفانت في تربيتهم ورعايتهم والعطف عليهم، وتذكّرت تلك الشّتاءات القديمة عندما تدسّ أيدينا الباردة الصّغيرة في صدرها كي تفيض أجسادنا بدفء على أمومتها الغامرة... هذا الثّلج البارد المترامي في كلّ مكان حتى الأفق يحتاج ألف عام من حنان أمّي كي يذوب كلّه، لكن ما حاجتي لأن تذيبه أمّي؟ ونحن من جئنا من البعيد، و تجشمنا الصّعاب والمشاق والتّعب كي نراه ونطأ بياضه الصّارخ، ونهتف بانتصار و غرور: نحن هنا". (2)
يزور الهند ملايين من الرّحالة والسّياح والزّوّار طوال العامّ من كلّ حدب؛ فهي متحف حيّ لعبقريّة التّفاعل بين الإنسان والآلهة، وهنا يعرف الإنسان معنى أوسع لتبئير تنويعيّ للأساطير والمعتقدات والأعراق والألسّنة والقيم والطقّوس وغزو النّجوم والجمال والأبّهة والثّراء الفاحش والفقر المدقع.
حقّاً إنّ الهند جمهوريّة للتّعدديّة العقديّة حيث تقطن المضادّات الاقتصاديّة والثّقافيّة والقيميّة منذ زمن الفيدات والأوبنيشادات كأنّها رضائع لبان، فهنا أباطرة كلّ ما يخطر على بالنا، وهناك تاج محل ذلك الجمال الخالد الذى نحته حبّ امبراطور هو شاه جهان (1592-1666م)، ليحوّله إلى أسطورة حيّة وأحد عجائب الدّنيا السّبعة، وقلّما يفوت سائح أو زائر تطأ قدماه الهند أن يختلس -على الأقلّ- نظرة على جمال هذه الأعجوبة التي تبهر أنظارنا بأجمل قصيدة حبّ قُرضتْ على أبدع أوزان من المرمر والأحجار الكريمة؛ فهي عروض مرمريّة تضاهي أجمل ما نعرفه من سحر الأوزان الخليليّة اللّفظيّة، وما رأيكَ في جمال الموسيقى التى يعزفها عود الحبّ اللامرئي واللّالفظيّ التي يسمعها كلّ مَنْ أوتى نصيباً من الحبّ –العذري أو سواه– في حياته؟
إنّ هذا المشهد الجميل والموقف السّاحر يجعلنا ننخرط في بوتقة الهيام السّرمديّ الذي يبوح بأسرار ما ورائيّة وعلى قاب قوسين من حظيرة القدس الشّعريّة تلك التي تغنى بها قديسو الصّوفيّة، مثل: فريد الدّين العطّار النّيسابوريّ (1164-1221م)، ومحيي الدّين بن عربيّ الأندلسيّ (1165-1240م)، وفخر الدّين العراقيّ (1213-1289م)، و جلال الدّين الرّوميّ (1207-1273م)، وآخرين.
إنّ وفقة على تاج محل تسطّر على لوحة أحاسيسنا خطوطاً وظلالاً تتأبّى على المعدّلات الرّياضيّة وقواعد دراسة الفنون تقعيدها وتشفيرها عادة، من ثمّة تفكّ لنا بعض أسرار دمعة أو دمعتين تتغلّبان على التّحمّل المصطنع من الذين يصعب عليهم التفات المتحملقين في وجوه المارة والزّوّار، كأنّهم ضُبطوا حين ارتكاب الجريمة.
مثل هذه الدّمعة في عيني نعيمة المشايخ تستوقفنا، وهي تقف متأمّلة أمام قبرين من الرّخام: شاه جهان وممتاز محل، و قصّة الحبّ التي يراها الزّوّار بعد أن قرؤوا عنها – أو لم يقرؤوا عنها– في الكتب أو سمعوها، أو لم يسمعوها من سندبادهم.
"وقفت أمّ بطبوطة (نعيمة المشايخ) أمام القبر المرمريّ المهيب بعد أن أصغت باهتمام لقصّة الإمبراطور المغوليّ العاشق شاه جهان الذي بنى تاج مجل كاملاً ضريحاً أسطوريّاً لزوجته الثّالثة أرجمند بانو بيجم الملقّبة بممتاز محل التي كانت الأقرب إلى نفسه من زوجاته ومحظياته كلّهنّ، وتوفيّتْ أثناء ولادتها لطفلها الرّابع عشر... تأمّلت القبر بما فيه من عظمة لا تناسب حطام الموت، لكنّها تنسجم مع أهوال العشق ومدامع العشق والصّبابة والافتتان عند أهل العروش... تنهدّتْ أمّ بطبوطة بحسرة، ثم انثنتْ إلى جانب الحاجز المرمريّ الأبيض المزخرف، دارتْ بيسر دمعة برقتْ حرقتها في عيني... إلّا أنّ حزناً داهم روحها، فختفت ابتسامتها على حين غرّة بعد أن دخلنا غرفة دفن الامبراطور وزوجته في تاج محلّ... اقتربتْ منها أكثر لأكون أوّل مَنْ يمسح دمعتها، ويعرف سرّ كدرها المفاجئ، وعندما أصبحتْ أنفاسها السّخينة في محاذاة خدي سألتها بحنو وقلق: ما الذى أبكاكِ وأزعجكِ يا أمّي؟ أجابتني بحرقة: انظري ماذا يفعل الرّجال لزوجاتهم؟ هل سيبني أبوكِ لي ضريحاً عظيماً كهذا إنْ متُ قبله؟ طبعاً هو لن يفعل ذلك، فهو حتى لم يبنِ لي قصراً في حياته، فكيف يفعل ذلك بعد مماتي؟" (3)
هنا نعرف بعض أسرار الذّات الإنسانيّة التي تحيّرنا بأعاجيبها وأحاجيها النّفسيّة الضّاربة في أعماق الشّعريّة والواقع المعاش.
من المنظور الأدبيّ والإنسانيّ أجد شخصيّة نعيمة المشايخ مع ابنتها الأديبة سناء حلقة رائعة من قصص العظمة التي ترمز إليها الذّات الأنثى الخلّاقة التي ظلّتْ دوّامة حيرة وإرباك وغيرة وإباء وثورة وهدنة وتعالي وانحناء وتغريب ومؤانسة، وهي كلّها من تاريخ الصّفاء والوفاء والتّضحية وبناء الذّات في هياكل أخرى متلاحمة فيما بينها في الجوهر، مع تعدّدية ألوان في قوس قزح يوصل بين القطبين ليصنع منهما أحاديّة رائعة.
الإحالات:
1- الطّريق إلى كريشنا: رحلات في كشمير والهند: سناء شعلان، ط1، منشورات ضمن سلاسل (ارتياد الآفاق) عن دار السّويديّ للنّشر والتّوزيع في أبوظبيّ/ الإمارات العربيّة المتّحدة، والمؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت/ لبنان، ودار الفارس للنّشر والتّوزيع عمان، الأردن، 2023
2- نفسه: ص 28-29
3- نفسه: ص 34
أ. د. محمد ثناء الله النّدويّ/ الهند.