تعتبر الطنجية المراكشية أي المغربية ، مظهرا من مظاهر خصوصية الحضارة المغربية فـي مجال فن الطبخ الغني و المتنوع الذي يزخر به المغرب ، و الذي يختلف باختلاف المناطق و اختلاف العناصر المكونة للهوية المغربية ، كما أتاح الموقع الجغرافـي المتميز للمغرب ، تفاعلا و انفتاحا على أصناف الطبخ الذي عرفته و تعرفه حضارة البحر الأبيض المتوسط شمالا، وإفريقيا جنوبا ، فتأثر وأثر .
ونظرا لما تميزت به الطنجية قديما من خصوصية ، وشدة الإقبال عليها ، إلى حد أن غدت ظاهرة ، فقد اهتم بها بعض الفقهاء ، و اتخذها أديب مغربي موضوعا لمقامة مثل بها فنا من شعرية و جمالية النثر ، و تبعا لما تقدم فقد ارتأينا معالجة موضوعنا من خلال منظورين : أحدهما فقهي شرعي ، والثاني تخييلي أدبي .
أ - الطنجية فـي المنظور الفقهي :
قد يتعجب أو يعجب القارىء الكريم من اهتمام الفقهاء بما يدخل فـي بطون الناس من مأكول و مشروب ، و هذا الأمر ليس بغريب إذا عرفنا أن من بين القواعد الشرعية العامة المحافظة على الصحة النفسية و العضوية للإنسان، و حمايتهما من كل ما يتسبب فـي الإضرار بهما. فالقاعدة الفقهية تنص على أن الضرر يزال.
و سنضع بين يديك منظومة ترجع إلى العصر المغربي الوسيط ، تدور حول الاحتياطات التي كانت تتبع حتى يطعمها صاحبها هنيئا مريئا من غير أن يصاب بضرر أو تسمم. وسنتبعها بالعواقب الصحية السلبية التي يمكن أن تحتـــف بالإقبال عليها فـي الوقت الراهن، والاحتياطات اللازم مراعاتها حسب ما قرره أهل الاختصاص .
و هذا نص المنظومة التي ترجع إلى القرن 11هـ ، و هي لأبي عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المراكشي يقول :
فصل وقدر اللحم حين تمشي *** بها لتطبخ لدى الفرناطشي
فشرطها يا صاح شــد محكم *** بنحو كـــا غد و جلد يحزم
أو بغطاء العـــــود أو فخــار *** تلـــززا حفظا من الغبــار
و الصق العجين بالأطـراف *** لسد منفــــــذ بدا أو خــاف
و أدخلنها فـي الرمـــاد حتى *** يغيب ثلثها و كــــن ذا ثبتا
و نح عن رمادها ثـيابك *** فهـــــو منجس إذا أصــابك
إذ صاحب الحمام لا يسخنه *** فـي غالـــب الا بزبـــل يمكنه
ثم إذا ما طبخت فاجعــــلها *** فـي قــفة أو نحـــوها واغسلها
بصب ماء فوقها حتى يعم *** كــل الجوانب و سفـلا ولتضم
ورضه بدفع ما فـي العادة *** كشأن أهل الفضل و المجادة "1"
1 : فمن هو صاحب المنظومة :
إنه العلامة أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المراكشي"2" ، عالم مراكش و إمامها خلال القرن 11هـ ، جاء إلى مراكش بزاد معرفـي بنكهة بدوية ، ففيها استكمل دراسته ، و قام برحلات علمية داخلية فـي مراكز التعليم العالي الحضري منها و البدوي ، و بعدها سيرجع إلى مراكش حيث سيدرك مجدا علميا متميزا ، إلى حد أن أهل فاس اتصلوا به و أرادوه إلى بلدهم للحاجة الماسة إلى علومه"3". كان الرجل على قدر من الورع التام والدين المتين زاهدا فيما يدخل فـي البطن ، و مزورا عن التطلعات المادية و المسالك الوصولية ، محترما عند الخاصة و العامة . عرف عنه ملازمة الصيام و القيام و مجاهدات فـي بيت ضيق بمدرسة جامع الكتبيين ، الذي مكث فيه خمس عشرة سنة يعبد الله. اشتهر بالتوقيت و منظومته ( المقنع ) أشهر من نار على علم ، توفـي رحمه الله بالطاعون سنة 1089هـ/ 1678م .و دفن بباب أغمات بمراكش قريبا من ضريح شيخه أبي بكر السجستاني .
2 – المنظومة:
ترجع هذه المنظومة إلى العصر السعدي . كانت دول الجوار الشرقية آنذاك واقعة تحت هيمنة الأتراك ، و لا مفر من الاحتكاك بهم سياسيا ، فتركنا فيهم وتركوا فينا آثارا لغوية وحضارية . و لغة المنظومة شاهدة على ذلك ككلمة الفرناطشي و الحمام على النمط التركي. و على كل حال فطبيخ الطنجية أصبح فـي هذه الحقبة ظاهرة ، وأثار مجموعة من الإشكالات النوازلية ، ومن ثم كان لابد للفقيه من تقنين نمط استهلاكها حتى يحافظ الإنسان على عافيته ، و يؤدي ما أنيط به من تكاليف على أحسن وجه . خاصة إذا علمنا ان فترة المنظومة عرفت انتشار وباء الطاعون الذي أتى على نسبة مهمة من ساكنة المغرب، وكان المؤلف ، رحمه الله، من ضحاياه.
و معلوم أن الطنجية ما دامت محتوية على حلال لحما و توابل و مرقا فلا إشكال فـي حليتها . والإشكال الوحيد الذي تطرحه المنظومة هو أن الطنجية كانت آنذاك تستوي و تطبخ على طاقة هادئة متولدة من حريق الأزبال، و معلوم أن الأزبال نجسة فهي مباءة لملايير المكروبات. و لعل الداعي إلى تسخين الحمامات بصفة عامة و المراكشية خاصة ، فـي العصر السعدي، بالأزبال هو كون الطاقة الخشبية المستعملة فـي صناعة السكر تحتكرها الدولة ، وقد أتت هذه الحاجة الكبيرة على مجموعة من الغابات منها غابة شيشاوة التي لا تزال إلى اليوم شاهدة على ذلك الاستنزاف العظيم الذي يتطلبه استخلاص السكر من القصب و من ثم لم يبق لتسخين ماء الحمامات سوى الأزبال. و إذا فما حكم ما طبخ بالنجس ؟ ثم ما حكم الأجرة التي تدفع للعامل فـي الفرناطشي الذي يسهر على استواء الطنجية ؟.
و على كل حال فالملاحظ أن الشروط والاحتياطات التي نصت عليها المنظومة لازالت متبعة ومستصحبة إلى اليوم ، كربط فوهتها بالكاغد ، و إدخال ثلثها فـي الرماد فهي بنت الرماد ، و حملها فـي قفة أو نحوها... كل ذلك بالرغم من أن الحطب والعيدان هي الغالبة فـي تسخين حمامات اليوم ، وهذا من باب دلالة الشاهد على الغائب ، وغلبة العادة المحكمة .
أما بالنسبة لأجرة التعهد والطبخ، فيرى الناظم أن تكون مبنية على المكارمة، و ليس لعامل الفرناطشي الذي سهر على استوائها أن يفرض قدرا معينا من المال ، فما أعطيه فعليه أن يقبل به بصدر رحب مادام يسخن المياه بالأزبال . إما إذا اعتمد على العيدان وطاقات أخرى غير الزبالة فله أن يفرض ثمنا مناسبا لا ضرر فيه ولا ضرار.
وعلى العموم فإن المكارمة التي قعدها الفقهاء هي المتبعة لغاية اليوم. و لقائل أن يقول إن العقد الضمني من الناحية القانونية فـي هذه النازلة مختلط ،فيه ما هو غير مقبول و هو الزبالة ، و فيه التعهد . و عليه فعلى صاحب الطنجية أن يؤدي مقابل خدمة تعهدها بنقلها من حالة النيء غير المستساغ إلى حالة الطبيخ المستوي والمغذي .
كل ما قدمناه ضارب فـي القدم، و مبنئ على اهتمام فقهاء العصر الوسيط بحماية صحة المستهلك. يقول العز بن عبد السلام ، فـي علاقة الطب بالشرع أو الشرع بالطب، فـي الصفحة التاسعة من كتابه ، قواعد الأحكام فـي إصلاح الأنام : " فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح الصحة و السلامة ، ودرء مفاسد المعاطب والأسقام " .
فما هو الإشكال الصحي الذي تطرحه طنجية اليوم ? وما هي الاحتياطات اللازم اتخاذها ؟
1- نعلم اليوم أن بعض الفخارين يشوون مختلف الأواني الطينية بما فـي ذلك أنواع الطنجية على نار المترهل و المتردي و العادم من مختلف أنواع العجلات المطاطية. و هو شيء له انعكاساته على البيئة من جهة و على مستعملي تلك الأواني من جهة ثانية .
2- إن الطنجية تطلى من الداخل بميناء و هو مادة زجاجية مشبعة بالرصاص مانعة للرشح ، و أثناء الطبخ فـي فرن الحمام يسري ذوب ذلك السم إلى المرق، و تزداد نسبة ذوب تلك المادة السامة و تشتد إذا أضيف للطنجية الليمون الحامضي المعتق "المصير". و هذه المادة الرصاصية كما أثبتت التحاليل تدخل فـي عداد السموم المعدنية فلها مضاعفات خطيرة على الجهاز العصبي ، و الهيكل الهضمي، و الكلي والمعدة 3م ، و يكفي أن نقول إذا تسرب منه إلى الجسم قرابة 10 جرام فإنه غالبا ما يؤدي إلى الوفاة .
لسنا ضد مطلق طنجية ، بل تلك الطنجية التي تضر بصحة المواطن ، والقاعدة الفقهية كما قدمنا تنص على: "إن الضرر يزال" .
فإذا سلمت الطنجية من تلك الآفات، بأن صنعت من طين طيب ، وشويت بوقود طبيعي نظيف، و طليت بمادة مانعة من الرشح برهنت التحاليل المختبرية أن لا تأثير لها على الصحة ، فللمستهلك أن يتذوقها متمطقا ، و أن يتلذذ بأكلها بمزيد من الصحة والعافية.
إن العولمة، إخواننا المقاولين في الفخار والمتعاطين لصناعته ، تيار سياسي واقتصادي وحضاري جارف، فإذا لم تتفطنوا لشراسته ، وتتنافسوا انطلاقا من معايير الجودة فستضيعون على الحضارة المغربية طبيخ الطنجية الأصيل الذي عاش زهاء أربعة قرون وستتحملون وزره، وستفسحون المجال واسعا لأكلات العولمة الخفيفة على علاتها من مثل الماكدونالد و.. إلـخ.
تلك أحكام فقهية تدل على اهتمام الفقهاء قديما بحماية صحة المستهلك حتى يتسنى له أداء ما كلف به من قيم إنسانية سامية على أحسن وجه .
ب : الطنجية من المنظور الأدبي :
خصها أديب مغربي عاش فـي العصر العلوي بمقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، "الطنجية" و قبل أن نضعها بين يديك سنعمد إلى تحليلها مستهلينه بتعريف المقامة ، وترجمة منشئها.
1 : فالمقامة فـي اللغة هي "المجلس أو الجماعة من الناس يجتمعون فـي مجلس" "4" ، و عرفها الشربشي بأنها "الحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه ، لأن المستمعين للمحدث يكونون بين قائم و جالس ، و لأن المحدث يقوم ببعضه تارة و يجلس ببعضه أخرى" "5" . ويفرق أستاذنا المرحوم محمد بن تاويت بين المقامة و المجلس قائلا : " إن كلمة مقامة من قام إذا وقف فهي إذن موقف وليست مجلسا كما قيل ، فالمجلس مرتبط بالتعليم يطول وقته ، ويمتد ساعات عديدة ، ولكن المقامة لا يزيد وقتها على دقائق معدودة ، وهذا ما جعل أول من ابتدعها يسميها بذلك الاسم ، إذ المقامة بذلك القصر الذي ذكرناه ، ثم إن موضوع المقامة يكون من البساطة بحيث لا يحتفل به احتفال الذين يجلسون لتلقي التعليم و قضاياه العويصة ، وكأن كلمة مجلس فـي هذا انبثقت فـي الإسلام ، من حديث جبريل ، بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ..الحديث ، لكن ما تحتوي عليه المقامة غالبا لا تقتضي ذلك ، بل يلقى على الواقفين المنسطين إلى صاحبه فـي الأسواق و نحوها غالبا وليس فـي المساجد" "6" . ذكر أبو عبد الله الأبي "أن أئمة تونس كانوا ينزهون المساجد عن قراءتها فيه" "6م".
من خلال التعاريف الثلاثة المتقدمة نرى ابن منظور ركز فـي تعريفه اللغوي البحت على فصلين أو سمتين : المكان، والناس الذين يعمرونه .
بينما جاء تعريف الشربشي شارح مقامات الحريري مضيفا إلى تعريف ابن منظور مزيدا من التفصيل الحاضرين فـي المكان بين متكلم، وحدث كلامي ومستمعين بين قيام وجلوس .
أما المرحوم محمد بن تاويت فقد حد المقامة بناء على ثنائية الموقف / المجلس ،فـي علاقتهما بثنائية أخرى المقدس / السوقي ، واختلاف طبيعة المتن المقامي عن المتن العلمي من الناحيتين الزمانية والمعرفية .
فباستثناء التعريف اللغوي الصرف لابن منظور ، نرى أن التعريفين الآخرين جمعا بين الدلالة اللغوية كما نص عليها ابن منظور وبعض الخصائص الاصطلاحية الشكلية للمقامة .
الدلالة الاصطلاحية :
يقول عبد الملك مرتاض : " فلست أريد بالقصة – يشير إلى كتابه القصة فـي الأدب العربي القديم – إلا مقامات بديع الزمان الهمذاني و ليس غريبا أن تراني أطلقت عليها هذا الاطلاق الذي لم تألف، فما كان يراد بالمقامة فـي المفهوم القديم إلا الأقصوصة فـي المفهوم الجديد " نشأ فـي القرن الرابع الهجري على يد بديع الزمان الهمذاني "7" .
وعرفها محمد السولامي قائلا : " المقامة نمط تعبيري نثري ينهض أساسا على شخصية الراوي و شخصية البطل الجوال المغامر، ينجز بصيغ لفظية جاهزة و أساليب بلاغية عديدة ، أبرزها السجع ، و يعتمد على أحداث قلما تتميز بدرامية كتلك التي تسود باقي فنون القص "8" . فالتعريفان يدرجان المقامة داخل الفن القصصي، والتعريف الثاني زاد على سابقه مكونات الفن السردي .
وفـي نظرنا فإن المقامة فن سردي بدائي أو بسيط"9" من فنون شعرية النثر ، يمكن اعتباره مكونا جنينيا لفن الأقصوصة فـي الأدب العربي .
2 : صاحب مقامة الطنجية : هو أبو محمد و أبو نصر عبد القادر بن شقرون المكناسي "10" " ت بعد 1140هـ = -1728م "، طبيب ماهر ، و فقيه متمكن ، و أديب بارع ، يقول عنه معاصره محمد بن الطيب العلمي " 1134هـ - 1721م" شاعر مصيب ، رتع من البلاغة بمرعى خصيب ، وأحرز من الدراية أوفر نصيب، دخل بيوت العربية من أوضح المسالك ، و طرز فـي حديث السنن نحو ابن مالك بفقه مالك ، واختار الوحدة ، و انفرد بالخمول وحده ، و رغب عن الولدان ، و اعتزل الإخوان و الأخوان ، وضم إلى علم الأديان علم الأبدان ، فركب الأودية ، و انتشر له بين الحكماء أي ألوية ، و عرف الأمراض ، و أرسل سهام الرقى فأصابت الأغراض ، رحل إلى المشرق فأدى فرضه ، ثم رجع قاصدا أرضه ، فناهيك من علم اجتلب ، ومن درر نظم و در احتلب " "11" .
من مؤلفاته :
* : أرجوزته الطبية المعروفة بالشقرونية تقع فـي نحو 700 بيت ، ذكر فيها منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير والأدواء والأدوية ، نظمها بطلب من الشيخ الصالح بن المعطى الشرقي عندما مر بمكناس عام 1113هـ - 1701م - .
* : قصائد مختلفة ، منها قصيدة فـي مدح جناب النبوي الشريف .
* : من نثره الفني هذه المقامة موضوع بحثنا "12" .
ج : تحليل المقامة :
تتكون هذه المقامة من تمهيد وخمس مقطوعات ، بعضها آخذ برقاب البعض.
التمهيد : استهله بسند على طريقة المحدثين ، و وظيفته حـجاجية تجعل المتلقي واثقا من الخبر الذي سيلقى إليه ، وقد جاء اسم الراوي و نسبه و كذا المروي عنه - البطل – محيلا على الطبيعة ، فلا هو عيسى بن هشام راوي مقامات الهمذاني ، و لا هو بطله أبو الفتح الإسكندري ، و لا هو بالحارث بن همام راوي مقامات الحريري و لا بطله أبو زيد السروجي ، فراوي مقامة " الطنجية " وبطلها ينتميان إلى عالم الطبيعة ، إنه نسيم بن رياض ، والمروي عنه – البطل – جدول بن حياض .
وهذا يذكرنا بموشح : جادك الغيث ...لابن الخطيب وفيه .
و روى النعمان عن ماء السما *** كيف يروي مالك عن أنس .
و دور الراوي فـي هذه المقامة سلبي يكتفي بما سمع من البطل ولا يتدخل فيه على غرار رواة الأحاديث الشرعية .
وهذا التمهيد سيجعل أفق انتظار المتلقي يتوقع ، من اسمي الراوي و المروي عنه ، بأن ما سيأتي من الحدث الكلامي لن يخرج عن وصف فضاء غب مطر تجلله الطبيعة بمحاسنها ، فالمكان الموصوف موح بزمان فصل الربيع .
1 : المقطع الأول : يبتدئ بوصف الحالة النفسية للبطل الأديب ، فقد ضاق صدره واشتاق إلى لحظة استجمام تبدد و تكشف غمته ، و الشوق فـي حد ذاته عنصر مهم من عناصر السرد ، و هو الذي سيخرج البطل الأديب من طور وجداني إلى طور آخر ، نعم لقد اشتاق إلى نزهة تريحه من عناء الكد فـي مناحي العيش ، أو تخرجه من حالة الارتاج و انغلاق باب الإبداع إلى حالة الوجد الأدبي و استجابة القريحة ، فارتياد البساتين و ورود مجاري المياه ،كما نص على ذلك نقادنا القدامى ، عامل من عوامل استجابة القريحة و حل عقدة اللسان ، و هكذا أتى بطل المقامة روضا مريعا ، و بين خمائله و مروجه و ترعه و جه عدسة وصفه نحو جميع مكوناته ليتسلسل أمام القارئ معجم حافل بأنواع الأزهار و الأنوار من أقحوان و شقيق ، و زهر فـي أكمامه و منثوره المتساقط ، و بنفسج وخابور ، وأنشأ فيما بينها علاقات مؤنسنة عن طريق أصباغ بديعية و ترنيم شبيه بإيقاع المثاني و المثالث و صور بيانية على رأسها استعارات مكنية رائعة ، فهذا الأقحوان يبتسم للشقيق ، و هذا الزهر يعطر الروض بمنظومه و منثوره ، وهذا البفسج على جلالة قدره يتذلل و يتواضع أمام الخابور المكلل بتيجانه ، كما يمم بصيرته الجمالية نحو الجداول والأشجار لتصبح الافتان التي من طبيعتها التطاول تنوء بحمل ثمرتها و تنحني إجلالا أمام الجداول المسلولة انسلال السيوف من الأغماد ، كما يرصد الطيور فـي حركاتها و تناغم أصواتها فيتجاوب و إياها و كأنه على دراية بمنطق الطير ، فهذا الحمام يبكي بالدموع الغزار أثناء مخاصمته للشحرور و الهزار ، مناظر خلابة ذكرت البطل بما أعد الله للمؤمنين بما جاء فـي وصف القرآن الكريم للرياض و الجنان ، و بينما هو هائم بين تلك الخمائل إذ وقع بصره على .
2 : المقطع الثاني : وقع بصره على فتية ولعوا بالأدب، التأم جمعهم بمحاذاة نهر ، يتناشدون اللحون والأشعار، وها هنا تتناغم أصوات الأناسي المنشرحة منسجمة مع مظاهر جلال الطبيعة ، فتسلل نحو الفتية مستخفيا بحيث يظن أنه يراهم من حيث لا يرونه ؛ رجاء التقاط ما يتداولونه من الأخبار والأشعار ، لكن هذه اللحظة لم تطل إذ افتضح أمره .
3 : المقطع الثالث: أشرف عليه أحدهم ، فأدرك أنهم رأوه ، فبعثوا إليه من يحضره ، فاعتذر للمرسول بدعوى أن المرء على الاطلاع مجبول ، و العذر عند كرام الناس مقبول ، و أن ما دعاه لركوب تلك الحيلة هو التلذذ بسماع الأشعار ، و أقسم بالله جهد إيمانه على صدق دعواه ، لكن المرسول أبى أن يتركه وحرص على إحضاره إلى مجلسهم المنتظم انتظام البدور ،فتقاعس البطل واثاقل إلى الأرض حتى أتوه بأجمعهم ، و احتفوا به و رحبوا ، و ألحوا فـي انضمامه إلى مجلسهم، و الفقرة توحي بأن البطل علم مشهور لدى الفتية .
4 : المقطع الرابع: انظم البطل إلى مجلس الفتية الأدباء الذين عرفوا فضله، و اعترفوا له بالمشيخة فقد موه عليهم ، فكانت البداية معه منفتحة على المذاكرة فـي الأدب ، فخاضوا فـي مجاله ، و ذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى أذن وقت الأصيل إذا بفتى يحضر مخفيا شيئا تحت جلبابه ، عرفه الفتية وجهله الشيخ ، فسألوا الفتى عن داعي بطئه وتأخره ، فاعتذر اعتذار الحكماء و ورى عن موضوع حديثه قائلا : إن إخراج الدفينة .. بحاجة مستلها و معالجة أمرها إلى تلطف و إلا أتى عليها و على ما بداخلها ، فما أشبه معالجتها بوسق السفينة فحمولتها بحاجة إلى توازن و إلا انقلبت رأسا على عقب عند هبوب أول ريح ، ثم كشف عما أخفى بالتورية ، و إذا بالدفينة عبارة عن طنجية شبيهة بعروس ذات نقاب ، و قال : اغتنموا فرصة الطنجية قبل حلول الليل ، و لكن قبل مباشرة استطعامها ، طلبوا من جدول بن حياض بطل المقامة الذي أمروه عليهم بعد أن تحداهم أن يباركها ارتجالا بشيء من منظومه ومنثوره، فكان ما ستقرؤه فـي .
5 : المقطع الخامس : و هو حد فاصل ينتقل فيه البطل من التحدي بالرواية إلى التحدي بالإبداع جاء فيه : " بنت الرماد يحيا بنفحاتها الجماد ، و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها إلا إذا اجتمعت أحبابها ، و لا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام لأتاها بدون احتشام ، ولو علم خبرها مروان ، لترك الجنود و الأعوان ، و حضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب و لا ملامة ، وجمع الخبز لها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، فما أشبهها لما أفرغت ، بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم ما أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل
إذا قال كل من الأقوام نرجمها *** و مزقوا لحمها من غير ما زلل
فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم *** أنا الغريق فما خوفـي مــن البلل
وسنترك للمتلقي فرصة قراءته قراءة بناءة على حد تعبير تودوروف "13".
تعليق :
1 : لنا أن نتساءل : ما بال الفتية لم يستضيفوا من أول وهلة شيخهم بطل المقامة ، ويطلعونه على ما هم مقدمون عليه ، فهو علم ولهم به معرفة ، فقد فرض نفسه فـي مجال الأدب ، ومثله يعتبر زينة لمقام الاستمتاع والنزهة ؟
و لنا أن نحزر جوابهم القابع فيما بين السطور فنقول : إن عدولهم عن اصطحابه عائد إلى تقنية السرد فـي حد ذاتها القائمة على الحوار وتبادل أدوار الكلام فهي التي لم تسمح بحضوره بدءا ، فوجود الشيخ بينهم هو فـي حد ذاته سلطة قد تحد من دواعي القول لديهم ، كما أنه بصفته تلك سيستأثر بالكلام دونهم ، فيصبح المجلس مجلس علم لا مجلس نزهة وأنس ومؤانسة ، فالتلفظ فـي الحكاية العربية ، كما يرى تودوروف تقنية مكثفة هامة حمالة للتأويل و هذا لا يترك مجالا للشك فـي أهميتة فـي السرد العربي ، و النموذج الأمثل كامن فـي شهرزاد ، بطلة ألف ليلة وليلة ، مكتوب عليها أن تحيا فـي حدود ما دامت تحكي و صمتها ، مؤذن بنهايتها وهلاكها "14" .
إن تسمع بطل المقامة لأحاديث الفتية ظانا أنه يراهم من حيث لا يرونه ، و تفطنهم لتسقط أخبارهم سيقطع حبل استئناسهم بالحديث ، و بإحضارهم للشيخ و ترحيبهم به ستنفتح قناة مطارحتهم للأخبار و الأشعار القائمة على سبيل الرواية لتفضي إلى مجال الخلق و الإبداع و هو مسلك تعذر على الفتية ارتياده فسألوا الشيخ – البطل – أن ينبري له و عرضوا عليه ارتجال شيء من المنثور والمنظوم يكون موضوعه " الطنجية " .
وبناء على هذا التأويل يحق لنا أن نستنتج الجانب النقدي الضمني فـي المقامة ، إنه ينتقد المنظومة التعليمية فـي عصره القائمة على صمت المتعلمين و هيمنة الإلقاء والتقرير ، فكأني به يهفو إلى الجمع بين مفهوم المجلس العلمي الصارم و روح الحوار والمؤانسة فـي المقامة .
2 : قول ، بطل المقامة ، وهو يهم بوصف الطنجية وصفا أدبيا :" فجبت فـي ميدان الأدب وجلت " فهذه العبارة ،سواء اعتبرناها حديث نفس مونولوج ، أو تصريحا و بثا فهي تحد أدبي للفتية و هو غاية المقامة كما أنها تهيؤ لمباشرة وصف ما اقترح عليه ، عن طريق استحضار المعجم و المعاني الشعرية المناسبة لموضوعه ، فهذه الأمتعة التي سبق له أن زين بها ذاكرته و عمر بمعانيها وأفكارها صدره هي التي ستسعفه و ستترسب فـي العمل أو النص الذي سينتجه ، مما يؤشر على ضرورة استحضار المحلل لمثل هذه المرجعية التي تتداخل تداخل اللحمة بالسدى فـي نسيج النص المزمع إنجازه فعن هذه المرجعية الثاوية فـي مقامة الطنجية يقول الأستاذ سعيد أعراب : " نجد فـي هذه المقامة ظلالا للمقامة الصيمرية لبديع الزمان الهمذاني ، وربما كان المؤلف متأثرا إلى حد ما بالمقامة الزهرية للمكلاتي" "15" .
ذلك ما انتهى إليه تحليلنا لمقامة الطنجية باستثناء مقطعها الخامس ، تناولنا فيه دلالة المقامة فـي اللغة وفـي اصطلاح الأدباء ، وبما أنها ضرب من السرد البسيط ، مقصديتها التحدي الأدبي و إثبات الذات فقد عمدنا إلى تحليلها اعتمادا على بعض المقولات أو المكونات السردية .
نص المقامة :
حدثني نسيم بن رياض ، عن جدول بن حياض ، قال : لما دعاني داعي الشوق القاهر إلى النظر فـي محاسن الأزاهر ، أجبت داعيه مضمرا ، ولطاعته وامتثال أمره مظهرا ، فيممت روضا تأنقت الأنوار فـي حلل أزهاره ، وتدفقت الأنهار فـي ظل أشجاره ، وارتفعت طرف الطرف فـي زرابي الخمائل ، وبطاح رصعت يد الشمائل ، وتبسم بها ثغر الأقحوان الشقيق ، و انتظم نظم الدرر و العقيق ، وبكى الحمام بالدموع الغزار عند مخاصمة الشحرور و الهزار ، و خضع القضيب المتطاول ، عند انسلال سيوف الجداول و افتر الأقحوان عن ثغوره ، و فاح الروض بمنظوم زهره و منثوره ، لم لا يتواضع البنفسج تواضع الذليل ، و قد فخر عليه الخابور بالإكليل ، فبينما أنا طائف تحت سماء الأزهار ، فـي حدائق أذكرتني جنات تجري تحتها الأنهار ، وقد وقع بصري على فتية أحدقوا حداق السوار ، فـي خميلة من النوار ، يتسايقون جواهر الأشعار واللحون ، على ضفة نهر يزرى بسيحون وجيحون ، فدنوت مختفيا عن أبصارهم ، لالتقاط ما تساقط من أشجارهم وأخبارهم ، زاعما أني مطلع عليهم من حيث لا يبصرون ، فإذا بأحدهم أشرف علي ، فأيقنت أنهم رأوني وبعثوا إلي ، فقلت المرء على الاطلاع مجبول ، والعذر عند كرام الناس مقبول ، إنما جئت لا تسمع مطربات الأشعار ، لا لاهتك خفيات الأسرار ، فأقسم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لأرسلناك أو لتحضرن مجلس البدور ، فتقاعست تقاعس الفيل ، مخافة أن أزن بالتطفيل على المجلس الحفيل ، حتى إذا استيأسوا من الرسول ، و خافوا أن لا يظفروا بالسول ، انطلقوا إلى انطلاق الغزلان ، وكلهم يقول : مرحبا بالشيخ فلان ، فانطلقت إلى المجلس الباهر ، المحفوف بالأزاهر ، فتذاكرنا الأدب و خضنا فـي مجاله ، وذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى إذا ما مد ثوب الأصفار ، على وشى البنفسج و العذار ، ورد علينا فتى تأبط شيئا تحت ثيابه ، فقال الكل : ما أبطأك ، وما أخطأك ، فقال : إن من يحاول إخراج الدفينة ، كمن يحاول وسق السفينة ، فكشف عن عروس ذات نقاب ، تخضع لنفحاتها الرقاب ، وقال : اغتنموا فرصة الطنجية ، قبل أن يضع الليل ثيابه الزنجية ، فقال لي بعضهم : هل استخرجت فيها من درر بحورك ، سيئا من منظومك و منثورك ، فجبت فـي ميدان الأدب وجلت ، ثم أنشدتهم و قلت : بنت الرماد يحيى بنفحاتها الجماد و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها ، إلا إذا أجمعت أحبائها ، ولا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام ، لأتاها من بلاد الشام بدون احتشام ، و لو علم خبرها مروان ، لترك الجنود والأعوان ، وحضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب ولا ملامة ، وجمع الخبز عليها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، ، فما أشبهها – لما أفرغت – بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم مــا أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل إذا قال كل من الأقـــوام نرجمها *** ومزقوا لحمها من غير ما زلل فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم : *** " أنا الغريق فما خوفـي من البلل "
الإحـــالات :
*هذا عمل منجز فـي مقام تربوي جامعي ، يرجع إلى ثمانينيات القرن الماضي ، زمان كنا ندرس بكلية آداب مراكش ، علمي البلاغة و أصول الفقه وقد وجدنا فـي هذين النصين المغربيين أحدهما فقهي و الثاني أدبي مجالا لتطبيق ما درسناه . وإذا كنا قد حللنا الأول انطلاقا من أحكام وقواعد فقهية ترجع إلى العصر الوسيط ، فإننا قد ألغمناه بسؤال معاصر واجتهدنا فـي الإجابة عنه ، أما النص الأدبي فقد حللنا معظمه ، وتركنا المقطع الخامس منه لطلبتنا تمرينا لهم وتدريبا على التحليل البلاغي للنصوص .
1 : محمد بن سعيد المرغيتي: "تحفة المحتاج فـي حكم أكل الناس الدجاج" مطبوعة طباعة حجرية
2 : العباس بن إبراهيم السملالي : الإعلام ج3/ 203 وما بعدها ، و المعسول للمختار السوسي 10 /202. خلف المرغيتي ولدين هما يحيى و محمد و هما مراكشيان مولدا ومنشأ وتعلما ، و قد نبغ ابنه محمد و سار على نهج أبيه فـي العلم و الصلاح و الفضل ، و توفـي بمراكش فـي العشرة الأخيرة من المائة الأولى بعد الألف ، و دفن بحومة رياض العروس . و نؤكد على أن دفين هذه الحومة ليس صاحب المقنع كما هو الشائع وإنما هو الابن محمد .
بخصوص الطاعون الذي أتى على نسبة مهمة من ساكنة المغرب بما فيهم المؤلف ، انظر دراسة :
B. Rosenberger et Hamid Triki : Famine et Epidémie au Maroc aux 16ème siècle, in Hesp.Vol, 15, 1974 .
3 : للمرغيتي فهرسة بعنوان : الفوائد المزرية بالموائد.
3م : الرجوع إلى الأواني الطينية المزدجة ، برنامج 45 دقيقة فـي موقع القناة المغربية الثانية .
4 : ابن منظور : لسان العرب ، مادة : قوم . 5 : أحمد الشربشي " ت 620هـ " شرح مفامات الحريري البصري بعناية صدقي محمد جميل ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء 1992 ، 1/21 .
6 : محمد بن تاويت : الوافـي بالأدب العربي فـي المغرب الأقصى ، دار الثقافة، الدار البيضاء ، ط 1 ، 1984 ، ج3/806 .
6 م : أحمد المنجور ، فهرس أحمد المنجور، تحقيق محمد حجي، الرباط 1976 ، ص 45.
7 : عبد الملك مرتاض : القصة فـي الأدب العربي القديم ، دار مكتبة الشركة الجزائرية ، ط 1 ، 1968 ، ص : 181 .
8 : محمد السولامي : فن المقامة بالمغرب فـي العصر العلوي ، دراسة ونصوص ، منشورات عكاظ ، الرباط ، ط 1 ، 1992 ، ص : 21
de la prose ; édition du seuil ; 1971 ; p : 21 . 9 : tzvetan todorov ; poétique
10 : محمد الأخضر : الحياة الأدبية فـي المغرب على عهد الدولة العلوية ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء ، ط 1 ، 1977 ، ص : 207 ، ترجم له ليفي بروفنسال ، شرفاء ص : 297 ، وهامش 2 وذكر بعض مصادر ترجمته ، عبد الرحمان بن زيدان : الأتحاف ، صفحات : 264، 320، 330 ، المنزع اللطيف ، ص : 310 ، عبد الله كنون : النبوغ المغربي ، 1/ 289 ، 2/ 256-257 ، الدكتور رينو : الطب والأطباء المغاربة فـي صحيفة معهد الدراسات الشرقية ، 3 : 89 – 99 / 1937 . محمد بن تاويت وعفيفي : الأدب المغربي ، ص : 314 . أبو القاسم العمري : الفهرست .
11 : ابن الطيب العلمي : الأنيس المطرب ، طبعة حـجرية ، ص : 193 .
12 : سعيد أعراب : مقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، مجلة البحث العلمي ، الرباط ، س : 13 ، ع : 25 ، 1976 ، وهو عن الأنيس المطرب ، ص : 193 .
13 : todorov ; ibid ; p : 175 .
14 : todorov ; ibid ; p : 41 .
15 : سعيد أعراب : مجلة البحث العلمي ، س : 13 ، ع : 25 ، 1976 ، ص : 269 .
ذ. محمد الطوكي ، كلية الآداب مراكش
* عن المراكشية
ونظرا لما تميزت به الطنجية قديما من خصوصية ، وشدة الإقبال عليها ، إلى حد أن غدت ظاهرة ، فقد اهتم بها بعض الفقهاء ، و اتخذها أديب مغربي موضوعا لمقامة مثل بها فنا من شعرية و جمالية النثر ، و تبعا لما تقدم فقد ارتأينا معالجة موضوعنا من خلال منظورين : أحدهما فقهي شرعي ، والثاني تخييلي أدبي .
أ - الطنجية فـي المنظور الفقهي :
قد يتعجب أو يعجب القارىء الكريم من اهتمام الفقهاء بما يدخل فـي بطون الناس من مأكول و مشروب ، و هذا الأمر ليس بغريب إذا عرفنا أن من بين القواعد الشرعية العامة المحافظة على الصحة النفسية و العضوية للإنسان، و حمايتهما من كل ما يتسبب فـي الإضرار بهما. فالقاعدة الفقهية تنص على أن الضرر يزال.
و سنضع بين يديك منظومة ترجع إلى العصر المغربي الوسيط ، تدور حول الاحتياطات التي كانت تتبع حتى يطعمها صاحبها هنيئا مريئا من غير أن يصاب بضرر أو تسمم. وسنتبعها بالعواقب الصحية السلبية التي يمكن أن تحتـــف بالإقبال عليها فـي الوقت الراهن، والاحتياطات اللازم مراعاتها حسب ما قرره أهل الاختصاص .
و هذا نص المنظومة التي ترجع إلى القرن 11هـ ، و هي لأبي عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المراكشي يقول :
فصل وقدر اللحم حين تمشي *** بها لتطبخ لدى الفرناطشي
فشرطها يا صاح شــد محكم *** بنحو كـــا غد و جلد يحزم
أو بغطاء العـــــود أو فخــار *** تلـــززا حفظا من الغبــار
و الصق العجين بالأطـراف *** لسد منفــــــذ بدا أو خــاف
و أدخلنها فـي الرمـــاد حتى *** يغيب ثلثها و كــــن ذا ثبتا
و نح عن رمادها ثـيابك *** فهـــــو منجس إذا أصــابك
إذ صاحب الحمام لا يسخنه *** فـي غالـــب الا بزبـــل يمكنه
ثم إذا ما طبخت فاجعــــلها *** فـي قــفة أو نحـــوها واغسلها
بصب ماء فوقها حتى يعم *** كــل الجوانب و سفـلا ولتضم
ورضه بدفع ما فـي العادة *** كشأن أهل الفضل و المجادة "1"
1 : فمن هو صاحب المنظومة :
إنه العلامة أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المراكشي"2" ، عالم مراكش و إمامها خلال القرن 11هـ ، جاء إلى مراكش بزاد معرفـي بنكهة بدوية ، ففيها استكمل دراسته ، و قام برحلات علمية داخلية فـي مراكز التعليم العالي الحضري منها و البدوي ، و بعدها سيرجع إلى مراكش حيث سيدرك مجدا علميا متميزا ، إلى حد أن أهل فاس اتصلوا به و أرادوه إلى بلدهم للحاجة الماسة إلى علومه"3". كان الرجل على قدر من الورع التام والدين المتين زاهدا فيما يدخل فـي البطن ، و مزورا عن التطلعات المادية و المسالك الوصولية ، محترما عند الخاصة و العامة . عرف عنه ملازمة الصيام و القيام و مجاهدات فـي بيت ضيق بمدرسة جامع الكتبيين ، الذي مكث فيه خمس عشرة سنة يعبد الله. اشتهر بالتوقيت و منظومته ( المقنع ) أشهر من نار على علم ، توفـي رحمه الله بالطاعون سنة 1089هـ/ 1678م .و دفن بباب أغمات بمراكش قريبا من ضريح شيخه أبي بكر السجستاني .
2 – المنظومة:
ترجع هذه المنظومة إلى العصر السعدي . كانت دول الجوار الشرقية آنذاك واقعة تحت هيمنة الأتراك ، و لا مفر من الاحتكاك بهم سياسيا ، فتركنا فيهم وتركوا فينا آثارا لغوية وحضارية . و لغة المنظومة شاهدة على ذلك ككلمة الفرناطشي و الحمام على النمط التركي. و على كل حال فطبيخ الطنجية أصبح فـي هذه الحقبة ظاهرة ، وأثار مجموعة من الإشكالات النوازلية ، ومن ثم كان لابد للفقيه من تقنين نمط استهلاكها حتى يحافظ الإنسان على عافيته ، و يؤدي ما أنيط به من تكاليف على أحسن وجه . خاصة إذا علمنا ان فترة المنظومة عرفت انتشار وباء الطاعون الذي أتى على نسبة مهمة من ساكنة المغرب، وكان المؤلف ، رحمه الله، من ضحاياه.
و معلوم أن الطنجية ما دامت محتوية على حلال لحما و توابل و مرقا فلا إشكال فـي حليتها . والإشكال الوحيد الذي تطرحه المنظومة هو أن الطنجية كانت آنذاك تستوي و تطبخ على طاقة هادئة متولدة من حريق الأزبال، و معلوم أن الأزبال نجسة فهي مباءة لملايير المكروبات. و لعل الداعي إلى تسخين الحمامات بصفة عامة و المراكشية خاصة ، فـي العصر السعدي، بالأزبال هو كون الطاقة الخشبية المستعملة فـي صناعة السكر تحتكرها الدولة ، وقد أتت هذه الحاجة الكبيرة على مجموعة من الغابات منها غابة شيشاوة التي لا تزال إلى اليوم شاهدة على ذلك الاستنزاف العظيم الذي يتطلبه استخلاص السكر من القصب و من ثم لم يبق لتسخين ماء الحمامات سوى الأزبال. و إذا فما حكم ما طبخ بالنجس ؟ ثم ما حكم الأجرة التي تدفع للعامل فـي الفرناطشي الذي يسهر على استواء الطنجية ؟.
و على كل حال فالملاحظ أن الشروط والاحتياطات التي نصت عليها المنظومة لازالت متبعة ومستصحبة إلى اليوم ، كربط فوهتها بالكاغد ، و إدخال ثلثها فـي الرماد فهي بنت الرماد ، و حملها فـي قفة أو نحوها... كل ذلك بالرغم من أن الحطب والعيدان هي الغالبة فـي تسخين حمامات اليوم ، وهذا من باب دلالة الشاهد على الغائب ، وغلبة العادة المحكمة .
أما بالنسبة لأجرة التعهد والطبخ، فيرى الناظم أن تكون مبنية على المكارمة، و ليس لعامل الفرناطشي الذي سهر على استوائها أن يفرض قدرا معينا من المال ، فما أعطيه فعليه أن يقبل به بصدر رحب مادام يسخن المياه بالأزبال . إما إذا اعتمد على العيدان وطاقات أخرى غير الزبالة فله أن يفرض ثمنا مناسبا لا ضرر فيه ولا ضرار.
وعلى العموم فإن المكارمة التي قعدها الفقهاء هي المتبعة لغاية اليوم. و لقائل أن يقول إن العقد الضمني من الناحية القانونية فـي هذه النازلة مختلط ،فيه ما هو غير مقبول و هو الزبالة ، و فيه التعهد . و عليه فعلى صاحب الطنجية أن يؤدي مقابل خدمة تعهدها بنقلها من حالة النيء غير المستساغ إلى حالة الطبيخ المستوي والمغذي .
كل ما قدمناه ضارب فـي القدم، و مبنئ على اهتمام فقهاء العصر الوسيط بحماية صحة المستهلك. يقول العز بن عبد السلام ، فـي علاقة الطب بالشرع أو الشرع بالطب، فـي الصفحة التاسعة من كتابه ، قواعد الأحكام فـي إصلاح الأنام : " فإن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح الصحة و السلامة ، ودرء مفاسد المعاطب والأسقام " .
فما هو الإشكال الصحي الذي تطرحه طنجية اليوم ? وما هي الاحتياطات اللازم اتخاذها ؟
1- نعلم اليوم أن بعض الفخارين يشوون مختلف الأواني الطينية بما فـي ذلك أنواع الطنجية على نار المترهل و المتردي و العادم من مختلف أنواع العجلات المطاطية. و هو شيء له انعكاساته على البيئة من جهة و على مستعملي تلك الأواني من جهة ثانية .
2- إن الطنجية تطلى من الداخل بميناء و هو مادة زجاجية مشبعة بالرصاص مانعة للرشح ، و أثناء الطبخ فـي فرن الحمام يسري ذوب ذلك السم إلى المرق، و تزداد نسبة ذوب تلك المادة السامة و تشتد إذا أضيف للطنجية الليمون الحامضي المعتق "المصير". و هذه المادة الرصاصية كما أثبتت التحاليل تدخل فـي عداد السموم المعدنية فلها مضاعفات خطيرة على الجهاز العصبي ، و الهيكل الهضمي، و الكلي والمعدة 3م ، و يكفي أن نقول إذا تسرب منه إلى الجسم قرابة 10 جرام فإنه غالبا ما يؤدي إلى الوفاة .
لسنا ضد مطلق طنجية ، بل تلك الطنجية التي تضر بصحة المواطن ، والقاعدة الفقهية كما قدمنا تنص على: "إن الضرر يزال" .
فإذا سلمت الطنجية من تلك الآفات، بأن صنعت من طين طيب ، وشويت بوقود طبيعي نظيف، و طليت بمادة مانعة من الرشح برهنت التحاليل المختبرية أن لا تأثير لها على الصحة ، فللمستهلك أن يتذوقها متمطقا ، و أن يتلذذ بأكلها بمزيد من الصحة والعافية.
إن العولمة، إخواننا المقاولين في الفخار والمتعاطين لصناعته ، تيار سياسي واقتصادي وحضاري جارف، فإذا لم تتفطنوا لشراسته ، وتتنافسوا انطلاقا من معايير الجودة فستضيعون على الحضارة المغربية طبيخ الطنجية الأصيل الذي عاش زهاء أربعة قرون وستتحملون وزره، وستفسحون المجال واسعا لأكلات العولمة الخفيفة على علاتها من مثل الماكدونالد و.. إلـخ.
تلك أحكام فقهية تدل على اهتمام الفقهاء قديما بحماية صحة المستهلك حتى يتسنى له أداء ما كلف به من قيم إنسانية سامية على أحسن وجه .
ب : الطنجية من المنظور الأدبي :
خصها أديب مغربي عاش فـي العصر العلوي بمقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، "الطنجية" و قبل أن نضعها بين يديك سنعمد إلى تحليلها مستهلينه بتعريف المقامة ، وترجمة منشئها.
1 : فالمقامة فـي اللغة هي "المجلس أو الجماعة من الناس يجتمعون فـي مجلس" "4" ، و عرفها الشربشي بأنها "الحديث يجتمع له ويجلس لاستماعه ، لأن المستمعين للمحدث يكونون بين قائم و جالس ، و لأن المحدث يقوم ببعضه تارة و يجلس ببعضه أخرى" "5" . ويفرق أستاذنا المرحوم محمد بن تاويت بين المقامة و المجلس قائلا : " إن كلمة مقامة من قام إذا وقف فهي إذن موقف وليست مجلسا كما قيل ، فالمجلس مرتبط بالتعليم يطول وقته ، ويمتد ساعات عديدة ، ولكن المقامة لا يزيد وقتها على دقائق معدودة ، وهذا ما جعل أول من ابتدعها يسميها بذلك الاسم ، إذ المقامة بذلك القصر الذي ذكرناه ، ثم إن موضوع المقامة يكون من البساطة بحيث لا يحتفل به احتفال الذين يجلسون لتلقي التعليم و قضاياه العويصة ، وكأن كلمة مجلس فـي هذا انبثقت فـي الإسلام ، من حديث جبريل ، بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ..الحديث ، لكن ما تحتوي عليه المقامة غالبا لا تقتضي ذلك ، بل يلقى على الواقفين المنسطين إلى صاحبه فـي الأسواق و نحوها غالبا وليس فـي المساجد" "6" . ذكر أبو عبد الله الأبي "أن أئمة تونس كانوا ينزهون المساجد عن قراءتها فيه" "6م".
من خلال التعاريف الثلاثة المتقدمة نرى ابن منظور ركز فـي تعريفه اللغوي البحت على فصلين أو سمتين : المكان، والناس الذين يعمرونه .
بينما جاء تعريف الشربشي شارح مقامات الحريري مضيفا إلى تعريف ابن منظور مزيدا من التفصيل الحاضرين فـي المكان بين متكلم، وحدث كلامي ومستمعين بين قيام وجلوس .
أما المرحوم محمد بن تاويت فقد حد المقامة بناء على ثنائية الموقف / المجلس ،فـي علاقتهما بثنائية أخرى المقدس / السوقي ، واختلاف طبيعة المتن المقامي عن المتن العلمي من الناحيتين الزمانية والمعرفية .
فباستثناء التعريف اللغوي الصرف لابن منظور ، نرى أن التعريفين الآخرين جمعا بين الدلالة اللغوية كما نص عليها ابن منظور وبعض الخصائص الاصطلاحية الشكلية للمقامة .
الدلالة الاصطلاحية :
يقول عبد الملك مرتاض : " فلست أريد بالقصة – يشير إلى كتابه القصة فـي الأدب العربي القديم – إلا مقامات بديع الزمان الهمذاني و ليس غريبا أن تراني أطلقت عليها هذا الاطلاق الذي لم تألف، فما كان يراد بالمقامة فـي المفهوم القديم إلا الأقصوصة فـي المفهوم الجديد " نشأ فـي القرن الرابع الهجري على يد بديع الزمان الهمذاني "7" .
وعرفها محمد السولامي قائلا : " المقامة نمط تعبيري نثري ينهض أساسا على شخصية الراوي و شخصية البطل الجوال المغامر، ينجز بصيغ لفظية جاهزة و أساليب بلاغية عديدة ، أبرزها السجع ، و يعتمد على أحداث قلما تتميز بدرامية كتلك التي تسود باقي فنون القص "8" . فالتعريفان يدرجان المقامة داخل الفن القصصي، والتعريف الثاني زاد على سابقه مكونات الفن السردي .
وفـي نظرنا فإن المقامة فن سردي بدائي أو بسيط"9" من فنون شعرية النثر ، يمكن اعتباره مكونا جنينيا لفن الأقصوصة فـي الأدب العربي .
2 : صاحب مقامة الطنجية : هو أبو محمد و أبو نصر عبد القادر بن شقرون المكناسي "10" " ت بعد 1140هـ = -1728م "، طبيب ماهر ، و فقيه متمكن ، و أديب بارع ، يقول عنه معاصره محمد بن الطيب العلمي " 1134هـ - 1721م" شاعر مصيب ، رتع من البلاغة بمرعى خصيب ، وأحرز من الدراية أوفر نصيب، دخل بيوت العربية من أوضح المسالك ، و طرز فـي حديث السنن نحو ابن مالك بفقه مالك ، واختار الوحدة ، و انفرد بالخمول وحده ، و رغب عن الولدان ، و اعتزل الإخوان و الأخوان ، وضم إلى علم الأديان علم الأبدان ، فركب الأودية ، و انتشر له بين الحكماء أي ألوية ، و عرف الأمراض ، و أرسل سهام الرقى فأصابت الأغراض ، رحل إلى المشرق فأدى فرضه ، ثم رجع قاصدا أرضه ، فناهيك من علم اجتلب ، ومن درر نظم و در احتلب " "11" .
من مؤلفاته :
* : أرجوزته الطبية المعروفة بالشقرونية تقع فـي نحو 700 بيت ، ذكر فيها منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير والأدواء والأدوية ، نظمها بطلب من الشيخ الصالح بن المعطى الشرقي عندما مر بمكناس عام 1113هـ - 1701م - .
* : قصائد مختلفة ، منها قصيدة فـي مدح جناب النبوي الشريف .
* : من نثره الفني هذه المقامة موضوع بحثنا "12" .
ج : تحليل المقامة :
تتكون هذه المقامة من تمهيد وخمس مقطوعات ، بعضها آخذ برقاب البعض.
التمهيد : استهله بسند على طريقة المحدثين ، و وظيفته حـجاجية تجعل المتلقي واثقا من الخبر الذي سيلقى إليه ، وقد جاء اسم الراوي و نسبه و كذا المروي عنه - البطل – محيلا على الطبيعة ، فلا هو عيسى بن هشام راوي مقامات الهمذاني ، و لا هو بطله أبو الفتح الإسكندري ، و لا هو بالحارث بن همام راوي مقامات الحريري و لا بطله أبو زيد السروجي ، فراوي مقامة " الطنجية " وبطلها ينتميان إلى عالم الطبيعة ، إنه نسيم بن رياض ، والمروي عنه – البطل – جدول بن حياض .
وهذا يذكرنا بموشح : جادك الغيث ...لابن الخطيب وفيه .
و روى النعمان عن ماء السما *** كيف يروي مالك عن أنس .
و دور الراوي فـي هذه المقامة سلبي يكتفي بما سمع من البطل ولا يتدخل فيه على غرار رواة الأحاديث الشرعية .
وهذا التمهيد سيجعل أفق انتظار المتلقي يتوقع ، من اسمي الراوي و المروي عنه ، بأن ما سيأتي من الحدث الكلامي لن يخرج عن وصف فضاء غب مطر تجلله الطبيعة بمحاسنها ، فالمكان الموصوف موح بزمان فصل الربيع .
1 : المقطع الأول : يبتدئ بوصف الحالة النفسية للبطل الأديب ، فقد ضاق صدره واشتاق إلى لحظة استجمام تبدد و تكشف غمته ، و الشوق فـي حد ذاته عنصر مهم من عناصر السرد ، و هو الذي سيخرج البطل الأديب من طور وجداني إلى طور آخر ، نعم لقد اشتاق إلى نزهة تريحه من عناء الكد فـي مناحي العيش ، أو تخرجه من حالة الارتاج و انغلاق باب الإبداع إلى حالة الوجد الأدبي و استجابة القريحة ، فارتياد البساتين و ورود مجاري المياه ،كما نص على ذلك نقادنا القدامى ، عامل من عوامل استجابة القريحة و حل عقدة اللسان ، و هكذا أتى بطل المقامة روضا مريعا ، و بين خمائله و مروجه و ترعه و جه عدسة وصفه نحو جميع مكوناته ليتسلسل أمام القارئ معجم حافل بأنواع الأزهار و الأنوار من أقحوان و شقيق ، و زهر فـي أكمامه و منثوره المتساقط ، و بنفسج وخابور ، وأنشأ فيما بينها علاقات مؤنسنة عن طريق أصباغ بديعية و ترنيم شبيه بإيقاع المثاني و المثالث و صور بيانية على رأسها استعارات مكنية رائعة ، فهذا الأقحوان يبتسم للشقيق ، و هذا الزهر يعطر الروض بمنظومه و منثوره ، وهذا البفسج على جلالة قدره يتذلل و يتواضع أمام الخابور المكلل بتيجانه ، كما يمم بصيرته الجمالية نحو الجداول والأشجار لتصبح الافتان التي من طبيعتها التطاول تنوء بحمل ثمرتها و تنحني إجلالا أمام الجداول المسلولة انسلال السيوف من الأغماد ، كما يرصد الطيور فـي حركاتها و تناغم أصواتها فيتجاوب و إياها و كأنه على دراية بمنطق الطير ، فهذا الحمام يبكي بالدموع الغزار أثناء مخاصمته للشحرور و الهزار ، مناظر خلابة ذكرت البطل بما أعد الله للمؤمنين بما جاء فـي وصف القرآن الكريم للرياض و الجنان ، و بينما هو هائم بين تلك الخمائل إذ وقع بصره على .
2 : المقطع الثاني : وقع بصره على فتية ولعوا بالأدب، التأم جمعهم بمحاذاة نهر ، يتناشدون اللحون والأشعار، وها هنا تتناغم أصوات الأناسي المنشرحة منسجمة مع مظاهر جلال الطبيعة ، فتسلل نحو الفتية مستخفيا بحيث يظن أنه يراهم من حيث لا يرونه ؛ رجاء التقاط ما يتداولونه من الأخبار والأشعار ، لكن هذه اللحظة لم تطل إذ افتضح أمره .
3 : المقطع الثالث: أشرف عليه أحدهم ، فأدرك أنهم رأوه ، فبعثوا إليه من يحضره ، فاعتذر للمرسول بدعوى أن المرء على الاطلاع مجبول ، و العذر عند كرام الناس مقبول ، و أن ما دعاه لركوب تلك الحيلة هو التلذذ بسماع الأشعار ، و أقسم بالله جهد إيمانه على صدق دعواه ، لكن المرسول أبى أن يتركه وحرص على إحضاره إلى مجلسهم المنتظم انتظام البدور ،فتقاعس البطل واثاقل إلى الأرض حتى أتوه بأجمعهم ، و احتفوا به و رحبوا ، و ألحوا فـي انضمامه إلى مجلسهم، و الفقرة توحي بأن البطل علم مشهور لدى الفتية .
4 : المقطع الرابع: انظم البطل إلى مجلس الفتية الأدباء الذين عرفوا فضله، و اعترفوا له بالمشيخة فقد موه عليهم ، فكانت البداية معه منفتحة على المذاكرة فـي الأدب ، فخاضوا فـي مجاله ، و ذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى أذن وقت الأصيل إذا بفتى يحضر مخفيا شيئا تحت جلبابه ، عرفه الفتية وجهله الشيخ ، فسألوا الفتى عن داعي بطئه وتأخره ، فاعتذر اعتذار الحكماء و ورى عن موضوع حديثه قائلا : إن إخراج الدفينة .. بحاجة مستلها و معالجة أمرها إلى تلطف و إلا أتى عليها و على ما بداخلها ، فما أشبه معالجتها بوسق السفينة فحمولتها بحاجة إلى توازن و إلا انقلبت رأسا على عقب عند هبوب أول ريح ، ثم كشف عما أخفى بالتورية ، و إذا بالدفينة عبارة عن طنجية شبيهة بعروس ذات نقاب ، و قال : اغتنموا فرصة الطنجية قبل حلول الليل ، و لكن قبل مباشرة استطعامها ، طلبوا من جدول بن حياض بطل المقامة الذي أمروه عليهم بعد أن تحداهم أن يباركها ارتجالا بشيء من منظومه ومنثوره، فكان ما ستقرؤه فـي .
5 : المقطع الخامس : و هو حد فاصل ينتقل فيه البطل من التحدي بالرواية إلى التحدي بالإبداع جاء فيه : " بنت الرماد يحيا بنفحاتها الجماد ، و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها إلا إذا اجتمعت أحبابها ، و لا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام لأتاها بدون احتشام ، ولو علم خبرها مروان ، لترك الجنود و الأعوان ، و حضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب و لا ملامة ، وجمع الخبز لها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، فما أشبهها لما أفرغت ، بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم ما أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل
إذا قال كل من الأقوام نرجمها *** و مزقوا لحمها من غير ما زلل
فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم *** أنا الغريق فما خوفـي مــن البلل
وسنترك للمتلقي فرصة قراءته قراءة بناءة على حد تعبير تودوروف "13".
تعليق :
1 : لنا أن نتساءل : ما بال الفتية لم يستضيفوا من أول وهلة شيخهم بطل المقامة ، ويطلعونه على ما هم مقدمون عليه ، فهو علم ولهم به معرفة ، فقد فرض نفسه فـي مجال الأدب ، ومثله يعتبر زينة لمقام الاستمتاع والنزهة ؟
و لنا أن نحزر جوابهم القابع فيما بين السطور فنقول : إن عدولهم عن اصطحابه عائد إلى تقنية السرد فـي حد ذاتها القائمة على الحوار وتبادل أدوار الكلام فهي التي لم تسمح بحضوره بدءا ، فوجود الشيخ بينهم هو فـي حد ذاته سلطة قد تحد من دواعي القول لديهم ، كما أنه بصفته تلك سيستأثر بالكلام دونهم ، فيصبح المجلس مجلس علم لا مجلس نزهة وأنس ومؤانسة ، فالتلفظ فـي الحكاية العربية ، كما يرى تودوروف تقنية مكثفة هامة حمالة للتأويل و هذا لا يترك مجالا للشك فـي أهميتة فـي السرد العربي ، و النموذج الأمثل كامن فـي شهرزاد ، بطلة ألف ليلة وليلة ، مكتوب عليها أن تحيا فـي حدود ما دامت تحكي و صمتها ، مؤذن بنهايتها وهلاكها "14" .
إن تسمع بطل المقامة لأحاديث الفتية ظانا أنه يراهم من حيث لا يرونه ، و تفطنهم لتسقط أخبارهم سيقطع حبل استئناسهم بالحديث ، و بإحضارهم للشيخ و ترحيبهم به ستنفتح قناة مطارحتهم للأخبار و الأشعار القائمة على سبيل الرواية لتفضي إلى مجال الخلق و الإبداع و هو مسلك تعذر على الفتية ارتياده فسألوا الشيخ – البطل – أن ينبري له و عرضوا عليه ارتجال شيء من المنثور والمنظوم يكون موضوعه " الطنجية " .
وبناء على هذا التأويل يحق لنا أن نستنتج الجانب النقدي الضمني فـي المقامة ، إنه ينتقد المنظومة التعليمية فـي عصره القائمة على صمت المتعلمين و هيمنة الإلقاء والتقرير ، فكأني به يهفو إلى الجمع بين مفهوم المجلس العلمي الصارم و روح الحوار والمؤانسة فـي المقامة .
2 : قول ، بطل المقامة ، وهو يهم بوصف الطنجية وصفا أدبيا :" فجبت فـي ميدان الأدب وجلت " فهذه العبارة ،سواء اعتبرناها حديث نفس مونولوج ، أو تصريحا و بثا فهي تحد أدبي للفتية و هو غاية المقامة كما أنها تهيؤ لمباشرة وصف ما اقترح عليه ، عن طريق استحضار المعجم و المعاني الشعرية المناسبة لموضوعه ، فهذه الأمتعة التي سبق له أن زين بها ذاكرته و عمر بمعانيها وأفكارها صدره هي التي ستسعفه و ستترسب فـي العمل أو النص الذي سينتجه ، مما يؤشر على ضرورة استحضار المحلل لمثل هذه المرجعية التي تتداخل تداخل اللحمة بالسدى فـي نسيج النص المزمع إنجازه فعن هذه المرجعية الثاوية فـي مقامة الطنجية يقول الأستاذ سعيد أعراب : " نجد فـي هذه المقامة ظلالا للمقامة الصيمرية لبديع الزمان الهمذاني ، وربما كان المؤلف متأثرا إلى حد ما بالمقامة الزهرية للمكلاتي" "15" .
ذلك ما انتهى إليه تحليلنا لمقامة الطنجية باستثناء مقطعها الخامس ، تناولنا فيه دلالة المقامة فـي اللغة وفـي اصطلاح الأدباء ، وبما أنها ضرب من السرد البسيط ، مقصديتها التحدي الأدبي و إثبات الذات فقد عمدنا إلى تحليلها اعتمادا على بعض المقولات أو المكونات السردية .
نص المقامة :
حدثني نسيم بن رياض ، عن جدول بن حياض ، قال : لما دعاني داعي الشوق القاهر إلى النظر فـي محاسن الأزاهر ، أجبت داعيه مضمرا ، ولطاعته وامتثال أمره مظهرا ، فيممت روضا تأنقت الأنوار فـي حلل أزهاره ، وتدفقت الأنهار فـي ظل أشجاره ، وارتفعت طرف الطرف فـي زرابي الخمائل ، وبطاح رصعت يد الشمائل ، وتبسم بها ثغر الأقحوان الشقيق ، و انتظم نظم الدرر و العقيق ، وبكى الحمام بالدموع الغزار عند مخاصمة الشحرور و الهزار ، و خضع القضيب المتطاول ، عند انسلال سيوف الجداول و افتر الأقحوان عن ثغوره ، و فاح الروض بمنظوم زهره و منثوره ، لم لا يتواضع البنفسج تواضع الذليل ، و قد فخر عليه الخابور بالإكليل ، فبينما أنا طائف تحت سماء الأزهار ، فـي حدائق أذكرتني جنات تجري تحتها الأنهار ، وقد وقع بصري على فتية أحدقوا حداق السوار ، فـي خميلة من النوار ، يتسايقون جواهر الأشعار واللحون ، على ضفة نهر يزرى بسيحون وجيحون ، فدنوت مختفيا عن أبصارهم ، لالتقاط ما تساقط من أشجارهم وأخبارهم ، زاعما أني مطلع عليهم من حيث لا يبصرون ، فإذا بأحدهم أشرف علي ، فأيقنت أنهم رأوني وبعثوا إلي ، فقلت المرء على الاطلاع مجبول ، والعذر عند كرام الناس مقبول ، إنما جئت لا تسمع مطربات الأشعار ، لا لاهتك خفيات الأسرار ، فأقسم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لأرسلناك أو لتحضرن مجلس البدور ، فتقاعست تقاعس الفيل ، مخافة أن أزن بالتطفيل على المجلس الحفيل ، حتى إذا استيأسوا من الرسول ، و خافوا أن لا يظفروا بالسول ، انطلقوا إلى انطلاق الغزلان ، وكلهم يقول : مرحبا بالشيخ فلان ، فانطلقت إلى المجلس الباهر ، المحفوف بالأزاهر ، فتذاكرنا الأدب و خضنا فـي مجاله ، وذكر جماعة من فحول رجاله ، حتى إذا ما مد ثوب الأصفار ، على وشى البنفسج و العذار ، ورد علينا فتى تأبط شيئا تحت ثيابه ، فقال الكل : ما أبطأك ، وما أخطأك ، فقال : إن من يحاول إخراج الدفينة ، كمن يحاول وسق السفينة ، فكشف عن عروس ذات نقاب ، تخضع لنفحاتها الرقاب ، وقال : اغتنموا فرصة الطنجية ، قبل أن يضع الليل ثيابه الزنجية ، فقال لي بعضهم : هل استخرجت فيها من درر بحورك ، سيئا من منظومك و منثورك ، فجبت فـي ميدان الأدب وجلت ، ثم أنشدتهم و قلت : بنت الرماد يحيى بنفحاتها الجماد و لا تباع بإرم ذات العماد ، يا لها من صديقة ، تأوي إلى ربوة و حديقة ، و لا تحط نقابها ، إلا إذا أجمعت أحبائها ، ولا تخرج ما فـي بطنها ، إلا فـي أشرف موطنها ، لو استنشق رائحتها هشام ، لأتاها من بلاد الشام بدون احتشام ، و لو علم خبرها مروان ، لترك الجنود والأعوان ، وحضر مجلس الإخوان ، قد جمعت الأحبة عليها جمع سلامة ، دون عتاب ولا ملامة ، وجمع الخبز عليها جمع تكسير ، وجلبت لها الفواكه جلب تيسير ، ، فما أشبهها – لما أفرغت – بالذهب السائل ، ولله در القائل :
ألقت إلى القوم مــا أخفت بباطنها *** وفاح منها شذى يبري من العلل إذا قال كل من الأقـــوام نرجمها *** ومزقوا لحمها من غير ما زلل فأصبحوا ولسان الخبز ينشدهم : *** " أنا الغريق فما خوفـي من البلل "
الإحـــالات :
*هذا عمل منجز فـي مقام تربوي جامعي ، يرجع إلى ثمانينيات القرن الماضي ، زمان كنا ندرس بكلية آداب مراكش ، علمي البلاغة و أصول الفقه وقد وجدنا فـي هذين النصين المغربيين أحدهما فقهي و الثاني أدبي مجالا لتطبيق ما درسناه . وإذا كنا قد حللنا الأول انطلاقا من أحكام وقواعد فقهية ترجع إلى العصر الوسيط ، فإننا قد ألغمناه بسؤال معاصر واجتهدنا فـي الإجابة عنه ، أما النص الأدبي فقد حللنا معظمه ، وتركنا المقطع الخامس منه لطلبتنا تمرينا لهم وتدريبا على التحليل البلاغي للنصوص .
1 : محمد بن سعيد المرغيتي: "تحفة المحتاج فـي حكم أكل الناس الدجاج" مطبوعة طباعة حجرية
2 : العباس بن إبراهيم السملالي : الإعلام ج3/ 203 وما بعدها ، و المعسول للمختار السوسي 10 /202. خلف المرغيتي ولدين هما يحيى و محمد و هما مراكشيان مولدا ومنشأ وتعلما ، و قد نبغ ابنه محمد و سار على نهج أبيه فـي العلم و الصلاح و الفضل ، و توفـي بمراكش فـي العشرة الأخيرة من المائة الأولى بعد الألف ، و دفن بحومة رياض العروس . و نؤكد على أن دفين هذه الحومة ليس صاحب المقنع كما هو الشائع وإنما هو الابن محمد .
بخصوص الطاعون الذي أتى على نسبة مهمة من ساكنة المغرب بما فيهم المؤلف ، انظر دراسة :
B. Rosenberger et Hamid Triki : Famine et Epidémie au Maroc aux 16ème siècle, in Hesp.Vol, 15, 1974 .
3 : للمرغيتي فهرسة بعنوان : الفوائد المزرية بالموائد.
3م : الرجوع إلى الأواني الطينية المزدجة ، برنامج 45 دقيقة فـي موقع القناة المغربية الثانية .
4 : ابن منظور : لسان العرب ، مادة : قوم . 5 : أحمد الشربشي " ت 620هـ " شرح مفامات الحريري البصري بعناية صدقي محمد جميل ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء 1992 ، 1/21 .
6 : محمد بن تاويت : الوافـي بالأدب العربي فـي المغرب الأقصى ، دار الثقافة، الدار البيضاء ، ط 1 ، 1984 ، ج3/806 .
6 م : أحمد المنجور ، فهرس أحمد المنجور، تحقيق محمد حجي، الرباط 1976 ، ص 45.
7 : عبد الملك مرتاض : القصة فـي الأدب العربي القديم ، دار مكتبة الشركة الجزائرية ، ط 1 ، 1968 ، ص : 181 .
8 : محمد السولامي : فن المقامة بالمغرب فـي العصر العلوي ، دراسة ونصوص ، منشورات عكاظ ، الرباط ، ط 1 ، 1992 ، ص : 21
de la prose ; édition du seuil ; 1971 ; p : 21 . 9 : tzvetan todorov ; poétique
10 : محمد الأخضر : الحياة الأدبية فـي المغرب على عهد الدولة العلوية ، دار الرشاد الحديثة ، الدار البيضاء ، ط 1 ، 1977 ، ص : 207 ، ترجم له ليفي بروفنسال ، شرفاء ص : 297 ، وهامش 2 وذكر بعض مصادر ترجمته ، عبد الرحمان بن زيدان : الأتحاف ، صفحات : 264، 320، 330 ، المنزع اللطيف ، ص : 310 ، عبد الله كنون : النبوغ المغربي ، 1/ 289 ، 2/ 256-257 ، الدكتور رينو : الطب والأطباء المغاربة فـي صحيفة معهد الدراسات الشرقية ، 3 : 89 – 99 / 1937 . محمد بن تاويت وعفيفي : الأدب المغربي ، ص : 314 . أبو القاسم العمري : الفهرست .
11 : ابن الطيب العلمي : الأنيس المطرب ، طبعة حـجرية ، ص : 193 .
12 : سعيد أعراب : مقامة فـي وصف الرياض وبنت الرماد ، مجلة البحث العلمي ، الرباط ، س : 13 ، ع : 25 ، 1976 ، وهو عن الأنيس المطرب ، ص : 193 .
13 : todorov ; ibid ; p : 175 .
14 : todorov ; ibid ; p : 41 .
15 : سعيد أعراب : مجلة البحث العلمي ، س : 13 ، ع : 25 ، 1976 ، ص : 269 .
ذ. محمد الطوكي ، كلية الآداب مراكش
* عن المراكشية