من اللوح القرآني إلى اللوح الإلكتروني، في هذه المسافة تكتب حكاية المثقف من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا كاملة، من بداية القرن الـ20 وحتى يوم الناس هذا.
أجيال كاملة ومتعددة خرجت وتخرجت من فتنة لوحة الكتاتيب، المدارس القرآنية، لوحة صغيرة ملساء مستطيلة الشكل مشققة لكنها ساحرة وعجيبة.
طفلاً صغيراً الذي كنته، كان عمري لا يتجاوز الأربع سنوات حين أوصلني أخي الأكبر إلى الكتاب، بخوف سحبت حذائي من قدمي وضعت الفردتين عند عتبة الغرفة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها الـ20 متراً مربعاً، في اختناق يتراص فيها أزيد من 30 طفلاً وطفلة، جميعهم في عمري تقريباً، كانت أصواتهم تتعالى في شكل صراخ، كل صوت يريد أن يكون أعلى وأقوى من الثاني، وإذ وقفت عند العتبة، فجأة سكت الجميع، وعلى التو صرخ الفقيه فيهم وهو يهش عليهم بقضيب مهدداً، قائلاً أن واصلوا. وعادت أصوات الصغار للضجيج المتهافت.
اختفى أخي بمجرد أن خطوت خطوتين فوق الحصير، أجلسني الفقيه أمامه، أول ما لاحظته هو قدمه اليسرى التي كان ينقصها إصبع أو إصبعان، أخافني منظر القدم المبتورة الإصبعين، وسلمني لوحة كانت مسنودة إلى الجدار بجنبه، أخذت اللوحة بين يدي، وارتجفت من ملمسها ومن شكلها ومن رائحة الصلصال والسمق المنبعثين منها، والسمق هو حبر تقليدي يصنع من خليط شعر المعز والماء والزيت وتوابل أخرى، خلطة سحرية تخرج منها الحروف الأولى التي تعلمناها.
أول حرف شاهدته على لوحتي القرآنية في أول يوم لي في مدرسة الكتاب، هو حرف الألف "أ"، بعناية رسمه الفقيه على لوحتي، تحت عبارة "باسم الله الرحمن الرحيم"، نظر إلي وقال لي بصوت حاد ومهدد، عليك أن تعيد كتابة الـ "أ" مرات عدة وفي أسطر مرتبة، عليك أن تملأ اللوحة بالألف. حدقت في هذا الـ "أ" جيداً، أخذت القلم المصنوع من قصب بري مشقوق عند الطرف الأعلى، أغمسه الفقيه في الدواة، وارتجفت يدي، ضربها زلزال، فليس من السهل كتابة الـ"أ"، وكتبته، مائلاً كثيراً، ثم قليلاً، ثم أقل ميلاناً، ثم مستعداً كجندي، ثم مستقيماً، كنت سعيداً لاكتشافي الـ"أ"، وانتهى يوم الـ"أ"، وفي اليوم التالي كتبت الباء، ثم التاء، وهكذا تعلمت في الأسبوعين الأولين كتابة الأبجدية كاملة تحت صوت الفقيه وهو يقول مردداً، "الألف ما تنقطشي (أي من دون نقطة) والباء نقطة من التحت والتاء زوج من الفوق. تعلمت كتابة الأبجدية مرتبطة بصوت الفقيه وهو يصف شكلها وخصائص كل حرف.
حين كتبت الأبجدية كاملة على اللوح القرآني، وعدت بها إلى البيت سعيداً في ذلك المساء أستظهرها عن ظهر قلب على أخي الأكبر وفي حضرة والدي الذي كان يراقبني ويصحح لي النطق بين الحين والآخر.
أول عبارة كتبتها كانت "باسم الله الرحمن الرحيم" التي لم تسقط من رأس اللوحة حتى تركت الكتاب.
هكذا بدأت رحلتي مع اكتشاف الكلمات على اللوح القرآني، من خلال حفظ وكتابة أول سورة قرآنية هي "سورة الفاتحة"، وأذكر أنني حين حفظتها عن ظهر قلب واستظهرتها أمام الفقيه السي أحمد أوحمدان، كان سعيداً لفطنتي واجتهادي، وللمرة الأولى "أمحو اللوحة"، ولـ"محو اللوحة" طقوس مثيرة وخاصة، وقفت عند باب الكتاب وقد منحني الفقيه قطعة صلصال، وطلب مني أن أمررها على "الفاتحة"، شيئاً فشيئاً اختفت الحروف والكلمات، شعرت بخوف مشوب بحزن، كيف لي أن أمحو كلام الله، وفي الليل لم أنم، خفت، من دون أن أعرف الشيء الذي كان يخيفني، وفي اليوم التالي حين كتبت سورة أخرى استعدت طمأنينتي وطار الخوف والارتباك.
وحين حفظت ربع الحزب الأول من كتاب الله، وتلك محطة أخرى باحتفال مميز وبطقوس خاصة، حملت لوحتي بين يدي ومشى خلفي بعض الأطفال، سرنا في أزقة القرية، كنا ندق باب البيوت باباً باباً، ونحن نردد بصوت عالٍ الأغنية التالية:
"لوحتي للطالب/ والطالب في الجنة/ والجنة حلها مولانا/ للنبي وأصحابو".
وكانت بعض النساء يمنحنني البيض وبعض الرجال يمنحونني قطعاً نقدية صغيرة من فئة دورو أو زوج دورو، كنت سعيداً بالانتقال من ربع الحزب إلى نصفه ثم الحزب كاملاً ثم الحزب الثاني وهكذا دواليك حتى جاء خريف آخر، وقد حمل معه دخولاً مدرسياً جديداً.
في كل الزمن الذي قضيته في حضرة اللوح القرآني، لم أفهم يوماً معنى لما كنت أحفظه من كلام، لكني كنت أخاف من هذا الذي أحفظه، كنت أخاف مما هو مكتوب على اللوح لأنه من كلام الله وفقط. مع ذلك كنت أتساءل مرات كثيرة، هل الله يحب أم يخاف منه؟، والواقع أنني وكسائر الأطفال كنت أخافه في المقام الأول.
ومع الانتهاء من مرحلة اللوح القرآني، جاء دور المدرسة الجمهورية، حيث كل شيء جديد ومختلف، ها أنذا في مدرسة المحفظة والدفاتر بأحجام مختلفة وأغلفة بألوان مختلفة أيضاً والكتب والريشة المختلفة والحبر المختلف والمئزر والمقلمة، عالم آخر أدخله.
في المدرسة الجديدة كان المعلم مختلفاً عن الفقيه، شكلاً ومضموناً ولغة، كان المعلم امرأة، امرأة جميلة مبتسمة ورقيقة وعطرة، لا تحمل عصا في يدها ولا تهدد أحداً، وفي أول يوم أخذتني في حضنها فشعرت بإحساس غريب، وفي هذه القاعة التي بها نوافذ وبها سبورة وصور الحيوانات والطيور والعلم الوطني، اختفى اللوح القرآني ومعه اختفى كلام الله الذي كان على ألسنة الأطفال عالياً، في هذه المدرسة الجديدة أصبحنا نكتب ونقرأ كلمات جديدة، كتاب، كوب، كرات، تراب، بابا، بستان، بوبي، باب، توت، ماما، بلبل، نمر، صابون، سمك، هر، طبيب، صياد، برتقال، جرس، حمامة، شجرة، قطة، جزر، وردة، غزال، طيارة، ونقرأ نصوصاً أولى، سعاد في المكتبة، لعبة الغمامة، أوراق الخريف، أعياد الميلاد، عطلة الربيع، ونحفظ محفوظات جميلة مثل الساعة/ تك تك تك تك/ دوماً أبداً رتب وقتك/ إنهض باكراً/ واحفظ درسك.
ها هنا أخذت الكلمات تأخذ معنى وتتشكل في صور برأسي ولم تعُد فارغة ولم تعُد صراخاً جماعياً وخوفاً.
لكن، سنة بعد أخرى، بدأت أدرك بأنني كلما غرفت في هذه اللغة الفصيحة أجدني أبتعد من لغة أمي، فبين لغة الكتب ولغة البيت مسافة غريبة كان علي أن أستوعبها، وللمرة الأولى أشعرتني المدرسة بغربة عن أمي. وكانت اللغة التي أقرأ بها النصوص لا تسمح لي بالتحدث مع أمي بطريقة سلسة وشفافة.
بدأ العالم يتسع ويتشكل من جديد أمام عيني، وفي الكلمات الجديدة ذات المعاني المنزاحة والتي تتراكم يوماً بعد يوم، نصاً بعد نص، في رأسي، وذات يوم جاءتنا معلمة أخرى، هذه المرة قال لنا المدير إنها معلمة اللغة الفرنسية. وها أنا أمام مغامرة أخرى وفي فم لغة أخرى بحروف أخرى، بنطق آخر وبنصوص مختلفة وبكتب أخرى وبأسماء أخرى تختلف عن أسماء أبناء وبنات القرية، فانقلاب آخر في رأسي.
غربة أخرى عن أمي!
وحين نسيت لغة أمي أو كدت وأنا أغرق في عربية معيارية وفرنسية أجنبية، ماتت أمي وبعدها مات أبي، وتسللت السياسة إلى كتاب الله الحكيم من قبل رهط غريب، وخلت القلوب أو كادت من الإيمان الصادق البسيط، وجاء التلفزيون إلى البيت بنشرة أخبار الثامنة والمسلسلات المصرية والتركية والأميركية، وهجم على المجتمع دعاة يمنحون المؤمن رخصة الدخول إلى الجنة أو الجحيم، ومع ذلك وبإيمان عميق ظللت أتذكر السور المكتوبة بالسمق على اللوح القرآني الصلصالي العظيم، وظللت أتذكر الفقيه أحمد أوحمدان.
وجاء الهاتف الخليوي، ثم الإنترنت، وتغير العالم كثيراً، ثم نزل زلزال وسائل التواصل الاجتماعي فانقلب كل شيء، ودخل اللوح الإلكتروني كوسيلة للتعليم، وبدأت الكتب والدفاتر والأقلام ودواة الحبر تختفي شيئاً فشيئاً، وبدأ الحديث عن تعميم اللوح في المدارس، لكن هذه المرة ليس اللوح القرآني الخشبي الأملس، إنه اللوح الإلكتروني الذي يصنع في اليابان والصين وكوريا الجنوبية وغيرها.
هذا المساء حين شاهدت ابني يحمل بين يديه اللوح الإلكتروني، عليه يقرأ القصص ويدقق معلوماته في الموسوعات المختلفة ويشاهد الأفلام ويتابع الأخبار على المباشر، تذكرت اللوح القرآني وأنا أمحو بخوف كلمات سور الفاتحة، وأنا أجري باللوح من بيت إلى آخر بعد أن حفظت الحزب والحزبين، فرحاً بالقطع النقدية الصغيرة وبالبيض المسلوق، فرحاً بفرح أمي وهي تستقبلني ببهاء.
على مدى قرن من الزمن الثقافي والسياسي والتربوي، تشكت أجيال من النخب من رحم الحبر التقليدي على اللوح الخشبي القرآني، وها هو اليوم جيل جديد يخرج شيئاً فشيئاً من دهشة اللوح الإلكتروني الرقمي بكل ما يحمله من كنوز المعارف.
نعم كل شيء تغير يا أمي!
أجيال كاملة ومتعددة خرجت وتخرجت من فتنة لوحة الكتاتيب، المدارس القرآنية، لوحة صغيرة ملساء مستطيلة الشكل مشققة لكنها ساحرة وعجيبة.
طفلاً صغيراً الذي كنته، كان عمري لا يتجاوز الأربع سنوات حين أوصلني أخي الأكبر إلى الكتاب، بخوف سحبت حذائي من قدمي وضعت الفردتين عند عتبة الغرفة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها الـ20 متراً مربعاً، في اختناق يتراص فيها أزيد من 30 طفلاً وطفلة، جميعهم في عمري تقريباً، كانت أصواتهم تتعالى في شكل صراخ، كل صوت يريد أن يكون أعلى وأقوى من الثاني، وإذ وقفت عند العتبة، فجأة سكت الجميع، وعلى التو صرخ الفقيه فيهم وهو يهش عليهم بقضيب مهدداً، قائلاً أن واصلوا. وعادت أصوات الصغار للضجيج المتهافت.
اختفى أخي بمجرد أن خطوت خطوتين فوق الحصير، أجلسني الفقيه أمامه، أول ما لاحظته هو قدمه اليسرى التي كان ينقصها إصبع أو إصبعان، أخافني منظر القدم المبتورة الإصبعين، وسلمني لوحة كانت مسنودة إلى الجدار بجنبه، أخذت اللوحة بين يدي، وارتجفت من ملمسها ومن شكلها ومن رائحة الصلصال والسمق المنبعثين منها، والسمق هو حبر تقليدي يصنع من خليط شعر المعز والماء والزيت وتوابل أخرى، خلطة سحرية تخرج منها الحروف الأولى التي تعلمناها.
أول حرف شاهدته على لوحتي القرآنية في أول يوم لي في مدرسة الكتاب، هو حرف الألف "أ"، بعناية رسمه الفقيه على لوحتي، تحت عبارة "باسم الله الرحمن الرحيم"، نظر إلي وقال لي بصوت حاد ومهدد، عليك أن تعيد كتابة الـ "أ" مرات عدة وفي أسطر مرتبة، عليك أن تملأ اللوحة بالألف. حدقت في هذا الـ "أ" جيداً، أخذت القلم المصنوع من قصب بري مشقوق عند الطرف الأعلى، أغمسه الفقيه في الدواة، وارتجفت يدي، ضربها زلزال، فليس من السهل كتابة الـ"أ"، وكتبته، مائلاً كثيراً، ثم قليلاً، ثم أقل ميلاناً، ثم مستعداً كجندي، ثم مستقيماً، كنت سعيداً لاكتشافي الـ"أ"، وانتهى يوم الـ"أ"، وفي اليوم التالي كتبت الباء، ثم التاء، وهكذا تعلمت في الأسبوعين الأولين كتابة الأبجدية كاملة تحت صوت الفقيه وهو يقول مردداً، "الألف ما تنقطشي (أي من دون نقطة) والباء نقطة من التحت والتاء زوج من الفوق. تعلمت كتابة الأبجدية مرتبطة بصوت الفقيه وهو يصف شكلها وخصائص كل حرف.
حين كتبت الأبجدية كاملة على اللوح القرآني، وعدت بها إلى البيت سعيداً في ذلك المساء أستظهرها عن ظهر قلب على أخي الأكبر وفي حضرة والدي الذي كان يراقبني ويصحح لي النطق بين الحين والآخر.
أول عبارة كتبتها كانت "باسم الله الرحمن الرحيم" التي لم تسقط من رأس اللوحة حتى تركت الكتاب.
هكذا بدأت رحلتي مع اكتشاف الكلمات على اللوح القرآني، من خلال حفظ وكتابة أول سورة قرآنية هي "سورة الفاتحة"، وأذكر أنني حين حفظتها عن ظهر قلب واستظهرتها أمام الفقيه السي أحمد أوحمدان، كان سعيداً لفطنتي واجتهادي، وللمرة الأولى "أمحو اللوحة"، ولـ"محو اللوحة" طقوس مثيرة وخاصة، وقفت عند باب الكتاب وقد منحني الفقيه قطعة صلصال، وطلب مني أن أمررها على "الفاتحة"، شيئاً فشيئاً اختفت الحروف والكلمات، شعرت بخوف مشوب بحزن، كيف لي أن أمحو كلام الله، وفي الليل لم أنم، خفت، من دون أن أعرف الشيء الذي كان يخيفني، وفي اليوم التالي حين كتبت سورة أخرى استعدت طمأنينتي وطار الخوف والارتباك.
وحين حفظت ربع الحزب الأول من كتاب الله، وتلك محطة أخرى باحتفال مميز وبطقوس خاصة، حملت لوحتي بين يدي ومشى خلفي بعض الأطفال، سرنا في أزقة القرية، كنا ندق باب البيوت باباً باباً، ونحن نردد بصوت عالٍ الأغنية التالية:
"لوحتي للطالب/ والطالب في الجنة/ والجنة حلها مولانا/ للنبي وأصحابو".
وكانت بعض النساء يمنحنني البيض وبعض الرجال يمنحونني قطعاً نقدية صغيرة من فئة دورو أو زوج دورو، كنت سعيداً بالانتقال من ربع الحزب إلى نصفه ثم الحزب كاملاً ثم الحزب الثاني وهكذا دواليك حتى جاء خريف آخر، وقد حمل معه دخولاً مدرسياً جديداً.
في كل الزمن الذي قضيته في حضرة اللوح القرآني، لم أفهم يوماً معنى لما كنت أحفظه من كلام، لكني كنت أخاف من هذا الذي أحفظه، كنت أخاف مما هو مكتوب على اللوح لأنه من كلام الله وفقط. مع ذلك كنت أتساءل مرات كثيرة، هل الله يحب أم يخاف منه؟، والواقع أنني وكسائر الأطفال كنت أخافه في المقام الأول.
ومع الانتهاء من مرحلة اللوح القرآني، جاء دور المدرسة الجمهورية، حيث كل شيء جديد ومختلف، ها أنذا في مدرسة المحفظة والدفاتر بأحجام مختلفة وأغلفة بألوان مختلفة أيضاً والكتب والريشة المختلفة والحبر المختلف والمئزر والمقلمة، عالم آخر أدخله.
في المدرسة الجديدة كان المعلم مختلفاً عن الفقيه، شكلاً ومضموناً ولغة، كان المعلم امرأة، امرأة جميلة مبتسمة ورقيقة وعطرة، لا تحمل عصا في يدها ولا تهدد أحداً، وفي أول يوم أخذتني في حضنها فشعرت بإحساس غريب، وفي هذه القاعة التي بها نوافذ وبها سبورة وصور الحيوانات والطيور والعلم الوطني، اختفى اللوح القرآني ومعه اختفى كلام الله الذي كان على ألسنة الأطفال عالياً، في هذه المدرسة الجديدة أصبحنا نكتب ونقرأ كلمات جديدة، كتاب، كوب، كرات، تراب، بابا، بستان، بوبي، باب، توت، ماما، بلبل، نمر، صابون، سمك، هر، طبيب، صياد، برتقال، جرس، حمامة، شجرة، قطة، جزر، وردة، غزال، طيارة، ونقرأ نصوصاً أولى، سعاد في المكتبة، لعبة الغمامة، أوراق الخريف، أعياد الميلاد، عطلة الربيع، ونحفظ محفوظات جميلة مثل الساعة/ تك تك تك تك/ دوماً أبداً رتب وقتك/ إنهض باكراً/ واحفظ درسك.
ها هنا أخذت الكلمات تأخذ معنى وتتشكل في صور برأسي ولم تعُد فارغة ولم تعُد صراخاً جماعياً وخوفاً.
لكن، سنة بعد أخرى، بدأت أدرك بأنني كلما غرفت في هذه اللغة الفصيحة أجدني أبتعد من لغة أمي، فبين لغة الكتب ولغة البيت مسافة غريبة كان علي أن أستوعبها، وللمرة الأولى أشعرتني المدرسة بغربة عن أمي. وكانت اللغة التي أقرأ بها النصوص لا تسمح لي بالتحدث مع أمي بطريقة سلسة وشفافة.
بدأ العالم يتسع ويتشكل من جديد أمام عيني، وفي الكلمات الجديدة ذات المعاني المنزاحة والتي تتراكم يوماً بعد يوم، نصاً بعد نص، في رأسي، وذات يوم جاءتنا معلمة أخرى، هذه المرة قال لنا المدير إنها معلمة اللغة الفرنسية. وها أنا أمام مغامرة أخرى وفي فم لغة أخرى بحروف أخرى، بنطق آخر وبنصوص مختلفة وبكتب أخرى وبأسماء أخرى تختلف عن أسماء أبناء وبنات القرية، فانقلاب آخر في رأسي.
غربة أخرى عن أمي!
وحين نسيت لغة أمي أو كدت وأنا أغرق في عربية معيارية وفرنسية أجنبية، ماتت أمي وبعدها مات أبي، وتسللت السياسة إلى كتاب الله الحكيم من قبل رهط غريب، وخلت القلوب أو كادت من الإيمان الصادق البسيط، وجاء التلفزيون إلى البيت بنشرة أخبار الثامنة والمسلسلات المصرية والتركية والأميركية، وهجم على المجتمع دعاة يمنحون المؤمن رخصة الدخول إلى الجنة أو الجحيم، ومع ذلك وبإيمان عميق ظللت أتذكر السور المكتوبة بالسمق على اللوح القرآني الصلصالي العظيم، وظللت أتذكر الفقيه أحمد أوحمدان.
وجاء الهاتف الخليوي، ثم الإنترنت، وتغير العالم كثيراً، ثم نزل زلزال وسائل التواصل الاجتماعي فانقلب كل شيء، ودخل اللوح الإلكتروني كوسيلة للتعليم، وبدأت الكتب والدفاتر والأقلام ودواة الحبر تختفي شيئاً فشيئاً، وبدأ الحديث عن تعميم اللوح في المدارس، لكن هذه المرة ليس اللوح القرآني الخشبي الأملس، إنه اللوح الإلكتروني الذي يصنع في اليابان والصين وكوريا الجنوبية وغيرها.
هذا المساء حين شاهدت ابني يحمل بين يديه اللوح الإلكتروني، عليه يقرأ القصص ويدقق معلوماته في الموسوعات المختلفة ويشاهد الأفلام ويتابع الأخبار على المباشر، تذكرت اللوح القرآني وأنا أمحو بخوف كلمات سور الفاتحة، وأنا أجري باللوح من بيت إلى آخر بعد أن حفظت الحزب والحزبين، فرحاً بالقطع النقدية الصغيرة وبالبيض المسلوق، فرحاً بفرح أمي وهي تستقبلني ببهاء.
على مدى قرن من الزمن الثقافي والسياسي والتربوي، تشكت أجيال من النخب من رحم الحبر التقليدي على اللوح الخشبي القرآني، وها هو اليوم جيل جديد يخرج شيئاً فشيئاً من دهشة اللوح الإلكتروني الرقمي بكل ما يحمله من كنوز المعارف.
نعم كل شيء تغير يا أمي!