لقد صدقَ مَن قال إنَّ الشِّعر ديوانُ العرب ؛ إذ هو السجلّ الأمين الذي انطوتْ صفَحَاتُه البليغة على أهمّ الملامح في تاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم وقِيَمهم ومعتقداتهم وحربهم وسلمهم، بل ووقائع حياتهم في شتّى مناحيها.
وإذا كانت "المعلّقات" السّبعُ أو الثماني أو العشْرُ، حسْبَ الاختلاف المعروف بين مؤرّخي الأدب الجاهليّ حول ذلك، هي واسطة العِقد في الشعر الجاهليّ الذي وصلنا عن العرب الأوائل فإنّ معلّقة شاعرنا الحارث بن حِلِّزَةَ البكريّ تنفرد عن باقي المعلّقات بهدفها ومضمونها السياسيّ الواضح، ما يسمو بها، في نظرنا، إلى مقام الرِّيادة في هذا المجال.
بالعودة إلى أهمّ المصادر التاريخيّة التي تناولتْ الأسباب الكامنة وراء نظْمِ هذه القصيدة الخالدة فإنّنا نقرأ في كتاب (الأغاني) للأصفهاني هذه السطور:
"قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أنّ عمرو بن هند الملك - وكان جبّاراً عظيم الشأن والمُلك - لمّا جمع بكراً وتَغْلِبَ ابنَي وائل، وأصلح بينهم، أخذ من الحيين رهْناً، من كلّ حيٍّ مئة غلام ليكفَّ بعضُهم عن بعض. فكان أولئك الرّهن يكونون معه في سيره ويغزون معه. فأصابتهم ريحٌ سَموم في بعض مسيرهم فهلك عامّة التغلبين، وسلِم البكريّون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديّات أبنائنا، فإنّ ذلك لكم لازم، فأبت بكر بن وائل. (ثمّ) اجتمعتْ تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصّة. فقال عمرو لقومه: بمَن ترون بكر تعصبُ أمرَها اليوم؟ قالوا: بمَن عسى إلّا برجل من أولاد ثعلبة. قال عمرو: أرى والله الأمر سينجلي عن أحمرَ أصمّ من بن يشكُر.
فجاءت بكر بالنعمان بن هرِم، أحد بني ثعلبة... وجاء تغلب بعمرو بن كلثوم (الشاعر). فلمّا اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصمّ! جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك ! فقال النعمان: وعلى من أظلّت السماء يفخرون، ثمّ لا يُنكرُ ذلك. فقال عمرو له: أما والله لو لطمتُكَ لطمةً ما أخذوا لكَ بها. فجاء جواب النعمان نابياً وبذيئاً . فغضب عمرو بن هند، وكان يؤثِر بني تغلب على بكر، فقال: يا جارية أعطِه لَحْياً بلسان أنثى (أي اشتميه بلسانك). فقال: أيّها الملك أعطِ ذلك أحبَّ أهلِكَ إليك. فقال: يا نعمان أيَسرُّكَ أنّي أبوك؟ قال: لا! ولكنْ وددتُ أنّكَ أمّي. فغضبَ عمرو بن هند غضباً شديداً حتّى همَّ بالنعمان... وقام الحارث بن حلّزة فارتجلَ قصيدته هذه ارتجالاً، توكّأ على قوسه وأنشدها وانتظَمَ كفَّهُ (جَرَحها) وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغَ منها."*
ويذكر الرواة العرب ويتابعهم في ذلك بعض المستشرقين إنّ شاعرنا أنشد معلّقته وهو في العقد الرابع بعد المئة؛ إذ كان من المعمَّرين، حيث توفّي، فيما ذُكِر، عن مئة وخمسين عاماً.
أوردُ فيما يلي أبياتاً مختارة من معلّقة الحارث التي تبلغ خمسة وثمانين بيتاً يأتلفُ فيها - كما هو الحال في عامّة الشعر الجاهليّ - الغزلُ والوصف والمدح والفخر، ناهيك عن أساليب الحِجاج والحكمة والمنطق التي اعتمدها الشاعر في دحض افتراءات التغلبيين والذّود عن قومه البكريين . وهو ما يندرج في خصائص الشعر السياسيّ، وهو ما تهتمّ به هذه المقالة.
هذا، وقد تواترت أقوال الرواة في إعجاب الملك عمرو بن هند بالمعلّقة وشدّة تأثّره بها، من ذلك ما رواه ابن الكلبي حيث يقول:
"أنشد الحارثُ عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وَضَح (بَرَص). فقيلَ لعمرو بن هند: إنّ به وَضَحاً. فأمرَ أنْ يُجعلَ بينه وبينه سِترٌ، فلمّا تكلّم أُعجِبَ بمنطقه، فلم يزلْ عمرو (أي الملك) يقول : أدنُوه حتّى أمرَ بطرح الستر وأقعده معه قريباً منه لإعجابه به."**
وأضاف راوٍ آخر، هو البغداديّ، في كتابه (خزانة الأدب):
إنّ الملك أمر بجزِّ نواصي السّبعين بكريّاً الذين كانوا رهناً عنده، ودفعها إليه."
جاء في المعلّقة:
١- آذَنتْنا بِبَينِها أسماءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
٢- إنّ إخواننا الأراقِمَ يغلُو
نَ علينا ، في قيلهم إحفاءُ
٣- يخلُطون البريء منّا بذي الذَّن
بِ ، ولا ينفعَ الخليَّ الخلاءُ
٤- أيُّها الناطقُ المرقِّشُ عنّا
عندَ عَمْرٍو ، وهل لذاكَ بقاءُ ؟
٥- لا تخَلْنا على غَرَاتِكَ ، إنّا
قبلُ ما قدْ ، وشى بنا الأعداءُ
٦- فبقِينا على الشناءة تُنمي
نا جُدودٌ وعزّةٌ قعساءُ
٧- أيَّما خُطَّةٍ أردتُم فأدّو
ها إلينا تمشي بها الأملاءُ
٨- فاتركوا الطَّيخ والتَّعدّي ، وإمّا
تتعاشُوا ففي التّعاشي الدّاءُ
٩- ملِكٌ مقسِطٌ ، وأكملُ مَن يَمْ
شي، ومِن دون ما لديه الثّناءُ
١٠- مَن لنا عنده من الخيرِ آيا
تٌ ثلاثٌ في كُلّهنَّ القضاءُ
١١- ووَلدْنا عمْرَو بن أمِّ أُناسٍ
من قريبٍ لمّا أتانا الحِباءُ
١٢- مثلُها يُخرِج النصيحة للقو
مِ فلاةٌ من دونها أفلاءُ
*- يُنظَر ، شرح المعلَّقات العشر المذهّبات للإمام أبي زكريا الشيباني المشهور بابن الخطيب التبريزيّ، ضبط وتقديم د. عمر فاروق الطبّاع، دار الأرقم ، بيروت ، د.ت .
**- المصدر السابق.
***- شرح بعض المفردات
١- الثَّواء : الإقامة.
٢- الأراقم : أحياء من تغلب وبكر.
إحفاء : كلّفونا ما لا نطيق.
٣- الخَلاء : البراءة من الذّنْب.
٤- المرقِّش : المزيّن القولَ بالباطل.
٥- على غراتِكَ : أي لا تحسب أنّنا جزعون لإغرائك الملك بنا.
٦- أي فبقينا رغم بغضهم لنا ترفعنا حظوظنا وعزّتنا الراسخة.
٧- الأملاء : الجماعات.
٨- الطَّيخ : الكلام القبيح ، تتعاشَوا : تتعاموا.
١١- يقصدُ عمرو بن حِجر الكنديّ جدّ الملك عمرو بن هند، لمّا أتانا الحِباءُ :
أي حين أتانا عطاء الملك لمّا خطبَ إلينا ورآنا أهلاً لمصاهرته.
١٢- أي بمثل هذا القرابة نقدّم لك النصيحة أيُّها الملك ، وهي نصيحة كثيرة وواسعة اتّساع الصحارى.
- إعادة نشر .
#دكتور_زياد_العوف
وإذا كانت "المعلّقات" السّبعُ أو الثماني أو العشْرُ، حسْبَ الاختلاف المعروف بين مؤرّخي الأدب الجاهليّ حول ذلك، هي واسطة العِقد في الشعر الجاهليّ الذي وصلنا عن العرب الأوائل فإنّ معلّقة شاعرنا الحارث بن حِلِّزَةَ البكريّ تنفرد عن باقي المعلّقات بهدفها ومضمونها السياسيّ الواضح، ما يسمو بها، في نظرنا، إلى مقام الرِّيادة في هذا المجال.
بالعودة إلى أهمّ المصادر التاريخيّة التي تناولتْ الأسباب الكامنة وراء نظْمِ هذه القصيدة الخالدة فإنّنا نقرأ في كتاب (الأغاني) للأصفهاني هذه السطور:
"قال أبو عمرو الشيبانيّ: كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى قولها أنّ عمرو بن هند الملك - وكان جبّاراً عظيم الشأن والمُلك - لمّا جمع بكراً وتَغْلِبَ ابنَي وائل، وأصلح بينهم، أخذ من الحيين رهْناً، من كلّ حيٍّ مئة غلام ليكفَّ بعضُهم عن بعض. فكان أولئك الرّهن يكونون معه في سيره ويغزون معه. فأصابتهم ريحٌ سَموم في بعض مسيرهم فهلك عامّة التغلبين، وسلِم البكريّون. فقالت تغلب لبكر: أعطونا ديّات أبنائنا، فإنّ ذلك لكم لازم، فأبت بكر بن وائل. (ثمّ) اجتمعتْ تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصّة. فقال عمرو لقومه: بمَن ترون بكر تعصبُ أمرَها اليوم؟ قالوا: بمَن عسى إلّا برجل من أولاد ثعلبة. قال عمرو: أرى والله الأمر سينجلي عن أحمرَ أصمّ من بن يشكُر.
فجاءت بكر بالنعمان بن هرِم، أحد بني ثعلبة... وجاء تغلب بعمرو بن كلثوم (الشاعر). فلمّا اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم: يا أصمّ! جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك ! فقال النعمان: وعلى من أظلّت السماء يفخرون، ثمّ لا يُنكرُ ذلك. فقال عمرو له: أما والله لو لطمتُكَ لطمةً ما أخذوا لكَ بها. فجاء جواب النعمان نابياً وبذيئاً . فغضب عمرو بن هند، وكان يؤثِر بني تغلب على بكر، فقال: يا جارية أعطِه لَحْياً بلسان أنثى (أي اشتميه بلسانك). فقال: أيّها الملك أعطِ ذلك أحبَّ أهلِكَ إليك. فقال: يا نعمان أيَسرُّكَ أنّي أبوك؟ قال: لا! ولكنْ وددتُ أنّكَ أمّي. فغضبَ عمرو بن هند غضباً شديداً حتّى همَّ بالنعمان... وقام الحارث بن حلّزة فارتجلَ قصيدته هذه ارتجالاً، توكّأ على قوسه وأنشدها وانتظَمَ كفَّهُ (جَرَحها) وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغَ منها."*
ويذكر الرواة العرب ويتابعهم في ذلك بعض المستشرقين إنّ شاعرنا أنشد معلّقته وهو في العقد الرابع بعد المئة؛ إذ كان من المعمَّرين، حيث توفّي، فيما ذُكِر، عن مئة وخمسين عاماً.
أوردُ فيما يلي أبياتاً مختارة من معلّقة الحارث التي تبلغ خمسة وثمانين بيتاً يأتلفُ فيها - كما هو الحال في عامّة الشعر الجاهليّ - الغزلُ والوصف والمدح والفخر، ناهيك عن أساليب الحِجاج والحكمة والمنطق التي اعتمدها الشاعر في دحض افتراءات التغلبيين والذّود عن قومه البكريين . وهو ما يندرج في خصائص الشعر السياسيّ، وهو ما تهتمّ به هذه المقالة.
هذا، وقد تواترت أقوال الرواة في إعجاب الملك عمرو بن هند بالمعلّقة وشدّة تأثّره بها، من ذلك ما رواه ابن الكلبي حيث يقول:
"أنشد الحارثُ عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وَضَح (بَرَص). فقيلَ لعمرو بن هند: إنّ به وَضَحاً. فأمرَ أنْ يُجعلَ بينه وبينه سِترٌ، فلمّا تكلّم أُعجِبَ بمنطقه، فلم يزلْ عمرو (أي الملك) يقول : أدنُوه حتّى أمرَ بطرح الستر وأقعده معه قريباً منه لإعجابه به."**
وأضاف راوٍ آخر، هو البغداديّ، في كتابه (خزانة الأدب):
إنّ الملك أمر بجزِّ نواصي السّبعين بكريّاً الذين كانوا رهناً عنده، ودفعها إليه."
جاء في المعلّقة:
١- آذَنتْنا بِبَينِها أسماءُ
رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
٢- إنّ إخواننا الأراقِمَ يغلُو
نَ علينا ، في قيلهم إحفاءُ
٣- يخلُطون البريء منّا بذي الذَّن
بِ ، ولا ينفعَ الخليَّ الخلاءُ
٤- أيُّها الناطقُ المرقِّشُ عنّا
عندَ عَمْرٍو ، وهل لذاكَ بقاءُ ؟
٥- لا تخَلْنا على غَرَاتِكَ ، إنّا
قبلُ ما قدْ ، وشى بنا الأعداءُ
٦- فبقِينا على الشناءة تُنمي
نا جُدودٌ وعزّةٌ قعساءُ
٧- أيَّما خُطَّةٍ أردتُم فأدّو
ها إلينا تمشي بها الأملاءُ
٨- فاتركوا الطَّيخ والتَّعدّي ، وإمّا
تتعاشُوا ففي التّعاشي الدّاءُ
٩- ملِكٌ مقسِطٌ ، وأكملُ مَن يَمْ
شي، ومِن دون ما لديه الثّناءُ
١٠- مَن لنا عنده من الخيرِ آيا
تٌ ثلاثٌ في كُلّهنَّ القضاءُ
١١- ووَلدْنا عمْرَو بن أمِّ أُناسٍ
من قريبٍ لمّا أتانا الحِباءُ
١٢- مثلُها يُخرِج النصيحة للقو
مِ فلاةٌ من دونها أفلاءُ
*- يُنظَر ، شرح المعلَّقات العشر المذهّبات للإمام أبي زكريا الشيباني المشهور بابن الخطيب التبريزيّ، ضبط وتقديم د. عمر فاروق الطبّاع، دار الأرقم ، بيروت ، د.ت .
**- المصدر السابق.
***- شرح بعض المفردات
١- الثَّواء : الإقامة.
٢- الأراقم : أحياء من تغلب وبكر.
إحفاء : كلّفونا ما لا نطيق.
٣- الخَلاء : البراءة من الذّنْب.
٤- المرقِّش : المزيّن القولَ بالباطل.
٥- على غراتِكَ : أي لا تحسب أنّنا جزعون لإغرائك الملك بنا.
٦- أي فبقينا رغم بغضهم لنا ترفعنا حظوظنا وعزّتنا الراسخة.
٧- الأملاء : الجماعات.
٨- الطَّيخ : الكلام القبيح ، تتعاشَوا : تتعاموا.
١١- يقصدُ عمرو بن حِجر الكنديّ جدّ الملك عمرو بن هند، لمّا أتانا الحِباءُ :
أي حين أتانا عطاء الملك لمّا خطبَ إلينا ورآنا أهلاً لمصاهرته.
١٢- أي بمثل هذا القرابة نقدّم لك النصيحة أيُّها الملك ، وهي نصيحة كثيرة وواسعة اتّساع الصحارى.
- إعادة نشر .
#دكتور_زياد_العوف