لعبت الواقعية الاشتراكية دورًا كبيرا فى الهيمنة على الواقع، وتبلور اليسار كفكر ساد فى الستينيات؛ ومنتصف السبيعينات كذلك. ولقد انعكست هذه التحولات على الأيديولوجيا السياسية للدولة، وأحدثت تأثيرات مباشرة على الواقع، وغير مباشرة كذلك على الفكر والإبداع الذى أصبح منفتحًا على الإبداعات العالمية بصفة عامة.
وفى روايته «حكايات طرح النيل» للدكتور السيد نجم نرى تأطيرًا لحالة الواقع المصرى، وتوصيفًا لحياة: «الريف» و«المدينة». ومع التخبط المجتمعى للتحولات غير الممنهجة؛ وهو ما جعل المصريين يعيشون فى الجهل: «يقودهم شيخ جاهل يكفر المجتمع مثل شخصية (الجعر)؛ ومثيولوجيا رامزة تحددها شخصية (نواف) صاحب الأنف.. ذى الروائح الذى يقرأ الواقع، ويتشمم الخطر، ويعرف كل شىء شخصية أبوالعريف، أو الفهلوى، وغدا الريف أشبه بتكية يقودها العمدة الجاهل، والخفير صاحب السطوة المسلح، والعسس وعساكر الدرك، والحكومة التى لا تظهر لها سمات فاعلة عبر الشرطة التى لا تتدخل، فى أحايين كثيرة، وكأن العمدة هو وكيل الدولة التى أطلقته ليحكم الناس بالجباية، وتركيع المجتمع، مقابل التضييق على المتأسلمين، أو الأصوليين من أصحاب الفكر الشاذ: كجماعة الإخوان والمُتَسَلِّفِيين، وغيرها من جماعات التكفير والهجرة، والجهاد غير المسلح، ثم المسلح بعد ذلك».
وكاتبنا هنا يوازن بين المدينة فى الفكر والتى تمثلها «الإسكندرية» – الكوزموبوليتانية، والقرية التى لاتزال تلهث، لتحافظ على بواقى القيم والأعراف والتقاليد، ولم يتطرق القارئ هنا إلى: «القاهرة»؛كمحرك للأحداث، بل ابتعد بكل ما استطاع عن «تسييس الرواية»، وصب إسقاطاتها من خلال الحكى، أو السرد المكتنز، ومن خلال مواقف الشخصيات؛ وعلاقاتها البينية، فتجد شعارات: «سنقذف إسرائيل فى البحر أو فى القناة» كدليل إلى النزوع للتحرر والمقاومة، وكأن «الروح آنذاك تنزع إلى المقاومة»– حتى على مستوى الشخصيات، فالقرية كلها قاومت «نواف والجعر» فيما يفعلانه من سرقة ملابس النساء، ثم فيما تولاه الشيخ الجعر «اللص الذى تحول إلى شيخ منصر».
ولعلنا لن نجد فرقًا بين شخصية «أم زوجة نواف» التى أخذتها «النداهة» فى الترعة، وبين شخصية «حاملة الدكتوراه (حياة) ابنة نواف؛ التى أخذتها «النداهة»، الحضارية الحداثوية بالنسبة إليها، وهى الإسكندرية، فقد تاهت فى شوارع وحارات الإسكندرية الممتدة.
إنه مجتمع المثيولوجيا: «الخرافة والحقيقة»؛ عبر تحولات الفكر المجتمعى من التخلف والجهل والمرض والأمية؛ إلى عصر التنوير والثقافة لطبقة البروليتارية التى وقفت فى صفها الثورة المجيدة، وغدا «عبدالناصر» رمزًا تاريخيًا، ومثيولوجيًا.
ويبدو عالم المثيولوجيا أكثر ظهورًا فى رواية «حكايات طرح النيل»؛ للروائى د. السيد نجم، فهى رواية -عبر النوعية- يتواشج فيها الفن القصصى والفن الروائى، ويندغمان ليشكلا عجينة السرد السيميائى الساحر، ولعلها متتالية قصصية فى شكل رواية متتابعة الفصول، تحكى واقع عالم الريف المصرى البسيط، عبر مشكلاته المجتمعية: أحلامه، سلوكيات الأهل الطيبين فى فترة العمدية، أو فى فترة «العهد الملكى» إبان عهد «الملك فاروق»، والملك «أحمد فؤاد»، ثم ما تبعهما بعد ذلك؛ فى العهد الجمهورى فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر؛ وتحديدًا إبان عهد عبدالناصر وما بعده، وهى الفترة التى امتازت بتعددية الرؤى، وظهور الفكر الاشتراكى؛ والمد الشيوعى لليسار المصرى، أو هو عهد بداية التنوير الثقافى والفكر.
فنواف والجعر بطلا الرواية يمثلان خروجًا فارقًا على تقاليد المجتمع الريفى الذى امتاز بالانصياع للقيم، فالكبير له احترامه بداية من الجد ثم الأب فالأخ الكبير، وكذلك الجدة والأم والأخت الكبرى وغير ذلك من احترام، والعيش ببساطة، والاكتفاء بما قسم الله لكل منهم من رزق، فهم طيبون بفطرتهم، وربما تصل الطيبة إلى حد السذاجة، وهو الأمر الذى لم يقبله «نواف والجعر» اللذان فسدا فكانا يسرقان ملابس النسوة، ويعيشان كمطرودين فى «عريشة صغيرة» بعيدة بين الغيطان مع بعضهما، بعد أن لفظهما المجتمع الريفى.
إن الرواية عبارة عن حكايات، وقد اختار لها مسمى: «حكايات طرح النيل» حيث إن النيل يمثل مصدر الخير والنماء، ومصدر الزراعة هناك، كما أن عالم الريف هو «عالم الحكايات والحودايت»، وتتوالى القصص فى قرية «كفر العوانس»، التى كانت تعج بالفساد، وشرب الخمر والحشيش فى الليل، والنبيذ والخمور فى «بار الخواجة ينى»، أو الماخور الذى كان يضم السهارى مثل الخفير، بل ضابط الشرطة؛ والعمدة ريحان كذلك وغيرهم، ولقد عرف «نواف والجعر» طريقهما إلى هذا المكان، وعملا به، ثم اعتمد الخواجة على نواف «لجاذبية أنفه» الذى كان يمايز بين أنواع الحشيش الجيدة، وغير الجيدة، وكذلك النبيذ، وأغدق عليه الأموال. وتتوالى الحكايات ليعمل «نواف» فى شركة «الدخان» بعد تأميم عبدالناصر «لأراضى الإقطاعيين بعد ثورة ١٩٥٢م، والمصانع، والتحول إلى الاشتراكية وفلسفة القطاع العام»، وهناك استمع لأول مرة عن الثوار، والحرب مع إسرائيل، ومقولات قذف إسرائيل فى البحر وإغراقهم؛ وتحرير فلسطين من اليهود الإسرائيليين الغاصبين، ولقد أغدق عليه الخواجة المال الوفير «بسبب أنفه» الذى كان يميز جودة الأصناف، وهو الأمر الذى أثار حفيظة صديقه «الجعر» فعاد إلى القرية ليصبح عاملًا ثم خطيبًا فى المسجد يخطب فى الناس بعد ذلك، بغير علم، وبغير وضوء كذلك. ويمكن أن نقول: «إن هذه الشريحة المجتمعية فى «كفر العوانس» تكاد تنطبق على حالة أغلب سكان «الريف المصرى».
كما نلمح تحولات الريف المصرى، والمدينة، والدولة كذلك، إبان الثورة، حيث كانت السيجارة أول مقدمات الرشوة تعطيها للموظف فينجز الأعمال لك سريعًا، حتى على مستوى الملبس والمأكل والمشرب لحظنا تحولات المجتمع كمسألة إلغاء لبس الطرابيش، والجلابيب، بعد أن لبس عبدالناصر قميصًا «نصف كم»، وبنطلون «الجينز»، وألغيت المنشة؛ والمنديل على الصدر كذلك، وظهرت المنظمات الاشتراكية مثل: «المنابر»، «هيئة التحرير»، «الاتحاد القومى»، «الاتحاد الاشتراكى العربى»، وكلها تدلل إلى التحولات الأيديولوجية والفكرية والثقافية على العرب، إبان ظهور «القومية العربية»، «الوحدة والعروبة»، «الدفاع العربى المشترك»، كما تعافى الاقتصاد المصرى، وانطلق المجتمع إلى الدولة العصرية الوليدة، فى عهد الرئيس محمد أنور السادات؛ كذلك، لكن جحافل الشر وقفت فى وجه عبدالناصر، ومن تبعه، فكان دوى المدافع، وعبور الأساطيل، وأزيز الطائرات للقضاء على «اليقظة العربية»، والمارد العربى الوليد الذى بدأ يتشكل، وبات يمثل خطرًا على العالم؛ وأطماعه المتتابعة.
ولعل من مظاهر تلك التحولات- غير المنتجة فعليًا- ما رأيناه من استعانة الساسة فى «الاتحاد الاشتراكى» بأنف نواف، فى اتخاذ القرارات، وتسيير أمور الدولة، بل التصارع على الكراسى والمناصب، وظهور «مراكز القوى» آنذاك، فمجتمع يؤطر للجهل ويصدقه كفيل بأن ينهزم من جديد.
ولعل «الحشيش»، وانتشار «التلفزيون» و«أفلام الفيديو» قد شغلت الناس عن الحقيقة، والحرب، وتصدر مصيلحى الأمر ليوازن بين: «دولة الإيمان والإسلام، مقابل دولة الكفر»، وعلا شأن الفكر المتطرف، رغم الأغانى الوطنية المقاومة آنذاك، ورغم خطر علو الصهاينة، وما كان فى «كامب ديفيد» بعد ذلك: «لا سلم ولا حرب»، وعودة «الانهزامية» إلى الروح المصرية، والأطماع فى «الدار» أو فى «أرض العرب»، و«الوصاية»، ورفع قضية الحجر على نواف ومنزله من جانب أولاده، فكان أن تنازل عن «الأرض» للجمعيات الخيرية، وعندها زالت الرائحة عن أنفه الذى يمثل «التغيير» كما يمثل «ضياع الأرض»: «عواد باع أرضه»، «معاهدة العار»، أو السلام مع الصهاينة آنذاك، والتنازل عن الكرامة الوطنية من مثل: «الأرض مقابل السلام» أو «الهدوء العربى» الذى قضى على ظهور العاصفة، ودمَّر «الحلم العربى الكبير» بحسب التأويل كذلك.
ولعلنا- عبر التأويل- قد جنحنا إلى التحليل السياسى للرواية، رغم هروب الكاتب/ النَّاص/ الراوى العليم، وجنوحه إلى عدم تسييسها، إلا أن مشتركات وهمومًا مجتمعية، وإشاريات باتت خلف ظاهر النص، واستدعتها تحليلية الناقد، قد جعلتنا نعيد صوغ الرواية من جانب تأويلى، لكنها الحقيقة والبرهان، وغائية الكاتب المختفية كذلك، أو القارئ التشاركى/ الناقد كذلك.
كما يعرض الكاتب- عبر متتاليته الروائية- لوباء الكوليرا، الذى أودى بحياة السكان ومنهم أهل القرية، والذى أدى إلى وفاة كل قبيلة آل نواف، إلا جدته، فكانوا يدفنونهم فى الجير، بل ربما لم يجدوا مقابر فاضطروا إلى دفن الكثيرين فى العراء، بعيدًا عن مقابر القرية، ولم يعلموا كذلك وغير ذلك من الحكايات التى تمتلئ بها الرواية والتى تمثل «السرد المكتنز» الغنى، والثرى، عبر لغة بسيطة، لكنها ساحرة، وكأنه يوظف السرد بجدارة بحسب ثقافة أهل القرية البدائية أو أن السرد- هنا- على مقاس الشخصيات تمامًا، وعبر تنوع اللهجة.
إنها الواقعية، تتجذر فى الرواية، عبر صدق السارد «الحكواتى»، «راوى السيرة»، الذى يبحث عن الحقيقة واليقين عبر واقع السرد «المخاتل الدراماتيكى» فى «كفر العوانس»؛ الذى يُجَسِّدُ صورة حقيقية للقرية، والقرى المصرية؛ آنذاك.
إن هذه الرواية الشاهقة هى مصر، أو التاريخ المصرى، عبر حقبة عقود ثلاثة مثلت مفصلًا تاريخيًا مازلنا نعيش تداعياته؛ السلبية والإيجابية إلى الآن، وإن غدًا لناظره قريب.
حاتم عبدالهادي السيد
ناقد مصري معاصر
٠١٠٧٠١٥١٩٠٥مصر
abdelhady.hatem@yahoo.com
وفى روايته «حكايات طرح النيل» للدكتور السيد نجم نرى تأطيرًا لحالة الواقع المصرى، وتوصيفًا لحياة: «الريف» و«المدينة». ومع التخبط المجتمعى للتحولات غير الممنهجة؛ وهو ما جعل المصريين يعيشون فى الجهل: «يقودهم شيخ جاهل يكفر المجتمع مثل شخصية (الجعر)؛ ومثيولوجيا رامزة تحددها شخصية (نواف) صاحب الأنف.. ذى الروائح الذى يقرأ الواقع، ويتشمم الخطر، ويعرف كل شىء شخصية أبوالعريف، أو الفهلوى، وغدا الريف أشبه بتكية يقودها العمدة الجاهل، والخفير صاحب السطوة المسلح، والعسس وعساكر الدرك، والحكومة التى لا تظهر لها سمات فاعلة عبر الشرطة التى لا تتدخل، فى أحايين كثيرة، وكأن العمدة هو وكيل الدولة التى أطلقته ليحكم الناس بالجباية، وتركيع المجتمع، مقابل التضييق على المتأسلمين، أو الأصوليين من أصحاب الفكر الشاذ: كجماعة الإخوان والمُتَسَلِّفِيين، وغيرها من جماعات التكفير والهجرة، والجهاد غير المسلح، ثم المسلح بعد ذلك».
وكاتبنا هنا يوازن بين المدينة فى الفكر والتى تمثلها «الإسكندرية» – الكوزموبوليتانية، والقرية التى لاتزال تلهث، لتحافظ على بواقى القيم والأعراف والتقاليد، ولم يتطرق القارئ هنا إلى: «القاهرة»؛كمحرك للأحداث، بل ابتعد بكل ما استطاع عن «تسييس الرواية»، وصب إسقاطاتها من خلال الحكى، أو السرد المكتنز، ومن خلال مواقف الشخصيات؛ وعلاقاتها البينية، فتجد شعارات: «سنقذف إسرائيل فى البحر أو فى القناة» كدليل إلى النزوع للتحرر والمقاومة، وكأن «الروح آنذاك تنزع إلى المقاومة»– حتى على مستوى الشخصيات، فالقرية كلها قاومت «نواف والجعر» فيما يفعلانه من سرقة ملابس النساء، ثم فيما تولاه الشيخ الجعر «اللص الذى تحول إلى شيخ منصر».
ولعلنا لن نجد فرقًا بين شخصية «أم زوجة نواف» التى أخذتها «النداهة» فى الترعة، وبين شخصية «حاملة الدكتوراه (حياة) ابنة نواف؛ التى أخذتها «النداهة»، الحضارية الحداثوية بالنسبة إليها، وهى الإسكندرية، فقد تاهت فى شوارع وحارات الإسكندرية الممتدة.
إنه مجتمع المثيولوجيا: «الخرافة والحقيقة»؛ عبر تحولات الفكر المجتمعى من التخلف والجهل والمرض والأمية؛ إلى عصر التنوير والثقافة لطبقة البروليتارية التى وقفت فى صفها الثورة المجيدة، وغدا «عبدالناصر» رمزًا تاريخيًا، ومثيولوجيًا.
ويبدو عالم المثيولوجيا أكثر ظهورًا فى رواية «حكايات طرح النيل»؛ للروائى د. السيد نجم، فهى رواية -عبر النوعية- يتواشج فيها الفن القصصى والفن الروائى، ويندغمان ليشكلا عجينة السرد السيميائى الساحر، ولعلها متتالية قصصية فى شكل رواية متتابعة الفصول، تحكى واقع عالم الريف المصرى البسيط، عبر مشكلاته المجتمعية: أحلامه، سلوكيات الأهل الطيبين فى فترة العمدية، أو فى فترة «العهد الملكى» إبان عهد «الملك فاروق»، والملك «أحمد فؤاد»، ثم ما تبعهما بعد ذلك؛ فى العهد الجمهورى فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر؛ وتحديدًا إبان عهد عبدالناصر وما بعده، وهى الفترة التى امتازت بتعددية الرؤى، وظهور الفكر الاشتراكى؛ والمد الشيوعى لليسار المصرى، أو هو عهد بداية التنوير الثقافى والفكر.
فنواف والجعر بطلا الرواية يمثلان خروجًا فارقًا على تقاليد المجتمع الريفى الذى امتاز بالانصياع للقيم، فالكبير له احترامه بداية من الجد ثم الأب فالأخ الكبير، وكذلك الجدة والأم والأخت الكبرى وغير ذلك من احترام، والعيش ببساطة، والاكتفاء بما قسم الله لكل منهم من رزق، فهم طيبون بفطرتهم، وربما تصل الطيبة إلى حد السذاجة، وهو الأمر الذى لم يقبله «نواف والجعر» اللذان فسدا فكانا يسرقان ملابس النسوة، ويعيشان كمطرودين فى «عريشة صغيرة» بعيدة بين الغيطان مع بعضهما، بعد أن لفظهما المجتمع الريفى.
إن الرواية عبارة عن حكايات، وقد اختار لها مسمى: «حكايات طرح النيل» حيث إن النيل يمثل مصدر الخير والنماء، ومصدر الزراعة هناك، كما أن عالم الريف هو «عالم الحكايات والحودايت»، وتتوالى القصص فى قرية «كفر العوانس»، التى كانت تعج بالفساد، وشرب الخمر والحشيش فى الليل، والنبيذ والخمور فى «بار الخواجة ينى»، أو الماخور الذى كان يضم السهارى مثل الخفير، بل ضابط الشرطة؛ والعمدة ريحان كذلك وغيرهم، ولقد عرف «نواف والجعر» طريقهما إلى هذا المكان، وعملا به، ثم اعتمد الخواجة على نواف «لجاذبية أنفه» الذى كان يمايز بين أنواع الحشيش الجيدة، وغير الجيدة، وكذلك النبيذ، وأغدق عليه الأموال. وتتوالى الحكايات ليعمل «نواف» فى شركة «الدخان» بعد تأميم عبدالناصر «لأراضى الإقطاعيين بعد ثورة ١٩٥٢م، والمصانع، والتحول إلى الاشتراكية وفلسفة القطاع العام»، وهناك استمع لأول مرة عن الثوار، والحرب مع إسرائيل، ومقولات قذف إسرائيل فى البحر وإغراقهم؛ وتحرير فلسطين من اليهود الإسرائيليين الغاصبين، ولقد أغدق عليه الخواجة المال الوفير «بسبب أنفه» الذى كان يميز جودة الأصناف، وهو الأمر الذى أثار حفيظة صديقه «الجعر» فعاد إلى القرية ليصبح عاملًا ثم خطيبًا فى المسجد يخطب فى الناس بعد ذلك، بغير علم، وبغير وضوء كذلك. ويمكن أن نقول: «إن هذه الشريحة المجتمعية فى «كفر العوانس» تكاد تنطبق على حالة أغلب سكان «الريف المصرى».
كما نلمح تحولات الريف المصرى، والمدينة، والدولة كذلك، إبان الثورة، حيث كانت السيجارة أول مقدمات الرشوة تعطيها للموظف فينجز الأعمال لك سريعًا، حتى على مستوى الملبس والمأكل والمشرب لحظنا تحولات المجتمع كمسألة إلغاء لبس الطرابيش، والجلابيب، بعد أن لبس عبدالناصر قميصًا «نصف كم»، وبنطلون «الجينز»، وألغيت المنشة؛ والمنديل على الصدر كذلك، وظهرت المنظمات الاشتراكية مثل: «المنابر»، «هيئة التحرير»، «الاتحاد القومى»، «الاتحاد الاشتراكى العربى»، وكلها تدلل إلى التحولات الأيديولوجية والفكرية والثقافية على العرب، إبان ظهور «القومية العربية»، «الوحدة والعروبة»، «الدفاع العربى المشترك»، كما تعافى الاقتصاد المصرى، وانطلق المجتمع إلى الدولة العصرية الوليدة، فى عهد الرئيس محمد أنور السادات؛ كذلك، لكن جحافل الشر وقفت فى وجه عبدالناصر، ومن تبعه، فكان دوى المدافع، وعبور الأساطيل، وأزيز الطائرات للقضاء على «اليقظة العربية»، والمارد العربى الوليد الذى بدأ يتشكل، وبات يمثل خطرًا على العالم؛ وأطماعه المتتابعة.
ولعل من مظاهر تلك التحولات- غير المنتجة فعليًا- ما رأيناه من استعانة الساسة فى «الاتحاد الاشتراكى» بأنف نواف، فى اتخاذ القرارات، وتسيير أمور الدولة، بل التصارع على الكراسى والمناصب، وظهور «مراكز القوى» آنذاك، فمجتمع يؤطر للجهل ويصدقه كفيل بأن ينهزم من جديد.
ولعل «الحشيش»، وانتشار «التلفزيون» و«أفلام الفيديو» قد شغلت الناس عن الحقيقة، والحرب، وتصدر مصيلحى الأمر ليوازن بين: «دولة الإيمان والإسلام، مقابل دولة الكفر»، وعلا شأن الفكر المتطرف، رغم الأغانى الوطنية المقاومة آنذاك، ورغم خطر علو الصهاينة، وما كان فى «كامب ديفيد» بعد ذلك: «لا سلم ولا حرب»، وعودة «الانهزامية» إلى الروح المصرية، والأطماع فى «الدار» أو فى «أرض العرب»، و«الوصاية»، ورفع قضية الحجر على نواف ومنزله من جانب أولاده، فكان أن تنازل عن «الأرض» للجمعيات الخيرية، وعندها زالت الرائحة عن أنفه الذى يمثل «التغيير» كما يمثل «ضياع الأرض»: «عواد باع أرضه»، «معاهدة العار»، أو السلام مع الصهاينة آنذاك، والتنازل عن الكرامة الوطنية من مثل: «الأرض مقابل السلام» أو «الهدوء العربى» الذى قضى على ظهور العاصفة، ودمَّر «الحلم العربى الكبير» بحسب التأويل كذلك.
ولعلنا- عبر التأويل- قد جنحنا إلى التحليل السياسى للرواية، رغم هروب الكاتب/ النَّاص/ الراوى العليم، وجنوحه إلى عدم تسييسها، إلا أن مشتركات وهمومًا مجتمعية، وإشاريات باتت خلف ظاهر النص، واستدعتها تحليلية الناقد، قد جعلتنا نعيد صوغ الرواية من جانب تأويلى، لكنها الحقيقة والبرهان، وغائية الكاتب المختفية كذلك، أو القارئ التشاركى/ الناقد كذلك.
كما يعرض الكاتب- عبر متتاليته الروائية- لوباء الكوليرا، الذى أودى بحياة السكان ومنهم أهل القرية، والذى أدى إلى وفاة كل قبيلة آل نواف، إلا جدته، فكانوا يدفنونهم فى الجير، بل ربما لم يجدوا مقابر فاضطروا إلى دفن الكثيرين فى العراء، بعيدًا عن مقابر القرية، ولم يعلموا كذلك وغير ذلك من الحكايات التى تمتلئ بها الرواية والتى تمثل «السرد المكتنز» الغنى، والثرى، عبر لغة بسيطة، لكنها ساحرة، وكأنه يوظف السرد بجدارة بحسب ثقافة أهل القرية البدائية أو أن السرد- هنا- على مقاس الشخصيات تمامًا، وعبر تنوع اللهجة.
إنها الواقعية، تتجذر فى الرواية، عبر صدق السارد «الحكواتى»، «راوى السيرة»، الذى يبحث عن الحقيقة واليقين عبر واقع السرد «المخاتل الدراماتيكى» فى «كفر العوانس»؛ الذى يُجَسِّدُ صورة حقيقية للقرية، والقرى المصرية؛ آنذاك.
إن هذه الرواية الشاهقة هى مصر، أو التاريخ المصرى، عبر حقبة عقود ثلاثة مثلت مفصلًا تاريخيًا مازلنا نعيش تداعياته؛ السلبية والإيجابية إلى الآن، وإن غدًا لناظره قريب.
حاتم عبدالهادي السيد
ناقد مصري معاصر
٠١٠٧٠١٥١٩٠٥مصر
abdelhady.hatem@yahoo.com