موسى مليح - نشيد النثر... قراءة في ديوان: "في سُدمِ الجحيم" لصلاح الدين بَشر

بعيدا عن أحكام القيمة ، وبعيدا عن أي تشويش خارجي، وعن أي معيار جاهز أتوكأ عليه لينير لي طريق القراءة، شرعت في قراءة ديوان:" في سُدمِ الجحيم" الصادر عن دار الوطن سنة2022 للشاعر المغربي صلاح الدين بَشر. كعاشق للكلمات الشعرية الجميلة وكمحب للشعر، حاولت في البداية أن أكتشف معالم هذا العالم الشعري؛ بدءا من العنوان :"في سُدمِ الجحيم" مرورا بالعناوين الكبرى الفرعية :"أشعل ريشي وأعبر جسر النار "و" في سديم ليلك البهيم" و"في سدم الجحيم" وقوفا عند عناوين القصائد الثلاثة والخمسين المكونة للديوان. لقد كان هدفي هو القبض على أي إشارة أو ملمح لغوي يساعدني على الاقتراب من المقاصد الواعية للشاعر، أو عن بعض مظاهر المحاكاة لنماذج شعرية سابقة، أو لوقائع حدثت بالفعل تيسر لي الفهم والتحليل وتشكيل رؤية واضحة عن شعر صلاح الدين بشر. لكن بعد أن بلغت آخر مقطع:
"يا عصاي!
يا هذا الخراب !
ما نفع شاليسيس قنسرين وأفاميا،
ودمع المعرة جرح من بصمات الزمان،
ومهوى الفؤاد..." ص100
تيقنت من وجوب التخلي عن أي فهم مرجعي يقوم على مقصدية محددة تكبل القراءة وتوجهها إلى دلالات حددها الشاعر سلفا. إن مقصدية"في سدم الجحيم" تكمن داخل النص وليست خارجه. إن الديوان كمساهمة في تشكيل تجربة شعرية جديدة



بكل أبعادها الجمالية والفكرية والإيقاعية مفتوح على جميع التأويلات، شرط امتلاك القدرة التفاعلية لضبط غزارة الإحالات الموظفة في جل القصائد (إحالات فلسفية وأدبية وأسطورية وودينية وتاريخية...) مع حسن التقاط المنبهات الشعرية المتناثرة في كل المقاطع. بناء عليه أصدرت حكما أوليا عن الديوان: إنه يخوض في تجربة شعرية جديدة. دفعني هذا الحكم أن أعيد قراءة الديوان مرات من أجل تعزيزه. مؤمنا بأن الديوان لا يستدعي فهما سطحيا بل يطلب التأويل. لأن التأويل تدليل بينما الفهم كشف عن الدلالة. وعند التدليل تتكسر جمالية الألفة والتطهير. إن أي تأويل لا يقوم على فراغ بل يقوم على مجموعة من العناصر/المؤشرات التي تشكل بنية النصوص التي تمنح القول الشعري التفرد والتميز. من هذه المؤشرات في ديوان: "في سُدمِ الجحيم" للشاعر صلاح الدين بَشر :
1ـ الألفاظ الموظفة في القصائد غير ممتلئة المعنى؛ لهذا يجد القارئ نفسه في حاجة إلى إشباع الألفاظ بدلالات لم توضع لها أصلا. بل إن الشاعر يتخلى في بعض القصائد عن الألفاظ ليترك القارئ في مواجهة البياض مثل قصيدة "أجر ذيلا...! "ص9 وقصيدة "أحمل حقائب من جروحي!" ص15 وهذا ما يعرف بمبدأ الفراغ؛ وهي صنعة مقصودة تشير إلى فسح المجال للقارئ كي يشارك في إبداع القصيدة عن طريق التأويل.
2ـ تزخر قصائد الديوان بالرموز والأحلام؛ لا تخلو قصيدة من رمز وحلم. تأسست الأحلام على مبدأ الاستشراف الذي يؤسس على الرؤية المستقبلية الغير محددة بزمان: (أعبر جسر الزمن-سديم الليل البهيم- يركض العمر حبات غيم شاردة- أسرق من ليلي نزرا من ومْض هارب...) أو مكان: ( ماوراء الأفق ـ المتاه - المرافئ البعيدة - إلى سدرة منتهاي - سدم الجحيم...)
حاصر صلاح الدين بَشر زئبقية المكان والزمان بمجموعة من الرموز. فبواسطة الرمز سعى الشاعر إلي خلق رؤية تتجاوز المألوف وتقرب صورة المأمول تحقيقه من أجل هدم الهوة بين الحاضر والمستقبل بين الواقع والحلم، فوجد ضالته في:
*الرموز الدينية: (آدم والتفاحة - يوسف والبئر- نوح الطوفان - القيامة والجحيم - سليمان والنمل - سفر التكوين - سدرة المنتهى- أهل الكهف...)
* الرموز الأدبية: (المتنبي - أبو العلاء المعري - دون كيشوط والطواحين - شهرزاد وألف ليلة وليلة...)
* الرموز الأسطورية: (الغيلان - ديك معبد الشمس تارتاروس - كاوس او الكلمة الأولى لهذا الكون الجامعة للماء والنار والهواء والتراب - طائر الفينيق - أوروك أو المدينة الأولى بعد الطوفان - سومر...)
* الرموز التاريخية: (نيرون- السوماريون- بابل- معرة النعمان...)
* الرموز الطبيعية: (البحر - النهر- الصخر - الذئب الضرير - النوارس العمياء - الخيل- الصحراء - الزوابع - الغيث- البركان...)



إن توظيف الرمز بهذه الكثافة يحيل على عجز الصورة الشعرية التقليدية المبنية على المقاربة والمجاورة عن التعبير، كما تؤكد على أزمة لدى الشاعر في تفسير عالمه المتردي والوقوف على أسباب تفككه وانحلاله فوقف أمامه كما وقف الإنسان البدائي عندما عجز عن تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا علميا فلجأ إلى الأسطورة كشكل من أشكال التفكير الإنساني لتفجير العالم وبعثه من جديد في صورة مغايرة:
" يا كاوس، طهري
مرابع النار
من ذرق خفافيش
مدينتي الذاوية،
وابعثيني فنيقا
من سفر التكوين
أعيد انفجار الخليقة" ص85
3ـ الرؤيا: تبنى العديد من الدارسين للشعر العربي الحديث وصف أدونيس للرؤيا على أنها قفزة نوعية في القصيدة العربية الحديثة، دون الوقوف عند ماهية الرؤيا. ينظر إلى الرؤيا عند الشاعر من زاويتين هما القدرة والموقف. القدرة تُحدَد بالرؤيا الفنية للشاعر؛ أي ما يملك من قدرات لغوية وجمالية للإبداع في مجال الشعر. بينما الموقف يرتبط برؤية الشاعر للعالم بما فيه من صراعات وتناقضات وموقعه داخلها الذي يُحتِّم عليه اتخاذ موقفا منها ليعبر عنه شعرا. يتضح جليا من خلال الملاحظة البصرية وقراءة سطحية للقصائد أن صلاح الدين بَشر كسر البناء الشعري الموروث عن القصيدة العربية القديمة وتجاوز الأغراض الشعرية القديمة والأنا المريضة بالرومانسية والشعارات الشعرية المؤدلجة بكل أطيافها فانعتق شعره من الابتذال والنمطية، متجاوزا بذلك كل معرفة مباشرة شاكا في القدرات المعرفية البرهانية/ العقلية:
" كمجذوب في البراري
أحارُ بين طريق في الدهشة،
ووشم في الرمل،
تذروه العواصف......!!!
تُفرقُ دمه بين أسراب الطير
ريشا من غيم في خطو المدى......!!!
وتحجبه غُلالات من ضيم،
وحلم،
وسوط،
يجلد جسد الحقيقة..." ص20
عندما تتهم الحقيقة فتجلد فهذا إعلان عن محدودية المعرفة المباشرة ودعوة للقفز خارج المفهومات السائدة من أجل الوصول إلى المجهول إلى ما وراء الواقع. لن يتحقق هذا القفز - حسب تعبير أدونيس - دون فعل التسامي عن البيان
والمنطق وامتطاء صهوة الخيال من أجل إنتاج قصيدة جديدة ومتجددة. وفي سعي الشاعر لفتح أبواب التجديد تتحدد الرؤيا التي تمتح منها قصائد الديوان.
لتحقيق ذلك، تم تكسير معالم القصيدة التقليدية وقصيدة التفعيلة وأعلن التمرد عن المتعارف عليه لينخرط في تجربة إيقاعية جديدة تتناوس بين الإيقاع الشعري وإيقاع النثر فحول بذلك المادة النثرية لخدمة الغاية الشعرية، موظفا لذلك مجموعة من المنبهات للقارئ تخبره بأنه في حضرة الشعر وتزيح عنه الشك عندما يشعر بأنه في اللاشعر:
"وأنا، يا ظلي، كأس
من سراب السبيل،
ووجع المستحيل...
وهذا الكمدُ:
زاد الطريق،
ورواء الحريق.........!!!" ص38
لم ينحصر التجديد " في سُدمِ الجحيم" عند هذا الجانب؛ فتيمات القصائد ترتبط بمعاناة من نوع مختلف عن معاناة الغربة والضياع. إن أنا الشاعر تنسلخ من العالم وتنطلق في رحلة البحث عن ارتياد الخيال ومدارات المجهول" السُدم" إنه إبحار في عالم المعاناة والأسرار الملغزة. وفي طريق البحث يعيد الشاعر تشكيل لغة مناسبة قادرة على الجمع بين الأضداد والمتناقضات، قادرة على الاختراق إلى أعماق النفس على التحويل والتحول واستشراف ما بعد الواقع. من أجل هذه الغاية حمَّل صلاح الدين بَشر الكلمات بطاقة أتاحت لها التلميح والإشارة مؤسسا بذلك رؤيا للوجود متعالية عن الحقيقة البيانية والبرهانية مقتربة إلى حد كبير من الحقيقة العرفانية للمتصوفة. جاء في قصيدة ولي رقصتي ص74:
"أنا المريد الذي سرى به الدرب؟
سأراقصك مرات...................
فلا أمل من جذبي صرْعا،
ولا شطحاتك الرعناء ترديني،
شفَّت نارك عُشوة القلب،
وذبت بلا إذن...!"
بذلك تحولت القصائد إلى تجليات مبنية على الحدس، وهذا ما تجلى بشكل واضح في أغلب الصور الشعرية التي تبدو أنها مؤسسة على عناصر حسية يستعصى على القارئ القبض على دلالتها حسيا. ورد في قصيدة" محض سديم" ص43:
"وتمضي الصور في أثر الرمل والغبار...
ياوجها! في السراب!
ويا قَطَراً! في اليباب!
لقد تكسرت المرآة،
وها أنا محض ردم في خراب..."
إن الرمل والغبار والوجه والسراب والقطر واليباب والمرآة والردم والخراب كلها كلمات مادية حسية لكن عند تجميعها في هذه الصورة وفي سياق القول الشعري يختفي كل ما هو حسي، تختفي الدلالة الحسية ليعوضها التدليل المبني على الحدس والتأويل. بذلك تدخل القراءة في لعبة القبض على الأبعاد الخفية للقصائدعن طريق التأويل.
التأويل عملية تدليل يقوم بها القارئ حينما يعجز عن فهم نص أدبي/شعري بطريقة مباشرة، وعندما يقر بأن النصوص المقروءة خارجة عن دائرة المحاكاة، سواء محاكاة للواقع أو لنماذج شعرية سابقة. في عملية التأويل للشعر يستمع القارئ لنبض القصيدة/القصائد، فيلاحظ ارتفاع دقات مثيرة للانتباه لبعض الكلمات أو المقاطع فيحولها إلى مؤشرات نفسية/تفاعلية بل شرطية حسب علم النفس السلوكي (المنبه/الاستجابة).
في ديوان:" في سُدمِ الجحيم" للشاعر المغربي صلاح الدين بَشر تثير انتباه القارئ مجموعة من الكلمات/المنبهات التي تحضر وتتكرر في جل القصائد.
البحر:
البحر ظاهرة طبيعية جامع لكل الأضداد والمتناقضات؛ فهو الحياة والموت، الحركة والثبات، البزوغ والأفول، القرب والامتداد، الأرض والسماء، التجلي والخفاء، المعلوم والمجهول، إنه فاعل أساسي في وجود الإنسان على الأرض؛ فبين مده وجزره الجاذيبة، وفي دورته المائية المطر، وفي عبوره ثروة وثورة. لكل هذه الأسباب توكأ الشاعر على البحر للتعبير وتمرير رؤيته. وردت كلمة البحر ومرفقاته 117 مرة: (أمواج - مرافئ - قوارب - رذاذ - زورق - مراكب - أشرعة - نوارس - غارق - شاطئ - أغوص - لجها...) في قصيدة جحيم ترْتاروس ص81 من الديوان نجد مونولوجا وظف فيه الشاعر أسطورة ترْتاروس (زنزانة للعذاب والمعاناة) ليعلن عن السقوط في الهاوية العميقة والتحول إلى غبار من سقط المتاع ، بعد النسيان وضياع الطريق لتوقف الأحلام/الوقود وتحول المواويل/ الشعر إلى صدى تائه وفي هذا السقوط المدوي يصبح الشاعر ظل بخار عابر للبحار:
"كظل بخار،
يعبر البحار
والأحلام
بجناحي موعد
ضرير"
إن الشعر إبحار في عالم مظلم مطلسم بالرموز، حول القصيد إلى"بدر أعمى" تعمل على إضاءة طريق العميان. ومن أجل بلوغ المرافئ البعيدة/ الأنواء/ ما وراء الأفق، حول الشاعر البحر إلى سديم:
"تهيم في ظلال خطوات سابحة
في سديم بائد" ص 76
إن البحر يغمر مياه الديوان فأينما انتقلت تجد البحر من أمامك ومن خلفه معاناة فتحول البحر إلى ملجأ ووسيلة للانسلاخ من الذات المتشظية. إن الانسلاخ من الذات والواقع المتردي يستدعي الرحيل. للرحيل في الديوان ثلاثة أبعاد هي: أفعال التنقل، ووسائل ولوازم التنقل، ووجهته.
*أفعال التنقل الواردة في الديوان كثيرة ومتنوعة نذكر منها: (تركض - تمتطي ـ أجر - خطوي - كبا - تجرني - أحمل حقائب - يجذبني - أسير- أسابق - أحث عليه - أشرد في المنافي - أعبر- أجوب - ركبت - تمطى - أمخر- تركبني ـ تمشي - ترسم خطى الطريق - وقع خطاك - يكبو - أركب صهوة ريح - أمخر عباب المستحيل - تمخر عباب الفراغ - يسافر.....)
**وسائل التنقل ولوازمه: (الطرقات - الأرصفة - مسالك - فلكي - شراعي - مسافة - جسر النار - سفين طوفانك- سرج جرحي - موجة من دمار - زورقي - القوافل - زاد الطريق - البوصلة - جراب - أركب طوفانا - صهوة من نار - مسارب الطريق - زورق غريق - زورق خائف - زورق مسبي - سرج ليل - جمار الطريق - لا رفيق ....)
***الوجهة: (الأفق - ما وراء الأفق - فضاء - سماء - أنواء - السراب - التيه - فراديس الوهم - المرافئ البعيدة - البحر الأوحش - سدرة حلمي - تخوم الأحلام - تيه - الظلال - الآلهة - الأنواء - سراب المسافات - مجاهل السدم - مدى ومضك - فلوات أفقك - الفراغ - مجاهل العباب -ظلال الأحلام - الفراغ - التيه...)
الوقوف عند هذا الكم الهائل من كلمات تدور في فلك حقل معجمي واحد، تجعل القارئ يكتشف تلك الرغبة الدفينة للشاعر التي تدفعه للتخلص من واقعه والبحث عن سبل لبلوغ سدرة حلمه؛ والسدرة في المخيال العربي الإسلامي تجمع بين كل الكائنات الحسية وغير الحسية الغير قابلة للتجزئة، فهي الشجرة الفائقة الحسن والجمال حيث بداية الجنة بكل أبعادها والتي تعجز اللغة العادية عن وصفها وتترك لشطحات الشعر في ثوبه العرفاني فرصة التقرب من ماهيتها. فتتحول كل كلمات الشاعر إلى جمر حارق تُصوَّبُ نحوه شهب تمنعه من اختراق ما وراء الأفق. والشعر/الحلم إلى جمرة حارقة تحضر وقت السحر:
"جمرتي في رحم الحريق،
هي عشوة الطريق،
ترقص في عرس النار،
تكشر عن أنياب ذئب ضرير،
يعوي في البراري..." ص51
إن حلم الوصول إلى غاية، يستدعي الحركة والحركة أساس المتواليات السردية هذا ما يفسر الحضور الضمني للسرد داخل القصائد وما يدفع القارئ إلي البحث في الديوان عن تبئير تلتقي داخله كل المنبهات اللغوية القادرة على اختزال القول الشعري في هذا الديوان.
ورد في قصيدة نزيف ص 66 من الديوان:
"يركض العمر حبات غيم شاردة،
تركب سفن الطوفان
في موج هارب صوب كواكب،
قُدَّت من سواد المعاني،
تعاني
من عجز اللسان،
وعُسر التداني..."
إن عمر الشاعر لا يقاس بالسنين لكن يقاس بحبات الغيم. غيم عاجز عن بلوغ مكانه الطبيعي (الحقول) فيتيه ممتطيا سفن الطوفان التي يحركها موج منفلت من قانون المد والجزر ومتوجه صوب أفق بعيد (كواكب). تلك الحبات المؤلفة لعقد عمر الشاعر ما هي إلا قصائد منفلتة من المألوف ومكتوبة بحبر أسود (سواد المعاني) وعاجزة شفاهيا عن تحقيق وظيفتها التواصلية وليس الجمالية؛ الالتحام مع الآخر (عسر التداني)
في هذا المقطع المؤلف من سبعة أسطر وثلاثة وعشرين كلمة مشتل نمت بداخله كل قصائد الديوان. بداخل هذا المقطع نكتشف معاناة الشاعر ولوازم رحلته؛ الزمن/العمر، والطريق والركض والسفن والموج والأفق ووسائل التعبير (الكتابة واللسان). إن المقطع يؤكد ما تردد في جنبات الديوان من معاناة إنسانية عميقة تُخْتزل في غياب التواصل في زمن كثرت فيه وسائل التواصل. هل هي أزمة شاعر؟ أم أزمة القصيدة الجديدة؟
إلى جانب السرد الموظف في الديوان نجد فن التشكيل. فأثناء قراءتي "في سدم الجحيم" لصلاح الدين بشر راعني حضور لوحات فنية رسمت لغويا ويمكن بمجهود بسيط تحويل مادتها إلى ألوان معبرة. وهنا نتذكر قولة هوراس: "الشعر صورة ناطقة والرسم شعر صامت." وقولة الجاحظ: "الشعر صناعة، وهو ضرب من النسيج، وجنس من التصوير. "والمتأمل في الصور الشعرية يستطيع إدراك ذلك. من الصور الشعرية الممكن تحويلها إلى لوحات تشكيلية جميلة:
"أنا المتسكع في ضوء
ليس لي" ص 47
"أعبر جسر النار،
تومض بي سواد المدينة، وضوء الموت،
ورماد الحياة" ص19
" ترسم نهرا من براكين
دروب دامعة
من فرط شؤم أوزار خراب
عم الأرواح والديار..." ص 55
" سخام الطين،
وسقط غبار
من بقايا جدار..." ص 87
"على سرير البحر...!
أتمدد كهيئة صليب.
من رذاذ موج،
يرشني بدم
نار غاضبة،
توقد سكون القوارب
وهجعة اللحود" ص91
"طاغوت الصليب الأحمر:
هدَّ الأسوار
وشكَّ بالسفافيد الأطفال والنساء" ص100......
كل اللوحات السابقة تتوفر على مواد التصوير من إضاءة وتعتيم ومن مواد قابلة لأن تمنحها لغة الألوان قدرة على التأثير في المتلقي من أجل تحقيق تفاعل إيجابي بين القصائد والقارئ وخلق المتعة الفنية.
في كل قصيدة من ديوان:" في سدم الجحيم"إيقاع محسوس ينظم ما تناثر من كلمات داخل النصوص، لايخضع لأوزان مرسومة سلفا. وهذا الاختيار الموسيقي يجعل كتابة الشعر عند الشاعر صلاح الدين غاية بعيدة عن التمارين العروضية والرقص على حبل التفعيلات. إن تجليات الإيقاع الشعري في كل قصيدة تبرز عند الإنشاد أو الإلقاء حيث تميز الأذن ذلك التوازي الصوتي الذي يتحول إلى قاطرة تقود التوازيات الدلالية (نستمع في اليوتوب للشاعر وهو ينشد) في الصوت ونبراته وتنغيمه، وفي الوصل والفصل، في الهمس والجهر تكمن جمالية الإيقاع الجامع للنثر والشعر، تأكيدا لما ورد في كتاب الإمتاع والمؤانسة ص 145 لأبي حيان التوحيدي:" أحسن الكلام ما رق لفظه، ولطف معناه، وتلألأ رونقه، وقامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم..."
إن ما تقاسيه قصيدة النثر أو القصيدة الجديدة هو قلة المتابعة والتنوير من طرف النقاد والقراء بشكل عام. وفي غياب الدراسات المواكبة والمهتمة بهذا الجانب الأدبي تنتحر القصائد في مهدها وتبقى حبيسة فئة قليلة من الأصدقاء. إن تجربة صلاح الدين بشر تجربة تستحق التفاعل معها وإضاءة جوانبها ونقلها لشباب متعطش لقراءة وإنتاج/إبداع الشعر وفق قيم متعارف عليها جماليا.

موسى مليح
ايت أورير27نونبر 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...