في كتابه الاخير : انتصار الفنان الثورة والفنانين الروس 1914-1917، الصادر يوم 14 فبراير2017، أعاد تزفيتان تودوروف عبر فصوله ربط الليبرالية الجديدة أو المتوحشة بالتوتاليتارية. تودوروف، المفكر الكبير العارف بواقع الاتحاد السوفياتي وكذا المطلع على نصوص الأعمال الفنية، توخى إضاءة العلاقة الإيديولوجية المتوترة بين الذين سماهم بالفنانين المبدعين وكذا السلطة السياسية لثورة أكتوبر، لاسيما مع ستالين : إيفان بونين، مكسيم غوركي، ميخائيل بولغاكوف، فسيفولد مايرخولد، فلاديمير ماياكوفسكي، ألكسندر بلوك، بوريس باسترناك، فليمير خليبنيكوف، بيلينياك، تزفتيفا، كازيمير ماليفيتش،سيرجي ايزنشتاين، ليفغني زامياتين، كوستاكوفيتش. هذا الكتاب دراسة لانتصار الفن ضد من يسعون إلى وأده . يقول تودوروف :
((نتج عن الثورة الروسية ظهور أول دولة توتاليتارية في التاريخ. بعد أن أنكرها بحدة جزء من الرأي العام الأوروبي، شكل اطراد السياق موضوع توافق عام جدا.بالتالي، لا يقتضي الأمر اليوم شجاعة خاصة من أجل استحضار النتائج المشؤومة لثورة أكتوبر.أيضا ملاحظة ذلك يمثل منبعا لنوع من الكبرياء، سيقولون : حسنا ديمقراطياتنا ناقصة، لكنها على أية حال تحظى بالتفضيل قياسا لما يجري عند الأنظمة الشمولية وكذا التيوقراطيين أو الديكتاتوريات العسكرية التي تزدهر في مكان آخر. أليست هذه الصفحة من التاريخ ،قد طُويت تماما بالنسبة لنا؟ألم تمت الشمولية ودفنها،ولن تتكرر عموما قط تلك التجربة الجهنمية داخل أقطارنا !سنكون أكثر فطنة من أجدادنا،ولن نسمح أبدا بإقامة نظام سيئ كهذا.نحن سعداء بالعيش تحت كنف الديمقراطية،وفخورون بذلك،ونرثي لحال الذين أخلفوا هذا الموعد،وكذا تأخرهم بخصوص السعي نحو الأفضل.
إذن لماذا العودة ثانية إلى تلك اللحظة الماضية،هل لازالت تستحق اهتمام أفراد الديمقراطيات الليبرالية في الغرب؟
لقد اتجهت نحو استحضار ذلك،ليس فقط لأني أجد مصير شخصياتي مؤثرا أو لكونه يجسد وقائع درامية، ثم ليس فقط جراء اهتمام بتاريخ يعود إلى كوني أحد المواطنين القدامى لبلد حكمه نظام توتاليتاري،و كذا ماض بعض أقربائي، الذين يكبرونني سنا، بل أيضا نتيجة اعتقادي أن هذا الماضي القديم زهاء قرن تقريبا والذي حدث في بلد اختفى (الاتحاد السوفياتي) ينطوي على شيء يفيدنا نحن مواطني المنظومة الغربية المنتمين للقرن الواحد العشرين.والحال،أن التأكيد على إمكانية القراءة هاته،يعني الإقرار في ذات الوقت بنوع من الاستمرارية أو التشابه بين نمطين للدولة مختلفين جدا،أقصد الأنظمة الشيوعية ماضيا ثم الديمقراطيات الليبرالية حاضرا.
* سجن بئيس :
هذه الخلاصة - لا تتأتى بالنسبة إلي من تلقاء ذاتها- تقتضي بعض التفسيرات.ليس فقط لا تتم من تلقاء ذاتها، لكن لو قرأت هذا أو سمعته قبل خمسين سنة تقريبا،أي قليلا بعد وصولي إلى فرنسا قادما من بلغاريا،لشعرت بالغضب.أولا ستصدم حساسية فرد انتمى سابقا إلى بلد توتاليتاري. لقد علمونا هناك في المدرسة، وعبر وسائل الإعلام، أن كل شيء سيئ "هنا" في الغرب، وعلى النقيض بالطبع ''مختلف مايوجد لدينا'' جيدا، غير أن نتيجة هذه البروباغندا بالنسبة إلي وكذا العديد من الأشخاص،قادت نحو كشف عدم صواب ما يروج له تماما : هناك(أي الغرب)،الرخاء والحرية في ذات الوقت،بينما كنا نعيش بين جدارن سجن،حقا واسعا لكنه كئيبا.
تطلعنا بقوة قصد الانتقال إلى الضفة الأخرى المقابلة للستار الحديدي جعلنا نحكم بالذوق السيئ جدا على كل ملاحظة قد توحي لنا بوجود استمرارية ما بين القطبين. كل واحد منا يعلم أكثر المصير التراجيدي لباقي شعوب البلدان التوتاليتارية، القريبة أو البعيدة، نسيان معاناتهم، ثم مماتلثهم بتجربة أفراد الغرب غير المهتمين،مثلما تخيلنا الوضع،شكل موقف استخفاف غير مقبول نحوهم وكذا مصيرهم،إنه خيانة.
بالتأكيد،بمجرد وصولنا إلى بلدان تلك الديمقراطيات الليبرالية،سندرك حقا أن التناقض لم يكن بذات التباعد، وليس كل الوضع ممتازا في بلدان الاستقبال، لكن بدا لي دائما التعارض بين النظامين السياسيين واضحا جدا،وتلتقي دائما ميولاتي السياسية عند نفس المنطلق.خلال أولى سنوات استقراري في فرنسا، لم تكن لعملي المهني أي نقطة مشتركة مع الأسئلة التي أقاربها هنا (واكتفيت بالاشتغال على الهندسة الداخلية للأعمال الأدبية).
مع ذلك، وانطلاقا من سنوات 1980، استشرف عملي "أسئلة المجتمع''ثم تمرست على نماذج التحليل السياسي والأخلاقي.تحليلات بدت لي مؤيدة لحدوسي السالفة،بحيث تبينت دائما تعارضا مباشرا بين التوتاليتارية والديمقراطية،سواء في بنية المجتمعات المعنية بالأمر وكذا أحكام القيمة التي نضمرها عنها.
* مجتمعان متعارضان :
سنوات 1990،كرست مجموعة من الدراسات حول الأنظمة الشمولية،مستندا على نفس التقطيع المفهومي :لقد أظهرت هذين الصيغتين للمجتمع كنقيضين متعارضين،حتى ولو أدخلت ضمن ذلك بعض أشكال الفروق المتعلقة بالإغراء الذي يمكن أن تثيره الأنظمة الشمولية أو بعض نقائص الديمقراطيات.في عملي التأملي :ذاكرة الشر،السعي إلى الخير(منشورات لافون،2000 ) المخصص لتاريخ أوروبا خلال القرن العشرين ،أوضحت بأن النزاع بين التوتاليتارية والديمقراطية،مثّل الحدث الأكثر أهمية خلال تاريخ هذا القرن، ثم وصفت من جهة ثانية الشمولية السوفياتية أوالنازية، باعتبارهما شيئا جديدا راديكاليا،انبثق خلال تلك اللحظة.
لقد اطلعت على بعض الآراء المختلفة عن تصوراتي، لكنها لم تستأثر باهتمامي رغم أنها صادرة عن أفراد كابدوا شخصيا قساوة النظام الشيوعي.
رغم ذلك، اهتديت مع كتابي ذاك الصادر سنة 2000 ،إلى صياغة نقد كلي للنظام الديمقراطي الذي نعيش في ظله، معتمدا على وقائع معاصرة،كان باعثها المطلق تحولا أسميته منذ زمن بعيد من اعترافاتي ب :نهاية الحرب الباردة، يرمز إليها بسقوط جدار برلين، بمعنى ثان انهيار الأنظمة الشيوعية، داخل أوروبا الشرقية أولا،ثم في روسيا نفسها. صحيح أن هذه الواقعة،تبدو من الوهلة الأولى،مؤكدة للتعارض غير القابل للاختزال بين هذين النمطين من الأنظمة،مادام قد تخلى أحدهما عن مختلف طموحاته،بينما الثاني ظل متمسكا بكل عنصر من مشروعه.واقعة، فسرها كثير من الملاحظين باعتبارها انتصارا للخير على الشر.
مع ذلك أحدثت نتائج هذا الانقلاب -على الأقل فيما يخصني- مفعولا معاكسا.تلاها تفاعلان لم أحدسهما تماما.من جهة ،المجموعة البشرية للبلدان الشيوعية السابقة التي يلزمنا فعلا أن نلاحظ جيدا،كونها لم تعش الانتقال من النظام السابق عن الأشكال الأكثر ديمقراطية للحكم وكذا اقتصاد السوق كخطوة كبيرة نحو السعادة،مثلما (وكذا العديد من الملاحظين المتعاطفين) يتم التطلع إليها : ظاهريا،انطوت تلك التحولات على نتائج أخرى،اعتبرت غير مقنعة.ومن جهة ثانية،تلك المتعلقة بالبلدان الغربية الكبيرة،في طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية،التي استفادت من هذه النهاية ل''توازن الرعب''وكذا التنافس بين المعسكرين""الاشتراكي'' ثم "الرأسمالي"،كي تنهج سياسة هجومية جديدة.تمثل هدفها المعلن في الارتقاء بالقيم الديمقراطية الكبرى وحقوق الإنسان، لكن نتيجتها الوحيدة الجلية اتجهت صوب تعضيد سيطرة تلك البلدان على باقي العالم.لذلك فهي تقترب،بشكل خطير من الممارسات الشمولية الشنيعة .
أفعال من هذا القبيل- تدخلات بالقوة في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى- ظهرت أولى إرهاصاتها خلال الحقبة السابقة عن فترة الحرب الباردة، لكنها بدت مقتصرة على منطقة مجاورة (أمريكا اللاتينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية) فضلا عن ذلك ،شكلت جانبا من سياسة إقامة حواجز أمام الخصم الشيوعي،كانت نفسها أسلوبا عدوانيا وإن بكيفية مقبولة.لقد أوحى انهيار جدار برلين عدم حاجة تلك السياسة إلى مبررات من هذا القبيل.حرب الحلف الأطلسي على يوغوسلافيا،المتزامنة مع فترة كتابة هذا العمل،أظهرت إلي حقيقة جديدة :كانت المنظومة الديمقراطية قادرة على نهج مسارات ثانية قريبة من صنيع البلدان الشمولية.
لم تجعلني هذه المقارنة أكثر تساهلا نحو بعض الممارسات الشمولية، لكن حذرا جدا حول بعض تطورات الديمقراطية.هذه الأخيرة حسب مبدئها ليست بنظرية للخلاص، فلا تقدم وعدا عن جنة أرضية،ولا تشرئب غاية الوصول بأفرادها إلى الكمال.لكنها أيضا ربما تأثرت بالجور،والشطط،لاسيما لحظات انتصارها.كل شيء يتم كما لو أن الطوباوية، باعتبارها حتى الآن امتيازا لليسار، قد نعتقد بموتها بعد سقوط الأنظمة الشيوعية،انتقلت يمينا إلى المذاهب المسماة (خطأ)بالمحافظين الجدد،المتبناة أساسا في الولايات المتحدة الأمريكية فترة حكم بوش،وتركت أثرا حول السياسة سيتبع هنا أو هناك.
*توازن أكثر للرعب :
أهداف كتلك بررت الحرب على العراق سنة 2003، بحيث لازالت نتائجها ماثلة سواء في الشرق الأوسط بل وباقي العالم.على هذا النحو،صرح الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش شهر شتنبر 2002 : ((إن مسؤوليتنا أمام التاريخ واضحة : الجواب على هذه الهجومات (11شتنبر2001)وتخليص العالم من الشر)) ،ثم أيام بعد ذلك،وفي إطار كراسة رسمية للبيت الأبيض،سنقرأ معها''المهمة الرسمية''المنوطة بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية و''تأكيد انتصار الحرية على أعدائها'' .
منذ أن انتفى توازن الرعب،توالت الحروب التي خاضها الغرب خلف الولايات المتحدة الأمريكية، بغير انقطاع تقريبا،من يوغوسلافيا إلى أوكرانيا،ومن أفغانستان إلى سوريا،ومن الصومال إلى ساحل العاج.
لقد انقادت فرنسا والمملكة المتحدة، الإمبراطوريتان الاستعماريتان القديمتان،وراء الحركة. في فرنسا،تبنى أطروحات المحافظين الجدد اليسار مثل اليمين تماما. هكذا ، يمكننا أن نلاحظ شكلا للمسيحية السياسية سواء مع الأنظمة الشيوعية وكذا الديمقراطيات الليبرالية الحالية.
ممارسة بعيدة على أن تكون الوحيدة التي توحي باستمرارية بين الأنظمة الشمولية خلال القرن العشرين مع التاريخ الأوروبي الذي سبقها وتلاها.استمرارية لا تتجلى في علاقات وحيدة بين بلدان، اعتدنا على رؤيتها منفلتة من كل ضبط (تقوم على ''حالة طبيعية'') ،لكن كذلك في إطار تلك القائمة داخل البلد الواحد بين أفراد وحكوماتها.لم تسقط علينا هذه الأنظمة الشيوعية من كوكب مارس، بل ارتبطت بسمات عديدة مع الأفكار التي أثارت العقول خلال القرون السابقة،والعديد من خصائصها لازالت مستمرة منذ اختفائها، بين طيات العالم الذي نعيش فيه.
* لازالت الطوباوية ماثلة :
نواصل اليوم التماس النظرية المسيحية وكذا الأنوار ثم ماركس ونيتشه والعلم و الإيمان. نحلم دائما بتحسين الجنس البشري رغم اعتمادنا بشكل أقل على قوة التربية وتأثير الوسط مقارنة بالتلاعب في شفرة الوراثة. يتطلع دائما الماسكون بزمام السلطة إلى سيطرة تامة على شعوبهم،حتى ولو اعتمدوا بشكل أقل على شرطة حاضرة كليا وقنوات المخبر،قياسا إلى التكنولوجيا التي تلتقط ''المعطيات الكبرى ''لمختلف تبادلاتنا الاليكترونية.
تحتاج اليوم الديمقراطيات الليبرالية مثل سابقاتها إلى صورة عدو ليس إنسانيا تماما،يلزمها محاربته وإذا أمكن إبادته(لاحرية لأعداء الحرية !)لكن بدل الرأسماليين البورجوازيين،سنجد الإرهابيين الإسلاميين. من نواحي عدة، تتشابه الليبرالية المتوحشة المعاصرة مع الشمولية الشيوعية،أكثر من الليبرالية الكلاسيكية للقرنين 17و. 18 استبداد الأشخاص كالدولة، قد تكون له نتائج جسيمة.
البروميثوسية، الطوباوية ،والسعي إلى الخير بمثابة طرق للتفكير والتأثير حاضرة في عالمنا منذ عصر النهضة والأنوار،ضمنها المجتمعات الشمولية للقرن العشرين وكذا ديمقراطيات الليبراليات المتوحشة المنتمية للقرن الواحد والعشرين. يدفعنا العالم المعاصر،بنفس مستوى المجتمعات الشمولية،فيما يتعلق بكل ميادين الشغل، العدالة،الصحة، التربية،نحو ماسماه : ''آلان سوبيو''ب"الحكم بالأعداد''اتجاه وصف منذ عهد قريب بالتصور المثالي من طرف إنجلز ،أي استبدال ''إدارة الأشياء بحكم الأفراد''.يتواصل، حاليا كما الشأن منذ عهد قريب،مسار التنميط ، التقنين وكذا جعل الأفراد يمتثلون لنفس النموذج السلوكي، كل هذا يؤدي إلى ضبط الفرد بواسطة المجتمع وفي نفس الآن إزالة الصفة الإنسانية عن البشر.
إن الوقوف على هذه المعطيات لضعف الديمقراطية لا يعني أننا نتنازل عن مبدئها المثالي.بل على العكس، مجرد إشارات أولى ينبغي لها أن تحثنا على مزيد من ''الدمقرطة")).
*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017
مرسلة بواسطة Sherif Ahmed في 6:08:00 م ليست هناك تعليقات: إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركةالمشاركة في Twitterالمشاركة في Facebookالمشاركة على Pinterest
التسميات: تزفيتان تودوروف, سعيد بوخليط
الجمعة، 3 مارس 2017
تزفيتان تودوروف : مؤرخ الأفكار، الباحث ،والسيميولوجي*
ترجمة: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط
هو مفكر إنساني كبير،غادرنا يوم7 فبراير في مدينة باريس عن عمر يناهز 77سنة،نتيجة مضاعفات انحلال خلوي يصيب الجهاز العصبي.تودوروف السيميولوجي،الناقد الأدبي،المؤرخ الأنثروبولوجي والباحث،عاش مختلف زوابع وكذا المنعطفات الفكرية لعهد مابعد الشيوعية.على الرغم من تحفظه،فقد مثّل ذاكرة للقرن العشرين ومراقبا للقرن الواحد والعشرين.
ولد سنة 1939بمدينة صوفيا البلغارية،قضى تودوروف طفولته تحت كنف النظام الشيوعي ،الأمر الذي طعّمه بلقاح دائم ضد كل ما يحيل على السياسة .زعيم سابق لفرقة"الرواد الصغار"داخل مدرسته،لكنه سيتخلى عن "إيمانه" النضالي في المدرسة الروسية المزدوجة المتواجدة بالعاصمة،سنة 1953مع موت ستالين.
عام 1956،لحظة تقديم تقرير خروتشوف وكذا قمع انتفاضة بودابست،ولج تودوروف الجامعة وحصل مثل جميع الشباب البلغاري والسوفياتي، على تكوين مرتكز على المادية الجدلية وكذا المذهب الستاليني. اختار دراسة الأدب البلغاري موضوعا لبحثه. طريقة ماهرة قصد التحول صوب الأسلوبية ويتخلص من الطوق الإيديولوجي،متحمسا بالتالي لشعرية الفولكلور والحكايات والأغاني الشعبية،بعيدا عن رقابة الحزب.
في إطار حلقة صداقاته للمثقفين،انتشى معهم بتأملات حول الحياة والموت،الخير والشر،معنى الوجود،تصاحبها جلسات سكر لا تنتهي إلا خلال ساعة متأخرة في الليل.تولستوي، دوستويفسكي ،تشيخوف ثم شعراء روس مثل ماياكوفسكي،أثروا خياله وفكره اليقظ رغبة في"تسليط الضوء على لغز فن الكتابة''مثلما أوضح في كتابه :''مقتضيات ومباهج حياة مهرب''(حوارات مع كاترين بورتفان،منشورات سوي،2002):((هذه الحاجة للتخلص من الايديولوجيا كانت مصدر اهتمامي بالشكلانيين الروس،حين وصولي إلى فرنسا)).لأن تزفيتان تودوروف، تمكن من مغادرة بلغاريا ،سنة 1963،بفضل سخاء عمته.
*عصر البنيوية: انطلاقا من إعجاب تودوروف ب إديت بياف و إيف مونتان أكثر من سارتر وبارت،حيث كان يجهل تقريبا كل شيء عنهما ،اهتدى إلى شغفه المهني.بحث في معرفة كيف يصنع الأدب. ليس ما يقوله،لكن كيف يتم ذلك،والشكلانيين الروس مثل كلوفسكي،توماشوفسكي أو بروب،بحيث كرس كتابه الأول''نظرية الأدب''(منشورات سوي،1965)فأضحى تودوروف قادرا على فتح مختلف مغالق الروايات الكبرى.
التقى جيرار جينيت في السوربون،وصار ملازما له وقدمه إلى جماعة ''تيل كيل''نحت إشراف مارسيلان بلينيت وفيليب سولير،فبدأ يحظى بالشهرة.تأثره ب إميل بينفنست و جاكبسون وبارت، دفعه للانكباب على السيميولوجيا.علم يفترض بأن اللغة ليست سوى نظاما من العلامات.اشتغل تودوروف بالأحرى على التقنيات السردية،والتركيب والبناء اللغوي أكثر من الدلالة المعنوية للنصوص الأدبية(الشعرية،1968).إنها الحقبة الكبرى للبنيوية حيث البحث عن المعنى الخفي بين طيات منظومة الرموز والعلامات ثم أنساق القرابة.
أطروحته للسلك الثالث التي ناقشها سنة 1966 ،تناولت بالتحليل مايحمله اختيار''choderlos de laclos'(جنيرال وأحد كتاب الثورة الفرنسية) ،للشكل الرسائلي حين كتابة عمله :''العلاقات الخطيرة''.افتتن بكتابي رولان بارت''حبة الصوت''و"الغرفة المضيئة''(غاليمار،1980 )،حينما كتب الأستاذ اللامع في كوليج دو فرانس،مايناهز عشرين صفحة ميزها إحساس نادر حول وفاة والدته. شرع تزفيتان تودوروف يلتقي بارت باستمرار خلال عشاءات بصحبة سولير وديريدا.دراساته النموذجية حول الأجناس وسجلات الكتابة،مثل ''مدخل إلى الأدب العجائبي''(منشورات سوي،2015 )أو ''معجمه الموسوعي لعلوم اللغة''(1972)بالاشتراك مع أوسوالد ديكرو،سرعان ما تحولت إلى مرجعيات.
*بعيدا عن الراديكالية السياسية :تبلور غليان شهر ماي 1968،في المركز التجريبي ب فانسان،لم يكن تودوروف ضمن هيئة التدريس- كان يشتغل لحظتها في المركز الوطني للبحث العلمي،ثم صار مشرفا على البحث- غير أن مقاربته للأدب وجدت هناك مرتكزا للإرساء .تماما كما الحال بالنسبة لمجلة "الشعرية"،التي أسسها مع جيرار جينيت. مقابل إفراط المثقفين خلال تلك الحقبة،في مباهج الراديكالية السياسية،سنجد بأن تزفيتان تودوروف لم ينجذب نحو ذلك،نظرا للمناعة التي تلقاها خلال طفولته ببلده بلغاريا.يعتقد أن الدوكسا الماركسية –اللينينية شكلت عبئا ثقيلا خنق أنفاس''الثلاثين سنة المشؤومة''(1945-1975) ،للفكر الفرنسي،فلم يتردد في وصف الحركة السياسية لشهر ماي 1968ب''الحرس الخلفي''.
على المستوى الجامعي،وبسبب رغبته في عدم المجازفة بالنصوص جراء الاستعاضة عنها بالميتا- خطاب الذي يترصدها،توخى تودوروف انطلاقا من كتاب :''نظرية العلامات''(1977)،الابتعاد عن البنيوية وعلمويتها.بالتالي،ليس مفاجئا أن يبرز كتابه الأساسي لمرحلته الإنسانية : "نحن والآخرون''(منشورات سوي،1989)،نقدا لنسبوية كلود ليفي شتراوس.
انطلاقا من سنوات الثمانينات،اتجه اهتمام تودوروف نحو تجربة الآخرية.لأنه هو نفسه''شخص مغترب''وغير مقتلع الجذور،يشرح في عمله الذي يحمل نفس العنوان : (الإنسان المغترب،منشورات سوي،1996). إنه''قروي من الدانوب''،انغمس في عالم آخر،وأجنبي حصل على الجنسية الفرنسية سنة 1973،يحمل نظرة جديدة وثاقبة حول بلد الاستقبال.
مع عمله ''غزو أمريكا''(1982)،الذي أبرز إرنان كورتس المغامر الاسباني كابن روحي ل ميكيافيليي،وكذا شارحته الأزتيكية التي تدعى لامالينش، سيطرح تزفيتان تودوروف أنثروبولوجيته الفلسفية،بحيث تحيل هنا على التهجين الثقافي.بخصوص كونية آخريته – أو على حد تعبير الفيلسوف إيمانويل ليفيناس :"إنسانية الإنسان الآخر''- بلغت أوجها مع دراسته''نحن والآخرون''،العمل الذي يناهض في الوقت نفسه النسبوية الثقافية ثم التيار الثقافي الوطني الذي شرع يفرض برنامجه.
فضل تودوروف الاعتدال على الراديكالية،والتحفظ على المغالاة،ثم اللامكان على التجذر،حد إمكانية أن تؤاخذ عليه نوعا من التفاهة.لكن ذلك ليس صحيحا.فالذين اقتربوا منه،تلمسوا جميعهم رقته الأسطورية،إلى جانب نزعته الشكية النقدية ثم نظرته النبيهة بل اللاذعة: "اسمحوا لي أن أكون شيئا ما شكيا''هي بغير شك صيغة تعبيره المفضلة،تؤكد الروائية والباحثة نانسي هوستون،التي التقاها سنة (1978-1979) ،وأثمرت علاقتهما عن طفلين هما ''ليا'' و "ساشا''،ثم ''بوريس" طفل ثالث من زواج ثان.ينزع تودوروف نحو السرد مقابل النظريات، مازجا البورتريهات بالدراسات.
الجانب الأدبي،يشبه التغير بالنسبة للكثيرين تغيرا في الاتجاه.ليس الأدب خطابا بل هو فكر ينقل قيما،يؤكد تزفيتان تودوروف.هكذا يصرخ،وهو العضو في المجلس الوطني لوضع البرامج،حينما كان يشرف عليه الفيلسوف لوك فيري : ((إذا تعلمت ابنتي فقط أن تميز الفارق بين المجاز والكناية،فربما اشمأزت كليا من الشعر)).لكن دون استسلامه قط ل''ديماغوجية ''الجمهوريين المحافظين الذين أرادوا قبل كل شيء إنقاذ الآداب أكثر من اهتمامهم بالبشر. تودوروف الأول ضد تودوروف الثاني،كما لو يسخر من نفسه،عندما أعلن:((ليس فظيعا أن يغادر التلميذ السلك الثانوي دون إدراكه للفرق بين التبئير الداخلي والخارجي،لكن سيكون الأمر خطيرا،إذا لم يعرف مجموعة شعرية اسمها "أزهار الشر")).
*كتابه ''الإمضاء البشري''
وداعا السيميولوجيا،وحده تقريبا صديقه الايطالي أومبرتو إيكو،ظل مهتما إلى أبعد مدى،على نحو رائع ومبتهجا،بعلامات وأساطير حداثتنا،مثل "السمارتفون" والأبطال الخارقين. جوهريا،توجد استمرارية في عمل ومسار تودوروف،ينبغي بلا شك الوقوف عليها في رغبته كي يفهم ''الإمضاء البشري""،على مستوى الكتابة المحلية وكذا الأدب الكوني،من خلال تأملاته للفن التشكيلي الفلمندي وكذا نشأة الفرد لكن أيضا في مسارات الحياة.هذا ماقاده كي يرصد مسارات شخصيات مثالية ك :جيرمان تيليون ،إيتي إيليزوم،نيلسون مانديلا،بل وإدوارد سنودن ،أسماء كانت قادرة على التمرد وعرفت كيف تقول ''لا''.إجمالا،انتقل تودوروف من الاستتيقا إلى الإتيقا،فارتبط ب''المعنى الأخلاقي للتاريخ''كتابات وحيوات.
تمثل المقاومة الفرنسية بشكل أفضل لديه هذه الطريقة لاعتبار أن : ((الحياة الإنسانية ليس لها عَلَما)) مثلما أورد في كتابه''معركة الحرب والسلام''(منشورات سوي،2007 ).هذا المغزى الذي تجلى أحيانا في المعسكرات النازية والشيوعية،لم يتوقف عن إثارة انتباهه،ليس فقط نتيجة لماضيه، لكن كذلك بغاية التفكير في الحاضر(مواجهة التطرف،1991)
لايمكن التشكيك، في المنحى الانتقادي لإنسانيته ،وخاتمة كتابه آخر إصداراته :انتصار الفنانين،الثورة والفنانين الروس(فلاماريون،2017 )،لاتترك بهذا الخصوص أي مجال للريبة. كما لو تعلق الأمر باستحضار لغرامياته الأولى،فقد عاد تودوروف ثانية إلى كتاب أمثال : باسترناك، ماليفيتش، ماياكوفسكي، مانديلستام،والذين مستهم دوامة الانطلاقة السوفياتية وكذا الأضرار الستالينية.
تودوروف،القوي بتجاربه ونقده للأنظمة الشمولية،سيكشف عن التباينات القائمة،لكن خاصة الاستمرارية بين التوتاليتارية والليبرالية المتوحشة.لأنه عبر السعي إلى جعل المجتمعات الغربية، متماثلة وممتثلة،تقوم دوائر سلطوية مختصة،دون نسيان هذه المسيحية السياسية التي تمثل شاهدا على أن مقياس التدخل الغربي، وضع جزءا من العالم على النار والدم.
هذا النقد الشمولي للنظام الديمقراطي،كان أصلا حاضرا في عمله :''ذاكرة الشر،إغواء الخير''(روبير لافون،2000):((إن الرغبة في استئصال الظلم من سطح الأرض أو فقط ما تعلق باغتصاب حقوق الإنسان،وتأسيس نظام عالمي جديد يتصدى للحروب،والعداوات،مشروع يصل بين الطوباويات في سعيها كي تجعل الإنسان يحظى بما هو أفضل وإقامة الجنة على الأرض))،هكذا كتب تودوروف، قبل أن يخلص في جهة أخرى :((من الممكن البقاء عند الشر لكن دون التخلي عن السعي وراء الخير)).
هكذا وبعد مرور خمسون سنة،عن إصداره الأول،الذي اهتم بالشكلانيين الروس،استعاد تودوروف حديثا مع آخر عناوينه أي :''انتصار الفنان :الثورة والفنانين الروس''(2017)،هؤلاء الكتاب والفنانين الذين قرأهم كثيرا واستمع إليهم أو تابعهم.كي نستشف، تأملا رائعا حول التاريخ وعبرة أصيلة إيتيقيا وسياسيا،من خلال صور ذاتية :((إذا أردنا الدفاع عن الكائن البشري ضد القوى الاجتماعية التي تحطمه فلا ينبغي فقط تخيله باعتباره حصيلة مبادئ مجردة،بل استساغة رؤيته ماضيا بآثار مصيره)).
*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017 .
((نتج عن الثورة الروسية ظهور أول دولة توتاليتارية في التاريخ. بعد أن أنكرها بحدة جزء من الرأي العام الأوروبي، شكل اطراد السياق موضوع توافق عام جدا.بالتالي، لا يقتضي الأمر اليوم شجاعة خاصة من أجل استحضار النتائج المشؤومة لثورة أكتوبر.أيضا ملاحظة ذلك يمثل منبعا لنوع من الكبرياء، سيقولون : حسنا ديمقراطياتنا ناقصة، لكنها على أية حال تحظى بالتفضيل قياسا لما يجري عند الأنظمة الشمولية وكذا التيوقراطيين أو الديكتاتوريات العسكرية التي تزدهر في مكان آخر. أليست هذه الصفحة من التاريخ ،قد طُويت تماما بالنسبة لنا؟ألم تمت الشمولية ودفنها،ولن تتكرر عموما قط تلك التجربة الجهنمية داخل أقطارنا !سنكون أكثر فطنة من أجدادنا،ولن نسمح أبدا بإقامة نظام سيئ كهذا.نحن سعداء بالعيش تحت كنف الديمقراطية،وفخورون بذلك،ونرثي لحال الذين أخلفوا هذا الموعد،وكذا تأخرهم بخصوص السعي نحو الأفضل.
إذن لماذا العودة ثانية إلى تلك اللحظة الماضية،هل لازالت تستحق اهتمام أفراد الديمقراطيات الليبرالية في الغرب؟
لقد اتجهت نحو استحضار ذلك،ليس فقط لأني أجد مصير شخصياتي مؤثرا أو لكونه يجسد وقائع درامية، ثم ليس فقط جراء اهتمام بتاريخ يعود إلى كوني أحد المواطنين القدامى لبلد حكمه نظام توتاليتاري،و كذا ماض بعض أقربائي، الذين يكبرونني سنا، بل أيضا نتيجة اعتقادي أن هذا الماضي القديم زهاء قرن تقريبا والذي حدث في بلد اختفى (الاتحاد السوفياتي) ينطوي على شيء يفيدنا نحن مواطني المنظومة الغربية المنتمين للقرن الواحد العشرين.والحال،أن التأكيد على إمكانية القراءة هاته،يعني الإقرار في ذات الوقت بنوع من الاستمرارية أو التشابه بين نمطين للدولة مختلفين جدا،أقصد الأنظمة الشيوعية ماضيا ثم الديمقراطيات الليبرالية حاضرا.
* سجن بئيس :
هذه الخلاصة - لا تتأتى بالنسبة إلي من تلقاء ذاتها- تقتضي بعض التفسيرات.ليس فقط لا تتم من تلقاء ذاتها، لكن لو قرأت هذا أو سمعته قبل خمسين سنة تقريبا،أي قليلا بعد وصولي إلى فرنسا قادما من بلغاريا،لشعرت بالغضب.أولا ستصدم حساسية فرد انتمى سابقا إلى بلد توتاليتاري. لقد علمونا هناك في المدرسة، وعبر وسائل الإعلام، أن كل شيء سيئ "هنا" في الغرب، وعلى النقيض بالطبع ''مختلف مايوجد لدينا'' جيدا، غير أن نتيجة هذه البروباغندا بالنسبة إلي وكذا العديد من الأشخاص،قادت نحو كشف عدم صواب ما يروج له تماما : هناك(أي الغرب)،الرخاء والحرية في ذات الوقت،بينما كنا نعيش بين جدارن سجن،حقا واسعا لكنه كئيبا.
تطلعنا بقوة قصد الانتقال إلى الضفة الأخرى المقابلة للستار الحديدي جعلنا نحكم بالذوق السيئ جدا على كل ملاحظة قد توحي لنا بوجود استمرارية ما بين القطبين. كل واحد منا يعلم أكثر المصير التراجيدي لباقي شعوب البلدان التوتاليتارية، القريبة أو البعيدة، نسيان معاناتهم، ثم مماتلثهم بتجربة أفراد الغرب غير المهتمين،مثلما تخيلنا الوضع،شكل موقف استخفاف غير مقبول نحوهم وكذا مصيرهم،إنه خيانة.
بالتأكيد،بمجرد وصولنا إلى بلدان تلك الديمقراطيات الليبرالية،سندرك حقا أن التناقض لم يكن بذات التباعد، وليس كل الوضع ممتازا في بلدان الاستقبال، لكن بدا لي دائما التعارض بين النظامين السياسيين واضحا جدا،وتلتقي دائما ميولاتي السياسية عند نفس المنطلق.خلال أولى سنوات استقراري في فرنسا، لم تكن لعملي المهني أي نقطة مشتركة مع الأسئلة التي أقاربها هنا (واكتفيت بالاشتغال على الهندسة الداخلية للأعمال الأدبية).
مع ذلك، وانطلاقا من سنوات 1980، استشرف عملي "أسئلة المجتمع''ثم تمرست على نماذج التحليل السياسي والأخلاقي.تحليلات بدت لي مؤيدة لحدوسي السالفة،بحيث تبينت دائما تعارضا مباشرا بين التوتاليتارية والديمقراطية،سواء في بنية المجتمعات المعنية بالأمر وكذا أحكام القيمة التي نضمرها عنها.
* مجتمعان متعارضان :
سنوات 1990،كرست مجموعة من الدراسات حول الأنظمة الشمولية،مستندا على نفس التقطيع المفهومي :لقد أظهرت هذين الصيغتين للمجتمع كنقيضين متعارضين،حتى ولو أدخلت ضمن ذلك بعض أشكال الفروق المتعلقة بالإغراء الذي يمكن أن تثيره الأنظمة الشمولية أو بعض نقائص الديمقراطيات.في عملي التأملي :ذاكرة الشر،السعي إلى الخير(منشورات لافون،2000 ) المخصص لتاريخ أوروبا خلال القرن العشرين ،أوضحت بأن النزاع بين التوتاليتارية والديمقراطية،مثّل الحدث الأكثر أهمية خلال تاريخ هذا القرن، ثم وصفت من جهة ثانية الشمولية السوفياتية أوالنازية، باعتبارهما شيئا جديدا راديكاليا،انبثق خلال تلك اللحظة.
لقد اطلعت على بعض الآراء المختلفة عن تصوراتي، لكنها لم تستأثر باهتمامي رغم أنها صادرة عن أفراد كابدوا شخصيا قساوة النظام الشيوعي.
رغم ذلك، اهتديت مع كتابي ذاك الصادر سنة 2000 ،إلى صياغة نقد كلي للنظام الديمقراطي الذي نعيش في ظله، معتمدا على وقائع معاصرة،كان باعثها المطلق تحولا أسميته منذ زمن بعيد من اعترافاتي ب :نهاية الحرب الباردة، يرمز إليها بسقوط جدار برلين، بمعنى ثان انهيار الأنظمة الشيوعية، داخل أوروبا الشرقية أولا،ثم في روسيا نفسها. صحيح أن هذه الواقعة،تبدو من الوهلة الأولى،مؤكدة للتعارض غير القابل للاختزال بين هذين النمطين من الأنظمة،مادام قد تخلى أحدهما عن مختلف طموحاته،بينما الثاني ظل متمسكا بكل عنصر من مشروعه.واقعة، فسرها كثير من الملاحظين باعتبارها انتصارا للخير على الشر.
مع ذلك أحدثت نتائج هذا الانقلاب -على الأقل فيما يخصني- مفعولا معاكسا.تلاها تفاعلان لم أحدسهما تماما.من جهة ،المجموعة البشرية للبلدان الشيوعية السابقة التي يلزمنا فعلا أن نلاحظ جيدا،كونها لم تعش الانتقال من النظام السابق عن الأشكال الأكثر ديمقراطية للحكم وكذا اقتصاد السوق كخطوة كبيرة نحو السعادة،مثلما (وكذا العديد من الملاحظين المتعاطفين) يتم التطلع إليها : ظاهريا،انطوت تلك التحولات على نتائج أخرى،اعتبرت غير مقنعة.ومن جهة ثانية،تلك المتعلقة بالبلدان الغربية الكبيرة،في طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية،التي استفادت من هذه النهاية ل''توازن الرعب''وكذا التنافس بين المعسكرين""الاشتراكي'' ثم "الرأسمالي"،كي تنهج سياسة هجومية جديدة.تمثل هدفها المعلن في الارتقاء بالقيم الديمقراطية الكبرى وحقوق الإنسان، لكن نتيجتها الوحيدة الجلية اتجهت صوب تعضيد سيطرة تلك البلدان على باقي العالم.لذلك فهي تقترب،بشكل خطير من الممارسات الشمولية الشنيعة .
أفعال من هذا القبيل- تدخلات بالقوة في الشؤون الداخلية لبلدان أخرى- ظهرت أولى إرهاصاتها خلال الحقبة السابقة عن فترة الحرب الباردة، لكنها بدت مقتصرة على منطقة مجاورة (أمريكا اللاتينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية) فضلا عن ذلك ،شكلت جانبا من سياسة إقامة حواجز أمام الخصم الشيوعي،كانت نفسها أسلوبا عدوانيا وإن بكيفية مقبولة.لقد أوحى انهيار جدار برلين عدم حاجة تلك السياسة إلى مبررات من هذا القبيل.حرب الحلف الأطلسي على يوغوسلافيا،المتزامنة مع فترة كتابة هذا العمل،أظهرت إلي حقيقة جديدة :كانت المنظومة الديمقراطية قادرة على نهج مسارات ثانية قريبة من صنيع البلدان الشمولية.
لم تجعلني هذه المقارنة أكثر تساهلا نحو بعض الممارسات الشمولية، لكن حذرا جدا حول بعض تطورات الديمقراطية.هذه الأخيرة حسب مبدئها ليست بنظرية للخلاص، فلا تقدم وعدا عن جنة أرضية،ولا تشرئب غاية الوصول بأفرادها إلى الكمال.لكنها أيضا ربما تأثرت بالجور،والشطط،لاسيما لحظات انتصارها.كل شيء يتم كما لو أن الطوباوية، باعتبارها حتى الآن امتيازا لليسار، قد نعتقد بموتها بعد سقوط الأنظمة الشيوعية،انتقلت يمينا إلى المذاهب المسماة (خطأ)بالمحافظين الجدد،المتبناة أساسا في الولايات المتحدة الأمريكية فترة حكم بوش،وتركت أثرا حول السياسة سيتبع هنا أو هناك.
*توازن أكثر للرعب :
أهداف كتلك بررت الحرب على العراق سنة 2003، بحيث لازالت نتائجها ماثلة سواء في الشرق الأوسط بل وباقي العالم.على هذا النحو،صرح الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش شهر شتنبر 2002 : ((إن مسؤوليتنا أمام التاريخ واضحة : الجواب على هذه الهجومات (11شتنبر2001)وتخليص العالم من الشر)) ،ثم أيام بعد ذلك،وفي إطار كراسة رسمية للبيت الأبيض،سنقرأ معها''المهمة الرسمية''المنوطة بحكومة الولايات المتحدة الأمريكية و''تأكيد انتصار الحرية على أعدائها'' .
منذ أن انتفى توازن الرعب،توالت الحروب التي خاضها الغرب خلف الولايات المتحدة الأمريكية، بغير انقطاع تقريبا،من يوغوسلافيا إلى أوكرانيا،ومن أفغانستان إلى سوريا،ومن الصومال إلى ساحل العاج.
لقد انقادت فرنسا والمملكة المتحدة، الإمبراطوريتان الاستعماريتان القديمتان،وراء الحركة. في فرنسا،تبنى أطروحات المحافظين الجدد اليسار مثل اليمين تماما. هكذا ، يمكننا أن نلاحظ شكلا للمسيحية السياسية سواء مع الأنظمة الشيوعية وكذا الديمقراطيات الليبرالية الحالية.
ممارسة بعيدة على أن تكون الوحيدة التي توحي باستمرارية بين الأنظمة الشمولية خلال القرن العشرين مع التاريخ الأوروبي الذي سبقها وتلاها.استمرارية لا تتجلى في علاقات وحيدة بين بلدان، اعتدنا على رؤيتها منفلتة من كل ضبط (تقوم على ''حالة طبيعية'') ،لكن كذلك في إطار تلك القائمة داخل البلد الواحد بين أفراد وحكوماتها.لم تسقط علينا هذه الأنظمة الشيوعية من كوكب مارس، بل ارتبطت بسمات عديدة مع الأفكار التي أثارت العقول خلال القرون السابقة،والعديد من خصائصها لازالت مستمرة منذ اختفائها، بين طيات العالم الذي نعيش فيه.
* لازالت الطوباوية ماثلة :
نواصل اليوم التماس النظرية المسيحية وكذا الأنوار ثم ماركس ونيتشه والعلم و الإيمان. نحلم دائما بتحسين الجنس البشري رغم اعتمادنا بشكل أقل على قوة التربية وتأثير الوسط مقارنة بالتلاعب في شفرة الوراثة. يتطلع دائما الماسكون بزمام السلطة إلى سيطرة تامة على شعوبهم،حتى ولو اعتمدوا بشكل أقل على شرطة حاضرة كليا وقنوات المخبر،قياسا إلى التكنولوجيا التي تلتقط ''المعطيات الكبرى ''لمختلف تبادلاتنا الاليكترونية.
تحتاج اليوم الديمقراطيات الليبرالية مثل سابقاتها إلى صورة عدو ليس إنسانيا تماما،يلزمها محاربته وإذا أمكن إبادته(لاحرية لأعداء الحرية !)لكن بدل الرأسماليين البورجوازيين،سنجد الإرهابيين الإسلاميين. من نواحي عدة، تتشابه الليبرالية المتوحشة المعاصرة مع الشمولية الشيوعية،أكثر من الليبرالية الكلاسيكية للقرنين 17و. 18 استبداد الأشخاص كالدولة، قد تكون له نتائج جسيمة.
البروميثوسية، الطوباوية ،والسعي إلى الخير بمثابة طرق للتفكير والتأثير حاضرة في عالمنا منذ عصر النهضة والأنوار،ضمنها المجتمعات الشمولية للقرن العشرين وكذا ديمقراطيات الليبراليات المتوحشة المنتمية للقرن الواحد والعشرين. يدفعنا العالم المعاصر،بنفس مستوى المجتمعات الشمولية،فيما يتعلق بكل ميادين الشغل، العدالة،الصحة، التربية،نحو ماسماه : ''آلان سوبيو''ب"الحكم بالأعداد''اتجاه وصف منذ عهد قريب بالتصور المثالي من طرف إنجلز ،أي استبدال ''إدارة الأشياء بحكم الأفراد''.يتواصل، حاليا كما الشأن منذ عهد قريب،مسار التنميط ، التقنين وكذا جعل الأفراد يمتثلون لنفس النموذج السلوكي، كل هذا يؤدي إلى ضبط الفرد بواسطة المجتمع وفي نفس الآن إزالة الصفة الإنسانية عن البشر.
إن الوقوف على هذه المعطيات لضعف الديمقراطية لا يعني أننا نتنازل عن مبدئها المثالي.بل على العكس، مجرد إشارات أولى ينبغي لها أن تحثنا على مزيد من ''الدمقرطة")).
*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017
مرسلة بواسطة Sherif Ahmed في 6:08:00 م ليست هناك تعليقات: إرسال بالبريد الإلكترونيكتابة مدونة حول هذه المشاركةالمشاركة في Twitterالمشاركة في Facebookالمشاركة على Pinterest
التسميات: تزفيتان تودوروف, سعيد بوخليط
الجمعة، 3 مارس 2017
تزفيتان تودوروف : مؤرخ الأفكار، الباحث ،والسيميولوجي*
ترجمة: سعيد بوخليط
سعيد بوخليط
هو مفكر إنساني كبير،غادرنا يوم7 فبراير في مدينة باريس عن عمر يناهز 77سنة،نتيجة مضاعفات انحلال خلوي يصيب الجهاز العصبي.تودوروف السيميولوجي،الناقد الأدبي،المؤرخ الأنثروبولوجي والباحث،عاش مختلف زوابع وكذا المنعطفات الفكرية لعهد مابعد الشيوعية.على الرغم من تحفظه،فقد مثّل ذاكرة للقرن العشرين ومراقبا للقرن الواحد والعشرين.
ولد سنة 1939بمدينة صوفيا البلغارية،قضى تودوروف طفولته تحت كنف النظام الشيوعي ،الأمر الذي طعّمه بلقاح دائم ضد كل ما يحيل على السياسة .زعيم سابق لفرقة"الرواد الصغار"داخل مدرسته،لكنه سيتخلى عن "إيمانه" النضالي في المدرسة الروسية المزدوجة المتواجدة بالعاصمة،سنة 1953مع موت ستالين.
عام 1956،لحظة تقديم تقرير خروتشوف وكذا قمع انتفاضة بودابست،ولج تودوروف الجامعة وحصل مثل جميع الشباب البلغاري والسوفياتي، على تكوين مرتكز على المادية الجدلية وكذا المذهب الستاليني. اختار دراسة الأدب البلغاري موضوعا لبحثه. طريقة ماهرة قصد التحول صوب الأسلوبية ويتخلص من الطوق الإيديولوجي،متحمسا بالتالي لشعرية الفولكلور والحكايات والأغاني الشعبية،بعيدا عن رقابة الحزب.
في إطار حلقة صداقاته للمثقفين،انتشى معهم بتأملات حول الحياة والموت،الخير والشر،معنى الوجود،تصاحبها جلسات سكر لا تنتهي إلا خلال ساعة متأخرة في الليل.تولستوي، دوستويفسكي ،تشيخوف ثم شعراء روس مثل ماياكوفسكي،أثروا خياله وفكره اليقظ رغبة في"تسليط الضوء على لغز فن الكتابة''مثلما أوضح في كتابه :''مقتضيات ومباهج حياة مهرب''(حوارات مع كاترين بورتفان،منشورات سوي،2002):((هذه الحاجة للتخلص من الايديولوجيا كانت مصدر اهتمامي بالشكلانيين الروس،حين وصولي إلى فرنسا)).لأن تزفيتان تودوروف، تمكن من مغادرة بلغاريا ،سنة 1963،بفضل سخاء عمته.
*عصر البنيوية: انطلاقا من إعجاب تودوروف ب إديت بياف و إيف مونتان أكثر من سارتر وبارت،حيث كان يجهل تقريبا كل شيء عنهما ،اهتدى إلى شغفه المهني.بحث في معرفة كيف يصنع الأدب. ليس ما يقوله،لكن كيف يتم ذلك،والشكلانيين الروس مثل كلوفسكي،توماشوفسكي أو بروب،بحيث كرس كتابه الأول''نظرية الأدب''(منشورات سوي،1965)فأضحى تودوروف قادرا على فتح مختلف مغالق الروايات الكبرى.
التقى جيرار جينيت في السوربون،وصار ملازما له وقدمه إلى جماعة ''تيل كيل''نحت إشراف مارسيلان بلينيت وفيليب سولير،فبدأ يحظى بالشهرة.تأثره ب إميل بينفنست و جاكبسون وبارت، دفعه للانكباب على السيميولوجيا.علم يفترض بأن اللغة ليست سوى نظاما من العلامات.اشتغل تودوروف بالأحرى على التقنيات السردية،والتركيب والبناء اللغوي أكثر من الدلالة المعنوية للنصوص الأدبية(الشعرية،1968).إنها الحقبة الكبرى للبنيوية حيث البحث عن المعنى الخفي بين طيات منظومة الرموز والعلامات ثم أنساق القرابة.
أطروحته للسلك الثالث التي ناقشها سنة 1966 ،تناولت بالتحليل مايحمله اختيار''choderlos de laclos'(جنيرال وأحد كتاب الثورة الفرنسية) ،للشكل الرسائلي حين كتابة عمله :''العلاقات الخطيرة''.افتتن بكتابي رولان بارت''حبة الصوت''و"الغرفة المضيئة''(غاليمار،1980 )،حينما كتب الأستاذ اللامع في كوليج دو فرانس،مايناهز عشرين صفحة ميزها إحساس نادر حول وفاة والدته. شرع تزفيتان تودوروف يلتقي بارت باستمرار خلال عشاءات بصحبة سولير وديريدا.دراساته النموذجية حول الأجناس وسجلات الكتابة،مثل ''مدخل إلى الأدب العجائبي''(منشورات سوي،2015 )أو ''معجمه الموسوعي لعلوم اللغة''(1972)بالاشتراك مع أوسوالد ديكرو،سرعان ما تحولت إلى مرجعيات.
*بعيدا عن الراديكالية السياسية :تبلور غليان شهر ماي 1968،في المركز التجريبي ب فانسان،لم يكن تودوروف ضمن هيئة التدريس- كان يشتغل لحظتها في المركز الوطني للبحث العلمي،ثم صار مشرفا على البحث- غير أن مقاربته للأدب وجدت هناك مرتكزا للإرساء .تماما كما الحال بالنسبة لمجلة "الشعرية"،التي أسسها مع جيرار جينيت. مقابل إفراط المثقفين خلال تلك الحقبة،في مباهج الراديكالية السياسية،سنجد بأن تزفيتان تودوروف لم ينجذب نحو ذلك،نظرا للمناعة التي تلقاها خلال طفولته ببلده بلغاريا.يعتقد أن الدوكسا الماركسية –اللينينية شكلت عبئا ثقيلا خنق أنفاس''الثلاثين سنة المشؤومة''(1945-1975) ،للفكر الفرنسي،فلم يتردد في وصف الحركة السياسية لشهر ماي 1968ب''الحرس الخلفي''.
على المستوى الجامعي،وبسبب رغبته في عدم المجازفة بالنصوص جراء الاستعاضة عنها بالميتا- خطاب الذي يترصدها،توخى تودوروف انطلاقا من كتاب :''نظرية العلامات''(1977)،الابتعاد عن البنيوية وعلمويتها.بالتالي،ليس مفاجئا أن يبرز كتابه الأساسي لمرحلته الإنسانية : "نحن والآخرون''(منشورات سوي،1989)،نقدا لنسبوية كلود ليفي شتراوس.
انطلاقا من سنوات الثمانينات،اتجه اهتمام تودوروف نحو تجربة الآخرية.لأنه هو نفسه''شخص مغترب''وغير مقتلع الجذور،يشرح في عمله الذي يحمل نفس العنوان : (الإنسان المغترب،منشورات سوي،1996). إنه''قروي من الدانوب''،انغمس في عالم آخر،وأجنبي حصل على الجنسية الفرنسية سنة 1973،يحمل نظرة جديدة وثاقبة حول بلد الاستقبال.
مع عمله ''غزو أمريكا''(1982)،الذي أبرز إرنان كورتس المغامر الاسباني كابن روحي ل ميكيافيليي،وكذا شارحته الأزتيكية التي تدعى لامالينش، سيطرح تزفيتان تودوروف أنثروبولوجيته الفلسفية،بحيث تحيل هنا على التهجين الثقافي.بخصوص كونية آخريته – أو على حد تعبير الفيلسوف إيمانويل ليفيناس :"إنسانية الإنسان الآخر''- بلغت أوجها مع دراسته''نحن والآخرون''،العمل الذي يناهض في الوقت نفسه النسبوية الثقافية ثم التيار الثقافي الوطني الذي شرع يفرض برنامجه.
فضل تودوروف الاعتدال على الراديكالية،والتحفظ على المغالاة،ثم اللامكان على التجذر،حد إمكانية أن تؤاخذ عليه نوعا من التفاهة.لكن ذلك ليس صحيحا.فالذين اقتربوا منه،تلمسوا جميعهم رقته الأسطورية،إلى جانب نزعته الشكية النقدية ثم نظرته النبيهة بل اللاذعة: "اسمحوا لي أن أكون شيئا ما شكيا''هي بغير شك صيغة تعبيره المفضلة،تؤكد الروائية والباحثة نانسي هوستون،التي التقاها سنة (1978-1979) ،وأثمرت علاقتهما عن طفلين هما ''ليا'' و "ساشا''،ثم ''بوريس" طفل ثالث من زواج ثان.ينزع تودوروف نحو السرد مقابل النظريات، مازجا البورتريهات بالدراسات.
الجانب الأدبي،يشبه التغير بالنسبة للكثيرين تغيرا في الاتجاه.ليس الأدب خطابا بل هو فكر ينقل قيما،يؤكد تزفيتان تودوروف.هكذا يصرخ،وهو العضو في المجلس الوطني لوضع البرامج،حينما كان يشرف عليه الفيلسوف لوك فيري : ((إذا تعلمت ابنتي فقط أن تميز الفارق بين المجاز والكناية،فربما اشمأزت كليا من الشعر)).لكن دون استسلامه قط ل''ديماغوجية ''الجمهوريين المحافظين الذين أرادوا قبل كل شيء إنقاذ الآداب أكثر من اهتمامهم بالبشر. تودوروف الأول ضد تودوروف الثاني،كما لو يسخر من نفسه،عندما أعلن:((ليس فظيعا أن يغادر التلميذ السلك الثانوي دون إدراكه للفرق بين التبئير الداخلي والخارجي،لكن سيكون الأمر خطيرا،إذا لم يعرف مجموعة شعرية اسمها "أزهار الشر")).
*كتابه ''الإمضاء البشري''
وداعا السيميولوجيا،وحده تقريبا صديقه الايطالي أومبرتو إيكو،ظل مهتما إلى أبعد مدى،على نحو رائع ومبتهجا،بعلامات وأساطير حداثتنا،مثل "السمارتفون" والأبطال الخارقين. جوهريا،توجد استمرارية في عمل ومسار تودوروف،ينبغي بلا شك الوقوف عليها في رغبته كي يفهم ''الإمضاء البشري""،على مستوى الكتابة المحلية وكذا الأدب الكوني،من خلال تأملاته للفن التشكيلي الفلمندي وكذا نشأة الفرد لكن أيضا في مسارات الحياة.هذا ماقاده كي يرصد مسارات شخصيات مثالية ك :جيرمان تيليون ،إيتي إيليزوم،نيلسون مانديلا،بل وإدوارد سنودن ،أسماء كانت قادرة على التمرد وعرفت كيف تقول ''لا''.إجمالا،انتقل تودوروف من الاستتيقا إلى الإتيقا،فارتبط ب''المعنى الأخلاقي للتاريخ''كتابات وحيوات.
تمثل المقاومة الفرنسية بشكل أفضل لديه هذه الطريقة لاعتبار أن : ((الحياة الإنسانية ليس لها عَلَما)) مثلما أورد في كتابه''معركة الحرب والسلام''(منشورات سوي،2007 ).هذا المغزى الذي تجلى أحيانا في المعسكرات النازية والشيوعية،لم يتوقف عن إثارة انتباهه،ليس فقط نتيجة لماضيه، لكن كذلك بغاية التفكير في الحاضر(مواجهة التطرف،1991)
لايمكن التشكيك، في المنحى الانتقادي لإنسانيته ،وخاتمة كتابه آخر إصداراته :انتصار الفنانين،الثورة والفنانين الروس(فلاماريون،2017 )،لاتترك بهذا الخصوص أي مجال للريبة. كما لو تعلق الأمر باستحضار لغرامياته الأولى،فقد عاد تودوروف ثانية إلى كتاب أمثال : باسترناك، ماليفيتش، ماياكوفسكي، مانديلستام،والذين مستهم دوامة الانطلاقة السوفياتية وكذا الأضرار الستالينية.
تودوروف،القوي بتجاربه ونقده للأنظمة الشمولية،سيكشف عن التباينات القائمة،لكن خاصة الاستمرارية بين التوتاليتارية والليبرالية المتوحشة.لأنه عبر السعي إلى جعل المجتمعات الغربية، متماثلة وممتثلة،تقوم دوائر سلطوية مختصة،دون نسيان هذه المسيحية السياسية التي تمثل شاهدا على أن مقياس التدخل الغربي، وضع جزءا من العالم على النار والدم.
هذا النقد الشمولي للنظام الديمقراطي،كان أصلا حاضرا في عمله :''ذاكرة الشر،إغواء الخير''(روبير لافون،2000):((إن الرغبة في استئصال الظلم من سطح الأرض أو فقط ما تعلق باغتصاب حقوق الإنسان،وتأسيس نظام عالمي جديد يتصدى للحروب،والعداوات،مشروع يصل بين الطوباويات في سعيها كي تجعل الإنسان يحظى بما هو أفضل وإقامة الجنة على الأرض))،هكذا كتب تودوروف، قبل أن يخلص في جهة أخرى :((من الممكن البقاء عند الشر لكن دون التخلي عن السعي وراء الخير)).
هكذا وبعد مرور خمسون سنة،عن إصداره الأول،الذي اهتم بالشكلانيين الروس،استعاد تودوروف حديثا مع آخر عناوينه أي :''انتصار الفنان :الثورة والفنانين الروس''(2017)،هؤلاء الكتاب والفنانين الذين قرأهم كثيرا واستمع إليهم أو تابعهم.كي نستشف، تأملا رائعا حول التاريخ وعبرة أصيلة إيتيقيا وسياسيا،من خلال صور ذاتية :((إذا أردنا الدفاع عن الكائن البشري ضد القوى الاجتماعية التي تحطمه فلا ينبغي فقط تخيله باعتباره حصيلة مبادئ مجردة،بل استساغة رؤيته ماضيا بآثار مصيره)).
*هامش : جريدة لوموند :الخميس 9 فبراير 2017 .