جواد علي - الفلسفة الإسلامية المتأخرة - 1 -

يختتم أكثر المستشرقين بحوثهم عن الفلسفة الإسلامية بفلسفة المؤرخ والفيلسوف العربي ابن خلدون، كما فعل المستشرق دي بور في كتابه (تاريخ الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب سلس سهل بسيط لا يوجد مثله في البساطة والسهولة في اللغات الأوربية. وكما فعل أغلب من بحث في هذا الموضوع إذا ما استثنينا كتاب المستشرق ماكس هورتن عن (الفلسفة في الإسلام) وهو كتاب لا يستعرض الفلسفة الإسلامية عرضا تاريخياً بل يتتبع الترتيب الفلسفي، ويعالج المواضيع معالجة خاصة لا تخلو من نواقص وهفوات.

على أن هنالك طائفة غير يسيرة من الفلاسفة ظهرت بعد ابن خلدون تركت تراثا فلسفياً مهماً وآثاراً خالدة في عالم الحكمة نبعت في أرض الشرق الأدنى، وفي القرن الحادي عشر الهجري وما بعد كونت جيلاً خاصاً عليه طابع فلسفي خاص.

وفي طليعة أسماء رجال هذا الجيل عربي سوري من جبل عامل هو الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد الحارثي الجباعي العاملي المعروف (بالشيخ البهائي) (المتوفى عام 1030 للهجرة و1622 للميلاد) والمير باقي الداماد (المتوفى سنة 1041 للهجرة و1631 - 1632 للميلاد) والحكيم الشهير الملا صدرا (المتوفى سنة 1050 للهجرة و1640 - 1641 للميلاد) والملا محسن فيضي (المتوفى حوالي سنة 1091 للهجرة 1680 للميلاد) والملا عبد الرزاق اللاهيجي والحاج ملا هادي السبزوادي (المتوفى سنة 1295 للهجرة و1878 للميلاد).

وتغلب على فلسفة هذا الجيل الفلسفة الإشراقية الصوفية، ولذلك عدهم العلماء في عداد الفلاسفة الصوفيين الذين جمعوا بين الرياضة والمجاهدة وبين الحكمة الإشراقية التي ينسبها المسلمون عادة حين ينسبون هذه الفلسفة إلى أفلاطون

والإشراقيون هم أتباع المذهب القائل بحكمة الإشراق من تلاميذ المتصوف الإسلامي الشهير السهروردي المقتول عام 1191 للميلاد؛ غير أن الفلسفة الإشراقية تسبق عهد السهروردي بزمن طويل. وهذه الفلسفة (هي فلسفة روحانية لها في نظرية المعرفة مذهب صوفي وتعبر عن الله وعالم العقول بالنور. والمعرفة الإنسانية في هذا المذهب عبارة عن إلهام من العالم الأعلى يصلنا بواسطة عقول الأفلاك. وأكبر أصحاب هذا المذهب هم: هرمس وأجاثوديمن وانبدوقليس وفيثاغورس وغيرهم. ولأفلاطون صلة بهذا المذهب أكثر من صلة أرسطو به. وهؤلاء الفلاسفة يوصفون غالبا بأنهم أنبياء أو حكماء ملهمون. وقد تأثرت الفلسفة الإسلامية بهذا المذهب منذ نشأتها إلى وقتنا الحاضر تأثراً كبيراً. وأتباع مذهب المشائين في الإسلام متأثرون بالفلسفة الإشراقية بعض الشيء. وربما كان أقلهم تأثراً بها الفيلسوف ابن رشد).

نبغ رجال هذا الجيل في عهد الدولة الصفوية. والدولة الصفوية دولة قامت على أسس صوفية؛ ولذلك راج التصوف في هذا العهد رواجاً عظيما واكتسب صبغة رسمية! فلا عجب أن رأينا فلاسفة هذا العهد فلاسفة صوفيين يأخذون بطريقة الإشراقيين ويروجون الفلسفة الإشراقية التي هي أقرب فلسفة إلى مذاق وعقول المتصوفين.

أما أولئك الذين حملوا البذرة الأولى للحركة العلمية والفلسفية إلى هذه الدولة فقد كانوا من العلماء العرب من سوريا ومن العراق ومن البحرين لاقوا ترحابا والحكومة في حاجة إلى أنصار يؤيدون حركتها ووجدوا تشجيعا في كل مكان ومقام. وكان على رأس من هاجر من سوريا إلى إيران الشيخ الحسين بن عبد الصمد بن شمس الدين العاملي الحارثي من قبيلة بني همدان. هاجر على عهد الشاه طهماسب الصفوي فأسند إليه منصب (الشيخ الإسلام) والشيخ زين الدين علي العاملي المعروف بملشار وكان على رأس من جاء من البحرين الشيخ ماجد البحراني المشهور في علم الحديث والفقه.

درس على أيدي هؤلاء العلماء جماعة من المهاجرين العرب. ومن الوطنيين الفرس. وانتشرت بفضل هؤلاء الكتب العربية وتوسعت حركة التأليف بلغة القرآن. وظهرت طبقة فاقت مشائخها في العلم والشهرة على رأسها الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد العالم السوري المعروف المتوفى سنة 1031 للهجرة. ورث هذا العالم من أبيه الميل إلى التصوف والرياضة حتى عد في قائمة المتصوفين. ونبغ في العلوم الشرعية وفي الفروع الفلسفية على الأخص. وكتب في المعارف الإنسانية التي كانت شائعة في ذلك الوقت فهو دائرة معارف عامة جمعت كل فن وموضوع.

والبهائي صاحب الكشكول وإن كان حكيما ومتصوفا إلا أنه لم ينصرف إلى معالجة الفلسفة وقضايا التصوف انصرافاً كلياً بل عالج المسائل معالجة (الأنسكلوبيدي) الذي يهتم بكل شيء ويبحث عن كل شيء. لم يفعل ذلك في معالجة القضايا الفلسفية والمسائل الصوفية فقط، بل كان ذلك شأنه في كل المواضيع تقريباً (ولذلك كانت كل طائفة من طوائف المسلمين تنسبه إليها) (تراه يعظم كثيراً من الصوفية الأغوياء والملاحدة الأشقياء في جملة من مؤلفاته) مثل مدحه الحسين بن منصور الحلاج وجماعة من المتصوفة الذين تحوم حولهم الشبه. وهذا ما جعل بعض المتعصبين المحافظين أمثال المحدث الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني والعلامة المجلسي وفيض الله التفرشي وأمثالهم يضعفونه في كتبهم ولا يأخذون بروايته. ويغمزون في بعض ميوله ولاسيما في ميوله إلى المتصوفة والتصوف. على أن الرجل ثقة جليل القدر ولا يشك في وثوقه أكثر العلماء.

أما المير محمد باقي الاسترآبادي المعروف بالداماد وهو لقب ورثه من أبيه السيد محمد الذي تزوج من ابنة العالم العربي السوري الشيخ علي بن عبد العال الكركي فعرف به ومعناه (الصهر) فهو فيلسوف عميق التفكير قوي العقل تدل أبحاثه في كتابه (القبسات) على علم غزير في الحكمة والفلسفة ومواضيع علم الكلام.

أما فلسفته فهي فلسفة إشراقية وقد عرف لذلك (بالإشراقي) أو (الإشراق) وأما أشعاره فهي مشرقة الديباجة مسبوكة الأسلوب على طريقة الصوفيين الإشراقيين. وقد أثرت هذه الفلسفة على نفسية تلميذه الشهير المعروف بالملا صدرا وهو صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي أعظم الفلاسفة المتأخرين.

يقول صاحب كتاب روضات الجنات عن الملا صدرا (كان الملا صدرا فائقا على سائر من تقدمه من الحكماء إلى زمن الطوسي منفخاً أساس الإشراق ومفتحا أبواب الفصيحة على طريقة المشائين والرواقيين). ويقصد صاحب روضات الجنات بالمشائين الفلاسفة الأرسطو طاليسيين ويمثلهم كما يقول المستشرق الإنكليزي براون، ابن سينا خير تمثيل. وعلى هذا فتكون فلسفة الملا صدرا فلسفة معاكسة لفلسفة أرسطو وابن سينا كل المعاكسة. أما المستشرق الفرنسي كوبينوه فكان قد ذكر عنه إنه كان من الفلاسفة الذين استمدوا فلسفتهم من الفلسفة الأرسطوطاليسية ومن فلسفة ابن سينا الفيلسوف الذي كان بارعا في هذه الفلسفة دارساً لها وإن لم يكن مقلدا لها تمام التقليد.

والحقيقة أن رأي كوبينو الذي انتقده المستشرق براون هو المذهب الصحيح. فقد استمد الملا صدرا من المنبع الأرسطوطاليسي ومن فلسفة ابن سينا ما شاء أن يستمد؛ وقد سعى فيما بعد لبث فلسفة ابن سينا التي كانت قد اندثرت وماتت في نواحي إيران حتى وجه أنظار الطلاب والباحثين إليها. وقد كان أستاذه المير باقي الداماد من الحريصين على هذه الفلسفة فلا يستبعد أن يكون هذا الحب الذي نجده في كتب الملا صدرا من أثر ذلك التوجيه الذي رسمه أستاذه في كتبه ولاسيما في كتابه الفلسفي الشهير (القبسات). ويستمد الملا صدرا فلسفته في الواقع من منابع كثيرة أهمها أراء اليونانيين ولاسيما آراء أرسطو وتلميذه إبن سينا ومن أفكار المتصوف الشهير محيي الدين بن العربي ومن تعاليم الدين الإسلامي. من القرآن والحديث والسنة النبوية وما جاء عن الأئمة من أقوال.

ولابن عربي المتصوف الشهير وصاحب الآراء المعروفة في عالم التصوف مثل رأيه في (وحدة الوجود) وأفكاره الأخرى التي تعارض ظاهرها الشريعة الإسلامية منزلة عظيمة في نظر الملا صدرا وفي نظر الفلاسفة الآخرين من أهل هذا الجيل. وقد تكون وحدة الرأي ووحدة المشارب والأفكار هي التي جمعت بين الاثنين بين محيي الدين بن العربي وبين الملا صدرا في المذهب الصوفي على تباعد الشخصين. وقد اتهم الملا صدرا نفسه بمثل ما اتهم به ابن العربي؛ ففي كتاب (الأسفار) وهو من أهم كتبه في الفلسفة (كلمات لا تلائم ظاهر الشريعة). وقد دافع عنه أتباعه وأنصاره بمثل ما دافع أتباع محيي الدين بن العربي وأنصاره عنه.

(يتبع)

جواد علي



مجلة الرسالة - العدد 632
بتاريخ: 13 - 08 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...