علي حسين - دعونا نتفلسف.. الميزة الوحيدة اللازمة للفيلسوف انه موسوس بالتفاصيل (19)

في ساعة مبكرة من صباح يوم 25 كانون الاول عام 1642 ، ولد في منزل صغير باحدى قرى الجنوب البريطاني ، طفل ضيئل الجسم ، لم يثـر قدومه أي أهتمام ، حتى ان والدته وهي تنظر اليه أيقنت انه لن يبقى على قيد الحياة حتى المساء ، كان أبوه قد توفى قبل ولادته باسابيع ، لكن ذلك الطفل اليتيم ، سيعيش حتى يبلغ الخامسة والثمانين من عمره ، كان رأسه لا يكاد يستقر فوق عنقه الضعيف العضلات ، ولذلك كان لابد من استعمال فطعة قماش سميكة تُلف حول رقبته


يخلص الكون من السحرة
ذلك الطفل كان اسمه اسحق نيوتن ، لم يكن في سيرة حياته ما يوحي بعبقريته ، وقد ظل التلميذ اسحق نيوتن متخلفا عن زملائه في الدراسة ، حتى انه اكمل دراسته الثانوية وهو في العشرين من عمره ، ليلتحق بعدها بجامعة كمبردج لدراسة الرياضيات ، الا ان وباء الطاعون الذي اجتاح لندن عام 1665 قضى على آماله في اكمال دراسته ، فقد اغلقت ابواب الجامعة ، ليعود نيوتن الى قريته يمضي ايامه في التأمل والصمت ، وكانت هذه التأملات هي الاساس الذي قام عليه انتاجه العلمي . فخلال الثمانية عشر شهراً التي قضاها في القرية اكتشف قوانين الحركة والجاذبية ، واجرى تجارب على الضوء ليثبت ان الضوء الابيض يتألف من جميع الوان الطيف الشمسي ، ولم يكلفه هذا الاكتشاف العظيم ، اكثر من " باوند " استرليني جمعه من امه وعمه وبعض اخواله ليشتري به من سوق القرية قطعا من الزجاج ، يجري عليها تجاربه ، وليبتكر بعد ذلك نوعا من التلسكوب صنعه من العدسات الزجاجية وبقايا المرايا التي اشتراها .
ومثلما كانت حياة نيوتن غريبة ، فقد انتشر حول ابحاثه الكثير من الحكايات الغريبة ، كان من ابرزها انه حين كان جالساً في قريته يتأمل ، تحت شجرة من أشجار التفاح، فإذا بتفاحة تسقط على الارض ، ولمع ذهن الطالب الجامعي مع سقوطها. قال في نفسه متسائلاً: " لماذا سقطت التفاحة الى أسفل، وليس إلى أعلى أو إلى أية جهة أخرى. وهل يمكن ان تكون قوة الجاذبية المؤثرة على التفاحة في الارض هي ذاتها التي تتحكم في حركة الاجرام السماوية ؟ " كان هذا الكلام يعتبر ضربا من الهرطقة ، لأنه وفقاً للفكر السائد وقتها ، كان يفترض بالكواكب ان تتمركز في أماكن ثابتة تخضع للقوانين السماوية خضوعا تاما.
ان من السهل معرفة انه قبل نيوتن ، لم يكن هناك تفسير لحركة الاجسام على الارض او للاجرام في السماء ، وان الناس كانت تعتقد ان مصائرها معلقة بأيدي الارواح الخيرة والشياطين ، في تلك السنوات أنتشرت الشعوذة والسحر والخرافات ، وقد جاء في كتابات الفلاسفة الاغريق وكتب اللاهوت ان الاجسام تتحرك بدافع من مشاعر ورغبات البشر ، وكان اتباع ارسطو يرون ان الاجسام المتحركة لابد لها في النهاية ان تبطىء سرعتها ثم تتوقف لان الارهاق يتملكها ، وان الاجسام تهوي الى الاسفل لانها تشتاق للتوحد مع الارض.
غير ان الرجل الذي نظم هذه الفوضى الكونية كان الى حد ما مشهورا بانعزاله، وبه مساً من جنون العظمة ، كان شديداً مع الآخرين وخاض صراعات كثيرة وطويلة حول افضليته العلمية ، واشتهر ايضا بميله الشديد للصمت حتى انه حين كان عضوا في البرلمان البريطاني لم يسجل انه تكلم في المجلس الا مرة واحدة ، حين احسَّ بتيار هواء بارد فطلب من الحاجب ان يغلق النافذة .
في العام 1666 وبعد ان بلغ نيوتن الثالثة والعشرين من عمره ، نجح في طرد الارواح التي سكنت عالم ارسطو ، بأن قدّم ميكانيكيا جديدة ، حيث وضع ثلاث قوانين للحركة ، تنص على ان الاجسام تتحرك لانها تُسحب بواسطة قوى يمكن قياسها بدقة والتعبير عنها في معادلات بسيطة ، فبدلا من التفكير في رغبات الاجسام عند حركتها ، استطاع نيوتن ان يحدد مسارات كل الاشياء بدءا من اوراق الاشجار المتساقطة الى الصواريخ التي تحلق في الجو الى قذائف المدافع وحتى السحب .
خاض نيوتن معركته العلمية والفلسفية من خلال كتابه الشهير " المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية " الذي نشره في لندن في عام 1687 وفيه عارض نظريات ديكارت في الحركة والكون . وقد تمكن في هذا الكتاب الضخم ان يلخص أفكاره وتجاربه الكثيرة، ويثبت الكثير من القوانين والقواعد. وكان هدفه الأساس من الكتاب وفق برتراند رسل هو : " إثبات أو شرح كيف أن الجاذبية الأرضية تستطيع المحافظة على نظام الكون " ، ويضيف رسل ان نيوتن : " أراد أن يوضح ذلك ليس عن طريق الفلسفة القديمة ، ولكن بطريقته الكمية الفيزيائية الجديدة " . فيما يرى الفيلسوف الالماني هانز ريشبناخ في كتابه الشهير " نشأة الفلسفة العلمية " الذي ترجمه الى العربية فؤاد زكريا ، من ان نيوتن استطاع من خلال هذا الكتاب : " هدم جميع الأفكار الفلسفية القديمة والحديثة " ، ويضيف رشبناخ ان كتاب المبادىء الرياضية للفلسفة الحديثة ، يعد اعظم انجاز في عصر التنوير ، حيث بفضله تحول فلاسفة التنوير عن النموذج الفلسفي الذي وضعه ديكارت ، الى نموذج فلسفي محكوم بالقوانين المتناغمة المنهجية.

****
العقل ليس خرافة
في بريطانيا نفسها ينادي جون لوك عام 1644 بضرورة وجود قانون طبيعي يحكم البشر ويمكن معرفته من خلال العقل البشري ، وطبقا لهذا القانون فان جميع البشر عقلاء ومتساوون في الحقوق الطبيعية في الحياة والحرية والملكية ، ويطلق لوك عبارته الشهيرة :" العقل يعلم سائر الناس الذين يتخذون منه مستشارا ليس إلا ، ان المساواة بينهم جميعا وعدم اعتماد اي منهم على الآخر يعني أنه ينبغي على كل واحد منهم ألا يؤذي الاخر في حياته او صحته او حريته او ممتلكاته " وقد كانت كلمات لوك هذه ايذانا بظهور المذهب التجريبي ، او كما اطلق عليهم جماعة التجريبيون ، وجميعهم من الانكليز ، ومن ابرزهم جون لوك صاحب الكتاب الشهير " مقال في الفهم الانساني " وجورج بركلي مؤلف كتاب "رسالة في مبادىء المعرفة الانسانية" ودايفيد هيوم الذي كتب العديد من المؤلفات كان ابرزها " رسالة في الطبيعة البشرية " ، ويقوم المبدأ الاساسي لهؤلاء التجريبيين على ان الادراك الحسي ( بما في ذلك الملاحظة المباشرة بواسطة الحواس ، والملاحظة غير المباشرة باستخدام الآلات والأجهزة العلمية والتجريب ) هو الطريقة الوحيدة الموثوقة لتحصيل المعرفة واختبار صدقها ، وقد كان هؤلاء الفلاسفة يؤمنون ان الطريقة التي اتبعها نيوتن في اكتشاف قوانين الحركة والجاذبية ، انما استطاع من خلالها ان يضع نظاما فلسفيا جديدا يقوم على التجربة والملاحظة .
ومنذ الايام الاولى لظهور المذهب التجريبي ، اعلن اعضاؤه عن رفضهم للمذهب العقلي الفلسفي ، وبخاصة عند ديكارت ، حيث رفض التجريبيون نظرية الافكار الفطرية التي يؤكد من خلالها ديكارت ان الافكار البديهية الواضحة المتميزة ، هي افكار فطرية بمعنى انها تولد معنا ، وهي مطبوعة في النفس ، ونجد جون لوك يتساءل : " كيف نعرف بوجود هذه الافكار الفطرية عند جميع البشر ؟ وما الدليل الذي يمكن تقديمه لتأييد هذه النظرية؟" ويرد لوك على قول ديكارت بان الافكار الفطرية تعني الافكار التي يرى المرء انها صادقة ، مدى كان لديه التعليم الكافي لفهمها ، من :" ان الناس حين يستطيعون تعلّم فهم هذه الافكار ، لا يعني ان هذه الافكار لابد ان تولد معهم ، او ان تكون فطرية لديهم ، لكنها تعني فقط ان البشر عقلاء وقادرون على التعلّم " .
وبناءً عليه فجون لوك يقول بأن نظرية الافكار الفطرية هراء لا قيمة له : " فالعقل ليس خزانة تُملأ بهذه الافكار الفطرية ، عندما يولد المرء ، فالعقل ورقة بيضاء ، والمسطور فيها انما هو آت من التجربة ، وهذا المسطور من التجربة هو كل ما يمكن للعقل معرفته " .

****
الأبن الخامل
قالت المرأة لجارتها : " بيدو أن ديفي مخلوق طيب ، لكنه للاسف خامل الذهن ، بلا قدرة على الفهم والعمل " ، ولم تكن المرأة تدرك ان ابنها سيحدث ثورة في الفكر الفلسفي ، وانه سيصبح اشبه بمعول يهدد مزاعم الفلاسفة الذين سبقوه .
ولِدَ ديفيد هيوم في اسكتلندا عام 1711 ونشأ في عائلة من الطبقة المتوسطة ، بعد ان اكمل الثانوية كانت رغبة اسرته ان يصبح محاميا ، فدخل كلية الحقوق ، لكنه تركها قبل ان يحصل على الشهادة ، ويخبرنا في سيرته الذاتية بانه :" في الوقت الذي كانت عائلتي مقتنعة بانني اقرأ كتب القانون ، كنت التهم الكتب الفلسفية سراً " . فقد كان يشعر بكراهية شديدة لكل شيء سوى كتب الفلسفة ، ولان عائلته لم تكن غنية بدرجة تسمح للابن بان يتفرغ للقراءة والبحوث ، فقد اضطر الشاب هيوم ان يقوم باعمال بسيطة يحصل منها على مبالغ مالية يشتري فيها الكتب التي تكدست في البيت وفي سيرته الذاتية القصيرة التي حررها صديقه الحميم ادم سميث صاحب كتاب ثروة الأمم نجد هذا الوصف لهيوم :" انسان هادىء الطبع ، لديه القدرة على التحكم في مزاجه ، ذو فكاهة صريحة واجتماعية مرحة ، لديه القدرة على اقامة علاقات ، لكن لديه الاستعداد قليلا للعداوة والبغضاء ، واعتدالا كبيرا في انفعالاته ، على الرغم من خيبة آماله المستمرة "
ونجده يكتب عن نفسه :" لم تكن عائلتي غنية، وكوني الابن الأصغر جعل ميراثي ضئيلا للغاية. ووالدي، الذي كان متعدد المواهب والقدرات، توفى عندما كنتُ رضيعا، فتركنا أنا وأخي الأكبر وأخواتي تحت رعاية والدتي، وهي امرأة ذات جدارة، وقد كرّست نفسها لتنشئتنا وتعليمنا، رغم شبابها وجمالها. ولقد أمضيت سني التعليم التقليدي بنجاح، وقد استولى عليَّ منذ طفولتي شغف بالأدب، وصارت العاطفة المسيطرة على حياتي، ومصدر بهجتي وسعادتي. حتى أنني كنت ألتهمُ كُتبَ سيشرون وفيرجل مثل الطعام " .
عندما بلغ هيوم الثالثة والعشرين من عمره ، رسم خطه لحياته المستقبلية ، ان يستقل ماليا ولا يعتمد على إرث العائلة وهو عقار صغير ، فقرر السفر الى فرنسا ليدرس الادب والفلسفة هناك ، واثناء السنوات التي قضاها في باريس الّف كتابه الشهير " رسالة في الطبيعة البشرية " . وهو الكتاب الذي قوبل بمجموعة من الانتقادات حتى انه قال عن الكتاب ": لقد ولِدَ ميتاً في المطبعة ولا يجب ان أحزن عليه كثيرا "
وقد خامرته في البداية رغبة شديدة في نجاح كتابه " رسالة في الطبيعة البشرية " ،لكنه شعر بالخذلان حين وجد بريطانيا باجمعها تغلي وتضطرب، بسبب كتاب " التحقيق الحُرّ لميدلتون، بينما تمَّ تجاهل كتابه ، وبسبب طبيعة مزاجه، لم تؤثّر هذه الخيبات عليه إلا قليلا، بل ربما لم يكن لها أي أثر. ليقرر عام 1749 ان يذهب الى الريف ليعيش مع أخيه في منزله طوال سنتين، وكانت والدته حينئذ قد توفيت. وهناك كتب مؤلفه الثاني "مقالات سياسية"، وكذلك كتابه "بحث في أصول الأخلاق" ، وهو صياغة جديدة لجزء من كتاب "رسالة في الطبيعة البشرية". ويفرح حين يخبره الناشر أن كتبه (باستثناء "رسالة في الطبيعة البشرية" تعيس الحظ) قد صارت موضوعا للنقاش، وأن مبيعاتها تتنامى بالتدريج، وأن طبعات جديدة صارت مطلوبة. وبدأت تصله خطابات من القساوسة الذين اخذوا يشتمونه .
بعد عامين عاد من جديد الى ادنبرة ليدرس المشهد الفكري العام ، ونراه يخبرنا بان شعورا جديدا تملكه دفعه الى الانطلاق بقوة من جديد ، لقد اكتشف اعمال الفيلسوف الاسكتلندي فرتسيس هتشستون الذي كان يؤكد بان المبادىء الاخلاقية لا تقوم على الدين كما تقول المسيحية ، كما انها لا تقوم على العقل كما زعم افلاطون ، لكنها كما يرى هتشستون تقوم على مشاعرنا ، واحاسيسنا المرتبطة بالقبول او الرفض
وكانت هذه الآراء هي نقطة الانطلاق لهيوم الذي كتب : لماذا لا نطبق وجهة النظر القائلة بان معتقداتنا الاخلاقية ليست آلهية او عقلية ، لكنها تعبر عن مشاعرنا فقط على جميع معتقداتنا ؟ ونراه يكتب فيما بعد ماذا يحدث لو ان مجمل معرفتنا العلمية لم تكن معرفة على الاطلاق ولا تنطوي على أي يقين ، ولا سبيل لإثبات كونها يقينية وكانت تقوم على مجرد شعورنا بصدق ما ندركه حسيّاً؟
وقد جمعت نظرة هيوم الفلسفية الجديدة والمثيرة بين تجريبية لوك وبركلي القائلين بان المعرفة لا تأتي الا عن طريق الادراك الحسي ، والفلسفة الاخلاقية عند هتشسون القائل بان الاحساس او الشعور هو المصدر الوحيد للاخلاقية ، وكانت هذه نقطة انطلاق هيوم نحو فكره القائل بان معرفتنا اليقينية وقوانيننا العلمية ليست سوى مدركات حسية تقودنا مشاعرنا لتصديقها . وبهذا يؤكد هيوم ان كل ما لدينا لا يعدو كونه مدركات حسية ومشاعر، ولذا فمن المشكوك فيه وجود اية معرفة لدينا ، وكل ما لدينا لا يعدو كونه مدركات حسية ومشاعر ، ويتبين لنا من خلال هذه الافكار مدى تطرف مذهب الشك عند هيوم الذي يبدو مذهب الشك الديكارتي متحفظا امامه ، فقد استخدم ديكارت منهج الشك لايجاد اساس للمعرفة اليقينية ، في حين بدا هيوم عازماً على هدم أي اساس للمعرفة اليقينية .
في خريف عام 1729 أُصيب هيوم بانهيار عصبي شديد ، وتملكه الخوف والقلق وظل المرض ملازماً له طيلة خمس سنوات وكان مصحوباً باعراض جسمانية وشعور بالاكتئاب والضعف وفي احدى رسائله لآدم سميث يكتب هيوم :" كان مرضي عبئاً ثقيلاً وقاسياً عليّ " وقد اخبره الطبيب بانه يعاني من داء المثقفين والشعور بأنه ينحدر الى الهاوية ، وحاول هيوم جاهدا مواصلة القراءة والكتابة ، لكنه فشل فقد استنفد اكواما هائلة من الورق دون جدوى فقد كان يشعر باليأس من تقديم اية آراء لها من الدقة والبراعة مما يجعلها تجذب انتباه العالم اليها . ونراه بعد شفائه من المرض يقرر التخلي عن الفلسفة ، لكنه يعود اليها بعد اشهر ، وحاول الحصول على درجة الاستاذية في جامعة ادنبرة لكن طلبه قُوبل بالرفض لأسباب دينية في مقدمتها مذهبه في الشك وازدراؤه للمعتقدات الدينية ، ولم يكن مقدرا لهيوم ان يصبح استاذاً جامعياً في يوم من الايام ، وبحثاً عن الرزق عمل مدرساً خصوصيا ثم سكرتيرا للعديد من الاثرياء وكان بينهم السفير الانكليزي في فرنسا الذي عينه بمنصب سكرتيرا للسفارة البريطانية في باريس ، وهناك يحقق شهرة كبيرة ويرتبط بصداقة مع جان جاك روسو ، الذي قرر ان يسافر معه الى بريطانيا ليصلا اليها في كانون الثاني عام 1766 الى لندن ، لكن سرعان ما بدأت الخلافات تدب ينهما فتتحول الصداقة الى عداوة ، حيث نجد روسو يكتب مقالا عنيفا يهاجم به افكار هيوم ، الذي يرد بمقال أعنف .
في عام 1776 يشعر هيوم بان نهايته قربت فقد كان يعاني من نفس المرض الذي أودى بحياة أمه " مرض القلب " لكنه طل حاضر الذهن ، يرحب بجميع زواره في بيته الجميل الذي بناه بأحد شوارع ادنبره، وحين يزوره احد القساوسة ليحدثه عن الروح وخلودها يفول له :" القول بخلود الروح وبقاء الناس الى الابد اعظم الاوهام واكثرها لا عقلانية فلا بد اذن من المحافظة على نفايات كل عصر ، ولابد من خلق عوالم جديدة لاحتواء هذه الاعداد التي لا تحصى ، وفي هذه الفترة يتفرغ لكتابة سيرة حياته ، وفي الخامس والعشرين من اب سنة 1776 يموت إثر أزمة مرضية ويوصي أن لا يُكتبَ على شاهدة قبره سوى اسمه فقط " ديفيد هيوم " .

****
كيف نحصل على المعرفة العقلية؟
لعل الموضوع الرئيسي لكتاب هيوم " رسالة في الطبيعة البشرية " يتعلق بالسؤال كيف يحصل الانسان على المعرفة العقلية ؟ ، والرأي الذي يخرج به هيوم ، هو ان المصدر الوحيد الذي لامصدر سواه لمعرفتنا ، هو الحواس ، كان روسو يقول ان هيوم اراد العودة الى الطريقة التي يرى فيها الطفل ، العالم قبل ان تجتاح الافكار والتاملات دماغه ، حيث يقول هيوم في مقدمة كتابة ان :" غايته هي دراسة علم الانسان وشرح مبادئ الطبيعة البشرية ، وكما فعل نيوتن من قبل حينما اختزل علم الميكانيكيا ، اريد ان اختزل علم الانسان في مبادئ بسيطة "
والانطباع عند هيوم يطلق على أي احساس او عاطفة او انفعال عندما يظهر للمرة الاولى في اذهاننا ، اما الفكرة عنده فهي نسخة باهتة من الانطباع ، ولاتختلف الفكرة البسيطة عن الانطباع البسيط الا في ظهورها المتاخر ، وفي كونها خافتة بصورة اكبر ، وفي حالة افكار التذكر تكون اكثر خفوتا في افكار التخيل ، انظر الى لون او اسمع صوتاً، تجد ان ادراكك عبارة عن انطباع بسيط ، لكن استرجع هذا اللون او الصوت في ما بعد ، ستجد ان ادراكك عبارة عن فكرة تشبه تماما الانطباع الاصلي ، الا انها ستكون اقل وضوحا ، تخيل لونا مشابها او صوتا ستجد ان فكرتك لاتزال واضحة ، ولكن بصورة اقل ، ولهذا نجد هيوم يميز بين نمطين من التمثل لدى الانسان : الاحاسيس والافكار ، فالاولى هي التصورات الحادة والمباشرة للعالم الخارجي ، في حين ان الثانية هي الذكرى المتعلقة بهذه الاحاسيس ، ويضرب هيوم مثلا ، حين نقرب ايدينا من وعاء ساخن ، في البداية يتكون لدينا على الفور الاحساس بالسخونة وبعدئذ سنفكر بهذه السخونة ، وهذا ما يسميه هيوم " فكرة " والفارق هنا ان الاحساس أقوى بكثير من الفكرة التي تاتي بعده ، وبتعبير اخر ان الاحساس هو الاصلي اما الفكرة فليست الا نسخة باهة ، لان الاحساس هو السبب المباشر للفكرة التي تعشعش في الذاكرة .
وياخذنا هيوم الى مثال اخر يرد به على ديكارت في تصوره الواضح لله فيقول : " اننا نرى الله كائنا ذكياً وطيباً في المطلق وهذا في الواقع تداعي افكار تجمع شيئا من الذكاء وشيئا من الطيبة ، ولو لم نعرف الطبية والذكاء ونحس بهما لما استطعنا ان نبني هذا المفهوم لله ، ونحن نعتبره ايضا اب قاس لكنه عادل ، هنا ايضا تتجمع افكار ثلاث ، الاب والعدل والقسوة، وفي الحالتين تكون صورة الاب هي التي قادتنا الى صورة اب في السماء".
وفي مكان اخر يناقش هيوم قانون السببية الذي يقول لكل حادث سببا وهو ياخذ مثالا على ذلك كرتي بليارد ، ماذا يحدث اذا ما ضربت بالكرة البيضاء كرة سوداء متوقفة ، يجيب ستتحرك الاخيرة ، لماذا لأن الكرة البيضاء ضربتها ، في هذه الحالة سنقول ان الكرة البيضاء هي سبب حركة الكرة السوداء ، ويضيف هيوم اننا رأينا الكرة البيضاء هي سبب حركة الكرة السوداء ، لكن ما لم نراه هو الصلة السببية ، ويريد هيوم ان يصل الى ان القوانين تنتج عن العادة ولم تبن على العقل ، فهي ليست منطقية او غير منطقية، انما هي هكذا وكفى، ونحن لانولد ومعنا افكارنا ، بل ان العالم يقدم لنا كل يوم افكار جديدة
ويعطينا برتراند رسل مثالا على سببية هيوم فيقول ان دجاجة ترى كل يوم ان الطعام يعطى لها بعد لحظات من مرور المزارع ، لابد ان تصل في النهاية الى تصور علاقة سببية بين المزارع والطعام الذي يوضع لها ، واذا لم تعط الطعام يوما ، سيكون ذلك اليوم الذي ياتي فيه المزارع ليقطع رقبتها .
ان تتابع شيئيين في الطبيعة لايعني ان احدهما سبب الاخر، ولهذا يصر هيوم على ان اول واجبات الفيلسوف هي تحذير الناس من الخروج باستنتاجات متسرعة، لان ذلك يعني الوقوع في الخرافات



* نقلا عن جريدة المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...