موريس بلانشو : الأسلوب و''الحق في الموت'' 2/3 ترجمة : سعيد بوخليط

يتناول، بلانشو هنا عالما خفيا؛ ويبدو بأن سطوره هاته تخاطب فاليري، مختزلة السجال : ((كل واحد يدرك عدم إمكانية تقاسم الأدب وبأنه يختار تحديدا مكانه، يقتنع حقا بأننا هنا حيث أردنا أن نكون، ويتعرض لأكبر التباس، لأنه أصلا قد انتقل بكم الأدب بمكر من منحدر إلى ثان، ويعمل على تغييركم نحو ما ليس أنتم عليه. هنا خداعه، وهنا أيضا حقيقته المحتالة)).
بالتأكيد، هذا ما توقعه بدوره فاليري ، لكنه تبين ذلك في إطار سوء الفهم الذي ينم عنه المستقبلي، وليس ماهية الأدب. لكن في نهاية المطاف، أي معنى لهذا ''الما- بعدي "للكتابة، و''الطفل الصامت''، ثم هذا ''الكتاب المزدوج'' لنيكول؟ أي تعريف لهذا الغموض عند بلانشو، أو ما ندعوه بكل بساطة ، أسلوبا ؟
هنا نلج إلى مجازفات الفلسفة : ((الفعل الأول الذي من خلاله جعل آدم نفسه سيدا على الحيوانات تجسد في فرضه لاسم عليهم ، بمعنى دمر وجودهم باعتبارهم موجودات)). يشرح بلانشو فكرة هيغل هذه على النحو التالي : ((توخى هيغل القول أنه انطلاقا من هذه اللحظة تتوقف القطة على أن تكون قطة فقط واقعيا كي تصبح كذلك فكرة. تقتضي دلالة الكلام إذن، كتمهيد لكل كلام، مذبحة ما هائلة، ومقدمة مستفيضة ، يستغرقها بحر يتمم كل الإبداع. لقد خلق الله الكائنات، لكن اقتضى الأمر من الإنسان تعديم وجودها . هكذا اكتست معنى بالنسبة إليه، ثم خلقها بدوره انطلاقا من هذا الموت الذي توارى خلفه؛ فقط،عوض كائنات،وكما نقول موجودات، فليس هناك سوى الكائن، والإنسان حُكم عليه بعدم تناول شيء ولا أن يعيش هذا الشيء سوى بناء على المعنى الذي يلزمه أن يخلقه)).
نرى بجلاء بروز فضاء أدبي وفق رؤية فلسفية. صحيح أنه بالنسبة للفلاسفة المعاصرين، لا يمكن للفكرة، والاسم، التقدم على الحقيقة الغامضة، المعتمة، والسديمة للعالم الذي نسميه وجودا. لكن بلانشو سيستخلص من ذلك صدى أدبيا : يوحي بموقف تراجيدي معين أمام الرؤية. أولا سماها الموت، أو حضور الموت، هذه القدرة التجريدية التي تحذفنا من الوجود، ومصطلح الموت هنا بمثابة مغالاة لغوية، ووصف ذاتي كليا، لأن التجريد لم يقتل أبدا شخصا، فقط يمكنه أن يتم الشعور به كمباشرة لموت الوجود. هذا الاختيار للمأساة انطلاقا من قوة تجريدية مرتبطة حتما باللغة هو اختيار للروح، وللكاتب موريس بلانشو.
ينطوي هذا الاختيار على قيمة أدبية كبرى، موحيا بــ ''ارتعاشة جديدة''، إنه جميل، فهو اختيار استيتيقي. لأنه انطلاقا من الظاهراتية المهيمنة على الفلسفة الحديثة، أضحت اختيارات أخرى ممكنة :ما تعلق بغثيان سارتر، ثم برجسون الذي لايرى مأساة، ولكن عادة مزعجة ضمن استهلاك لمجرداتنا. هناك طلاق أساسي بين الفلسفة والاستيتيقا : لن تشكل أبدا فلسفة مرتكزا مقبولا للإستيقا الأدبية، لأن الفلسفة من صنف المعرفة بينما الأدب من صنف الصدى. بعض المعاينات الفلسفية كانت لها أصداء أدبية خصبة، يشهد هذا التعدد على حرية جوهرية للوعي أمام كل ''إثبات " يكتب بلانشو : ((عندما أنعتُني باسم، فكما لو أتلفظ بنشيد مأتمي : أنفصل عن ذاتي، فأنا لست أبدا حضوري ولا حقيقتي، لكنه حضور موضوعي، لاشخصي،ذاك المتعلق باسمي الذي يتجاوزني يقدم إلي تماما سكونه المتحجر وظيفة شاهدة القبر التي تثقل على الفراغ)). هاهو تنسيق أدبي، إذا لم أبالغ ! ((بالتأكيد، لغتي لا تقتل شخصا. مع ذلك، حينما أقول ''هذه السيدة''، فقد أعلنت عن موت واقعي ثم حضر سلفا ضمن مضمار لغتي : تعني لغتي أن هذه السيدة، الماثلة هنا حاليا، ربما انفصلت عن ذاتها. تنسحب من وجودها وحضورها ثم تنغمس فجأة في اللاوجود واللاحضور : تعني لغتي أساسا إمكانية هذا التقويض، إنها في كل لحظة، إشارة مصممة العزم على واقعة ما. لغتي لا تقتل شخصا. لكن إذا لم تكن هذه السيدة قادرة فعليا على الموت، ولم تكن خلال كل لحظة من حياتها مهددة بالموت، مرتبطة بها ومتوحدة معها حسب صلة ما هوية، فلا يمكنني إتمام هذا الإلغاء المثالي، وهذا الاغتيال المؤجل الذي هو لغتي. من الصواب تحديدا القول حينما أتكلم : الموت تتكلم من خلالي. كلامي إنذار بأن الموت خلال هذه اللحظة ذاتها، منفلتة في العالم)).
نرى النبرة التوراتية، وأصداء القبر، ثم الرؤية الاحتفالية : هي استتيقا تتجلى. سمو افتقدناه ، ذاك المتعلق بأدب ينهض على الموت : في أوج القرن العشرين، ثأر باسكال من فولتير، من هنا عبر هيدغر!
لكن الفلسفات دائما تعيسة تقريبا ، حينما تُتناول في ذاتها. خصوبتها الفنية متغيرة جدا. إنها ثمار جيدة، ينبغي قطفها أحيانا، بالنسبة لكاتب، شريطة انتقالها به نحو ما لم تبلغه بعد، المعرفة. هذه الأفخاخ الملغزة، التي يمكن لأي شيء نزع طعمها، تتوخى بشكل أفضل النفاذ نحو العدم، ثم هاهي فلسفة للموت لا تحلّ على الأقل شيئا، مما شكل امتيازا هائلا بالنسبة لبلانشو. مادام يطارد الموت عبر الكلام، ومادامت الموت، بالمعنى الذي يقصدها، حاضرة في الكلام بكيفية لاتدحض، تستميلنا الشهب النارية التي استمدها منها، لُعب الضوء، الأهوال والإيقاعات، والأفراح كذلك. هاهو إذن الخطر الأصلي في الكلام، هانحن قد أخرجنا ثانية من الجنة ونطارد مثل بهائم : الكلمات مريضة، الموت يلغمها، فأية شموس إذن ننتظر؟ وقد أقمنا على امتداد إمبراطورية هذا الموت الهائل، نحصي ثرواتنا.
أولا، يمنحنا الموت مجالا حيال شعيرة التقنية. تحرير الأدب عند بلانشو من هذه الشعيرة، لايقل إلحاحية بخصوص تحريره من كُتّاب السير، والمؤرخين، والتيولوجيين، والأخلاقيين : ((فالكاتب المدعي بأنه لايهتم سوى بالكيفية التي يتجلى بها العمل، يتورط اهتمامه في العالم، ثم يتيه كليا بين ثنايا التاريخ : لأن العمل يتم كذلك خارجه، وكل الصرامة التي وضعها في وعي عملياته التأملية، وكذا بلاغته المتبصرة، فقد استغرقتها على الفور لعبة إمكانية حدوث، بحيث لايكون قادرا سواء على التمكن منها، بل وملاحظتها)).
لكن أيضا تمنحنا الموت مجالا بالنسبة للسياسة.بالتالي، لن يكون الكاتب ملتزما : ((لأنه إذا لم يكن أولا منتبها لما يقوم به، ولم يهتم بالأدب كعملية خاصة به، فلا يمكنه مجرد أن يكتب : ليس هو من يكتب، بل ولا شخص)).
لذلك فعلاقاته مع القِوى دائما مزيفة : ((مثلا، يكتب روايات، تنطوي هذه الروايات على بعض التأكيدات السياسية، بحيث يظهر كما لو أنه على صلة بهذا السبب. بينما يحاول الآخرون… أن يروا في عمله دليلا على أن القضية هي فعلا قضيته. لكن ما إن يسعون إلى الاهتمام بنشاطه وتملّكه، حتى يدركوا بأن الكاتب ليس متواطئا، وبأنه تواطؤ لا يتم سوى مع ذاته، ثم ما يهمه في القضية تلك، عمليته الخاصة، بالتالي هاهم قد انخدعوا)).
لكن ماذا نقصده إذن بالابتهاج والنور والأمل، إذا كانت الكلمات مريضة ثم التقنية، بالمعنى الذي قصده فاليري، والتاريخ ليس في مقدورهما منحه ملاذا ضد الموت؟ مع ذلك فتجربة الكتابة جد'' مُبرَّرة'' بحيث ينبغي أن تكون لها مع الكلمات بعض : ((خلفيات الموت التي تجعلها باهرة)) وهذه الخلفيات، تعمل أولا على إبراز الموت في قلب الوجود، إنها نشوة ''التسمية''. فالوجود بمثابة ليل خالص وعمى؛ بحيث يعمل الكاتب على إبراز المعنى. مثل دون جوان يقدم وجها تراجيديا ومصيرا للمادة، أنثى كامنة مزقتها أخيرا صرخة، هكذا الكاتب : ((ينتزع كلمات من الصمت))، حسب التعبير العميق جدا لبالزاك. يعمل الكاتب على انبثاق الكائن في العالم ثم يمنح ذاته سعادة خالصة : ((لنفترض العمل مكتوبا : معه يولد الكاتب. قبل ذلك، لم يكن هناك شخص لكي يكتبه؛ انطلاقا من الكتاب يوجد كاتب والذي يمتزج مع كتابه. عندما كتب كافكا صدفة الجملة التالية : ((إنه ينظر عبر النافذة)) ، وجد نفسه – يقول- ضمن نوع من الإلهام مثلما هذه الجملة رائعة سلفا. هو مؤلفها، أو أكثر تحديدا، يعتبر مؤلفا بفضلها: يستمد وجوده من خلالها، لقد أوجدها ثم خلقته بدورها، إنها ذاته ثم ما عليه كليا. من هنا سعادته، سعادة بلا مزيج، ولاشائبة (…). بوسعنا القول أن هذا اليقين كالجنة الداخلية للكاتب)).




مرجع النص :
Manuel de Diéguez :l écrivain et son langage ;Gallimard ;1960.PP149- 172.




سعيد بوخليط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...