عبد القادر وساط - مع الخليل بن أحمد الفراهيدي و أحمد بوزفور في المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء ( قبل قدوم الرباوي)

كنا نحن الثلاثة - الخليل بن أحمد و أحمد بوزفور و عبد ربه- نتجول في رواق البصريين، و نتأمل الكتب الكثيرة المعروضة هناك، و منها ( أخبار النحويين البصريين) للسيرافي و ( كتاب المجاز) لأبي عبيدة و ( كتاب النوادر) لأبي زيد سعيد بن أوس و كتاب( البلاغة ) لأبي العباس المبرد، و غير ذلك من المصنفات النفيسة.
فلما حل موعد التوقيعات ، جلسَ الخليل بن أحمد في زاوية من زوايا الرواق البصْري ، و شرع في توقيع نسخ من كتاب ( العين) و تقديمها للقراء، الذين كانوا منتظمين في صف طويل أمامه. كان بوزفور جالسا عن يمين الشيخ ، في حين كنت أنا عن يساره. و بعد لحظات ، مال عليه أحمد بوزفور و قال له و هو يبتسم:
- أراك توقع باسم الفُرْهودي عوض الفراهيدي...
أجاب الخليل بن أحمد قائلا:
- يا صديقي بوزفور، كان المبرد يسميني الفراهيدي، لأنني من الفراهيد، من الأزْد... أما أبو حاتم فكان يصر على تسميتي بالفُرْهودي ، إذ كان يَذهب إلى أن الفراهيد جَمْع ، و الجمع لا يُنْسَب إليه...و أنا أفَضِّل الفراهيدي و لكنني أكتب الفُرْهودي إجلالا للشيخ أبي حاتم...
و لما انتهى الخليل من كلامه ذاك ، شرع يلتفت يمنة و يسرة و هو يتساءل بصوت خفيض:( أين محمد علي الرباوي؟ لماذا لم يأت ؟ ألا يزال يعاني من التسمم الذي أصابه بعد أن تَناول تلك المضيرة في خيمتي ؟ لقد وعدني أنه سيأتي...)
قلتُ للخليل :
- يا شيخنا، إن الرباوي يعترض على توقيعك لكتاب العين... فهو يرى أنك لم تكتب سوى جزء بسيط منه و أن الليث بن نصر بن سيار هو الذي أتمّه بعد وفاتك..
و عندئذ، نظرَ إلي الخليل نظرة ذات مغزى و لم يعقب .
و بعد أن تعبَ من توقيع النسخ، خرجنا نحن الثلاثة كي نتمشى قليلا و نتفرج على بعض الأروقة. و عنّ لبوزفور أن يضفي بعض المرح على الحديث المتبادل بيننا- و تلك طبيعة سي أحمد- فتوجه إلى الفراهيدي قائلا:
- يا شيخنا، بلغني أن شاعرا يُدعى عمارة بن عقيل قد هجاك بقوله:( لولا الإله و أنني متخوف/ ممّا أقول لَعَنْتُ قبرَ خليل) ( ألقى مسائلَ في العَروض تَغُمُّنا/ منْ فاعلنْ مستفعلنْ و فَعُول)...
فلما سمع الخليل ذلك انفجر ضاحكا، كما يقال. و قد لبث يضحك بضع دقائق، غير عابئ بنظرات الفضوليين. و لما زايلته نوبة الضحك، قال مخاطبا سي أحمد بوزفور:
- أوَ تعرف نسَبَ الرجل الذي قال هذين البيتين ؟إنه حفيدُ الشاعر جرير... فهو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير... و من كانت تَجري في في عروقه دماءُ جرير، لا يَكون إلا هجّاءً خبيث اللسان...قاتله الله ، يهجوني لأنني وضعتُ علمَ العَروض....
ثم إن الشيخ سكتَ بعض الوقت ، قبل أن يستأنف كلامه قائلا:
- يا صديقي بوزفور، لقد تعلقتُ يوما بأستار الكعبة و قلتُ:" اللهم ارزقني علْماً لم يسبقني إليه الأولون، و لا يأخذه إلا عَنّي الآخِرون.." ثم إني رجعتُ فعملتُ العَروض....
كنا قد بلغنا المقهى المقابل لرواق الكوفيين، فدعانا سي أحمد بوزفور بكرمه المعهود لتناول بعض المشروبات. و لما أخذ كل منا مكانه، قلتُ للخليل:
- يا شيخنا الفراهيدي، يزعم الرباوي في أطروحته الجامعية أنك جئتَ بأنواع من الشعر ليست من أوزان العرب... و يَقول إنك كتبتَ قصيدة على ( فَعَلُنْ فَعَلُنْ) :
سُئلوا فأبوا فلقد بخلوا = فلَبئْس لعمْرك ما فعلوا
أبَكَيتَ على طلَل طرباً = فشجاك و أحزنك الطللُ
... كما يقول إنك جئتَ بقصيدة أخرى على ( فَعْلُنْ فَعْلُنْ) :
هذا عمرو يستعفي من = زيد عند الفضل القاضي
و يقول الرباوي - يا شيخنا - إن المحدثين قد استخرجوا من هذين الوزنين وزنا واحدا سمَّوه المُخَلَّع و خلطوا فيه بين هذا و ذاك... مع أن المخلع الذي نعرف نحن هو مخلع البسيط...
و بينما نحن في حديثنا عن المخلع، إذا ببعض المصورين يتوجهون نحونا مسرعين و يشرعون في التقاط الصور للشيخ الفراهيدي و للأديب أحمد بوزفور... ثم لم يلبث أن التحق بهم ( فوج) آخر من حملة آلات التصوير، و اختلط الناس بالناس و عمت الفوضى، فمال عليّ سي أحمد و قال لي بمرحه المعتاد ( احْماضَتْ) ...
و في تلك اللحظة بالذات ، جاء محمد علي الرباوي راكضا ، و شرع يبحث بنظراته عن الخليل بن أحمد... بيد أنه لم يعثر له على أثر. فلما أبصرني، سألني قائلا:
- أين الشيخ الفرهودي؟
قلت له:
- تقصد الفراهيدي ؟ لا أدري، فقد اختفى بكيفية مفاجئة... و الظاهر أنه انسحب دون إثارة الانتباه و مضى ليستريح في غرفته، فهو عليل الجسم كما تعلم...
و سمع سي أحمد كلامي فقال معلقا:
- و كيف يكون عليل الجسم و قد كان طوال حياته يحجُّ سنة و يَغْزو سنة ؟
ثم التفتَ إلى الرباوي و خاطبه قائلا:
- يا صديقي، أنتَ لم تعترف لنا بأنك تناولتَ مضيرة في خيمة الفراهيدي...
ثم أغرقنا نحن الثلاثة في الضحك...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...