"الأصلُ" في الأدب والدراسات الإنسانية وهْمٌ كبير، وقد سعى نقّاد وكتّاب بارزون مثل رولان بارت وخورخي ل. بورخيس إلى البرهنة على استحالة القبض عليه، لأنّ "لا شيءَ من لا شيء"، مثلما قال أرسطو. وعليه، فلا "أصْلَ" في الكتابة مهما ادَّعى ممارسوها ونقادُها، وما التناص سوى دليل يُبطل دعوى المتوهّمين لفكرة "الأصل" والمروِّجين لها.
وعند النظر في التحقيق، بصفته مَبْحثاً علمياً، ينتبه المهتم إلى وضع المحقق الأصلَ نصب عينيه، وإلى اجتهاده في العثور عليه، وفي حال تعذُّر ذلك، يروم المقارنة بين ما يُتاحُ له الوقوف عليه من النسخ، كي يُخرج النص القديم في الصورة التي كان قد أخرجَه فيها مؤلِّفه الأصلي، ليكون مطابقاً لأصله، ولا يدّخر جهداً في ضبطه عبر سلسلة من الإجراءات العلمية المُحْكمة، التي تضمن في نظره قراءتَه قراءةً سليمة، ينبني عليها احترام المبنى والقبض على المعنى، وإخراج ما يَعتقد أنه الأصل إلى الوجود، بعد الاطمئنان إلى عدم خيانته، فيضمن للأصل ولادةً جديدة واستمرارية في الحياة؛ وهكذا يكون عمل المحقّق في شق كبير منه شبيهاً بعمل المترجِم.
يهتمّ المترجِم من جهته بالنص الأصل، وخلافاً للمحقِّق الذي تكون حركتُه داخل اللغة نفسِها، أي ما نعته ر. جاكوبسون بـ Intralingual، تكون حركة المترجِم بين لغتيْن Interlingual، أي بين ثقافتين، وبدوره، يكون مُلاحَقاً بـالخيانة، والإخلال، وسوء الفهم وغيرِها أثناءَ سعيه إلى إخراج الأصل في لغة مضيفةٍ، في صورة تكاد تطابق أصلَه، لأنه يعي جيداً أنّ عمله ليس عملاً ميكانيكياً، تعوِّض فيه كلماتٌ من لغة الوصول (ب) كلماتٍ من لغة الانطلاق (أ)، وإلا لكانت القواميس أغنت الناس عن الترجمة.
يتحرى بعض المترجمين الدقة أثناء الترجمة، فهم لا يكتفون بالتدقيق في المعجم والتركيب والنحو، بل يولون اهتماماً كبيراً بالكفاية التواصلية وبالمكوّن الثقافي في العملية الترجمية. ثم إنّ منهم من يُدقّقون في ضبط أسماء الأماكن، والأشخاص، والوقائع التاريخية، وغيرِها، بوضع هوامشَ توضِّح الغامض في كلام الكاتب، أو تحلّل مواقف، أو تستدرك أخطاء ومغالطاتٍ، وغيرها، بحيث يُمكنها أنْ تؤلِّف وحدَها كتاباً آخر على حدة، ويكون هذا في كتب الرِّحلة والدراسات التاريخية على الخصوص، وليس الأعمال الإبداعية. وتُعدّ ترجمات الدكتور محمد عبد السلام المرابط مثل "يوميات شاهد على حرب إفريقيا" و"ما وراء المضيق" مثالاً مُشْرقاً في هذا الباب.
وإذا كان الخطيب الروماني م.ت. شيشرون (43-106 ق.م.) عالج قضايا مهمة ترتبط بالترجمة، حتى اعتُبر أوَّل منظِّر لها ومُجتَرِحَ كثير من قضاياها، فمما لا شك فيه أن الجاحظ كان من الأوائل الذين أثاروا أموراً في صميمها، ولامسوا إشكالات لها صدى في الدراسات الترجمية الحديثة، وهو أوّل من التفت إلى التقاطع بين تحقيق النصوص وترجمتها؛ فهو القائل، في عمله "كتاب الحيوان"، عن المترجِم: "ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين؛ وذلك أن نسخته لا يعدمها الخطأ، ثم ينسخ له من تلك النسخة من يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاح السقط الذي لا يجده في نسخته".
يُؤكّد الجاحظ على العمل الإضافي الذي يُفترَض أن يزاوله المترجمُ، على عهده بالطبع، وهو عمل قد يتصوَّرُه بعضُهم غيرَ ذي معنى الآن، لكنّ من المترجِمين مَنْ يؤمنون بأنّ مُهِمّات أخرى أَكْبَرَ أضحتْ منوطةً بهم، ويجدون سنَدَهم في الاتجاه الذي "يُدرج الترجمة في خضم العلم الأساسي في الرومانسية الأولى، الذي هو "النقد""، وفق شارل لوبلان، الذي يؤكّد أن الرومانسية لم تتردّد في النظر إلى الترجمة "بمثابة جزء من النقد". وإذا كان التحقيق نقداً بكل معنى الكلمة، فالنتيجة هي أن الصلة وثيقة بين الترجمة والتحقيق.
وعند النظر في التحقيق، بصفته مَبْحثاً علمياً، ينتبه المهتم إلى وضع المحقق الأصلَ نصب عينيه، وإلى اجتهاده في العثور عليه، وفي حال تعذُّر ذلك، يروم المقارنة بين ما يُتاحُ له الوقوف عليه من النسخ، كي يُخرج النص القديم في الصورة التي كان قد أخرجَه فيها مؤلِّفه الأصلي، ليكون مطابقاً لأصله، ولا يدّخر جهداً في ضبطه عبر سلسلة من الإجراءات العلمية المُحْكمة، التي تضمن في نظره قراءتَه قراءةً سليمة، ينبني عليها احترام المبنى والقبض على المعنى، وإخراج ما يَعتقد أنه الأصل إلى الوجود، بعد الاطمئنان إلى عدم خيانته، فيضمن للأصل ولادةً جديدة واستمرارية في الحياة؛ وهكذا يكون عمل المحقّق في شق كبير منه شبيهاً بعمل المترجِم.
يهتمّ المترجِم من جهته بالنص الأصل، وخلافاً للمحقِّق الذي تكون حركتُه داخل اللغة نفسِها، أي ما نعته ر. جاكوبسون بـ Intralingual، تكون حركة المترجِم بين لغتيْن Interlingual، أي بين ثقافتين، وبدوره، يكون مُلاحَقاً بـالخيانة، والإخلال، وسوء الفهم وغيرِها أثناءَ سعيه إلى إخراج الأصل في لغة مضيفةٍ، في صورة تكاد تطابق أصلَه، لأنه يعي جيداً أنّ عمله ليس عملاً ميكانيكياً، تعوِّض فيه كلماتٌ من لغة الوصول (ب) كلماتٍ من لغة الانطلاق (أ)، وإلا لكانت القواميس أغنت الناس عن الترجمة.
يتحرى بعض المترجمين الدقة أثناء الترجمة، فهم لا يكتفون بالتدقيق في المعجم والتركيب والنحو، بل يولون اهتماماً كبيراً بالكفاية التواصلية وبالمكوّن الثقافي في العملية الترجمية. ثم إنّ منهم من يُدقّقون في ضبط أسماء الأماكن، والأشخاص، والوقائع التاريخية، وغيرِها، بوضع هوامشَ توضِّح الغامض في كلام الكاتب، أو تحلّل مواقف، أو تستدرك أخطاء ومغالطاتٍ، وغيرها، بحيث يُمكنها أنْ تؤلِّف وحدَها كتاباً آخر على حدة، ويكون هذا في كتب الرِّحلة والدراسات التاريخية على الخصوص، وليس الأعمال الإبداعية. وتُعدّ ترجمات الدكتور محمد عبد السلام المرابط مثل "يوميات شاهد على حرب إفريقيا" و"ما وراء المضيق" مثالاً مُشْرقاً في هذا الباب.
وإذا كان الخطيب الروماني م.ت. شيشرون (43-106 ق.م.) عالج قضايا مهمة ترتبط بالترجمة، حتى اعتُبر أوَّل منظِّر لها ومُجتَرِحَ كثير من قضاياها، فمما لا شك فيه أن الجاحظ كان من الأوائل الذين أثاروا أموراً في صميمها، ولامسوا إشكالات لها صدى في الدراسات الترجمية الحديثة، وهو أوّل من التفت إلى التقاطع بين تحقيق النصوص وترجمتها؛ فهو القائل، في عمله "كتاب الحيوان"، عن المترجِم: "ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين؛ وذلك أن نسخته لا يعدمها الخطأ، ثم ينسخ له من تلك النسخة من يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاح السقط الذي لا يجده في نسخته".
يُؤكّد الجاحظ على العمل الإضافي الذي يُفترَض أن يزاوله المترجمُ، على عهده بالطبع، وهو عمل قد يتصوَّرُه بعضُهم غيرَ ذي معنى الآن، لكنّ من المترجِمين مَنْ يؤمنون بأنّ مُهِمّات أخرى أَكْبَرَ أضحتْ منوطةً بهم، ويجدون سنَدَهم في الاتجاه الذي "يُدرج الترجمة في خضم العلم الأساسي في الرومانسية الأولى، الذي هو "النقد""، وفق شارل لوبلان، الذي يؤكّد أن الرومانسية لم تتردّد في النظر إلى الترجمة "بمثابة جزء من النقد". وإذا كان التحقيق نقداً بكل معنى الكلمة، فالنتيجة هي أن الصلة وثيقة بين الترجمة والتحقيق.