ساد الاعتقاد لزمن غير يسير بأن التقنية خلاص الإنسانية من جبروت الطبيعة وآفاتها، واستحكمت هذه النظرة عندما استطاع الإنسان أن يخطو درجات لا بأس بها أهَّلّته للسيطرة على كثير من الظواهر الطبيعية. الأمر الذي سمح له بتوسيع حريته وتحسين قدراته، ما كان له بليغ الأثر في تمدن الإنسان، وساهم بقسط كبير في سمو أحاسيسه والانعكاس إيجابيا على الأخلاق الإنسانية.
لكن التقنية ما لبثت أن أصبحت طوفانا يجرف كل ما يلقاه، عندما نزعت من الإنسان آدميته وأغرقته في أوحال الاغتراب وجعلت منه دمية بين أنياب الآلات ومخالبها، ولعل هيدجر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين تناولوا التقنية بشكل غير مألوف. ولعل الرجوع إلى مقارنة بين أبرز فيلسوف يهاجم التقنية )هيدجر( ومن يدافع عنها)ماركس( سيوضح الأمر كيف يحاول هابرماس رائد مدرسة فرانكفورت الثانية تجاوز مخلفات الإرث الفينومينولوجي الهيرمينوطيقي) التأويلي( والماركسي الكلاسيكي على حد سواء.
انتقد هيدجر(1976-1889) التعريف السائد للتقنية كأداة ووسيلة لتحقيق هدف، كما التعريف الأنثروبولوجي الذي يرى فيها نشاطا واعيا للإنسان على حد سواء. إذ في الغالب ما تدور تعبيرات التقنية الشائعة حول طابع جوهري يميزها بمظهرين متساوقين يطلق عليهما ”المظهر الأنثروبولوجي“ و“الأداتي”، وطبقا لهذا التصور تصبح التقنية” فعلا” إنسانيا حضاريا و”وسيلة من أجل غاية” تنتظمان الواحدة والأخرى منها لإشباع ”حاجياته[1]” . ولدعم الطابع الأنثروبولوجي للتقنية يعمد المفكرون إلى تقديم حجتين: الأولى منها تجزم بأنها مؤسسة على العلوم الطبيعية الحديثة وتعد إحدى تطبيقاتها الملموسة، فلقد أصبحت هذه العلوم بفضل اختراعاتها الخارقة إحدى أبرز الفتوحات الإنسانية التي جعلت التقنية تنتمي للحضارة ومشروع الأنسنة، ولا يمكن تقييمها إلا بربط مساهمتها في تطور الثقافة الإنسانية.
ومن هذا التحديد الأنثروبولوجي للتقنية ينحدر طابعها الأداتي:<< تمر التقنية عبر شيىْ ما يستعمله الإنسان بغاية تحقيق منفعة>>[ii][2]. والهدف من ذلك إعطاء مبدأ موحد لتاريخ التقنية، يشمل كل مراحلها منذ أن صنع الإنسان أول فأس بدائية إلى غاية صناعته لمحطات الرادار والمحطات الفضائية. فحتما هناك بون شاسع في التعقيد التقني، لكنه لا يعد أن يكون في الدرجة وليس في الطبيعة، فكلها أدوات ووسائل تنتج بغاية أهداف محددة.
وبغاية دعم هذا الأفق تعتبر أداتية التقنية حيادية لأنها تميز دور الإنسان الفعلي بوضع شروط عادلة في علاقته بالتقنية إذا ما وجهها إلى غايات روحية، ولقد تزايدت هذه الضرورة بعدما أصبحت التقنية قاب قوسين أو أدنى من الانفلات من قبضة الإنسان ومراقبته[iii][3].
إن تمثل التقنية داخل مدار الأنثروبولوجيا والأداتية يبدو جد متطابقا في أعيننا مع ما يجري، غير أنه مخادع على أكثر من صعيد. ويرجع ذلك بالأساس في محاضرة هيدجر لغة التقاليد ولغة التقنية[iv][4] لى انسجامها مع النموذج التأويلي السائد الذي نفهم من خلاله الأشياء والكون: ذات-موضوع. يبين هيدجر عدم جدية هذا التصور بالرجوع إلى التصور الأنثروبولوجي- الأداتي وامتحان أطروحاته الشائعة والمسلم بها: التقنية كعلم تطبيقي وكأداة خاضعة أو ستخضع لمراقبة الإنسان.
وإذا ما كانت التقنية تمر عبر تطبيق فعلي لعلوم الطبيعة وتخضع للمراقبة النظرية، فذلك لم يعد يقبل به اليوم الفيزيائيون والمهندسون على حد سواء. فلقد انتفت واقعية هذه الأطروحة بعد ما كانت فيما مضى لها نصيب من الواقعية عندما كانت الأدوات منظمة بأهداف تجريبية. وفي المقابل أصبحت النظرية الخالصة اليوم معادلة رياضية بامتياز، وبالتالي باتت إجرائية وقابلة للتطبيق.
ولعل أبلغ حالة في هذا المضمار ما نشاهده في الفيزياء النووية:<< حيث الأجهزة التقنية المستعملة من طرف الملاحظين في تجربة ما، تحدد كلما مرة ما يمكن أو لا يمكن ملامسته من التمظهرات النووية>>[v][5]. وتبعا لذلك إذا أصبحت التقنية عاملا محددا في تحيين الوقائع العلمية، وإذا ما كانت تتوفر في صلب بنيتها على شيىْ ينحدر من المعرفة، فليس من الممكن اعتبارها مجرد تطبيق للعلوم النظرية. لذلك نرى عالما فيزيائيا من طراز هايزنبرغ (Heisenberg) يتكلم عن <<التشابك المزدوج>> بين العلم والتقنية وإن لم يتساءل حول جوهر هذا التزاوج المتبادل.
وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه المفكرون بما يعرف اليوم ب<< التقانية العلمية>>[vi][6]. أما بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في التقنية، قائلا قولته الشهيرة:<< التقنية في كينونتها شيىْ لا يستطيع الإنسان التحكم فيه>>[vii][7] ونحن بمعرض هذه النقطة، لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل: فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على<< القوة المتخفية بين ثنايا التقنية المعاصرة التي تحدد علاقة الإنسان مع ما يوجد>>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة.
تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ << يبدو صحيحا أن النجاحات المتسارعة للتطور الباهر للتقنية لا تترك أو تعطي انطباعا بأن الإنسان سيصبح سيد التقنية. فالحقيقة، تؤكد أن الإنسان أصبح خادما للقوة التي تسيطر على كل إنتاج تقني من جميع الجوانب >>[viii][8].
ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل.
وكما لم يسلم من نقده هؤلاء اللذين يعتبرون التقنية مضادة للميتافيزيقا لأنه يعتبرها ميتافيزيقا مكتملة، مكّنت من تحقيق حلم الميتافيزيقا الأزلي لما جعلت المعرفة ملتحمة بأشياء تلمسها وتعيها الذات العارفة. لذا فالرأي الشائع بأن التقنية لا علاقة لها بالميتافيزيقا، لا يجد مكانا للاعتراف به في فلسفة هيدجر. فهي الميتافيزيقا بعينها.
يعود بنا هيدجر محذرا بأن التقنية لا تتمثل في ما تمنحه بصفة ظاهرة: أشياء ووسائل وأدوات ومركبات تقنية وتحديث قوى الإنتاج أو سيرورتها:<< إن جوهر التقنية ليس إنسانيا. فجوهر التقنية لا يمت قبل كل شيىْ بأي صلة للتقنية >>[ix][9].
تبدو هذه الأطروحة جد مفارقة ومختلفة عن جميع التصورات المعروضة حول التقنية، لأن المشروع الذي يوجد في صلب التقنية ليس منجزا إنسانيا ولكنه ميتافيزيقا تلف جميع مجالات الواقع ولا تقتصر فقط على الآلات.
لقد أرست الميتافيزيقا أسس التقنية حينما جعلت معيار الحقيقة ـ منذ الفلسفة الإغريقيةـ مطابقة الفكر للواقع، مما مهد لأن تحتكر العلوم الوضعية الحقيقة لوحدها، وبدأ ذلك يتضح رويدا رويدا منذ الثورة العلمية التي أحدثها العالم الفلكي جاليليو(1642-1564) الذي دمر الرؤية الكنسية للعالم وغير من نظرة الإنسان الميثولوجية والغيبية للكون، لتقوم على الملاحظة الفيزيائية والدقة الموضوعية. وتأكّد ذلك في عصر النهضة الذي حدد فيه ديكارت هدف العقل في << أن نصير سادة الطبيعة>> لا عبيدها، وعلى النحو الذي يسمح بتسخيرها و”استعبادها“ كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف دان سكوت. ومن ثم تسنى للعلم أن يلعب دوره الهام بوصفه أداة تساعد في السيطرة عليها كما قال فرنسيس بيكون.
لقد أوقدت هذه الرغبة المستعرة للإنسان سبيلا إلى البحث المستمر على حقائق الكون وفهم ظواهره بشكل علمي، وبمقدار ما تتطور السمتان الأساسيتان للفعل البشري: ”المعرفة و”المصلحة” (Connaissance et Intérêt)، تتدخل الإرادة الإنسانية لتطويع النظرية العلمية في تعديل الأشياء وتغيير الواقع، بل قل أنها أصبحت اليوم قادرة على تغيير الطبيعة البشرية كالمزج بين الجينات والقدرة على الاستنساخ البيولوجي وتعطيل الشيخوخة أو اختيار طبيعة النسل: ذكرا أو أنثى، إذ بلغت التقنية شأوا غدت بموجبه“إرادة الإرادة“.
ولكي نتبين قصد هيدجر من ذلك، يمكن الاستدلال بأن الإرادة الأولى هي التي تحدد الإطار الذي يتم من خلاله توظيف الإرادة الإنسانية، بمعنى أن الجوهر الميتافيزيقي للتقنية يفسره شعور البشر بأن إرادتهم تتجاوزها أشياء من صنع أيديهم حيث أصبح الإنسان مكبَّلا في كل مكان بقيود التقنية.
يتجلى ذلك في نموها البالغ السرعة وبصورة رجائحية ومفاجئة أغلب الأحيان، ولا أبلغ من ذلك، أننا أصبحنا مدينين للكهرباء وآلات الطبخ والغسيل ومكيفات الهواء لا نستطيع منها فكاكا. منه ما يقوله هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد: إن<< الناس يتعرفون على أنفسهم في سلعتهم، يجدون أرواحهم في سيارتهم، في أجهزة الهاي–فاي العائدة لهم، في بيوتهم المسواة، وفي تجهيزات مطابخهم>>. فقيمهم متسقة مع علاقات التسويق والاستهلاك، لا تستطيع عنها بديلا أو تبديلا.
لقد أدى تقدم تقنياتنا المذهل والطواعية والدقة اللتان توصلت إليهما، بالإضافة إلى العادات والأفكار التي أوجدتها وقوع تغييرات عميقة في حياة الإنسان، إذ يستحيل اليوم أن نرى إلى المادة والمكان والزمان كما كان يحدث في الماضي.
لقد انفلت العالم إلى أشكال ممزقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى.
ولعل كتاب نيتشه وراء الخير والشر (1882)، يصور بدقة عالما معاصرا يحبل كل شيىْ فيه بنقيضه:<< في لحظات الانعطاف التاريخية هذه تتجلى متجاورة ومتداخلة ببعضها غالبا حركات نمو وصراع رائعة متعددة الوجوه أشبه بالغابة، نوع من الإيقاع الاستوائي في عملية التطور مع حركة هائلة للتدمير والتدمير الذاتي بفضل الأنانيات المتعارضة تعارضا عنيفا والمتفجرة والمتصارعة فيما بينها من أجل الشمس والنور، غير قادرة على الاهتداء إلى أية حدود أو قيود وأي احترام أو اعتبار في إطار الأخلاق الموجودة تحت تصرفها… لاشيىْ غير” الأسئلة“ الجديدة والصيغ الجماعية لم تعد موجودة، هناك “لاء“ جديدة تستند إلى سوء التفاهم وانعدام الاحترام وثمة انحطاط وشر مستطير مع أسمى الرغبات المجتمعة مع بعضها بشكل مخيف، ثمة عبقرية الجنس تفيض فوق أطر الخير والشر وتزامن مصيري بين الربيع والخريف… مرة أخرى هناك خطر، وهو أم الأخلاق – خطر هائل–. لكنه الآن موضوع خطر على الفرد، على الأقرب والأغر، على الشارع، على الابن بالذات، على القلب بالذات، على أعمق الملاذات السرية للتمني والإرادة>>. وهذا ما يفسر الصرخة المدوية التي أطلقها نيتشه وما زالت تصدح في الآفاق:<< احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والانتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيئ لا محالة. إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناما جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته>>.
يتم ذلك وفق ما نعت به عالم الاجتماع الألماني ماكس فـيبر(1920-1864) تقنية هذا العصر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بالـ” قفص الحديدي“، إذ أن نظامها التقني والبيروقراطي:<< يُجدد حياة كل الأفراد الذين ولدوا داخل هذه الآلية بقوة لا تقاوم>> وببأس شديد. فالبنسبة لفيـبر مثلا، ليس معاصروه إلاّ:<< اختصاصيين بلا أرواح، شهوانيين بلا قلوب. وبهذه اللاّشيئية وهذا الانعدام، نجدهم غارقين في الوهم القائم أنهما حققا مستوى من التطور لم يسبق للبشرية أن حققت مثله>>. إن جميع الناس فيه إنما تمت صياغتهم وفقا لشباكه وقضبانه، فنحن كائنات بلا أرواح وبلا قلوب وبلا هويات جنسية أو شخصية.
إن الإنسان الذي تمنى يوما ما أن تجعل منه التقنية سيدا صار به الحال عبدا للأدوات التي أنتجها، مما ساعد في عدم شعوره بالأمان وازدياد مظاهر القلق والاكتئاب إلى حد بلغت فيه روحه كما سمي سارتر روايته الشهيرة: الغثيانnausée” ”La ، وأصبح في الوقت نفسه أسرى صدمات وتشنجات عنيفة بالمقدار نفسه الذي يحس بأنه مشحون بقوة حيوية تضخم كينونته كلها.
يلغي هذا الفهم عند هيدجر حياد التقنية وهو رأي متداول وشائع بعد أن ساد الاعتقاد بأنها في حد ذاتها ليست خير أو شر كله، بل يتوقف الأمر على كيفية استخدامنا لها، والمثال الذي يجري تقديمه كل مرة و بكل أريحية، هو الطاقة الذرية التي يمكن أن تستخدم لغرض سلمي أو غرض مدمر.
يعارض هيدجر هذا المفهوم الماركسي أشد الاعتراض، ويرى أنه في اللحظة التي تنطلي علينا حيلة أن التقنية محايدة نضل سواء السبيل ونقع في المحظور ونوقع صك نهايتنا وبأسوأ الأشكال. ويفسر ذلك بأن الأزمة لا تنبع من وظائف ما يصدره الإنسان بعد اكتمال المنجز التقني، لكنها تبدأ أصلا من أسسه حتى قبل الشروع في إنجازه. فالتقنية نوع من اللعبة الخبيثة التي تجيد إطباق فخاخها على الإنسان، لأنها تنطوي على مفارقة كامنة في صلبها، فيكون المتحقّق منها دائما عكس المرجو، وبطريقة مفاجئة أغلب الأحيان.
وإذا كانت التقنية واختراعاتها تفتتنا بسحرها ما دام عالمها غرائبيا، فهي أيضا عالم شيطاني مرعب، عالم يخرج من دائرة التحكم، عالم يهدد ويهدم بشكل أعمى وهو يتحرك كاسحا كل ما حوله. ولا أدلّ على ذلك إذا أردنا أن نستخدم مجازا يقارب ما يذهب إليه هيدجر، شخصية فرانكشتينFrankenstein)) لماري شيلي Marry Shelle. فهاته الشخصية الغريبة تمثل في مسعاها البشري سعي الإنسان اللامحدود لتوسيع الطاقة والقدرة الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. لكن صنيعهما ينقلب إلى وحش ضاري تنفجر في وجهه بصورة لا عقلانية وغير منتظرة وبنتائج كارثية.
فإذا كانت الميتافيزيقا دشنت مشروع فهم أصل العالم والمجرّدات، فلقد انطلقت التقنية شيئا فشيئا لتصبح ”ميتافيزيقا مكتملة” في العالم المعاصر، تقارب حلم الفلسفة الأول في فهم العالم، وخير دليل على ذلك مظاهرها التالية: تطور لانهائي، خلق وتجديد أزليين يطبعها في جميع ميادين الحياة، فهي الآن ثورة مستمرة…
فهي مشحونة بأكثر أشكال الفرح غبطة وحبورا كمصل البنسلين وبأحلك ألوان المرارة سوادا كمرض جنون البقر والالتهاب الرئوي اللانمطي، إنها فرانكشتين جديدة، بل أصبحت أيضا قادرة على التدمير و جعل الحروب مربحة. إنها بمثابة دوران حلزوني يدور على نفسه إلى ما لانهاية، يحاول تجريب جميع البناءات والتركيبات الممكنة التي يحبل بها.
أليس الأمر كما رصده أدورنو في كتابه الكبير Dialectique négative:<< ليس هناك من تاريخ كوني يفضي من العبودية إلى نزعة محبة للإنسانية، وإنما هنالك تاريخ يفضي من المقلاع إلى القنبلة التي تعادل قوتها قوة مليون طن من ال ت.ن.ت… فهو التاريخ الواحد الوحيد الذي لا يزال يتكررّ إلى هذا اليوم مع– وقفة بين لحظة وأخرى لالتقاط الأنفاس– وغايته أن يكون ألما مطلقا>>. (320:1937)
يبدو الإنسان في هذا العصر<< بدون سلطة على مصير الوجود وبالتالي لا يجب عليه[حسب هيدجرِ] أن يشرع في أي نشاط أو تمرد، وإلا سقط في فخ الفكرٍِ[ الأداتي] الحاسب والتقانية، فلا يوجد فعل إنساني يمكنه أن يغير جوهر التقنية>>.
يتصور هيدجر الإنسان قذف في الوجود، وهو وصف أكثر وضوحا لانعزالية الفرد، فالإنسان ليس فقط غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء أو الأشخاص خارج ذاته، بل أصبح من المستحيل نظريا إنشاء تحديد نظري لأصل الوجود الإنساني وأهدافه، ومن ثم أصبح الإنسان كائنا غير تاريخي. لكن هابرماس يرفض أن يكون الأفق مسدودا والمستقبل مظلما، ويتهم فكر هيدجر بالاستسلامية والقدرية. ويؤكد بأن لدى أفراد هذا العصر القدرة على فهم هذا العصر من جهة، وعلى تغييره بعد فهمه من جهة ثانية.
فإذا كان هابرماس يدين لهيدجر رائد الفينومينولوجيا التأويلية بالقدرة على استكناه العالم المعاصر واستشراف قضاياه، فإنه يأمل عبر تأسيسه لتأويلية نقدية Herméneutique critique تجاوز هيدجر لفهم العالم ونقد رؤيته للكون بغية تحرير الإنسان. ولا غرابة من أن يعتبر هابرماس مع ذلك)[1971]، 1974) كتاب هيدجر الكينونة والزمان[x][10] << أهم حدث فلسفي منذ ظاهريات العقل لهيغل>> لاسيما الفصل السادس الذي يتمحور على الخطاب، حيث يحقق هيدجر قفزة نوعية في تجاوز فلسفة الوعي عبر إطار اللغة، وهو بمثابة موت معلن للديكارتية.
يعمد هيدجر على تخليص الفكر من نزعته المتعالية وتقديم مقاربة تاريخانية تتجاوز فلسفة الوعي الذاتي، وإن قامت على تأويلية وجوديةHerméneutique existentiale . فالمهم عند هابرماس يتجلى مقياس القيمة الفلسفية للفكر في بعده البرهاني اللغوي، وهيدجر اقترب من ذلك بكثير. لكن ذلك لم يمر من دون نقد شديد وصارم له، لاسيما نظرته النخبوية للحقيقة، أو ما يسميه صيرورة الحقيقة devenir de la vérité التي يدعي أنه يلامسها وعلى مقربة منها، من دون أن يعرض الحجة على ذلك، بل يرفض ضرورة التحقق من صلاحية قضاياه الفلسفية، لأنهل لا تقوم على” قوة”عقلانية تمكنه من حمل مخاطبه على الاعتقاد بها بعد البرهنة عليها.
لذلك فإذا تملك الإنسان الرؤية العقلانية النقدية فهو مستعد لأن ينقلب على نفسه ويسائل وينفي أو يحاور كل ما قيل أو سبق أن آمن به، ويحولها إلى سلسلة من الأسئلة الجريئة ومن الأصوات المتناغمة والمتضاربة، تتعايش فيه رؤى الآخرين المنطقية. ولأن يستطيل ويتمدد أفقه إلى أبعد حدود طاقته لتصبح حقائقه مبنية على صحيح البرهان والمحاججة.
إن التواصل العقلاني والاحتكام إلى المحاججة والبرهان من صنائع العقل ومميزاته اللذان يفضحان الأوهام المزيفة وكل أصناف الخداع المستشري في الإشهار السياسي والاقتصادي والتقني، ويستطيعان تعرية الذات من نرجسيتها وأنانيتها وأوهامها: إنهما يكشفان أصول الرغائب والدوافع غير القابلة للإشباع.
إن صوت العقل مؤمن بقدرته على اختراق الأقنعة وتجاوز المطبات، فحتى أعمق الجروح وأقساها لا تستطيع إيقاف تدفق طاقة البرهان الخلاقة وفيضانه الخصب. إن تبادل الحجج واللجاج المصاحب لها منع لكل دوغمائية واتكالية. فالبرهان الخطابي عند هابرماس صوت متعدد الأصوات، حواري وجدلي يدين الحياة الحديثة وتقنياتها لما تجانب الصواب باسم مشروع الحداثة نفسها، آملا أن يعلو شأن العقل في كل ميادين الحياة وأن تشفى الجروح التي تمزق رجال حداثة اليوم ونسائه.
يريد هابرماس البحث عن حل عقلاني للتقنية التي أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية، بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها. فلا سبيل إذن للهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله، ولا مناص أيضا بالاعتراف أن التقنية تعمل بشكل مختلف عن الأيديولوجيات التقليدية لتبرير شرعيتها، وما يميز التقنية عن الأيديولوجيا أنها استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات.
نتبين ذلك جيدا عندما يعود هابرماس إلى ماركس الذي كان أول هلل للعلم ورفع شعار التقدم والتمايز الذي ظهر بين المجالات، بحيث صرنا قاب قوسين أو أدنى من تسخير الطبيعة والتحكم بها بفضل العلم. الأمر الذي مهد من انتقال آليات التحكم بالطبيعة إلى مجال الحياة الاجتماعية ذاتها. فصرنا نحاول تنظيم حياتنا بغاية الفعالية والنجاعة والتنظيم الحسن والترشيد المعقلن الذي يذلل تطويعها إلى أبعد حد. ومن أهم مظاهرها في عالمنا المعاصر التكنوقراطية صنوة التقنية إن لم تكن صنيعتها:<< فمن جانب، نلاحظ أن الوعي التكنوقراطي “أقل أيديولوجية“ من الأيديولوجيات السابقة (الماورائية والميتافيزيقية منها)، لأنه يستأنس بالخبرة المقدمة وليس له اهتمام بأحاسيس الإنسان والتقاليد الأبوية الرحيمة، بل يجهز عليها إجهازا.
ومن جانب آخر، إن الأيديولوجيات الأكثر شفافية اليوم والتي تسود في خلفياتنا وتجعل من العلم صنما، لا تقاوم وتذهب أبعد من الأيديولوجيات التقليدية، لأنها بحجبها لمشاكل العدالة الاجتماعية والمساواة لا تبرر فقط مصلحة جزئية في السيادة لطبقة محددة، وإنما تقمع في نفس الوقت مصلحة جزئية في التحرر لطبقة أخرى، بل لأنها أيضا تضر بمصلحة الجنس البشري كله في التحرر>>[xi][11]
مرد ذلك أن ماركس يثق في التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الاستيهام الحالم والأسطورة لأنها محايدة، وهي إيجابية لأنها مرتبطة بتقدم العقل البشري، كما أنه يفترض من خلالها تطورا مطردا لهذه التقدم نتجاوز بموجبه تفسيرات الإلهام السحري للطبيعة التي يسعى العلم أن يكبح جماحها ويشل قدراتها والتي ينتقدها في حينها.
ولا يتميز كل من ماركس وانجلز عن ما سواهم من المؤرخين بتفضيلهم للعلاقة الموجودة بين العلم والتقنية فحسب، ولكن لأنهما غيَّرا معنى طبيعة العلاقة التي جرت العادة إعطاءها لهما. فمن دون شك يشجع تطور العلم تطور التقنية، لكن التأثير العكسي هو ما يبدو في نظريهما جدير بالأهمية في هذه العلاقة الجدلية:<< إذا كانت التقنية كما تقولون، متوقفة بالطبع وإلى حد كبير على حالة العلم، فهو بنفسه متوقف أكثر بكثير على حالة واحتياجات التقنية. ومتى برزت في المجتمع حاجة تقنية كان ذلك محركا للعلم أكثر مما تقدر على فعله عشر جامعات.>>[xii][12]
ويعتمد ماركس تصورا لآلية التغيير التاريخي على المستوى الاجتماعي، لا تلبث أن تتغير من خلاله علاقات الإنتاج القائمة التي توجد في صالح البرجوازية إلى صالح القوى التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، فالتراكم الذي حققته الإنسانية في جميع مجالات الحياة لم يكن ممكنا من دون تطور أدوات الإنتاج، والتي كان من المتعذر أو المستحيل حل إشكالاتها من دون التقنية.
وبتركيز شديد، تصبح التقنية عند ماركس ايجابية وبناءة، لأنها مرادفة لتسخير الطبيعة ومفتاح التقدم وتطور قوى الإنتاج، والمطلوب فقط تخليصها من سيطرة فئة معينة وتخليص قوى الإنتاج من قبضة رأس المال والاستغلال وتخليص الإنسان من الاستلاب.
ويعتبر ماركس في نظر هابرماس أكبر داعية للتقنية، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان ماركس قد ناصر التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة…الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جرّاء الاستغلال التقني الأرعن لمواردها، يقول:<< إن كل تقدم في فن الزراعة الرأسمالية ليس فقط تقدم في نهب الأرض، فكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود من الزمن هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة>>[xiii][13].
ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي: التكنوقراطية، أبعد من أن يحتكرا مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. ولكي يبين هابرماس حدود مفهوم التقنية من منظور ماركس، فإنه يقسم المنظومة الاجتماعية إلى مقولتين: العمل والتفاعل.
ومن هذا المنطلق يعيب على ماركس اهتمامه فقط بالعمل والإنتاج داخل دائرة النشاط الأداتي، متجاهلا جانبا لا يقل أهمية عنه يقوم على التفاعل الإنساني كالنشاط التواصلي الذي يعتبر ذا دور كبير في لحم النسيج الاجتماعي أو ما يسمى في علم الاجتماع بالجمعنة أو الجتمعة (Sociabilité). فالفكرة الأساسية التي يحول هابرماس عرضها، أن ماركس يهلل تهليلا كبيرا لقيم العمل والإنتاج ودور التقنية في الرفع من ذلك، ويهمل جانبا لا يقل في نظر هابرماس أهمية عن ذلك: أهمية التواصل في العصر الحديث.
يفهم هابرماس العمل كـ”نشاط عقلاني موجـه لهدف وغاية”، وهو ينقسم بدوره إلى نوعين: فعل أداتي agir instrumental يخضع لقواعد تقانيةTechnicité، واختيار عقلاني choix rationnel ينتظم وفقا لاستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية.
أما المقولة الثانية التي يهملها ماركس وهي التفاعل interaction أو النشاط التواصلي كتفاعل اجتماعي، يتم بواسطة مجموعة من الرموز والقواعد الإجبارية التي يحدد ما يتوقعه طرف ما من سلوك الطرف الآخر؛ وتستمد هذه الرموز معانيها من اللغة الجارية، خزان التجارب أو روح الشعب كما يقول هيغل.
ونظرا لاختلال التوازن بين هذين المستويين بعد أن أطبقت التقنية على النشاط الاجتماعي والعالم المعيش، متخطية بذلك مجالها الطبيعي لتغرقهما في وحل آسن من الاغتراب والتشيؤ، الأمر الذي أدى إلى إصابة الوعي الإنساني من جرّاء ذلك بالخواء المعرفي والزيف الفكري… ) سنعود لاحقا لتبيان الأصول الفلسفية لمقولة التفاعل (.
وكخلاصة لذلك، يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية على ضوء ماكس فيـبر بأنها عقلانية أداتية، ولقد لخص هذا الأخير المميزات والخصوصية الأوربية تحت مفهوم العقلنة والعقلانية التي تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل الجوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة.
فلقد بين ماكس فيبرWeber بالملموس وجود تفاعل متبادل بين الأخلاق الدينية البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وأرسى بذلك لأول مرة الأسس المادية للنظرية الرمزية التي تتناول روح التدين النسكي كنشاط مادي عند الرهبان وتأثيره في نشأة الرأسمالية والتطور الاقتصادي وظهور العقلنة.
وأضاف فيـبر إلى ماركس بأن الرأسمالية ليست فقط نتيجة لفعل التراكم المادي عن طريق قوى الإنتاج، بل أخذ أيضا محمل الجد دراسة التأثير المتبادل بين السلوك الديني بوصفه سلوكا اجتماعيا بامتياز يتفاعل فيه الرمز وتنشأ عنه قيم للتواصل في المجتمع إذا ما استبطن الإنسان إيمانه الديني بطريقة عقلانية وتمثله عقليا. ثم أخذ من ماركس التفسير المادي للظواهر الدينية كما تمارس في المجتمع وما تحبل به من قيم دنيوية، ولقد وقف ضد من حاولوا النيل من ماركس عندما ربطوا ميكانيكيا بين ولادة الرأسمالية وـ الأخلاق البروتستانتية ـ والدين المسيحي بطريقة ميكانيكية.
يعود هابرماس إلى فيبر ليحاول استنباط عقلانية تواصلية تظبط الممارسة الأداتية التي أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وهابرماس محق في محاولة البحث عن ما يظبط العقل الأداتي الوظيفي داخل حقله الطبيعي، و هو يرى أن المعيارية التي تتبلور صيغها في إطار العقلانية التواصلية هي الكفيلة بوأد الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا والأنساق.
يرجع الاهتمام بالمعيارية في عالمنا المعاصر إلى تضارب المعتقدات، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل داخل المجتمع الواحد بشكل يستحيل كما يرى هابرماس، فرض تطبيقات أو تأويلات وحيدة على جميع أفراد المجتمع في مجتمع الحداثة:<< لا تستطيع الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها من عصر غابر، مثلما أنها لا ترغب في ذلك، فهي تكابد ملزمة لتستخرج معياريتها من ذاتها، ولا يمكن لها أن تعتمد إلا على نفسها>>[xiv][14].
إن تراجع دور المكونات التقليدية والعادات في شد أواصر المجتمع المعاصر وتماسكه، يخول للمعايير وظيفة الحفاظ على النسيج الاجتماعي متماسكا. فالمعايير بصفة عامة والقوانين بصفة خاصة مرشحة أكثر من غيرها اليوم أن تلعب هذا الدور لكبح جماح الأنساق والمنظومات الشبكية التي انفلتت من عقالها مهددة العالم برمته، ومن هنا الدعوات المتصاعدة في أرجاء العالم لوضع أنظمة معيارية تقنن التجارة العالمية وحماية البيئة والتحكيم بين الفرقاء المتصارعين… على نحو يكفل التوازن والسلم العالمي ويدعم التنمية… الخ.
لقد أصبحت إعادة النظر في المجال الأخلاقي والمجتمعي ضرورة قصوى بالنسبة لهابرماس، بعد أن فقد الدين والتقاليد والميتافيزيقا سلطتهم في توجيه حياة الإنسان كليا، وانحصروا في المجال الخاص بكل فرد، أو أصبحوا عرضة لاستعمالات مختلفة ولم يسلموا بدورهم من اللغط والإقصاء والعنف من طرف من يدعي امتلاك ناصية القول في تأويلهما وحده من دون سائر الآخرين.
فالمعايير صيغة ضرورية للتواصل الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي في نظر نيكلاس لوهمان أحد أبرز رائدي المدرسة النسقية الوظيفية في علم الاجتماع الألماني المعاصر، عاملا يتيح حصر التعقيد Complexité)) والانشطار الذي يلف بالحياة الاجتماعية المعاصرة وطابعها العارض والمحتمل.
تنتج تعقيدات الفعل الاجتماعي من واقع أن الفاعلين في مجهوداتهم التنسيقية يجدون أنفسهم أمام ركام من الخيارات أكثر بكثير من تلك التي يمكن تحيينها، ويشير الطابع العارض (Contingent) إلى إمكانية الفعل الاجتماعي في أن يشق طريقا مغايرا عن التخطيط المبرمج له أو المسار الذي حدد له من قبل داخل الحدث الاجتماعي. فالتوازن هنا توازن متحرك وغير قار.
وللرفع من قدر الاحتمالية وعدم اليقين المسلط على الحياة الاجتماعية اليوم، يجب التخلي عن دراسة المجتمع بصفة كلية أو ماكرواجتماعية، والتحول عنها إلى دراسة السلوكات الحية والمتبادلة بين الفاعلين والاقتصار على الحركة الميكرواجتماعية.
يعني ذلك اختيار التركيز على التفاعل التواصلي باعتباره سلوك التبادل الاجتماعي المعاصر بامتياز، فـالتواصل أصبح يلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية، وهو من ناحية وظيفية يقوم على رصد ماهو مستقر وثابت في تطلعات الناس ويمكن رصده من زاويتين:
– فسواء يقوم بتأسيس تطلع ذهني(Attente Cognitive) عقلاني، يقدم جملة مفاهيم ومعرفة تحليلية للواقع تصبح عملية اكتسابها وتلقينها متيسرة بالتعليم والتربية، أو يُجبر الفاعل في حالة فشله في التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يخطر على ذهنه بتركها وعدم تلقينها أو تعلمها.
– أو سواء ينجح في تأسيس تطلع معياري((Attente normative تصبح المعايير آنذاك صيغا لانتقاء السلوكيات وتقنينها وظبطها بغرض الحد من الاحتمالية والتعقيد اللذان يطبعان العالم المعاصر، إلاّّ أن التطلعات المعيارية في مجملهاتطلعات عكسواقعية[xv][15](Contre Factuelles) إجبارية لا تهتم بما هو كائن وإنما بما يجب أن يكون.
لكن ذلك لا يكفي للحد من الاحتمالية والتعقيد الذي يطبع عالم التواصل، ما لم يتم التنسيق بين التطلعات المعيارية والذهنية في مستويات عليا، خشية أن نجد أنفسنا في حالة فوضى عارمة لا يمكن تسييرها. لذا تتشكل الأنساق من طرف مستوى ثان من الانتقاء، فتكرارالعمليات الانتقائية على نفسها وعلى عناصرها يجلب تمايزا في صيغ التواصل، والتمايز هنا صيغ من صيغ التغيير الاجتماعي. ولذلك تظهر أنساق عديدة ( الدولة، النقود، المعايير ومنها القانون)، وهنا نجد مفتاح تمايز المجالات المعيارية التي لم يفهمها علم الاجتماع الكلاسيكي ( دوركهايم، ماركس، جيرفيش…الخ) إلا كمعطيات ثابتة، والتي أصبحت اليوم تعرف عملية دينامكية وغير مستقرة في البناء.
يتكون النسق من التفاعل القائم بين الفاعلين، وإذا ما استقر على إشباع حاجيات الطرفين فسيكون مدعاة لتكراره ورسوخه وينتظر كل منهم استجابة معينة من بعضهم البعض، بحيث أن استمراريته يولد معايير اجتماعية متفق عليها. وكمثال على ذلك علاقة الإنسان بعمله، فما دام يذهب إلى العمل كل صباح سينتظر من رب العمل أجرته في نهاية الشهر. وما دام كلا الطرفين راضيين بذلك سيتكرر الذهاب كل يوم وستتكرر منحة الأجرة كل شهر، وعلى غرار هاته العملية تتطور القواعد والسلوكيات التي تحكم العلاقة بينهما كما أعراف العمل وقوانينه حتى تتبلور في مؤسسات اجتماعية، تحكم كل منها معايير وقيم ثابتة.
وعلى هذا المنوال، تنغلق الأنساق التي تتشكل بهذه الطريقة على نفسها بتمايزها عن محيطها، ومن المؤكد أنها تعرف شيئا ما عنه، لكن فقط بلغتها الخاصة ومصطلحاتها. وهذا ما يجعلها منفتحة، فهي تقوم ببناء قاموسها الخاص بالمحيط عن طريق انتقاء المعطيات المفيدة لحساب إعادة إنتاجها.
وبعد هذا الرصد، يتعين فهم المجتمع المعاصر بحسب هابرماس كتزاوج لصيغتين من الاندماج الاجتماعي: النسق من جهة والعالم المعيشي من جهة أخرى.إذ قامت فكرة “العالم المعيشي” كما حددتها الفلسفة الظاهراتية على مقارنة إدموند هيسرل (Husserl) بين نوعين من الحقائق وبين نوعين من العوالم[xvi][16]:
فهناك حقائق العالم المعيش وهناك أيضا حقائق العلوم الموضوعية، فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وتراكم خبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة، أما حقائق العلوم الموضوعية فهي كونية – غير ثقافية – ولا تتعلق بمحيط ثقافي ما، بل أن مسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان. بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود مثلما يحياه الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي، فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان وهو عالم يتعلق بالإنسان وبيئته الثقافية والجمعية.
ويلاحظ هيسرل في كتابه “أزمة الثقافة الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية”: إن من بين الأشياء الخاصة بالعالم المعيشي، نجد أيضا المخلوقات البشرية بكل أفعالها الإنسانية واهتماماتها وأعمالها وآلامها، منخرطة في حياة مشتركة من خلال علاقات اجتماعية معينة، ومن خلال معرفة ذواتها بأن تكون كما هي”[xvii][17]. إنه عالم سطحي خال من الرؤية النظرية، أما بالنسبة لهابرماس، فالفرق بين النسق والتفاعل ليس تحليليا فقط، ومن ناحية ابستمولوجية يمكن فهم أي فعل اجتماعي من زاويتين: تشير أولاها إلى الفعل كتفاعل أو كعنصر من نسق ما، فالتفاعل يتم من وجهة نظر المتفاعلين إذا ما أثبتت أقوالهم صلاحية يكمن ورائها حدسهم المعياري، أما الثانية تشير إلى وجهة نظر ـ رؤية خارجية ـ الملاحظ المختص الذي يضع الفعل في دائرة الأفعال الاجتماعية ككل، ويرصد الأسباب أو النتائج التي قد تغيب عن الفاعلين أنفسهم.
ويقدم هابرماس رؤية لفهم العالم المعاصر من خلال التعريف الجديد الذي يراه منشطرا إلى عالمين: الأول يخص العالم المعيش الذي تقوم بنياته على اللغة والتواصل والثاني يخص عالم الأنساق الذي يخضع بالأساس للعقلنة الحسابية التي تتميز بالوظيفية والأداتية والفعالية.
وهذه الفجوة تقسمه إلى شطرين: عالم الأنساق والعالم المعيشي. فاللغة تلعب دور التواصل في العالم المعيشي، والنسق مجال العقلنة الحسابية والأداتية المحيطة به. فاللغة كالأرض تشخيص لمأوى الوجود وعلى الرغم من أنها كانت دائما وسيطا رمزيا(Medium)[xviii][18] بامتياز، لا يمكنها التنسيق بين جميع الأفعال الإنسانية. لذلك حلت محلها الأنساق في العديد من مناحي الحياة.
وإذا كان التاريخ المعاصر يشهد إعادة انتشار اللغة كتواصل بوصفها خزانة البشرية التي لا تنضب، يمكن القول أن هذه العقلانية الثقافية تعتمد وسيطا ضعيفا. فالفعل التواصلي الذي يقوم اليوم مقام الأدوار التي قامت بها التقاليد البارحة، غير مؤهل بما فيه الكفاية للقيام بالتنسيق بين جل الأفعال في الواقع المادي للمجتمع. لذلك تلجأ المجتمعات إلى وسائط النقود والسلطة التي تمكن الاقتصاد والدولة ـ كأنساق اجتماعية ـ أن تحقق استقلاليتها عن العالم المعيش. وما يعرف اليوم عن هذه الأنساق أنها ذو نزعة توسعية ومهيمنة ترغب في احتلال كل جوانب العالم المعيش والسيطرة عليه، مما يسبب أضرارا نفسية واجتماعية لا يستهان بها ويطرح على المستوى السياسي أزمة الشرعية.
وأول الأنساق التي تلعب دورا هاما في حياتنا المعاصرة السلطة التي تعتبر مؤسسة نظام الدولة، والنقود التي أسست بدورها نظام السوق. يرى هابرماس بأن هذه الأنساق تمتاز بدينامكية انغلاق على نفسها لكل منها عالمها الخاص: فالسلطة تحدد شروط ممارستها، والنقود تحدد قيم العملة (سوق الصرف، نسبة الفائدة) بطريقة محض ذاتية. وأوضح مثل على ذلك ما تلعبه النقود من دور (فهي كأوراق لا قيمة لها، لكنها تكتسب قيمتها بفضل اعتمادها كآلية للشراء والبيع) وكل نسق له رموزه: فالاقتصاد يتعامل بالعملة والنسق السياسي بالقوة …الخ. فالمعنى لا يوجد قبل النسق ولا يسبق مجال الفعل، فهو ينشأ في الواقع عن طريق ما يختاره له النسق من دلالة.
يضيف هابرماس بأن معيارية الأنساق مغلقة وغالبا ما تستعمل رموزا مزدوجة ومصطلحات تُحدِّدُ بها من ينتمي للنسق وَمن لا ينتمي إليه. فنسقية القانون مثلا تمر عبر رمز مزدوج: قانوني/غير قانوني (وماعدا ذلك فهو خارج عن النسق وغير معترفا به).
لذا تعتبر الأنساق قادرة من تلقاء نفسها على ضمان بقاءها الذاتي، ويُجمل تالكوت بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي أربع شروط لذلك: التكيف مع البيئة، توفير التكامل ما بين عناصرها، المحافظة على المنظومة التي تدور في فلكها، تحقيق الإشباع والأهداف المرسومة.
وما نستخلص من هذه الرؤية الجديدة أن عملية تحليل المجتمع كظواهر كلية ( من ابن خلدون إلى بارسونز) لم تعد لها من قيمة تذكر. فمن الوهم الاعتقاد اليوم بأننا سننفلت من قبضة البناء النسقي أو التكهن بالوصول إلى فهم معاني الواقع بطريقة كاملة ومطلقة، لأن عملية الفهم ذاتها تحتاج إلى خبرة يفتقدها الكثيرون. وهي عملية معقدة بعيدة عن ما يحياه ويعيشه الفاعلون.
ومن ناحية ثانية ليست الكليات Totalités في هذا المجال كائنات عضوية ذات مقومات جوهرية لكنها تأملية ووظيفية، والتأملية هنا مجرد تتميم اختياري للأنساق لضمان بقائها، كما أن المنطق العقلي داخلها أصبح وظيفيا وأداتيا.
فمن وجهة نظر الفاعل تحدد وسائل النسق دائما وأبدا توجهات[xix][19]الفعل وأهدافه، وليس من الغريب أن يؤدي ذلك إلى إفراغ المعاني من محتواها، بعدما سيطر النسق على العالم المعيش واستفرد به كليا، وأصبح التفاعل يرزخ تحت متطلبات السوق والبيروقراطية.
ويؤكد لوهمان رائد المدرسة النسقية في علم الاجتماع أن المعايير اليوم لا تستقر إلاّ إذا كانت لصلاحيتها وظيفة مصاحبة لها، يعني ذلك أن المعايير موضوعة من طرف منظومات حتمية تحدد لها وظيفتها بشكل غائي، سواء صدرت عن المشرع أو المنظومات النسقية. فوجودها رهين بتلك الوظيفة، وإذا لم تستجيب بالقدر الكافي لها تلقى في سلة المهملات كأنها لم تكن يوما.
أخذ هابرماس فكرة النسق من صديقه نيكلاس لوهمان (1999 -1927) الذي ربطهما نقاش وجدل استمر حوالي عشرين سنة. فنظرية الأنساق نظرية اجتماعية تمتح أسسها من أعمال ماكس فيبر الذي حاول استقراء مكامن العقلنة في عالمنا الحديث، ووظيفية تالكوت بارسونز الذي حاول دراسة مجالات الفعل الأنساني مقرونة بما تؤديه من أدوار ووظائف.
تظطلع فكرة النسق الاجتماعي بمجالات الفعل الإنساني وقيمه التي تعقلنت لتصبح بنيات مستقلة بذاتها وعلى درجة من التعقيد، إذ لا تخضع إلا لأوامرها التي تعمل على تكريس ديمومتها. وتتمظهر هذه المجالات النسقية المستقلة ذاتيا في القانون والاقتصاد والسياسة، وإن كان نيكلاس لوهمان رائد علم الاجتماع النسقي الوظيفي يوسع من إمكانيات نظريته لتشمل: الفن والسلوكات والموضة والمعمار.
يلاحظ لوهمان في هذا الصدد فراغ المعايير من أي جوهر، فهي أكثر تقنية وشديدة التعقيد لا يفهم مصطلحاتها وحيلها إلا المختصون، تعتمد مساطير بيروقراطية تبرر صلاحيتها. وهذا ما يعني التشكيك كليا في أي تعريف لمعانيها بصفة عضوية وجوهرية أو بصفة قارة ودائمة، فلا معنى للمعايير خارج مدار الاستعمال الوظيفي والسياق الظرفي، كما هو عليه الآن الأمر في أغلب المجتمعات الحداثية.
يرى يورغن هابرماس أن الحد من ذلك والخروج من الأزمة الراهنة يتطلب تقنين العولمة لضبط انشطار الحياة الاجتماعية والانفصام المتزايد بين عالمنا المعيشي والأنساق، ووحدها المعايير القانونية من باستطاعتها أن تسد الفجوة بينهما ولجم عنان الأنساق( السوق، البيروقراطية، التكنوقراطية،..)، لكونها الوحيدة القادرة على إدراج الأنساق في الحياة المعيشية والحفاظ على لحمة المجتمع وإعادة التوازن بينهما.
فالمؤسسة القانونية جد ملتصقة بالحياة اليومية للمواطنين أكثر من مؤسسة أخرى والمؤهلة لضبط الموازين وللتعويض عن هذا الخلل في عالمنا المعيش. لذلك يجب أن يلتجئ الفاعلون إليها كإجراء يوفر عنهم توافق غير ممكن ويكفيهم شر القتال بينهم. فدور القانون في عالمنا المعاصر يجب أن يكون شبيها بالدور الذي قامت به التقاليد والأديان* في الماضي بعد أن أصبح المعتقد حبيس الشأن الخاص لكل إنسان داخل المجتمع الواحد، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل وتضارب أو تنافر القيم الأخلاقية بين الأفراد بشكل يستحيل فرض تأويل وحيد لها على الجميع من دون المساس بحقوق الفرد وحريته.
نفهم بما تقدم أن القانون مدعو إلى أن يلعب في نظرية هابرماس دور “المُحول”، فهو يحول المتطلبات المعيارية للفعل التواصلي إلى سلطة إجبارية لمجموع المجتمع وأنساقه الصناعية والمالية والمصرفية والشبكية، يحتكم إليه الفرد ضد الدولة والدولة ضد الفرد. ووحدها المؤسسة القانونية من يتيح وصلا كافيا بين الأنساق وحياتنا اليومية، لأنها تعبر عن الضرورات التي يصيغها الإنسان في خطابه العادي وتطلعاته اليومية إلى لغة تفهمها الأنساق وتنضبط لها.
وتبعا لذلك يُغير القانون هنا من دلالته المعتادة، فمن مجرد أداة للتقنين وضبط العلاقات بين الأفراد وتنظيم مختلف السلطات كما ساد منذ مدة طويلة. يصبح الوسيلة الجديدة التي يعبر بها المجتمع عن فهمه لنفسه وإرادته المستقلة، وبهذا المعنى يتغير مفهوم المواطن من مجرد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرف على نفسه من الآن فصاعدا كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه.
مرد هذا الاحتفال بالمعيارية وإخضاع العالم المعيش والأنساق لديموقراطية تداولية تُخول للفرد وأعضاء الجماعة من المشاركة مناصفة ومن دون ترك أحد على قارعة الطريق، أن المجتمعات الديموقراطية لم تحقق إلا النزر اليسير وبطريقة ناقصة الإمكانات والطاقات الديموقراطية التي يحبل بها القانون الحديث كما اكتشفه روسو.
فشكل الديموقراطية التمثيلية للسلطة السياسية انقلب إلى ترويض للطاقات الديموقراطية وكبح عموم الشعب لصالح نخبة سياسية أوليغارشية. ولقد تعزز ذلك بمقدم دولة العناية الاجتماعية:“Etat-Providence”، عندما تم وضع إواليات وميكانيزمات الضمان الاجتماعي الذي احتكرت الدولة أبوته، والأحزاب السياسية المجال السياسي، مما شجع على انغماس الأفراد في حياتهم الشخصية وعزوفهم المتزايد عن المجال العام وأمور السياسة.
فلقد رفضت الدولة طويلا أن يمارس المجتمع المدني السياسة، وإذا بدا اليوم أن العديد من المؤشرات تؤكد أن هذه الوضعية في طريقها للزوال، فالعداء المتصاعد لاحتكار النخب التكنوقراطية والمحترفين للسياسة وتوسع الممارسات الديموقراطية في مجالات جديدة، كما الصعوبات التي تعاني منها الديموقراطية والدور المتصاعد لأنوية المجتمع المدني وتصاعد حس المواطنة بفعل الظروف الاجتماعية الحديثة، يشير إلى إرادة المواطنين للانفلات من البديل الخاطىْ الذي يريد حصرهم بين أسوار ديموقراطية “تمثيلية“، كشفت بالملموس عن محدوديتها وديموقراطية “مباشرة“ أصبحت مستحيلة التطبيق.
يحاول هابرماس تقديم رؤية موسوعية تركيبية محورها الفلسفة، علم الاجتماع واللسانيات التداولية وفلسفة القانون. يصوغ هذا التركيب الأصيل بديلا جديدا يقوم مقام سرديات فلسفة الوعي بجميع مشاربها كانت ليبرالية أو ماركسية، يطلق عليه الفعل التواصلي الذي تندرج حمولته الفلسفية ضمن العقلانية التنويرية التي تعلي من العقل وتنبذ العنف أو الاحتكام إلى القوة وذلك عندما تصل إلى مستوى عقلانية تواصلية.
وتسعى العقلانية التواصلية إلى ضبط علاقة الفرد بالآخر وإخضاع العلاقات الاجتصادية والسياسية القائمة داخل المجتمع إلى أخلاقيات المناقشة. فالحوار القائم على المساواة ومن دون ضغط أو إكراه، يعد البداية الأولى لحمل المجتمع بكافة طبقاته على جمعنة أو جتمعة Sociabilité (التنشئة الاجتماعية) تُحقق عقدا اجتماعيا يقبله ويحتكم إليه الجميع.
يحاول هابرماس إعادة الثقة في مشروع الحداثة التنويري، بوصفه مشروعا لم يكتمل بعد، وذلك بالكشف عن المسكوت عنه في العالم المعاصر والذي يعتبر الوريث الشرعي لعصر الأنوار والكامن في العقلانية التواصلية القائمة على سلطة الخطاب البرهاني.
وعموما صاغت فلسفة الوعي بشقيها التاريخ كصورة خط متصل من التقدم واعتبرت التاريخ البشري مراحل تكوينية متصلة، فكلا الفلسفتين الليرالية والاشتراكية تمتلكان أفقا موحدا لا يخرج عن فلسفة الوعي، فهي في الأول نزعة ذرية (تقوم على الفرد) وفي الثانية نزعة جمعية كلانية (تقوم على الطبقة)، إلا أن الوعي الذي يبتغي الخلاص في كليهما مرده إلى الذات كانت فردية أو جمعية. وكل منهما خلق تقاسيم مختلفة عن الآخر بالنسبة لمضمون الحرية الإنسانية، فالليبرالية تؤكد على حرية الاختيار لدى الفرد وتجعل من الفرد قيمتها العليا، بينما تتطلع الماركسية أولا وأخيرا إلى إمكانية إنجاز ما قد تختاره الجماعة وخاصة الجموع المحرومة.
إلا أنه من المؤكد أن لا الذات ولا الطبقة قادرين على أن يمتلكان حقيقة مطلقة ولا أن يحلا محل التاريخ. فالادعاء بامتلاك الحقيقة من دون الخلق جميعا ضرب من الحمق والهذيان. وأي حرية بصفة عامة تتضمن إشكالية ما قد نختاره بمحض الرضى أو ما يفرض علينا اختياره بحد الإكراه، غير أن السؤال المركزي الذي نطرحه لكل منهما: فمن جهة، ما هي فائدة الحصول على حق الاختيار إذا لم نكن نتوفر على وسائل تمكننا من تحقيقه؟ ومن جهة أخرى ما قيمة أن أتوفر على الوسائل بدون أن يكون لي حق الاختيار أو أن يفرض على اختيار ما؟
إن خطأ أنظمة الاشتراكية الشمولية تجلى في تضييق على الحريات وحق الاختيار الفردي بحكة أسبقية الجماعة على الفرد والمساواة في الوسائل بين الأفراد، أما في مجتمع التنافس الاقتصادي الليبرالي نلاحظ أن حرية الأغلبية ضيقة جدا في ظل أقلية تحظى بالثروة والنفوذ والحرية. ولا يمكننا أن نسمي ذلك حرية ما دامت مرتبطة فقط بالأقوياء، ونفس الشيء يصدق على المساواة التي قد تمارس في ظل الخضوع وكبت الحريات، فهذه حرية تفتقد الكرامة!
وعلى الرغم من أن فلسفة التواصل النقدية تشير بأصبع الاتهام إلى الليبرالية والاشتراكية، فإن ذلك لا يجب أن يفهم كذلك سقوط هذا النقد في محراب الخصوصية الجماعية والتقاليد ودعاة الإقصاء المذهبي والديني وبائعي الرحمة الربانية بالتقسيط.
فعلى الرغم من الآثار السلبية لعملية التحديث الاقتصادية والإدارية، فإنه لا ينبغي أن ننسى ما كان يعتبر في بداية عصر النهضة جنينيا وهامشيا، يتصارع مع قيم الجهل والمعتقدات البدائية والتقاليد الإقطاعية والحكم الاستبدادي، والذي أصبح اليوم يتمثل في العقلانية التواصلية التي أدت أن يشمل العقل عدة مجالات، مثل إرساء قيم المساواة بين الأفراد واحترام القيم الأخلاقية المختلفة واحترام القانون وصولا إلى بلورة أنظمة ديموقراطية وقوانين ودساتير…
لذلك لا يوافق هابرماس تيار ما بعد الحداثة )فوكو، دريدا، ليوتار…(على الازدراء الذي يكنوه لمشروع الحداثة واستخفافهم بالعقل، بعدما اعتبروا الآثار السلبية للتقنية والبيروقراطية سقوطا لمشروع الحداثة.
بادىْ ذي بدء، يدعو هابرماس إلى الحد من العقلانية الوظيفية التي تمارسها التقنية بكل صلافة، والتي أطبقت سيطرتها على الاقتصاد وتحكمت بيروقراطيتها في الدولة؛ لكي يعود الاقتصاد والدولة إلى وظيفتهما الطبيعية. إذ لا يمكن أن يؤدي الاقتصاد والدولة مهامهما إلا باعتبارهما نسقين متداخلين، فلا يجوز من هذا المنطلق أن يحتكر السوق وحده مهمة إعادة التوازن.
الأمر الذي من شأنه أن يعيد دور السياسة إلى الصدارة بعد أن تهاوت هذه الأخيرة أمام الاقتصاد، وأن يصبح الوعي الجماعي أكثر تفكرا وتأملية تحت تأثير عقلانية تواصلية تستخدم البرهان والحجج في إثبات قضاياها المعيارية.
لذا يجب تنفيذ عقلانية تنويرية وتحديثية في آن وعلى وجه أكمل في مستويات العالم المعيشي الثلاثة: ۱– الثقافـة، ۲– المجتمـع، ۳– الشخصـية.
الأمر الذي سيعطي لا محالة نتائج فعلية وفورية لمشروع الحداثة:
١‘– الاعلاء من التأمل والتفكير العقلاني في الحياة الثقافية على نحو أكثر عمقا.
۲“– تحقيق معيارية كونية تطبق على الجميع بعد أن تصدر من لدنهم وبموافقتهم.
۳‘‘‘– العمل على بلورة تنشئة اجتماعية مولدة للمهارات الفردية وتساعد على النضج الشخصي.
ومن هذا المنطلق، ينقض هابرماس العقلانية الأداتية الخاصة بالتقنية والأنساق التي لا تعرف إلا منطق الحسابية والوظيفية، ويقدم لها بديل العقلانية التواصلية التي تكفل شروط التفاعل السليم والحوار المتبادل، بغية تأهيل الإنسان لحماية عالمه من هدير التقنية على نحو يعيد التوازن بين عالمه المعيش وعالم الأنساق.
وتحدد العقلانية التواصلية الشروط السليمة والكفيلة بامتحان مصداقية ومعيارية أي خطاب يدّعي لنفسه الصلاحيةvalidité على ما عداه من خطابات أخرى منافسة، فهي تمدنا بالوسائل المسعفة لاختبار ادعاءات الصلاحية لأي من القضايا المعيارية المعروضة وتزكيتها فقط، إذا تحقق فيها شرط الكونية الذي يدعو إليه العقل.
وفي هذا الباب، فهو لا يؤمن بقدرة ذات عارفة كتلك التي يقول بها ديكارت للوصول إلى هذه النتيجة ولا قدرة التفكير الميتافيزيقي القائم على الحدس المتعالي لبلوغ ذلك. ويبقى السؤال كيف السبيل إلى ذلك مادام أن لا الذات ولا الوعي قادران على تحقيق ذلك؟
يلتجئ هابرماس أولا إلى الخروج من النموذج الإبستمولوجي الذي ساد في الفكر الإنساني )الذات ـ الموضوع( أو ما يعرف بفلسفة الوعي الذاتي واستبدال الفكر التأملي أو التفكر الذاتي بالتذاوتي، حيث لا يجد الوعي فهما سليما له إلا من خلال قياسه وامتحانه بالشكل الذي يقابله من علاقة ”أنا ـ أنت ”.
إن الضرورة التي تقتضي هذا الاستعراف التذاوتيReconnaissance intersubjective تنبع من اللغة وهي تبزغ من الرصيد الثقافي والاجتماعي الذي يحيط بالفرد المتكلم، ولا تأتي مستوردة من الخارج ولا من علياء السماء، بمعنى أن مفرداتها موجودة قبل أن نوجد، وهي خزان المعارف والتجارب لمن سبقونا. فعندما نتبادل الكلام نلتجىْ إلى معجم نفهمه ويفهمه المتحدث الذي أمامنا، وإلاّ انعدم الاتصال بالصوت والتواصل الاجتماعي بيننا.
معنى ذلك أن هابرماس يستغني وبشكل نهائي عن قدرة الذات ووعيها في افتراض حقيقة مطلقة وغير مشروطة تاريخيا، مهما بلغ نفاذ بصيرتها بل ويعتبرها عاجزة عن تأكيد حقيقة ما. ويشكل ذلك اللبنة الأولى للتخلي عن فلسفة الوعي واستبدالها بفلسفة التواصل، تخضع فيه الحقيقة للتحليلية اللغوية وليس لشروط خارجية.
فما دام أنه لم يعد بوسع أحد الوصول إلى حقائق نهائية وقارة، يجب الاستعاضة عن ذلك باللجوء إلى حقائق متوافق بشأنها، يلعب الحوار دورا مركزيا في بلورتها إن لم يكن السبيل الأخير الذي يمنع التطاحن والتناحر الذي كلف الإنسانية كثيرا.
فبقدر ما يصل المتحاورون إلى الاتفاق يمكن للحوارات عندئذ أن تتواصل وتقترب من الحقيقة، إذ يتخطى الحوار الحقيقي الذاتانية والرأي الذاتي للمشاركين. فاللوغوس لايمكن أن يكون ملكُك أو ملكي، بل يبقى مشترك بين ذاتية المتحاورين، ورهين بالتذاوتية-Intersubjectivité-، وهوما يجعل للحوار فاعلية كبرى، تمكن كل متحاور أن يصل إلى رؤية الحقيقة ومن موقعه الخاص به.
ولا يتمثل مشروع أخلاقيات التواصل هنا في الإقرار بحقيقة مطلقة ولا تسويغ شيىْ قد تم اختياره، بل يتمثل في السعي وراء الوصول على قرار أو اختيار أو تقويم من لدن المتحاورين مناصفة.
لا يدعو هابرماس إلى حقيقة ما أو تبني سردية كبرى بعينها:أخلاقية كانت أو دينية على حساب أخرى، بل يترك إلى المتحاورين تحديد نظم حياتهم بكل حرية. فالحداثة عنده تستقي مشروعيتها لا بالرجوع إلى هذه السردية أو تلك، من قبيل حرية الفرد)الليبرالية (أو تحرير الذات )الماركسية( (…، فهي حكايات أو سرديات انطلقت كلها من عصر التنوير التي كانت غاية المعرفة بلوغ غاية أخلاق–سياسية(.
ينأى هابرماس على فرض حقيقة بعينها، فالعديد من السرديات الكبرى أفلست والكثير من المثل العليا أصبحت اليوم في أعين ورثتها أسمال بالية. لا يعني ذلك أبدا الترويج للنسبية بل يضع هابرماس ضرورة إضفاء شرط الكونية لما قد يصل إليه الفكر العقلاني البشري، كتلك التي تمثلت في قيم العدالة والحرية والاستقلال التي حازت قبول الجميع، وهي محصلة تربوية طويلة بين الأجيال والشعوب، تداخلت فيها الأخلاق بالسياسة، كما التاريخ وعلم النفس وعلوم اللغة…
لذلك يؤمن بتاريخ يكون تاريخ تعددية وبنقاش حر يسمح بفحص خارجي لصلاحيةvaliditéأي قضيةproposition واختبار حقائقية facticitéمادة أي موضوع، وفسح المجال لها لكي تطور ذاتها.
ويعد الفهم التأويلي هنا شكلا من أشكال الحوار، فهو فعل لغوي بالمعنى الأوسع، يحضر فيه كل التراث الثقافي الذي يتصل بمادة الموضوع بوصفه ”لغة” لها وبالمعنى الشامل للكلمة. لقد حان الوقت بالنسبة لهابرماس للتخلص من فلسفة الوعي وبأن يتم البحث عن العقلانية في اللغة باعتبارها الإطار الذي يحدث فيه التواصل الإنساني وباعتبارها خزان تجاربه، وفيها يمارس الإنسان فعله الاجتماعي.
بل تهتم أخلاقيات النقاش بأجرأة سليمة لقواعد الحوار، تحفظ مناصفة لكل مشارك في حوار حقه في التعبير عن رأيه من دون تسلط أو قهر، بمعنى أن نختار ما يناسبنا ونريده في إطار المسالمة والرضا في وجودنا.
كما تلزم الإجرائية طرق تداول الخطاب وكيفية التشاور على مضامينه والبرهنة بالحجج على قضاياه، لكي تصدر الحقيقة من جراء حوار فعلي، تتخاطب فيه العقول وتتحاور ليس بهدف أن ينتصر الواحد منها على الآخر؛ ولكن بغرض الوصول إلى رؤية كونية تفوق الرؤى المحلية لكل منها ويحصل لها الاستعراف بين مجمل الذوات المشتركة في ذلك.
إن انحراف الممارسة التواصلية العادية وفقدان المعنى والاضطراب الذي يطبع السلوك الإنساني الحديث تم بواسطة السيطرة على العالم المعيش من طرف التقنية وإغراقه في مستنقع العقلانية الأداتية والوظيفية. وإذا كانت وظيفة العقلانية تسمح بنمو الإنتاج المادي في الميدان الاقتصادي وتنظيم المجتمع في إطار الدولة. فإن المفارقة التي حدثت، أدت بالأنساق والمنظومات الشبكية التي كانت موجهة لدعم ومساندة الفعل التواصلي في لحم النسيج الاجتماعي إلى استعمار العالم المعيش وتفتيت بناه وإفراغه من محتواه.
ينتقد هابرماس فلسفة الوعي (بشقيها الليبرالي والماركسي) ويرسى منظور فلسفيا جديدا يقوم على التذاوت (أنا ـ أنت) عماده اللغة والتفاعل، ما دام أن الذات في ظل أزمة الوعي الحديث عاجزة عن مخاطبة العالم لوحدها، بل هي مرغمة على الانفتاح على ذوات وطبقات أخرى. يجد هابرماس في نظرية نيكلاس لوهمان الاجتماعية القدرة على وصف ما يمور به عالمنا المعيش من أخطار وما يحيق به من دمار كامن في آلياته تصبح فيه الذات فردا كانت أو طبقة عاجزة عن حل مشاكله. فالعطب والتحلل اللذان أصابا القيم والمعاني المشتركة نتيجة للتعارض القوي بين ما يحياه الفاعلون فعليا والأنساق، استفحل من جراء المنظومات النسقية التي تهيمن على الإنسان المعاصر وعالمه المعيش.
ونتيجة للعكسية التي لحقت المدارج التي كانت تحفظ لحمة العالم المعيش، أصاب العطب أكثر المواضع الحيوية في حياتنا اليومية:
أ– الرجة التي أصابت التقاليد الثقافية )المسؤولة على الوصل بين الخلف والسلف ونقل المعاني والحقائق المتداولة بين أفراد المجتمع(.
ب– الاندماج الاجتماعي )انفراط عقد الجماعة الذي يكفل خصوصا بناء الجماعة والتضامن بين أفرادها(.
ت– التنشئة الاجتماعية أو الجمعنة )التي تصهر على بناء مقومات الهوية الشخصية والجماعية(.
تشتمل حصيلة هذا الاعوجاج على:
-1 اضطراب المعنى وفقدان الشرعية وغياب التوجيه.
-2 الفوضى التي أصابت أواصر التضامن المنفرطة.
-3 عدم الشعور بالمسؤولية وظهور سلوكات مرضية ونرجسية.
فوحدها عقلانية تواصلية تضع أمامها تحقيق التفاهم المتبادل والتفاعل الحواري، يمكن لها أن تساعدنا في بلورة تفاعل اجتماعي يعيد الحرارة في شرايين المجتمع المعطوبة. والعقلانية التواصلية تعد المسلك البديل للمنطق الخانق الذي يعتمر في العقلانية الأداتية:”الغاية تبرر الوسيلة”، وما ترتبت فيه النسقية من تحويل حياتنا إلى حياة من دون طعم أو ذوق.
لذا لا يأنف هابرماس من التأكيد من جديد على مشروع الحداثة، وهو بذلك يعارض بوثوق الشرذمة والانفلاقات العميقة التي أصابت حياتنا من جراء التقنية. وهو يرى بأن مشروع الأنوار ما زال قائما ولن تغني العلموية المتسلطة من الرجوع إليه إذا ابتغينا المقاومة، بل ذهب أبعد ما يكون في تحليله للشروط التي تمكننا من الوصول إلى تفاهم متبادل، بحيث يجب البحث عنه في اللغة باعتبارها الإطار الذي يحدث فيه التواصل اللساني ويمارس من خلاله الإنسان الفعل الاجتماعي.
يحاول هابرماس تأسيس شروط العقلانية بعيدا عن كل تصور ميتافيزيقي لعقل خالص أو وعي مطلق باعتبار أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة[xx][20] أو معرفة جوهر الأشياء، لذلك يجنح لنقد شديد لفكرة الذات باعتبارها مالكة الوعي والإرادة، ويستعيض عنها بفكرة التذاوت القائمة على ما يقابلها في تفاعل أنا–أنت، والتي تصبح من خلال الحوار والنقاش العقلاني المنطلق في تأسيس حقائق متوافق بشأنها، بعدما استحال على الوعي الذاتي امتلاك حقيقة واحدة ومطلقة.
وأخيرا يمكن إرجاع ينبوع التوافق إلى رؤية كونية من المحسوب أن تتجسد في مجمل الحكايا الخاصة التي تثبت جدارتها في امتحان البرهان، أي ما يتم القبول به والوصول إليه بين المتحاورين.
تظهر فكرة التذاوتية السليمة ليس بحلول الأنا في أنت أو العكس وإنما يرجى منها تكوين رؤية يكون أفقها التاريخي يشي بمستقبل ما لحاضرنا، وهي لا أقل ولا أكثر من تصنيف شكلي للشروط الضرورية لوجود حيوات ـ غير ممكن استباقها أو التخمين بها ـ لا يجب أن تضيع أو تذهب سدى.
لكن عملية التفاهم هاته (Intercompréhension) تفترض أسسا عقلية، وهي نفس الأفكار المكونة لمفهوم عقلانية عصر الأنوار وفي التراث الفلسفي. فالتواصل الناجح الذي يصل إلى تفاهم المشاركين فيه وإجماعهم إجماعا عقليا يفترض ذات مسؤولة صادقة وذات مصداقية .
فهذه الشروط أو الأسس السابقة على التواصل و المؤسسة كذلك للتفاعل الاجتماعي ليست متعالية (Transcendentale) كما يذهب إلى ذلك أستاذه وصديقه “كارل أتو أبـل” (K.O.Apel) (1922- …)، بمعنى أنها كامنة في بنية قبلية في العقل الخالص ( العقل الناطق) بل في التدوالية اللسانية (Pragmatique) أي لا تظهر إلا مع عملية التواصل نفسها، وهي المحركة لهذه العملية.
ولذلك يدرج يورغن هابرماس شروط الفعل التواصلي(Agir communicationel) في منظومة تجريبية، يطلق عليها اسم التداولية الكونية (Pragmatique universelle)، فهي كونية لأنها تصف معايير كونية وشاملة، وهي تداولية بمعنى ما يتداوله ويستعمله المتفاعلون في نشاطهم الاجتماعي.
نستنتج من ذلك أن المشروع الذي ينادي به هابرماس يرتكز على أن اللغة في نظره حوار بين عقول المتحدثين، تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ الإجماع بصدد القضايا. واللغة هنا جملة قواعد تؤسس للاتصال بين الناس وليست أصواتا تلقى شذرا مذرا، بل إن كل فعل لغوي يندرج ضمن ألعاب لغوية لها منطلقها واستعمالها الخاص، وهي مرتبطة بأنماط حياة (Formes de vie) كما يقول فيتجنشتاين، لذا فإن كلا من الصحة والمصداقية والمعيارية والمسؤولية تهم البعد القيمي للمنطوق وتقديم البرهان على ما تقول، والبينة على من ادعى “كما يقال.
تعد اللغة بوصفها نظاما رمزيا من ضمن المنظومات الرمزية التي يسخرها العقل في استلهامه للخيال أو إدراكه المعقلن، وتلعب دورا فاعلا في فهم الآخر (الغريب منه أو القريب) والأشياء الممكنة (الحدسية منها والمحسوسة) في عوالمنا. فمعرفة العالم وتقاسيمه الاجتماعية يمر خلف إسار اللغة وقواعدها وتراكيبها وعن طريق التداول، فلكل حادث حديث ومتحدث وسياق. ونحن عندما نحاول أن نعبر عن شيء ما قد نصيب فيكون المعنى واضحا، وقد يخوننا التعبير فيكون المعنى غامضا، والمعنى هنا هو الشيء المحدد لمعظم تعبيراتنا الاتصالية. والاتصال عبر المعنى يسمى تواصلا، ولو خلا التواصل من المعاني لانتفى القصد والهدف من اتصال الإنسان باللغة والكلام.
غاية العقل التواصلي أن يجنح العقل الكامن فيه إلى التزاوج والتذاوت المؤدي إلى التفاهم وتداخل الحقائق، فالقول والفعل مرتبطان؛ وليس القول هنا بمعنى التصوير والتمثيل أو البيان. فالتواصل يشير إلى ما يفعله المتكلم بقوله، والغرض القصدي من ذلك هو التفاهم بين الذوات وهنا يرفض أن يبقى مفهوم العقل حبيس فلسفة الوعي القائمة منذ ديكارت على ثنائية الذات والموضوع والخير والشر…الخ.
فمهما بلغ هذا العقل “الديكارتي” من قوة في حسن التفكير ودقة في التحليل، فهو عاجز اليوم عن تصور خلاص لأزمة البشرية. لذا يقترح هابرماس الاستغناء عن الذاتية (Subjectivité) والاستعاضة عن الفكر الأحادي والتأمل المونولوجي بتواصل فكري مزدوج قوامه التذاوتية (Intersubjectivité) مع الآخر وبالآخر، وهو محصلة العلاقة بين أنا وأنت. مما يفسح المجال إلى تواصل مزدوج قائم على الحوار المتبادل في مظهره العقلاني المقرون بسياق لغوي تداولي يعتمد البرهان وأسلوب المحاججة.
فلا العقل المفرد قادر على تحطيم العقبات وتجاوز الإكراهات ولا الطبقة قادرة على تجاوز التاريخ لتحل محله، لذا كانت الدعوة إلى الخروج من العقل المفرد وحقائقه المطلقة إلى العقل المزدوج والحقائق ” المتوافق ” بشأنها، غرضه في ذلك أن تنتفي فلسفة الحقيقة المطلقة أو سلطة القوة لتحل محلها سلطة الاتفاق والتراضي القائم على الاعتراف المتبادل. إن تعذر امتلاكها من أي أحد فينا يجعل من أمر التوافق بشأنها بين الناس معرفة ظرفية ونسبية تتيح للجماعة مراجعتها وتطويرها كلما دعا داع إلى ذلك، فالاتفاق بين الناس أفضل من معرفة الحقيقة المطلقة، حقيقة ظلت متغيرة على الدوام وعلى ممر العصور البشرية.
[1]- Heidegger, M. (1954). Vorträge und Aufsätze, Neske, Pfullingen. (Essais et Conférences, trad. Fr. A. Préau, Paris, Gallimard, 1958. p.10.
[ii][2] – Heidegger,M. (1989). “Überlieferte Sprache und technische Sprache” Erker Verlag, St. Gallen. (“Langue de tradition et langue technique” Trad., fr. et postface M. Haar, édit. Leeber-Hossmann, 1990. p. 19
[iii][3] – Heidegger, M. (1954). Vorträge und Aufsätze, Neske, Pfullingen. (Essais et Conférences, trad. Fr. A. Préau, Paris, Gallimard, 1958. p.10-11.
[iv][4] –Heidegger,M. (1989). “Überlieferte Sprache und technische Sprache” Erker Verlag, St. Gallen. (“Langue de tradition et langue technique” Trad., fr. et postface M. Haar, édit. Leeber-Hossmann, 1990. p. 21
[v][5] – Ibid. P.24-25
[vi][6] – Heidegger, M. (1962). “Die Kehre” (trad. J.Lauxerois et Cl. Roëls, In Questions IV, coll.”Tel” Paris. Gallimard. 1976. p.309.
[vii][7] – يترجم مصطلح<<Techno-science>> عادة ب<<العلم التقني>> وقد فضلنا ترجمته بالتقانية العلمية أو التقنوعلمية تمييزا له عن التقنية اليدويةTechno-artisanale أو الحرفية. ويساعدنا ذلك على نحت مشتقات جديدة كتقانية كوكبية لTechnocosme … الخ .كذلك يؤدي مصطلح التقانية العلمية تمييزا عن مرحلة تاريخية كان فيها العلم يقوم علىالفصل بين النظرية والتجريب وغير متشابك كما هو عليه اليوم مع التقنية.
[viii][8] – Heidegger, M. (1984).Zur Frage nach der Bestimmung des Denkens (L’Affaire de la pensée. Pour aborder la question de sa détermination). Trad, fr. et notes d’A. Schlid, (ed). T.E.R., 1990.p.22.
[ix][9] – Heidegger, M. (1954). Was heisst Denken? Niemeyer, Tübingen. Trad.fr. A. Becker et G. Granel. Qu’appelle-t-on penser? Paris. P.U.F. 1959. p.93.
[x][10] – -Heidegger, M. (1986). Sein und Zeit, 16. Aufl., Niemeyer, Tübingen. (Etre et Temps, trad. Fr. Vezin, Paris, Gallimard, 1986; trad. E. Martineau, Authentica, 1985). P.
[xi][11] – Marx, K. (1965). Œuvres, Le Capital. Vol.I. Paris, La Pléade. Gallimard. P.997
[xii][12] – 12- Marx, K. Engels, F. (1973). Lettres sur les sciences de la nature. Paris. Ed. Sociales. P.124.
[xiii][13] –1arx, K. (1965). Œuvres, Le Capital. Vol.I. Paris, La Pléade. Gallimard. P.998
[xiv][14] Habermas. J. (1988). Le discours philosophique de la modernité. Paris. Gallimard. P.8
[xv][15] –Luhmann, N( 1985 ). A Sociological Theory of law. Transl, E.King and M. Albrow. London and Boston. Routledge and Kegan p.33. يعد نيكلاس لوهمان (1927-1998) زعيم مدرسة علم الاجتماع النسقية وأحد أبرز علماء الاجتماع الألمان المعاصر. اشتهر مع هابرماس بوضعه أسس علم الاجتماع التواصلي.
[xvi][16] – Husserl, E.(1945).The Crisis of European Sciences and Transcendental phenomemology. London .p 152.
[xvii][17] )- Ibid., p .146
-[xviii][18]إن مصطلح الوسيط (Medium) أو (mitte) بالألمانية يستعمل هنا حسب المعنى الذي أعطاه لها بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي و كما نجده في نظرية الأنساق اللوهمانية. انظر:
–Luhmann, N. (1981). « Invraisemblance de la communication » In Revue Internationale des sciences sociales. Vol :33. N°1, p.14-139.
–Habermas J. (ٍٍ]1981[,1987). Théorie de l’agir communicationnel. Tome II. Paris. Fayard. p.282 et s
[xix][19] –Habermas, J. (1993) la pensée postmétaphysique. Essais philosophiques .Trad. fr. R. Rochlitz. Paris. Armand Colin. p. 84.
* عندما نتحدث هنا عن الدين، فلسنا نقصد العقيدة أو الإيمان أو التدين، أي علاقة الإنسان الوجدانية والروحية بمايعتبره مقدسا. هذه العلاقة التي تشكل خصوصية وعيه بالكون والطبيعة والمجتمع، وإنما نقصد التجلي العملي النسبي لهذه العلاقة في صور مختلفة من الوعي والممارسات الاجتماعية وخاصة في مجالي السلطة والنظام الاجتماعي.
[xx][20] – (20)- Luhmann, N.(1989). « Le droit comme système social ». In Droit et Société. Trad. fr. M. Van de Kerchove. N° 11-12.Paris. L. G. D. J. p .89.
MODERNITÉ ET LE POST-POSTMODERNISME
لكن التقنية ما لبثت أن أصبحت طوفانا يجرف كل ما يلقاه، عندما نزعت من الإنسان آدميته وأغرقته في أوحال الاغتراب وجعلت منه دمية بين أنياب الآلات ومخالبها، ولعل هيدجر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين الذين تناولوا التقنية بشكل غير مألوف. ولعل الرجوع إلى مقارنة بين أبرز فيلسوف يهاجم التقنية )هيدجر( ومن يدافع عنها)ماركس( سيوضح الأمر كيف يحاول هابرماس رائد مدرسة فرانكفورت الثانية تجاوز مخلفات الإرث الفينومينولوجي الهيرمينوطيقي) التأويلي( والماركسي الكلاسيكي على حد سواء.
انتقد هيدجر(1976-1889) التعريف السائد للتقنية كأداة ووسيلة لتحقيق هدف، كما التعريف الأنثروبولوجي الذي يرى فيها نشاطا واعيا للإنسان على حد سواء. إذ في الغالب ما تدور تعبيرات التقنية الشائعة حول طابع جوهري يميزها بمظهرين متساوقين يطلق عليهما ”المظهر الأنثروبولوجي“ و“الأداتي”، وطبقا لهذا التصور تصبح التقنية” فعلا” إنسانيا حضاريا و”وسيلة من أجل غاية” تنتظمان الواحدة والأخرى منها لإشباع ”حاجياته[1]” . ولدعم الطابع الأنثروبولوجي للتقنية يعمد المفكرون إلى تقديم حجتين: الأولى منها تجزم بأنها مؤسسة على العلوم الطبيعية الحديثة وتعد إحدى تطبيقاتها الملموسة، فلقد أصبحت هذه العلوم بفضل اختراعاتها الخارقة إحدى أبرز الفتوحات الإنسانية التي جعلت التقنية تنتمي للحضارة ومشروع الأنسنة، ولا يمكن تقييمها إلا بربط مساهمتها في تطور الثقافة الإنسانية.
ومن هذا التحديد الأنثروبولوجي للتقنية ينحدر طابعها الأداتي:<< تمر التقنية عبر شيىْ ما يستعمله الإنسان بغاية تحقيق منفعة>>[ii][2]. والهدف من ذلك إعطاء مبدأ موحد لتاريخ التقنية، يشمل كل مراحلها منذ أن صنع الإنسان أول فأس بدائية إلى غاية صناعته لمحطات الرادار والمحطات الفضائية. فحتما هناك بون شاسع في التعقيد التقني، لكنه لا يعد أن يكون في الدرجة وليس في الطبيعة، فكلها أدوات ووسائل تنتج بغاية أهداف محددة.
وبغاية دعم هذا الأفق تعتبر أداتية التقنية حيادية لأنها تميز دور الإنسان الفعلي بوضع شروط عادلة في علاقته بالتقنية إذا ما وجهها إلى غايات روحية، ولقد تزايدت هذه الضرورة بعدما أصبحت التقنية قاب قوسين أو أدنى من الانفلات من قبضة الإنسان ومراقبته[iii][3].
إن تمثل التقنية داخل مدار الأنثروبولوجيا والأداتية يبدو جد متطابقا في أعيننا مع ما يجري، غير أنه مخادع على أكثر من صعيد. ويرجع ذلك بالأساس في محاضرة هيدجر لغة التقاليد ولغة التقنية[iv][4] لى انسجامها مع النموذج التأويلي السائد الذي نفهم من خلاله الأشياء والكون: ذات-موضوع. يبين هيدجر عدم جدية هذا التصور بالرجوع إلى التصور الأنثروبولوجي- الأداتي وامتحان أطروحاته الشائعة والمسلم بها: التقنية كعلم تطبيقي وكأداة خاضعة أو ستخضع لمراقبة الإنسان.
وإذا ما كانت التقنية تمر عبر تطبيق فعلي لعلوم الطبيعة وتخضع للمراقبة النظرية، فذلك لم يعد يقبل به اليوم الفيزيائيون والمهندسون على حد سواء. فلقد انتفت واقعية هذه الأطروحة بعد ما كانت فيما مضى لها نصيب من الواقعية عندما كانت الأدوات منظمة بأهداف تجريبية. وفي المقابل أصبحت النظرية الخالصة اليوم معادلة رياضية بامتياز، وبالتالي باتت إجرائية وقابلة للتطبيق.
ولعل أبلغ حالة في هذا المضمار ما نشاهده في الفيزياء النووية:<< حيث الأجهزة التقنية المستعملة من طرف الملاحظين في تجربة ما، تحدد كلما مرة ما يمكن أو لا يمكن ملامسته من التمظهرات النووية>>[v][5]. وتبعا لذلك إذا أصبحت التقنية عاملا محددا في تحيين الوقائع العلمية، وإذا ما كانت تتوفر في صلب بنيتها على شيىْ ينحدر من المعرفة، فليس من الممكن اعتبارها مجرد تطبيق للعلوم النظرية. لذلك نرى عالما فيزيائيا من طراز هايزنبرغ (Heisenberg) يتكلم عن <<التشابك المزدوج>> بين العلم والتقنية وإن لم يتساءل حول جوهر هذا التزاوج المتبادل.
وبتوضيح أصلهما المشترك يتوجه هيدجر إلى جوهر التقنية، أي أن أسبقية النظرية أصبحت في خبر كان ولم تعد مسلم بها اليوم. فالعلوم الحديثة فرضت نفسها بعد ما أصبحت تجريبية وتقنية ورياضية، ولتحديد مرحلة هذا التطور أطلق عليه المفكرون بما يعرف اليوم ب<< التقانية العلمية>>[vi][6]. أما بخصوص الأطروحة الثانية ينكر هيدجر وبشدة في حوار له مع صحفيين من جريدة Speigel الأيديولوجيا المهيمنة في الديموقراطيات الغربية التي تتغنى بقدرة الإنسان وتحكمه في التقنية، قائلا قولته الشهيرة:<< التقنية في كينونتها شيىْ لا يستطيع الإنسان التحكم فيه>>[vii][7] ونحن بمعرض هذه النقطة، لابد أن نشير إلى أن هذه النقطة تميز رؤية هيدجر للحداثة ككل: فأيديولوجية التقانية العلميةTechno-science تتغذى من عدم قدرة الإنسان الحديث أن يتعرف بواسطة الفكر على<< القوة المتخفية بين ثنايا التقنية المعاصرة التي تحدد علاقة الإنسان مع ما يوجد>>( تساؤلات، الجزء146:III). ومن ثم إن غياب التأمل بالنسبة للإنسان المعاصر يجد سببه في الانبهار أمام التقدم الباهر والفاتن للتكنولوجيات الجديدة.
تشهد الوقائع في خضم التطورات السريعة أن هناك قوة تتجاوز إرادة ومراقبة الإنسان، لأنها لا تصدر عنه، بل تجعل أي مشروع سياسي أو أخلاقي يريد توجيهها أو السيطرة عليها محض تهويم وفرقعة في الهواء. والغريب في الأمر أن إرادة التحكم هاته أصبحت خداع ليس إلا، مثقلة بعمي وتواطىْ الفكر التقني نفسه الذي يحاصر الإنسان من كل جانب والذي يخفي وجها آخر للعبودية التي يوجد عليها. إذ << يبدو صحيحا أن النجاحات المتسارعة للتطور الباهر للتقنية لا تترك أو تعطي انطباعا بأن الإنسان سيصبح سيد التقنية. فالحقيقة، تؤكد أن الإنسان أصبح خادما للقوة التي تسيطر على كل إنتاج تقني من جميع الجوانب >>[viii][8].
ولذلك ما زال النقد الهيدجري يحتفظ براهنيته للتمثل الأنثروبولوجي- الأداتي، فلقد برهن جاك إلول J. ELLUL في كتابه النظام التقني(280:1977) بأن التقنية بعيدة كل البعد أن تتطور عبر مسالك الغايات التي نطمح لتحقيقها، بل تتقدم في الواقع عن طريق تطوير الإمكانيات الموجودة فيها أصلا للنمو والتي أصبحت تقانية كوكبية Technocosme ،أي كأفق أخير وليس كأفق للمعنى. بمعنى أن التقنية لا تخضع إلا إلى حتميات نموها الخاصة والعمياء التي تتجسد في تحقيق جميع التركيبات الممكنة التي تسمح بها جميع حالات التجريب بين عناصرها. يوضح هيدجر هذه الضرورة المتخفاة في قلب جوهر التقنية كنذير مستفزGe-stell يتجاوز الإنسان ومشاريعه ونشاطه، بحيث لم يعد قادرا أن يترجم فعليا مبدأ المعقولية الأخير الذي كان يضعه بين الغايات والوسائل.
وكما لم يسلم من نقده هؤلاء اللذين يعتبرون التقنية مضادة للميتافيزيقا لأنه يعتبرها ميتافيزيقا مكتملة، مكّنت من تحقيق حلم الميتافيزيقا الأزلي لما جعلت المعرفة ملتحمة بأشياء تلمسها وتعيها الذات العارفة. لذا فالرأي الشائع بأن التقنية لا علاقة لها بالميتافيزيقا، لا يجد مكانا للاعتراف به في فلسفة هيدجر. فهي الميتافيزيقا بعينها.
يعود بنا هيدجر محذرا بأن التقنية لا تتمثل في ما تمنحه بصفة ظاهرة: أشياء ووسائل وأدوات ومركبات تقنية وتحديث قوى الإنتاج أو سيرورتها:<< إن جوهر التقنية ليس إنسانيا. فجوهر التقنية لا يمت قبل كل شيىْ بأي صلة للتقنية >>[ix][9].
تبدو هذه الأطروحة جد مفارقة ومختلفة عن جميع التصورات المعروضة حول التقنية، لأن المشروع الذي يوجد في صلب التقنية ليس منجزا إنسانيا ولكنه ميتافيزيقا تلف جميع مجالات الواقع ولا تقتصر فقط على الآلات.
لقد أرست الميتافيزيقا أسس التقنية حينما جعلت معيار الحقيقة ـ منذ الفلسفة الإغريقيةـ مطابقة الفكر للواقع، مما مهد لأن تحتكر العلوم الوضعية الحقيقة لوحدها، وبدأ ذلك يتضح رويدا رويدا منذ الثورة العلمية التي أحدثها العالم الفلكي جاليليو(1642-1564) الذي دمر الرؤية الكنسية للعالم وغير من نظرة الإنسان الميثولوجية والغيبية للكون، لتقوم على الملاحظة الفيزيائية والدقة الموضوعية. وتأكّد ذلك في عصر النهضة الذي حدد فيه ديكارت هدف العقل في << أن نصير سادة الطبيعة>> لا عبيدها، وعلى النحو الذي يسمح بتسخيرها و”استعبادها“ كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف دان سكوت. ومن ثم تسنى للعلم أن يلعب دوره الهام بوصفه أداة تساعد في السيطرة عليها كما قال فرنسيس بيكون.
لقد أوقدت هذه الرغبة المستعرة للإنسان سبيلا إلى البحث المستمر على حقائق الكون وفهم ظواهره بشكل علمي، وبمقدار ما تتطور السمتان الأساسيتان للفعل البشري: ”المعرفة و”المصلحة” (Connaissance et Intérêt)، تتدخل الإرادة الإنسانية لتطويع النظرية العلمية في تعديل الأشياء وتغيير الواقع، بل قل أنها أصبحت اليوم قادرة على تغيير الطبيعة البشرية كالمزج بين الجينات والقدرة على الاستنساخ البيولوجي وتعطيل الشيخوخة أو اختيار طبيعة النسل: ذكرا أو أنثى، إذ بلغت التقنية شأوا غدت بموجبه“إرادة الإرادة“.
ولكي نتبين قصد هيدجر من ذلك، يمكن الاستدلال بأن الإرادة الأولى هي التي تحدد الإطار الذي يتم من خلاله توظيف الإرادة الإنسانية، بمعنى أن الجوهر الميتافيزيقي للتقنية يفسره شعور البشر بأن إرادتهم تتجاوزها أشياء من صنع أيديهم حيث أصبح الإنسان مكبَّلا في كل مكان بقيود التقنية.
يتجلى ذلك في نموها البالغ السرعة وبصورة رجائحية ومفاجئة أغلب الأحيان، ولا أبلغ من ذلك، أننا أصبحنا مدينين للكهرباء وآلات الطبخ والغسيل ومكيفات الهواء لا نستطيع منها فكاكا. منه ما يقوله هربرت ماركوزه في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد: إن<< الناس يتعرفون على أنفسهم في سلعتهم، يجدون أرواحهم في سيارتهم، في أجهزة الهاي–فاي العائدة لهم، في بيوتهم المسواة، وفي تجهيزات مطابخهم>>. فقيمهم متسقة مع علاقات التسويق والاستهلاك، لا تستطيع عنها بديلا أو تبديلا.
لقد أدى تقدم تقنياتنا المذهل والطواعية والدقة اللتان توصلت إليهما، بالإضافة إلى العادات والأفكار التي أوجدتها وقوع تغييرات عميقة في حياة الإنسان، إذ يستحيل اليوم أن نرى إلى المادة والمكان والزمان كما كان يحدث في الماضي.
لقد انفلت العالم إلى أشكال ممزقة من المعاني التي تتكلم أصواتا متعددة تتفق مع تبايناتها التي أفقدتها الكثير من تناغمها وعمقها، مما أدى إلى فقدان قابليتها لتنظيم حياة الناس وإعطائها معنى.
ولعل كتاب نيتشه وراء الخير والشر (1882)، يصور بدقة عالما معاصرا يحبل كل شيىْ فيه بنقيضه:<< في لحظات الانعطاف التاريخية هذه تتجلى متجاورة ومتداخلة ببعضها غالبا حركات نمو وصراع رائعة متعددة الوجوه أشبه بالغابة، نوع من الإيقاع الاستوائي في عملية التطور مع حركة هائلة للتدمير والتدمير الذاتي بفضل الأنانيات المتعارضة تعارضا عنيفا والمتفجرة والمتصارعة فيما بينها من أجل الشمس والنور، غير قادرة على الاهتداء إلى أية حدود أو قيود وأي احترام أو اعتبار في إطار الأخلاق الموجودة تحت تصرفها… لاشيىْ غير” الأسئلة“ الجديدة والصيغ الجماعية لم تعد موجودة، هناك “لاء“ جديدة تستند إلى سوء التفاهم وانعدام الاحترام وثمة انحطاط وشر مستطير مع أسمى الرغبات المجتمعة مع بعضها بشكل مخيف، ثمة عبقرية الجنس تفيض فوق أطر الخير والشر وتزامن مصيري بين الربيع والخريف… مرة أخرى هناك خطر، وهو أم الأخلاق – خطر هائل–. لكنه الآن موضوع خطر على الفرد، على الأقرب والأغر، على الشارع، على الابن بالذات، على القلب بالذات، على أعمق الملاذات السرية للتمني والإرادة>>. وهذا ما يفسر الصرخة المدوية التي أطلقها نيتشه وما زالت تصدح في الآفاق:<< احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والانتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيئ لا محالة. إذ لا يكفي أن تسقطوا الآلهة القديمة لكي تُحِلُّوا محلها أصناما جديدة، لا يكفي أن تنهار الأديان التقليدية لكي تحل محلها الأديان العلمية، فالتقدم ليس غاية بحد ذاته>>.
يتم ذلك وفق ما نعت به عالم الاجتماع الألماني ماكس فـيبر(1920-1864) تقنية هذا العصر في الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية بالـ” قفص الحديدي“، إذ أن نظامها التقني والبيروقراطي:<< يُجدد حياة كل الأفراد الذين ولدوا داخل هذه الآلية بقوة لا تقاوم>> وببأس شديد. فالبنسبة لفيـبر مثلا، ليس معاصروه إلاّ:<< اختصاصيين بلا أرواح، شهوانيين بلا قلوب. وبهذه اللاّشيئية وهذا الانعدام، نجدهم غارقين في الوهم القائم أنهما حققا مستوى من التطور لم يسبق للبشرية أن حققت مثله>>. إن جميع الناس فيه إنما تمت صياغتهم وفقا لشباكه وقضبانه، فنحن كائنات بلا أرواح وبلا قلوب وبلا هويات جنسية أو شخصية.
إن الإنسان الذي تمنى يوما ما أن تجعل منه التقنية سيدا صار به الحال عبدا للأدوات التي أنتجها، مما ساعد في عدم شعوره بالأمان وازدياد مظاهر القلق والاكتئاب إلى حد بلغت فيه روحه كما سمي سارتر روايته الشهيرة: الغثيانnausée” ”La ، وأصبح في الوقت نفسه أسرى صدمات وتشنجات عنيفة بالمقدار نفسه الذي يحس بأنه مشحون بقوة حيوية تضخم كينونته كلها.
يلغي هذا الفهم عند هيدجر حياد التقنية وهو رأي متداول وشائع بعد أن ساد الاعتقاد بأنها في حد ذاتها ليست خير أو شر كله، بل يتوقف الأمر على كيفية استخدامنا لها، والمثال الذي يجري تقديمه كل مرة و بكل أريحية، هو الطاقة الذرية التي يمكن أن تستخدم لغرض سلمي أو غرض مدمر.
يعارض هيدجر هذا المفهوم الماركسي أشد الاعتراض، ويرى أنه في اللحظة التي تنطلي علينا حيلة أن التقنية محايدة نضل سواء السبيل ونقع في المحظور ونوقع صك نهايتنا وبأسوأ الأشكال. ويفسر ذلك بأن الأزمة لا تنبع من وظائف ما يصدره الإنسان بعد اكتمال المنجز التقني، لكنها تبدأ أصلا من أسسه حتى قبل الشروع في إنجازه. فالتقنية نوع من اللعبة الخبيثة التي تجيد إطباق فخاخها على الإنسان، لأنها تنطوي على مفارقة كامنة في صلبها، فيكون المتحقّق منها دائما عكس المرجو، وبطريقة مفاجئة أغلب الأحيان.
وإذا كانت التقنية واختراعاتها تفتتنا بسحرها ما دام عالمها غرائبيا، فهي أيضا عالم شيطاني مرعب، عالم يخرج من دائرة التحكم، عالم يهدد ويهدم بشكل أعمى وهو يتحرك كاسحا كل ما حوله. ولا أدلّ على ذلك إذا أردنا أن نستخدم مجازا يقارب ما يذهب إليه هيدجر، شخصية فرانكشتينFrankenstein)) لماري شيلي Marry Shelle. فهاته الشخصية الغريبة تمثل في مسعاها البشري سعي الإنسان اللامحدود لتوسيع الطاقة والقدرة الإنسانية عن طريق العلم والتقنية. لكن صنيعهما ينقلب إلى وحش ضاري تنفجر في وجهه بصورة لا عقلانية وغير منتظرة وبنتائج كارثية.
فإذا كانت الميتافيزيقا دشنت مشروع فهم أصل العالم والمجرّدات، فلقد انطلقت التقنية شيئا فشيئا لتصبح ”ميتافيزيقا مكتملة” في العالم المعاصر، تقارب حلم الفلسفة الأول في فهم العالم، وخير دليل على ذلك مظاهرها التالية: تطور لانهائي، خلق وتجديد أزليين يطبعها في جميع ميادين الحياة، فهي الآن ثورة مستمرة…
فهي مشحونة بأكثر أشكال الفرح غبطة وحبورا كمصل البنسلين وبأحلك ألوان المرارة سوادا كمرض جنون البقر والالتهاب الرئوي اللانمطي، إنها فرانكشتين جديدة، بل أصبحت أيضا قادرة على التدمير و جعل الحروب مربحة. إنها بمثابة دوران حلزوني يدور على نفسه إلى ما لانهاية، يحاول تجريب جميع البناءات والتركيبات الممكنة التي يحبل بها.
أليس الأمر كما رصده أدورنو في كتابه الكبير Dialectique négative:<< ليس هناك من تاريخ كوني يفضي من العبودية إلى نزعة محبة للإنسانية، وإنما هنالك تاريخ يفضي من المقلاع إلى القنبلة التي تعادل قوتها قوة مليون طن من ال ت.ن.ت… فهو التاريخ الواحد الوحيد الذي لا يزال يتكررّ إلى هذا اليوم مع– وقفة بين لحظة وأخرى لالتقاط الأنفاس– وغايته أن يكون ألما مطلقا>>. (320:1937)
يبدو الإنسان في هذا العصر<< بدون سلطة على مصير الوجود وبالتالي لا يجب عليه[حسب هيدجرِ] أن يشرع في أي نشاط أو تمرد، وإلا سقط في فخ الفكرٍِ[ الأداتي] الحاسب والتقانية، فلا يوجد فعل إنساني يمكنه أن يغير جوهر التقنية>>.
يتصور هيدجر الإنسان قذف في الوجود، وهو وصف أكثر وضوحا لانعزالية الفرد، فالإنسان ليس فقط غير قادر على إقامة علاقات مع الأشياء أو الأشخاص خارج ذاته، بل أصبح من المستحيل نظريا إنشاء تحديد نظري لأصل الوجود الإنساني وأهدافه، ومن ثم أصبح الإنسان كائنا غير تاريخي. لكن هابرماس يرفض أن يكون الأفق مسدودا والمستقبل مظلما، ويتهم فكر هيدجر بالاستسلامية والقدرية. ويؤكد بأن لدى أفراد هذا العصر القدرة على فهم هذا العصر من جهة، وعلى تغييره بعد فهمه من جهة ثانية.
فإذا كان هابرماس يدين لهيدجر رائد الفينومينولوجيا التأويلية بالقدرة على استكناه العالم المعاصر واستشراف قضاياه، فإنه يأمل عبر تأسيسه لتأويلية نقدية Herméneutique critique تجاوز هيدجر لفهم العالم ونقد رؤيته للكون بغية تحرير الإنسان. ولا غرابة من أن يعتبر هابرماس مع ذلك)[1971]، 1974) كتاب هيدجر الكينونة والزمان[x][10] << أهم حدث فلسفي منذ ظاهريات العقل لهيغل>> لاسيما الفصل السادس الذي يتمحور على الخطاب، حيث يحقق هيدجر قفزة نوعية في تجاوز فلسفة الوعي عبر إطار اللغة، وهو بمثابة موت معلن للديكارتية.
يعمد هيدجر على تخليص الفكر من نزعته المتعالية وتقديم مقاربة تاريخانية تتجاوز فلسفة الوعي الذاتي، وإن قامت على تأويلية وجوديةHerméneutique existentiale . فالمهم عند هابرماس يتجلى مقياس القيمة الفلسفية للفكر في بعده البرهاني اللغوي، وهيدجر اقترب من ذلك بكثير. لكن ذلك لم يمر من دون نقد شديد وصارم له، لاسيما نظرته النخبوية للحقيقة، أو ما يسميه صيرورة الحقيقة devenir de la vérité التي يدعي أنه يلامسها وعلى مقربة منها، من دون أن يعرض الحجة على ذلك، بل يرفض ضرورة التحقق من صلاحية قضاياه الفلسفية، لأنهل لا تقوم على” قوة”عقلانية تمكنه من حمل مخاطبه على الاعتقاد بها بعد البرهنة عليها.
لذلك فإذا تملك الإنسان الرؤية العقلانية النقدية فهو مستعد لأن ينقلب على نفسه ويسائل وينفي أو يحاور كل ما قيل أو سبق أن آمن به، ويحولها إلى سلسلة من الأسئلة الجريئة ومن الأصوات المتناغمة والمتضاربة، تتعايش فيه رؤى الآخرين المنطقية. ولأن يستطيل ويتمدد أفقه إلى أبعد حدود طاقته لتصبح حقائقه مبنية على صحيح البرهان والمحاججة.
إن التواصل العقلاني والاحتكام إلى المحاججة والبرهان من صنائع العقل ومميزاته اللذان يفضحان الأوهام المزيفة وكل أصناف الخداع المستشري في الإشهار السياسي والاقتصادي والتقني، ويستطيعان تعرية الذات من نرجسيتها وأنانيتها وأوهامها: إنهما يكشفان أصول الرغائب والدوافع غير القابلة للإشباع.
إن صوت العقل مؤمن بقدرته على اختراق الأقنعة وتجاوز المطبات، فحتى أعمق الجروح وأقساها لا تستطيع إيقاف تدفق طاقة البرهان الخلاقة وفيضانه الخصب. إن تبادل الحجج واللجاج المصاحب لها منع لكل دوغمائية واتكالية. فالبرهان الخطابي عند هابرماس صوت متعدد الأصوات، حواري وجدلي يدين الحياة الحديثة وتقنياتها لما تجانب الصواب باسم مشروع الحداثة نفسها، آملا أن يعلو شأن العقل في كل ميادين الحياة وأن تشفى الجروح التي تمزق رجال حداثة اليوم ونسائه.
يريد هابرماس البحث عن حل عقلاني للتقنية التي أطبقت على العالم المعيش واستفردت به من جميع الجهات، فهو يقر بأننا نعيش عصر الرأسمالية المتقدمة القائمة على التقنية، بل إن شرعيتها أصبحت مستمدة منها. فلا سبيل إذن للهروب منها إلى جداريات الماضي وأطلاله، ولا مناص أيضا بالاعتراف أن التقنية تعمل بشكل مختلف عن الأيديولوجيات التقليدية لتبرير شرعيتها، وما يميز التقنية عن الأيديولوجيا أنها استطاعت أن تخلق مصالح مرتبطة بوجودها بين جميع الطبقات والشرائح المختلفة، بل اخترقت حدود الجغرافيا والأمم، جميع حدود الطبقات والدول وحدود الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات.
نتبين ذلك جيدا عندما يعود هابرماس إلى ماركس الذي كان أول هلل للعلم ورفع شعار التقدم والتمايز الذي ظهر بين المجالات، بحيث صرنا قاب قوسين أو أدنى من تسخير الطبيعة والتحكم بها بفضل العلم. الأمر الذي مهد من انتقال آليات التحكم بالطبيعة إلى مجال الحياة الاجتماعية ذاتها. فصرنا نحاول تنظيم حياتنا بغاية الفعالية والنجاعة والتنظيم الحسن والترشيد المعقلن الذي يذلل تطويعها إلى أبعد حد. ومن أهم مظاهرها في عالمنا المعاصر التكنوقراطية صنوة التقنية إن لم تكن صنيعتها:<< فمن جانب، نلاحظ أن الوعي التكنوقراطي “أقل أيديولوجية“ من الأيديولوجيات السابقة (الماورائية والميتافيزيقية منها)، لأنه يستأنس بالخبرة المقدمة وليس له اهتمام بأحاسيس الإنسان والتقاليد الأبوية الرحيمة، بل يجهز عليها إجهازا.
ومن جانب آخر، إن الأيديولوجيات الأكثر شفافية اليوم والتي تسود في خلفياتنا وتجعل من العلم صنما، لا تقاوم وتذهب أبعد من الأيديولوجيات التقليدية، لأنها بحجبها لمشاكل العدالة الاجتماعية والمساواة لا تبرر فقط مصلحة جزئية في السيادة لطبقة محددة، وإنما تقمع في نفس الوقت مصلحة جزئية في التحرر لطبقة أخرى، بل لأنها أيضا تضر بمصلحة الجنس البشري كله في التحرر>>[xi][11]
مرد ذلك أن ماركس يثق في التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الاستيهام الحالم والأسطورة لأنها محايدة، وهي إيجابية لأنها مرتبطة بتقدم العقل البشري، كما أنه يفترض من خلالها تطورا مطردا لهذه التقدم نتجاوز بموجبه تفسيرات الإلهام السحري للطبيعة التي يسعى العلم أن يكبح جماحها ويشل قدراتها والتي ينتقدها في حينها.
ولا يتميز كل من ماركس وانجلز عن ما سواهم من المؤرخين بتفضيلهم للعلاقة الموجودة بين العلم والتقنية فحسب، ولكن لأنهما غيَّرا معنى طبيعة العلاقة التي جرت العادة إعطاءها لهما. فمن دون شك يشجع تطور العلم تطور التقنية، لكن التأثير العكسي هو ما يبدو في نظريهما جدير بالأهمية في هذه العلاقة الجدلية:<< إذا كانت التقنية كما تقولون، متوقفة بالطبع وإلى حد كبير على حالة العلم، فهو بنفسه متوقف أكثر بكثير على حالة واحتياجات التقنية. ومتى برزت في المجتمع حاجة تقنية كان ذلك محركا للعلم أكثر مما تقدر على فعله عشر جامعات.>>[xii][12]
ويعتمد ماركس تصورا لآلية التغيير التاريخي على المستوى الاجتماعي، لا تلبث أن تتغير من خلاله علاقات الإنتاج القائمة التي توجد في صالح البرجوازية إلى صالح القوى التي تدفع عجلة التاريخ إلى الأمام، فالتراكم الذي حققته الإنسانية في جميع مجالات الحياة لم يكن ممكنا من دون تطور أدوات الإنتاج، والتي كان من المتعذر أو المستحيل حل إشكالاتها من دون التقنية.
وبتركيز شديد، تصبح التقنية عند ماركس ايجابية وبناءة، لأنها مرادفة لتسخير الطبيعة ومفتاح التقدم وتطور قوى الإنتاج، والمطلوب فقط تخليصها من سيطرة فئة معينة وتخليص قوى الإنتاج من قبضة رأس المال والاستغلال وتخليص الإنسان من الاستلاب.
ويعتبر ماركس في نظر هابرماس أكبر داعية للتقنية، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه إذا كان ماركس قد ناصر التقنية كوسيلة لتحرير الإنسان من الأمراض الفتاكة والأوبئة وجبروت الطبيعة…الخ، فإنه أشار في مواطن متعددة إلى الأخطار التي تحدق بالطبيعة من جرّاء الاستغلال التقني الأرعن لمواردها، يقول:<< إن كل تقدم في فن الزراعة الرأسمالية ليس فقط تقدم في نهب الأرض، فكل تقدم في زيادة خصوبة الأرض لوقت محدود من الزمن هو تقدم في تخريب الموارد الدائمة لهذه الخصوبة>>[xiii][13].
ومع ذلك، فالتقنية أو بالأحرى صنوها في المجال السياسي: التكنوقراطية، أبعد من أن يحتكرا مجمل النشاط الإنساني في المجتمع. ولكي يبين هابرماس حدود مفهوم التقنية من منظور ماركس، فإنه يقسم المنظومة الاجتماعية إلى مقولتين: العمل والتفاعل.
ومن هذا المنطلق يعيب على ماركس اهتمامه فقط بالعمل والإنتاج داخل دائرة النشاط الأداتي، متجاهلا جانبا لا يقل أهمية عنه يقوم على التفاعل الإنساني كالنشاط التواصلي الذي يعتبر ذا دور كبير في لحم النسيج الاجتماعي أو ما يسمى في علم الاجتماع بالجمعنة أو الجتمعة (Sociabilité). فالفكرة الأساسية التي يحول هابرماس عرضها، أن ماركس يهلل تهليلا كبيرا لقيم العمل والإنتاج ودور التقنية في الرفع من ذلك، ويهمل جانبا لا يقل في نظر هابرماس أهمية عن ذلك: أهمية التواصل في العصر الحديث.
يفهم هابرماس العمل كـ”نشاط عقلاني موجـه لهدف وغاية”، وهو ينقسم بدوره إلى نوعين: فعل أداتي agir instrumental يخضع لقواعد تقانيةTechnicité، واختيار عقلاني choix rationnel ينتظم وفقا لاستراتيجيات قائمة على معرفة تحليلية.
أما المقولة الثانية التي يهملها ماركس وهي التفاعل interaction أو النشاط التواصلي كتفاعل اجتماعي، يتم بواسطة مجموعة من الرموز والقواعد الإجبارية التي يحدد ما يتوقعه طرف ما من سلوك الطرف الآخر؛ وتستمد هذه الرموز معانيها من اللغة الجارية، خزان التجارب أو روح الشعب كما يقول هيغل.
ونظرا لاختلال التوازن بين هذين المستويين بعد أن أطبقت التقنية على النشاط الاجتماعي والعالم المعيش، متخطية بذلك مجالها الطبيعي لتغرقهما في وحل آسن من الاغتراب والتشيؤ، الأمر الذي أدى إلى إصابة الوعي الإنساني من جرّاء ذلك بالخواء المعرفي والزيف الفكري… ) سنعود لاحقا لتبيان الأصول الفلسفية لمقولة التفاعل (.
وكخلاصة لذلك، يشخص هابرماس الحداثة الأوروبية على ضوء ماكس فيـبر بأنها عقلانية أداتية، ولقد لخص هذا الأخير المميزات والخصوصية الأوربية تحت مفهوم العقلنة والعقلانية التي تجلت في ازدياد الحسابية والبحث عن الربح والسيطرة المنظمة على كل الجوانب الحياة الإنسانية على أساس قواعد قللت من الاعتماد على القيم التقليدية المتوارثة.
فلقد بين ماكس فيبرWeber بالملموس وجود تفاعل متبادل بين الأخلاق الدينية البروتستانتية ونشأة الرأسمالية، وأرسى بذلك لأول مرة الأسس المادية للنظرية الرمزية التي تتناول روح التدين النسكي كنشاط مادي عند الرهبان وتأثيره في نشأة الرأسمالية والتطور الاقتصادي وظهور العقلنة.
وأضاف فيـبر إلى ماركس بأن الرأسمالية ليست فقط نتيجة لفعل التراكم المادي عن طريق قوى الإنتاج، بل أخذ أيضا محمل الجد دراسة التأثير المتبادل بين السلوك الديني بوصفه سلوكا اجتماعيا بامتياز يتفاعل فيه الرمز وتنشأ عنه قيم للتواصل في المجتمع إذا ما استبطن الإنسان إيمانه الديني بطريقة عقلانية وتمثله عقليا. ثم أخذ من ماركس التفسير المادي للظواهر الدينية كما تمارس في المجتمع وما تحبل به من قيم دنيوية، ولقد وقف ضد من حاولوا النيل من ماركس عندما ربطوا ميكانيكيا بين ولادة الرأسمالية وـ الأخلاق البروتستانتية ـ والدين المسيحي بطريقة ميكانيكية.
يعود هابرماس إلى فيبر ليحاول استنباط عقلانية تواصلية تظبط الممارسة الأداتية التي أضعفت أواصر العلاقات الاجتماعية. وهابرماس محق في محاولة البحث عن ما يظبط العقل الأداتي الوظيفي داخل حقله الطبيعي، و هو يرى أن المعيارية التي تتبلور صيغها في إطار العقلانية التواصلية هي الكفيلة بوأد الهوة السحيقة التي تفصل بين عالمنا والأنساق.
يرجع الاهتمام بالمعيارية في عالمنا المعاصر إلى تضارب المعتقدات، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل داخل المجتمع الواحد بشكل يستحيل كما يرى هابرماس، فرض تطبيقات أو تأويلات وحيدة على جميع أفراد المجتمع في مجتمع الحداثة:<< لا تستطيع الحداثة أن تستعير المعايير التي تسترشد بها من عصر غابر، مثلما أنها لا ترغب في ذلك، فهي تكابد ملزمة لتستخرج معياريتها من ذاتها، ولا يمكن لها أن تعتمد إلا على نفسها>>[xiv][14].
إن تراجع دور المكونات التقليدية والعادات في شد أواصر المجتمع المعاصر وتماسكه، يخول للمعايير وظيفة الحفاظ على النسيج الاجتماعي متماسكا. فالمعايير بصفة عامة والقوانين بصفة خاصة مرشحة أكثر من غيرها اليوم أن تلعب هذا الدور لكبح جماح الأنساق والمنظومات الشبكية التي انفلتت من عقالها مهددة العالم برمته، ومن هنا الدعوات المتصاعدة في أرجاء العالم لوضع أنظمة معيارية تقنن التجارة العالمية وحماية البيئة والتحكيم بين الفرقاء المتصارعين… على نحو يكفل التوازن والسلم العالمي ويدعم التنمية… الخ.
لقد أصبحت إعادة النظر في المجال الأخلاقي والمجتمعي ضرورة قصوى بالنسبة لهابرماس، بعد أن فقد الدين والتقاليد والميتافيزيقا سلطتهم في توجيه حياة الإنسان كليا، وانحصروا في المجال الخاص بكل فرد، أو أصبحوا عرضة لاستعمالات مختلفة ولم يسلموا بدورهم من اللغط والإقصاء والعنف من طرف من يدعي امتلاك ناصية القول في تأويلهما وحده من دون سائر الآخرين.
فالمعايير صيغة ضرورية للتواصل الاجتماعي، والتواصل الاجتماعي في نظر نيكلاس لوهمان أحد أبرز رائدي المدرسة النسقية الوظيفية في علم الاجتماع الألماني المعاصر، عاملا يتيح حصر التعقيد Complexité)) والانشطار الذي يلف بالحياة الاجتماعية المعاصرة وطابعها العارض والمحتمل.
تنتج تعقيدات الفعل الاجتماعي من واقع أن الفاعلين في مجهوداتهم التنسيقية يجدون أنفسهم أمام ركام من الخيارات أكثر بكثير من تلك التي يمكن تحيينها، ويشير الطابع العارض (Contingent) إلى إمكانية الفعل الاجتماعي في أن يشق طريقا مغايرا عن التخطيط المبرمج له أو المسار الذي حدد له من قبل داخل الحدث الاجتماعي. فالتوازن هنا توازن متحرك وغير قار.
وللرفع من قدر الاحتمالية وعدم اليقين المسلط على الحياة الاجتماعية اليوم، يجب التخلي عن دراسة المجتمع بصفة كلية أو ماكرواجتماعية، والتحول عنها إلى دراسة السلوكات الحية والمتبادلة بين الفاعلين والاقتصار على الحركة الميكرواجتماعية.
يعني ذلك اختيار التركيز على التفاعل التواصلي باعتباره سلوك التبادل الاجتماعي المعاصر بامتياز، فـالتواصل أصبح يلعب دورا كبيرا في حياتنا اليومية، وهو من ناحية وظيفية يقوم على رصد ماهو مستقر وثابت في تطلعات الناس ويمكن رصده من زاويتين:
– فسواء يقوم بتأسيس تطلع ذهني(Attente Cognitive) عقلاني، يقدم جملة مفاهيم ومعرفة تحليلية للواقع تصبح عملية اكتسابها وتلقينها متيسرة بالتعليم والتربية، أو يُجبر الفاعل في حالة فشله في التأقلم مع الوضع الجديد الذي لم يخطر على ذهنه بتركها وعدم تلقينها أو تعلمها.
– أو سواء ينجح في تأسيس تطلع معياري((Attente normative تصبح المعايير آنذاك صيغا لانتقاء السلوكيات وتقنينها وظبطها بغرض الحد من الاحتمالية والتعقيد اللذان يطبعان العالم المعاصر، إلاّّ أن التطلعات المعيارية في مجملهاتطلعات عكسواقعية[xv][15](Contre Factuelles) إجبارية لا تهتم بما هو كائن وإنما بما يجب أن يكون.
لكن ذلك لا يكفي للحد من الاحتمالية والتعقيد الذي يطبع عالم التواصل، ما لم يتم التنسيق بين التطلعات المعيارية والذهنية في مستويات عليا، خشية أن نجد أنفسنا في حالة فوضى عارمة لا يمكن تسييرها. لذا تتشكل الأنساق من طرف مستوى ثان من الانتقاء، فتكرارالعمليات الانتقائية على نفسها وعلى عناصرها يجلب تمايزا في صيغ التواصل، والتمايز هنا صيغ من صيغ التغيير الاجتماعي. ولذلك تظهر أنساق عديدة ( الدولة، النقود، المعايير ومنها القانون)، وهنا نجد مفتاح تمايز المجالات المعيارية التي لم يفهمها علم الاجتماع الكلاسيكي ( دوركهايم، ماركس، جيرفيش…الخ) إلا كمعطيات ثابتة، والتي أصبحت اليوم تعرف عملية دينامكية وغير مستقرة في البناء.
يتكون النسق من التفاعل القائم بين الفاعلين، وإذا ما استقر على إشباع حاجيات الطرفين فسيكون مدعاة لتكراره ورسوخه وينتظر كل منهم استجابة معينة من بعضهم البعض، بحيث أن استمراريته يولد معايير اجتماعية متفق عليها. وكمثال على ذلك علاقة الإنسان بعمله، فما دام يذهب إلى العمل كل صباح سينتظر من رب العمل أجرته في نهاية الشهر. وما دام كلا الطرفين راضيين بذلك سيتكرر الذهاب كل يوم وستتكرر منحة الأجرة كل شهر، وعلى غرار هاته العملية تتطور القواعد والسلوكيات التي تحكم العلاقة بينهما كما أعراف العمل وقوانينه حتى تتبلور في مؤسسات اجتماعية، تحكم كل منها معايير وقيم ثابتة.
وعلى هذا المنوال، تنغلق الأنساق التي تتشكل بهذه الطريقة على نفسها بتمايزها عن محيطها، ومن المؤكد أنها تعرف شيئا ما عنه، لكن فقط بلغتها الخاصة ومصطلحاتها. وهذا ما يجعلها منفتحة، فهي تقوم ببناء قاموسها الخاص بالمحيط عن طريق انتقاء المعطيات المفيدة لحساب إعادة إنتاجها.
وبعد هذا الرصد، يتعين فهم المجتمع المعاصر بحسب هابرماس كتزاوج لصيغتين من الاندماج الاجتماعي: النسق من جهة والعالم المعيشي من جهة أخرى.إذ قامت فكرة “العالم المعيشي” كما حددتها الفلسفة الظاهراتية على مقارنة إدموند هيسرل (Husserl) بين نوعين من الحقائق وبين نوعين من العوالم[xvi][16]:
فهناك حقائق العالم المعيش وهناك أيضا حقائق العلوم الموضوعية، فحقائق العالم المعيش حقائق تاريخية وذات علاقة بتجارب وتراكم خبرات مقرونة بسياقات ثقافية معينة، أما حقائق العلوم الموضوعية فهي كونية – غير ثقافية – ولا تتعلق بمحيط ثقافي ما، بل أن مسلماتها قابلة للتطبيق في كل مكان. بمعنى أن فكرة العالم المعيش تعني عالم الوجود مثلما يحياه الإنسان يوميا في محيط اجتماعي مقرون بسياق اقتصادي وثقافي، فهو عالم التجربة الآنية كما يعيشه الإنسان وهو عالم يتعلق بالإنسان وبيئته الثقافية والجمعية.
ويلاحظ هيسرل في كتابه “أزمة الثقافة الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية”: إن من بين الأشياء الخاصة بالعالم المعيشي، نجد أيضا المخلوقات البشرية بكل أفعالها الإنسانية واهتماماتها وأعمالها وآلامها، منخرطة في حياة مشتركة من خلال علاقات اجتماعية معينة، ومن خلال معرفة ذواتها بأن تكون كما هي”[xvii][17]. إنه عالم سطحي خال من الرؤية النظرية، أما بالنسبة لهابرماس، فالفرق بين النسق والتفاعل ليس تحليليا فقط، ومن ناحية ابستمولوجية يمكن فهم أي فعل اجتماعي من زاويتين: تشير أولاها إلى الفعل كتفاعل أو كعنصر من نسق ما، فالتفاعل يتم من وجهة نظر المتفاعلين إذا ما أثبتت أقوالهم صلاحية يكمن ورائها حدسهم المعياري، أما الثانية تشير إلى وجهة نظر ـ رؤية خارجية ـ الملاحظ المختص الذي يضع الفعل في دائرة الأفعال الاجتماعية ككل، ويرصد الأسباب أو النتائج التي قد تغيب عن الفاعلين أنفسهم.
ويقدم هابرماس رؤية لفهم العالم المعاصر من خلال التعريف الجديد الذي يراه منشطرا إلى عالمين: الأول يخص العالم المعيش الذي تقوم بنياته على اللغة والتواصل والثاني يخص عالم الأنساق الذي يخضع بالأساس للعقلنة الحسابية التي تتميز بالوظيفية والأداتية والفعالية.
وهذه الفجوة تقسمه إلى شطرين: عالم الأنساق والعالم المعيشي. فاللغة تلعب دور التواصل في العالم المعيشي، والنسق مجال العقلنة الحسابية والأداتية المحيطة به. فاللغة كالأرض تشخيص لمأوى الوجود وعلى الرغم من أنها كانت دائما وسيطا رمزيا(Medium)[xviii][18] بامتياز، لا يمكنها التنسيق بين جميع الأفعال الإنسانية. لذلك حلت محلها الأنساق في العديد من مناحي الحياة.
وإذا كان التاريخ المعاصر يشهد إعادة انتشار اللغة كتواصل بوصفها خزانة البشرية التي لا تنضب، يمكن القول أن هذه العقلانية الثقافية تعتمد وسيطا ضعيفا. فالفعل التواصلي الذي يقوم اليوم مقام الأدوار التي قامت بها التقاليد البارحة، غير مؤهل بما فيه الكفاية للقيام بالتنسيق بين جل الأفعال في الواقع المادي للمجتمع. لذلك تلجأ المجتمعات إلى وسائط النقود والسلطة التي تمكن الاقتصاد والدولة ـ كأنساق اجتماعية ـ أن تحقق استقلاليتها عن العالم المعيش. وما يعرف اليوم عن هذه الأنساق أنها ذو نزعة توسعية ومهيمنة ترغب في احتلال كل جوانب العالم المعيش والسيطرة عليه، مما يسبب أضرارا نفسية واجتماعية لا يستهان بها ويطرح على المستوى السياسي أزمة الشرعية.
وأول الأنساق التي تلعب دورا هاما في حياتنا المعاصرة السلطة التي تعتبر مؤسسة نظام الدولة، والنقود التي أسست بدورها نظام السوق. يرى هابرماس بأن هذه الأنساق تمتاز بدينامكية انغلاق على نفسها لكل منها عالمها الخاص: فالسلطة تحدد شروط ممارستها، والنقود تحدد قيم العملة (سوق الصرف، نسبة الفائدة) بطريقة محض ذاتية. وأوضح مثل على ذلك ما تلعبه النقود من دور (فهي كأوراق لا قيمة لها، لكنها تكتسب قيمتها بفضل اعتمادها كآلية للشراء والبيع) وكل نسق له رموزه: فالاقتصاد يتعامل بالعملة والنسق السياسي بالقوة …الخ. فالمعنى لا يوجد قبل النسق ولا يسبق مجال الفعل، فهو ينشأ في الواقع عن طريق ما يختاره له النسق من دلالة.
يضيف هابرماس بأن معيارية الأنساق مغلقة وغالبا ما تستعمل رموزا مزدوجة ومصطلحات تُحدِّدُ بها من ينتمي للنسق وَمن لا ينتمي إليه. فنسقية القانون مثلا تمر عبر رمز مزدوج: قانوني/غير قانوني (وماعدا ذلك فهو خارج عن النسق وغير معترفا به).
لذا تعتبر الأنساق قادرة من تلقاء نفسها على ضمان بقاءها الذاتي، ويُجمل تالكوت بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي أربع شروط لذلك: التكيف مع البيئة، توفير التكامل ما بين عناصرها، المحافظة على المنظومة التي تدور في فلكها، تحقيق الإشباع والأهداف المرسومة.
وما نستخلص من هذه الرؤية الجديدة أن عملية تحليل المجتمع كظواهر كلية ( من ابن خلدون إلى بارسونز) لم تعد لها من قيمة تذكر. فمن الوهم الاعتقاد اليوم بأننا سننفلت من قبضة البناء النسقي أو التكهن بالوصول إلى فهم معاني الواقع بطريقة كاملة ومطلقة، لأن عملية الفهم ذاتها تحتاج إلى خبرة يفتقدها الكثيرون. وهي عملية معقدة بعيدة عن ما يحياه ويعيشه الفاعلون.
ومن ناحية ثانية ليست الكليات Totalités في هذا المجال كائنات عضوية ذات مقومات جوهرية لكنها تأملية ووظيفية، والتأملية هنا مجرد تتميم اختياري للأنساق لضمان بقائها، كما أن المنطق العقلي داخلها أصبح وظيفيا وأداتيا.
فمن وجهة نظر الفاعل تحدد وسائل النسق دائما وأبدا توجهات[xix][19]الفعل وأهدافه، وليس من الغريب أن يؤدي ذلك إلى إفراغ المعاني من محتواها، بعدما سيطر النسق على العالم المعيش واستفرد به كليا، وأصبح التفاعل يرزخ تحت متطلبات السوق والبيروقراطية.
ويؤكد لوهمان رائد المدرسة النسقية في علم الاجتماع أن المعايير اليوم لا تستقر إلاّ إذا كانت لصلاحيتها وظيفة مصاحبة لها، يعني ذلك أن المعايير موضوعة من طرف منظومات حتمية تحدد لها وظيفتها بشكل غائي، سواء صدرت عن المشرع أو المنظومات النسقية. فوجودها رهين بتلك الوظيفة، وإذا لم تستجيب بالقدر الكافي لها تلقى في سلة المهملات كأنها لم تكن يوما.
أخذ هابرماس فكرة النسق من صديقه نيكلاس لوهمان (1999 -1927) الذي ربطهما نقاش وجدل استمر حوالي عشرين سنة. فنظرية الأنساق نظرية اجتماعية تمتح أسسها من أعمال ماكس فيبر الذي حاول استقراء مكامن العقلنة في عالمنا الحديث، ووظيفية تالكوت بارسونز الذي حاول دراسة مجالات الفعل الأنساني مقرونة بما تؤديه من أدوار ووظائف.
تظطلع فكرة النسق الاجتماعي بمجالات الفعل الإنساني وقيمه التي تعقلنت لتصبح بنيات مستقلة بذاتها وعلى درجة من التعقيد، إذ لا تخضع إلا لأوامرها التي تعمل على تكريس ديمومتها. وتتمظهر هذه المجالات النسقية المستقلة ذاتيا في القانون والاقتصاد والسياسة، وإن كان نيكلاس لوهمان رائد علم الاجتماع النسقي الوظيفي يوسع من إمكانيات نظريته لتشمل: الفن والسلوكات والموضة والمعمار.
يلاحظ لوهمان في هذا الصدد فراغ المعايير من أي جوهر، فهي أكثر تقنية وشديدة التعقيد لا يفهم مصطلحاتها وحيلها إلا المختصون، تعتمد مساطير بيروقراطية تبرر صلاحيتها. وهذا ما يعني التشكيك كليا في أي تعريف لمعانيها بصفة عضوية وجوهرية أو بصفة قارة ودائمة، فلا معنى للمعايير خارج مدار الاستعمال الوظيفي والسياق الظرفي، كما هو عليه الآن الأمر في أغلب المجتمعات الحداثية.
يرى يورغن هابرماس أن الحد من ذلك والخروج من الأزمة الراهنة يتطلب تقنين العولمة لضبط انشطار الحياة الاجتماعية والانفصام المتزايد بين عالمنا المعيشي والأنساق، ووحدها المعايير القانونية من باستطاعتها أن تسد الفجوة بينهما ولجم عنان الأنساق( السوق، البيروقراطية، التكنوقراطية،..)، لكونها الوحيدة القادرة على إدراج الأنساق في الحياة المعيشية والحفاظ على لحمة المجتمع وإعادة التوازن بينهما.
فالمؤسسة القانونية جد ملتصقة بالحياة اليومية للمواطنين أكثر من مؤسسة أخرى والمؤهلة لضبط الموازين وللتعويض عن هذا الخلل في عالمنا المعيش. لذلك يجب أن يلتجئ الفاعلون إليها كإجراء يوفر عنهم توافق غير ممكن ويكفيهم شر القتال بينهم. فدور القانون في عالمنا المعاصر يجب أن يكون شبيها بالدور الذي قامت به التقاليد والأديان* في الماضي بعد أن أصبح المعتقد حبيس الشأن الخاص لكل إنسان داخل المجتمع الواحد، ناهيك عن اختلاف الملل والنحل وتضارب أو تنافر القيم الأخلاقية بين الأفراد بشكل يستحيل فرض تأويل وحيد لها على الجميع من دون المساس بحقوق الفرد وحريته.
نفهم بما تقدم أن القانون مدعو إلى أن يلعب في نظرية هابرماس دور “المُحول”، فهو يحول المتطلبات المعيارية للفعل التواصلي إلى سلطة إجبارية لمجموع المجتمع وأنساقه الصناعية والمالية والمصرفية والشبكية، يحتكم إليه الفرد ضد الدولة والدولة ضد الفرد. ووحدها المؤسسة القانونية من يتيح وصلا كافيا بين الأنساق وحياتنا اليومية، لأنها تعبر عن الضرورات التي يصيغها الإنسان في خطابه العادي وتطلعاته اليومية إلى لغة تفهمها الأنساق وتنضبط لها.
وتبعا لذلك يُغير القانون هنا من دلالته المعتادة، فمن مجرد أداة للتقنين وضبط العلاقات بين الأفراد وتنظيم مختلف السلطات كما ساد منذ مدة طويلة. يصبح الوسيلة الجديدة التي يعبر بها المجتمع عن فهمه لنفسه وإرادته المستقلة، وبهذا المعنى يتغير مفهوم المواطن من مجرد كائن يخضع لسلطة وينتفع بحقوق في ظلها بالمعنى الليبرالي للكلمة، ليتعرف على نفسه من الآن فصاعدا كذات واعية تشارك في السيرورة التي يفكر من خلالها المجتمع ويقرر لنفسه.
مرد هذا الاحتفال بالمعيارية وإخضاع العالم المعيش والأنساق لديموقراطية تداولية تُخول للفرد وأعضاء الجماعة من المشاركة مناصفة ومن دون ترك أحد على قارعة الطريق، أن المجتمعات الديموقراطية لم تحقق إلا النزر اليسير وبطريقة ناقصة الإمكانات والطاقات الديموقراطية التي يحبل بها القانون الحديث كما اكتشفه روسو.
فشكل الديموقراطية التمثيلية للسلطة السياسية انقلب إلى ترويض للطاقات الديموقراطية وكبح عموم الشعب لصالح نخبة سياسية أوليغارشية. ولقد تعزز ذلك بمقدم دولة العناية الاجتماعية:“Etat-Providence”، عندما تم وضع إواليات وميكانيزمات الضمان الاجتماعي الذي احتكرت الدولة أبوته، والأحزاب السياسية المجال السياسي، مما شجع على انغماس الأفراد في حياتهم الشخصية وعزوفهم المتزايد عن المجال العام وأمور السياسة.
فلقد رفضت الدولة طويلا أن يمارس المجتمع المدني السياسة، وإذا بدا اليوم أن العديد من المؤشرات تؤكد أن هذه الوضعية في طريقها للزوال، فالعداء المتصاعد لاحتكار النخب التكنوقراطية والمحترفين للسياسة وتوسع الممارسات الديموقراطية في مجالات جديدة، كما الصعوبات التي تعاني منها الديموقراطية والدور المتصاعد لأنوية المجتمع المدني وتصاعد حس المواطنة بفعل الظروف الاجتماعية الحديثة، يشير إلى إرادة المواطنين للانفلات من البديل الخاطىْ الذي يريد حصرهم بين أسوار ديموقراطية “تمثيلية“، كشفت بالملموس عن محدوديتها وديموقراطية “مباشرة“ أصبحت مستحيلة التطبيق.
يحاول هابرماس تقديم رؤية موسوعية تركيبية محورها الفلسفة، علم الاجتماع واللسانيات التداولية وفلسفة القانون. يصوغ هذا التركيب الأصيل بديلا جديدا يقوم مقام سرديات فلسفة الوعي بجميع مشاربها كانت ليبرالية أو ماركسية، يطلق عليه الفعل التواصلي الذي تندرج حمولته الفلسفية ضمن العقلانية التنويرية التي تعلي من العقل وتنبذ العنف أو الاحتكام إلى القوة وذلك عندما تصل إلى مستوى عقلانية تواصلية.
وتسعى العقلانية التواصلية إلى ضبط علاقة الفرد بالآخر وإخضاع العلاقات الاجتصادية والسياسية القائمة داخل المجتمع إلى أخلاقيات المناقشة. فالحوار القائم على المساواة ومن دون ضغط أو إكراه، يعد البداية الأولى لحمل المجتمع بكافة طبقاته على جمعنة أو جتمعة Sociabilité (التنشئة الاجتماعية) تُحقق عقدا اجتماعيا يقبله ويحتكم إليه الجميع.
يحاول هابرماس إعادة الثقة في مشروع الحداثة التنويري، بوصفه مشروعا لم يكتمل بعد، وذلك بالكشف عن المسكوت عنه في العالم المعاصر والذي يعتبر الوريث الشرعي لعصر الأنوار والكامن في العقلانية التواصلية القائمة على سلطة الخطاب البرهاني.
وعموما صاغت فلسفة الوعي بشقيها التاريخ كصورة خط متصل من التقدم واعتبرت التاريخ البشري مراحل تكوينية متصلة، فكلا الفلسفتين الليرالية والاشتراكية تمتلكان أفقا موحدا لا يخرج عن فلسفة الوعي، فهي في الأول نزعة ذرية (تقوم على الفرد) وفي الثانية نزعة جمعية كلانية (تقوم على الطبقة)، إلا أن الوعي الذي يبتغي الخلاص في كليهما مرده إلى الذات كانت فردية أو جمعية. وكل منهما خلق تقاسيم مختلفة عن الآخر بالنسبة لمضمون الحرية الإنسانية، فالليبرالية تؤكد على حرية الاختيار لدى الفرد وتجعل من الفرد قيمتها العليا، بينما تتطلع الماركسية أولا وأخيرا إلى إمكانية إنجاز ما قد تختاره الجماعة وخاصة الجموع المحرومة.
إلا أنه من المؤكد أن لا الذات ولا الطبقة قادرين على أن يمتلكان حقيقة مطلقة ولا أن يحلا محل التاريخ. فالادعاء بامتلاك الحقيقة من دون الخلق جميعا ضرب من الحمق والهذيان. وأي حرية بصفة عامة تتضمن إشكالية ما قد نختاره بمحض الرضى أو ما يفرض علينا اختياره بحد الإكراه، غير أن السؤال المركزي الذي نطرحه لكل منهما: فمن جهة، ما هي فائدة الحصول على حق الاختيار إذا لم نكن نتوفر على وسائل تمكننا من تحقيقه؟ ومن جهة أخرى ما قيمة أن أتوفر على الوسائل بدون أن يكون لي حق الاختيار أو أن يفرض على اختيار ما؟
إن خطأ أنظمة الاشتراكية الشمولية تجلى في تضييق على الحريات وحق الاختيار الفردي بحكة أسبقية الجماعة على الفرد والمساواة في الوسائل بين الأفراد، أما في مجتمع التنافس الاقتصادي الليبرالي نلاحظ أن حرية الأغلبية ضيقة جدا في ظل أقلية تحظى بالثروة والنفوذ والحرية. ولا يمكننا أن نسمي ذلك حرية ما دامت مرتبطة فقط بالأقوياء، ونفس الشيء يصدق على المساواة التي قد تمارس في ظل الخضوع وكبت الحريات، فهذه حرية تفتقد الكرامة!
وعلى الرغم من أن فلسفة التواصل النقدية تشير بأصبع الاتهام إلى الليبرالية والاشتراكية، فإن ذلك لا يجب أن يفهم كذلك سقوط هذا النقد في محراب الخصوصية الجماعية والتقاليد ودعاة الإقصاء المذهبي والديني وبائعي الرحمة الربانية بالتقسيط.
فعلى الرغم من الآثار السلبية لعملية التحديث الاقتصادية والإدارية، فإنه لا ينبغي أن ننسى ما كان يعتبر في بداية عصر النهضة جنينيا وهامشيا، يتصارع مع قيم الجهل والمعتقدات البدائية والتقاليد الإقطاعية والحكم الاستبدادي، والذي أصبح اليوم يتمثل في العقلانية التواصلية التي أدت أن يشمل العقل عدة مجالات، مثل إرساء قيم المساواة بين الأفراد واحترام القيم الأخلاقية المختلفة واحترام القانون وصولا إلى بلورة أنظمة ديموقراطية وقوانين ودساتير…
لذلك لا يوافق هابرماس تيار ما بعد الحداثة )فوكو، دريدا، ليوتار…(على الازدراء الذي يكنوه لمشروع الحداثة واستخفافهم بالعقل، بعدما اعتبروا الآثار السلبية للتقنية والبيروقراطية سقوطا لمشروع الحداثة.
بادىْ ذي بدء، يدعو هابرماس إلى الحد من العقلانية الوظيفية التي تمارسها التقنية بكل صلافة، والتي أطبقت سيطرتها على الاقتصاد وتحكمت بيروقراطيتها في الدولة؛ لكي يعود الاقتصاد والدولة إلى وظيفتهما الطبيعية. إذ لا يمكن أن يؤدي الاقتصاد والدولة مهامهما إلا باعتبارهما نسقين متداخلين، فلا يجوز من هذا المنطلق أن يحتكر السوق وحده مهمة إعادة التوازن.
الأمر الذي من شأنه أن يعيد دور السياسة إلى الصدارة بعد أن تهاوت هذه الأخيرة أمام الاقتصاد، وأن يصبح الوعي الجماعي أكثر تفكرا وتأملية تحت تأثير عقلانية تواصلية تستخدم البرهان والحجج في إثبات قضاياها المعيارية.
لذا يجب تنفيذ عقلانية تنويرية وتحديثية في آن وعلى وجه أكمل في مستويات العالم المعيشي الثلاثة: ۱– الثقافـة، ۲– المجتمـع، ۳– الشخصـية.
الأمر الذي سيعطي لا محالة نتائج فعلية وفورية لمشروع الحداثة:
١‘– الاعلاء من التأمل والتفكير العقلاني في الحياة الثقافية على نحو أكثر عمقا.
۲“– تحقيق معيارية كونية تطبق على الجميع بعد أن تصدر من لدنهم وبموافقتهم.
۳‘‘‘– العمل على بلورة تنشئة اجتماعية مولدة للمهارات الفردية وتساعد على النضج الشخصي.
ومن هذا المنطلق، ينقض هابرماس العقلانية الأداتية الخاصة بالتقنية والأنساق التي لا تعرف إلا منطق الحسابية والوظيفية، ويقدم لها بديل العقلانية التواصلية التي تكفل شروط التفاعل السليم والحوار المتبادل، بغية تأهيل الإنسان لحماية عالمه من هدير التقنية على نحو يعيد التوازن بين عالمه المعيش وعالم الأنساق.
وتحدد العقلانية التواصلية الشروط السليمة والكفيلة بامتحان مصداقية ومعيارية أي خطاب يدّعي لنفسه الصلاحيةvalidité على ما عداه من خطابات أخرى منافسة، فهي تمدنا بالوسائل المسعفة لاختبار ادعاءات الصلاحية لأي من القضايا المعيارية المعروضة وتزكيتها فقط، إذا تحقق فيها شرط الكونية الذي يدعو إليه العقل.
وفي هذا الباب، فهو لا يؤمن بقدرة ذات عارفة كتلك التي يقول بها ديكارت للوصول إلى هذه النتيجة ولا قدرة التفكير الميتافيزيقي القائم على الحدس المتعالي لبلوغ ذلك. ويبقى السؤال كيف السبيل إلى ذلك مادام أن لا الذات ولا الوعي قادران على تحقيق ذلك؟
يلتجئ هابرماس أولا إلى الخروج من النموذج الإبستمولوجي الذي ساد في الفكر الإنساني )الذات ـ الموضوع( أو ما يعرف بفلسفة الوعي الذاتي واستبدال الفكر التأملي أو التفكر الذاتي بالتذاوتي، حيث لا يجد الوعي فهما سليما له إلا من خلال قياسه وامتحانه بالشكل الذي يقابله من علاقة ”أنا ـ أنت ”.
إن الضرورة التي تقتضي هذا الاستعراف التذاوتيReconnaissance intersubjective تنبع من اللغة وهي تبزغ من الرصيد الثقافي والاجتماعي الذي يحيط بالفرد المتكلم، ولا تأتي مستوردة من الخارج ولا من علياء السماء، بمعنى أن مفرداتها موجودة قبل أن نوجد، وهي خزان المعارف والتجارب لمن سبقونا. فعندما نتبادل الكلام نلتجىْ إلى معجم نفهمه ويفهمه المتحدث الذي أمامنا، وإلاّ انعدم الاتصال بالصوت والتواصل الاجتماعي بيننا.
معنى ذلك أن هابرماس يستغني وبشكل نهائي عن قدرة الذات ووعيها في افتراض حقيقة مطلقة وغير مشروطة تاريخيا، مهما بلغ نفاذ بصيرتها بل ويعتبرها عاجزة عن تأكيد حقيقة ما. ويشكل ذلك اللبنة الأولى للتخلي عن فلسفة الوعي واستبدالها بفلسفة التواصل، تخضع فيه الحقيقة للتحليلية اللغوية وليس لشروط خارجية.
فما دام أنه لم يعد بوسع أحد الوصول إلى حقائق نهائية وقارة، يجب الاستعاضة عن ذلك باللجوء إلى حقائق متوافق بشأنها، يلعب الحوار دورا مركزيا في بلورتها إن لم يكن السبيل الأخير الذي يمنع التطاحن والتناحر الذي كلف الإنسانية كثيرا.
فبقدر ما يصل المتحاورون إلى الاتفاق يمكن للحوارات عندئذ أن تتواصل وتقترب من الحقيقة، إذ يتخطى الحوار الحقيقي الذاتانية والرأي الذاتي للمشاركين. فاللوغوس لايمكن أن يكون ملكُك أو ملكي، بل يبقى مشترك بين ذاتية المتحاورين، ورهين بالتذاوتية-Intersubjectivité-، وهوما يجعل للحوار فاعلية كبرى، تمكن كل متحاور أن يصل إلى رؤية الحقيقة ومن موقعه الخاص به.
ولا يتمثل مشروع أخلاقيات التواصل هنا في الإقرار بحقيقة مطلقة ولا تسويغ شيىْ قد تم اختياره، بل يتمثل في السعي وراء الوصول على قرار أو اختيار أو تقويم من لدن المتحاورين مناصفة.
لا يدعو هابرماس إلى حقيقة ما أو تبني سردية كبرى بعينها:أخلاقية كانت أو دينية على حساب أخرى، بل يترك إلى المتحاورين تحديد نظم حياتهم بكل حرية. فالحداثة عنده تستقي مشروعيتها لا بالرجوع إلى هذه السردية أو تلك، من قبيل حرية الفرد)الليبرالية (أو تحرير الذات )الماركسية( (…، فهي حكايات أو سرديات انطلقت كلها من عصر التنوير التي كانت غاية المعرفة بلوغ غاية أخلاق–سياسية(.
ينأى هابرماس على فرض حقيقة بعينها، فالعديد من السرديات الكبرى أفلست والكثير من المثل العليا أصبحت اليوم في أعين ورثتها أسمال بالية. لا يعني ذلك أبدا الترويج للنسبية بل يضع هابرماس ضرورة إضفاء شرط الكونية لما قد يصل إليه الفكر العقلاني البشري، كتلك التي تمثلت في قيم العدالة والحرية والاستقلال التي حازت قبول الجميع، وهي محصلة تربوية طويلة بين الأجيال والشعوب، تداخلت فيها الأخلاق بالسياسة، كما التاريخ وعلم النفس وعلوم اللغة…
لذلك يؤمن بتاريخ يكون تاريخ تعددية وبنقاش حر يسمح بفحص خارجي لصلاحيةvaliditéأي قضيةproposition واختبار حقائقية facticitéمادة أي موضوع، وفسح المجال لها لكي تطور ذاتها.
ويعد الفهم التأويلي هنا شكلا من أشكال الحوار، فهو فعل لغوي بالمعنى الأوسع، يحضر فيه كل التراث الثقافي الذي يتصل بمادة الموضوع بوصفه ”لغة” لها وبالمعنى الشامل للكلمة. لقد حان الوقت بالنسبة لهابرماس للتخلص من فلسفة الوعي وبأن يتم البحث عن العقلانية في اللغة باعتبارها الإطار الذي يحدث فيه التواصل الإنساني وباعتبارها خزان تجاربه، وفيها يمارس الإنسان فعله الاجتماعي.
بل تهتم أخلاقيات النقاش بأجرأة سليمة لقواعد الحوار، تحفظ مناصفة لكل مشارك في حوار حقه في التعبير عن رأيه من دون تسلط أو قهر، بمعنى أن نختار ما يناسبنا ونريده في إطار المسالمة والرضا في وجودنا.
كما تلزم الإجرائية طرق تداول الخطاب وكيفية التشاور على مضامينه والبرهنة بالحجج على قضاياه، لكي تصدر الحقيقة من جراء حوار فعلي، تتخاطب فيه العقول وتتحاور ليس بهدف أن ينتصر الواحد منها على الآخر؛ ولكن بغرض الوصول إلى رؤية كونية تفوق الرؤى المحلية لكل منها ويحصل لها الاستعراف بين مجمل الذوات المشتركة في ذلك.
إن انحراف الممارسة التواصلية العادية وفقدان المعنى والاضطراب الذي يطبع السلوك الإنساني الحديث تم بواسطة السيطرة على العالم المعيش من طرف التقنية وإغراقه في مستنقع العقلانية الأداتية والوظيفية. وإذا كانت وظيفة العقلانية تسمح بنمو الإنتاج المادي في الميدان الاقتصادي وتنظيم المجتمع في إطار الدولة. فإن المفارقة التي حدثت، أدت بالأنساق والمنظومات الشبكية التي كانت موجهة لدعم ومساندة الفعل التواصلي في لحم النسيج الاجتماعي إلى استعمار العالم المعيش وتفتيت بناه وإفراغه من محتواه.
ينتقد هابرماس فلسفة الوعي (بشقيها الليبرالي والماركسي) ويرسى منظور فلسفيا جديدا يقوم على التذاوت (أنا ـ أنت) عماده اللغة والتفاعل، ما دام أن الذات في ظل أزمة الوعي الحديث عاجزة عن مخاطبة العالم لوحدها، بل هي مرغمة على الانفتاح على ذوات وطبقات أخرى. يجد هابرماس في نظرية نيكلاس لوهمان الاجتماعية القدرة على وصف ما يمور به عالمنا المعيش من أخطار وما يحيق به من دمار كامن في آلياته تصبح فيه الذات فردا كانت أو طبقة عاجزة عن حل مشاكله. فالعطب والتحلل اللذان أصابا القيم والمعاني المشتركة نتيجة للتعارض القوي بين ما يحياه الفاعلون فعليا والأنساق، استفحل من جراء المنظومات النسقية التي تهيمن على الإنسان المعاصر وعالمه المعيش.
ونتيجة للعكسية التي لحقت المدارج التي كانت تحفظ لحمة العالم المعيش، أصاب العطب أكثر المواضع الحيوية في حياتنا اليومية:
أ– الرجة التي أصابت التقاليد الثقافية )المسؤولة على الوصل بين الخلف والسلف ونقل المعاني والحقائق المتداولة بين أفراد المجتمع(.
ب– الاندماج الاجتماعي )انفراط عقد الجماعة الذي يكفل خصوصا بناء الجماعة والتضامن بين أفرادها(.
ت– التنشئة الاجتماعية أو الجمعنة )التي تصهر على بناء مقومات الهوية الشخصية والجماعية(.
تشتمل حصيلة هذا الاعوجاج على:
-1 اضطراب المعنى وفقدان الشرعية وغياب التوجيه.
-2 الفوضى التي أصابت أواصر التضامن المنفرطة.
-3 عدم الشعور بالمسؤولية وظهور سلوكات مرضية ونرجسية.
فوحدها عقلانية تواصلية تضع أمامها تحقيق التفاهم المتبادل والتفاعل الحواري، يمكن لها أن تساعدنا في بلورة تفاعل اجتماعي يعيد الحرارة في شرايين المجتمع المعطوبة. والعقلانية التواصلية تعد المسلك البديل للمنطق الخانق الذي يعتمر في العقلانية الأداتية:”الغاية تبرر الوسيلة”، وما ترتبت فيه النسقية من تحويل حياتنا إلى حياة من دون طعم أو ذوق.
لذا لا يأنف هابرماس من التأكيد من جديد على مشروع الحداثة، وهو بذلك يعارض بوثوق الشرذمة والانفلاقات العميقة التي أصابت حياتنا من جراء التقنية. وهو يرى بأن مشروع الأنوار ما زال قائما ولن تغني العلموية المتسلطة من الرجوع إليه إذا ابتغينا المقاومة، بل ذهب أبعد ما يكون في تحليله للشروط التي تمكننا من الوصول إلى تفاهم متبادل، بحيث يجب البحث عنه في اللغة باعتبارها الإطار الذي يحدث فيه التواصل اللساني ويمارس من خلاله الإنسان الفعل الاجتماعي.
يحاول هابرماس تأسيس شروط العقلانية بعيدا عن كل تصور ميتافيزيقي لعقل خالص أو وعي مطلق باعتبار أن لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة[xx][20] أو معرفة جوهر الأشياء، لذلك يجنح لنقد شديد لفكرة الذات باعتبارها مالكة الوعي والإرادة، ويستعيض عنها بفكرة التذاوت القائمة على ما يقابلها في تفاعل أنا–أنت، والتي تصبح من خلال الحوار والنقاش العقلاني المنطلق في تأسيس حقائق متوافق بشأنها، بعدما استحال على الوعي الذاتي امتلاك حقيقة واحدة ومطلقة.
وأخيرا يمكن إرجاع ينبوع التوافق إلى رؤية كونية من المحسوب أن تتجسد في مجمل الحكايا الخاصة التي تثبت جدارتها في امتحان البرهان، أي ما يتم القبول به والوصول إليه بين المتحاورين.
تظهر فكرة التذاوتية السليمة ليس بحلول الأنا في أنت أو العكس وإنما يرجى منها تكوين رؤية يكون أفقها التاريخي يشي بمستقبل ما لحاضرنا، وهي لا أقل ولا أكثر من تصنيف شكلي للشروط الضرورية لوجود حيوات ـ غير ممكن استباقها أو التخمين بها ـ لا يجب أن تضيع أو تذهب سدى.
لكن عملية التفاهم هاته (Intercompréhension) تفترض أسسا عقلية، وهي نفس الأفكار المكونة لمفهوم عقلانية عصر الأنوار وفي التراث الفلسفي. فالتواصل الناجح الذي يصل إلى تفاهم المشاركين فيه وإجماعهم إجماعا عقليا يفترض ذات مسؤولة صادقة وذات مصداقية .
فهذه الشروط أو الأسس السابقة على التواصل و المؤسسة كذلك للتفاعل الاجتماعي ليست متعالية (Transcendentale) كما يذهب إلى ذلك أستاذه وصديقه “كارل أتو أبـل” (K.O.Apel) (1922- …)، بمعنى أنها كامنة في بنية قبلية في العقل الخالص ( العقل الناطق) بل في التدوالية اللسانية (Pragmatique) أي لا تظهر إلا مع عملية التواصل نفسها، وهي المحركة لهذه العملية.
ولذلك يدرج يورغن هابرماس شروط الفعل التواصلي(Agir communicationel) في منظومة تجريبية، يطلق عليها اسم التداولية الكونية (Pragmatique universelle)، فهي كونية لأنها تصف معايير كونية وشاملة، وهي تداولية بمعنى ما يتداوله ويستعمله المتفاعلون في نشاطهم الاجتماعي.
نستنتج من ذلك أن المشروع الذي ينادي به هابرماس يرتكز على أن اللغة في نظره حوار بين عقول المتحدثين، تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ الإجماع بصدد القضايا. واللغة هنا جملة قواعد تؤسس للاتصال بين الناس وليست أصواتا تلقى شذرا مذرا، بل إن كل فعل لغوي يندرج ضمن ألعاب لغوية لها منطلقها واستعمالها الخاص، وهي مرتبطة بأنماط حياة (Formes de vie) كما يقول فيتجنشتاين، لذا فإن كلا من الصحة والمصداقية والمعيارية والمسؤولية تهم البعد القيمي للمنطوق وتقديم البرهان على ما تقول، والبينة على من ادعى “كما يقال.
تعد اللغة بوصفها نظاما رمزيا من ضمن المنظومات الرمزية التي يسخرها العقل في استلهامه للخيال أو إدراكه المعقلن، وتلعب دورا فاعلا في فهم الآخر (الغريب منه أو القريب) والأشياء الممكنة (الحدسية منها والمحسوسة) في عوالمنا. فمعرفة العالم وتقاسيمه الاجتماعية يمر خلف إسار اللغة وقواعدها وتراكيبها وعن طريق التداول، فلكل حادث حديث ومتحدث وسياق. ونحن عندما نحاول أن نعبر عن شيء ما قد نصيب فيكون المعنى واضحا، وقد يخوننا التعبير فيكون المعنى غامضا، والمعنى هنا هو الشيء المحدد لمعظم تعبيراتنا الاتصالية. والاتصال عبر المعنى يسمى تواصلا، ولو خلا التواصل من المعاني لانتفى القصد والهدف من اتصال الإنسان باللغة والكلام.
غاية العقل التواصلي أن يجنح العقل الكامن فيه إلى التزاوج والتذاوت المؤدي إلى التفاهم وتداخل الحقائق، فالقول والفعل مرتبطان؛ وليس القول هنا بمعنى التصوير والتمثيل أو البيان. فالتواصل يشير إلى ما يفعله المتكلم بقوله، والغرض القصدي من ذلك هو التفاهم بين الذوات وهنا يرفض أن يبقى مفهوم العقل حبيس فلسفة الوعي القائمة منذ ديكارت على ثنائية الذات والموضوع والخير والشر…الخ.
فمهما بلغ هذا العقل “الديكارتي” من قوة في حسن التفكير ودقة في التحليل، فهو عاجز اليوم عن تصور خلاص لأزمة البشرية. لذا يقترح هابرماس الاستغناء عن الذاتية (Subjectivité) والاستعاضة عن الفكر الأحادي والتأمل المونولوجي بتواصل فكري مزدوج قوامه التذاوتية (Intersubjectivité) مع الآخر وبالآخر، وهو محصلة العلاقة بين أنا وأنت. مما يفسح المجال إلى تواصل مزدوج قائم على الحوار المتبادل في مظهره العقلاني المقرون بسياق لغوي تداولي يعتمد البرهان وأسلوب المحاججة.
فلا العقل المفرد قادر على تحطيم العقبات وتجاوز الإكراهات ولا الطبقة قادرة على تجاوز التاريخ لتحل محله، لذا كانت الدعوة إلى الخروج من العقل المفرد وحقائقه المطلقة إلى العقل المزدوج والحقائق ” المتوافق ” بشأنها، غرضه في ذلك أن تنتفي فلسفة الحقيقة المطلقة أو سلطة القوة لتحل محلها سلطة الاتفاق والتراضي القائم على الاعتراف المتبادل. إن تعذر امتلاكها من أي أحد فينا يجعل من أمر التوافق بشأنها بين الناس معرفة ظرفية ونسبية تتيح للجماعة مراجعتها وتطويرها كلما دعا داع إلى ذلك، فالاتفاق بين الناس أفضل من معرفة الحقيقة المطلقة، حقيقة ظلت متغيرة على الدوام وعلى ممر العصور البشرية.
[1]- Heidegger, M. (1954). Vorträge und Aufsätze, Neske, Pfullingen. (Essais et Conférences, trad. Fr. A. Préau, Paris, Gallimard, 1958. p.10.
[ii][2] – Heidegger,M. (1989). “Überlieferte Sprache und technische Sprache” Erker Verlag, St. Gallen. (“Langue de tradition et langue technique” Trad., fr. et postface M. Haar, édit. Leeber-Hossmann, 1990. p. 19
[iii][3] – Heidegger, M. (1954). Vorträge und Aufsätze, Neske, Pfullingen. (Essais et Conférences, trad. Fr. A. Préau, Paris, Gallimard, 1958. p.10-11.
[iv][4] –Heidegger,M. (1989). “Überlieferte Sprache und technische Sprache” Erker Verlag, St. Gallen. (“Langue de tradition et langue technique” Trad., fr. et postface M. Haar, édit. Leeber-Hossmann, 1990. p. 21
[v][5] – Ibid. P.24-25
[vi][6] – Heidegger, M. (1962). “Die Kehre” (trad. J.Lauxerois et Cl. Roëls, In Questions IV, coll.”Tel” Paris. Gallimard. 1976. p.309.
[vii][7] – يترجم مصطلح<<Techno-science>> عادة ب<<العلم التقني>> وقد فضلنا ترجمته بالتقانية العلمية أو التقنوعلمية تمييزا له عن التقنية اليدويةTechno-artisanale أو الحرفية. ويساعدنا ذلك على نحت مشتقات جديدة كتقانية كوكبية لTechnocosme … الخ .كذلك يؤدي مصطلح التقانية العلمية تمييزا عن مرحلة تاريخية كان فيها العلم يقوم علىالفصل بين النظرية والتجريب وغير متشابك كما هو عليه اليوم مع التقنية.
[viii][8] – Heidegger, M. (1984).Zur Frage nach der Bestimmung des Denkens (L’Affaire de la pensée. Pour aborder la question de sa détermination). Trad, fr. et notes d’A. Schlid, (ed). T.E.R., 1990.p.22.
[ix][9] – Heidegger, M. (1954). Was heisst Denken? Niemeyer, Tübingen. Trad.fr. A. Becker et G. Granel. Qu’appelle-t-on penser? Paris. P.U.F. 1959. p.93.
[x][10] – -Heidegger, M. (1986). Sein und Zeit, 16. Aufl., Niemeyer, Tübingen. (Etre et Temps, trad. Fr. Vezin, Paris, Gallimard, 1986; trad. E. Martineau, Authentica, 1985). P.
[xi][11] – Marx, K. (1965). Œuvres, Le Capital. Vol.I. Paris, La Pléade. Gallimard. P.997
[xii][12] – 12- Marx, K. Engels, F. (1973). Lettres sur les sciences de la nature. Paris. Ed. Sociales. P.124.
[xiii][13] –1arx, K. (1965). Œuvres, Le Capital. Vol.I. Paris, La Pléade. Gallimard. P.998
[xiv][14] Habermas. J. (1988). Le discours philosophique de la modernité. Paris. Gallimard. P.8
[xv][15] –Luhmann, N( 1985 ). A Sociological Theory of law. Transl, E.King and M. Albrow. London and Boston. Routledge and Kegan p.33. يعد نيكلاس لوهمان (1927-1998) زعيم مدرسة علم الاجتماع النسقية وأحد أبرز علماء الاجتماع الألمان المعاصر. اشتهر مع هابرماس بوضعه أسس علم الاجتماع التواصلي.
[xvi][16] – Husserl, E.(1945).The Crisis of European Sciences and Transcendental phenomemology. London .p 152.
[xvii][17] )- Ibid., p .146
-[xviii][18]إن مصطلح الوسيط (Medium) أو (mitte) بالألمانية يستعمل هنا حسب المعنى الذي أعطاه لها بارسونز (Parsons) رائد علم الاجتماع الوظيفي و كما نجده في نظرية الأنساق اللوهمانية. انظر:
–Luhmann, N. (1981). « Invraisemblance de la communication » In Revue Internationale des sciences sociales. Vol :33. N°1, p.14-139.
–Habermas J. (ٍٍ]1981[,1987). Théorie de l’agir communicationnel. Tome II. Paris. Fayard. p.282 et s
[xix][19] –Habermas, J. (1993) la pensée postmétaphysique. Essais philosophiques .Trad. fr. R. Rochlitz. Paris. Armand Colin. p. 84.
* عندما نتحدث هنا عن الدين، فلسنا نقصد العقيدة أو الإيمان أو التدين، أي علاقة الإنسان الوجدانية والروحية بمايعتبره مقدسا. هذه العلاقة التي تشكل خصوصية وعيه بالكون والطبيعة والمجتمع، وإنما نقصد التجلي العملي النسبي لهذه العلاقة في صور مختلفة من الوعي والممارسات الاجتماعية وخاصة في مجالي السلطة والنظام الاجتماعي.
[xx][20] – (20)- Luhmann, N.(1989). « Le droit comme système social ». In Droit et Société. Trad. fr. M. Van de Kerchove. N° 11-12.Paris. L. G. D. J. p .89.
MODERNITÉ ET LE POST-POSTMODERNISME