-1-
تعود علاقتي بالصديق الأستاذ سالم يافوت إلى نهاية الستينيات. فقد تعرفت عليه في إطار ندوة في موضوع منهجيات قراءة الفكر الإسلامي التي نظمتها الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة في غابة المعمورة.
تطورت معرفتي بالمحتفى به، عندما عينت في مطلع السبعينيات، أستاذا للفلسفة بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء.
كان يهمنا ونحن في بداية عهدنا بالتدريس، أن يكون للفلسفة ودروسها وقيمها مكانة متميزة في برامج التعليم. وزاد من أهمية هذا الطموح فيض الحماس الذي كنا نتحلى به، ويهبنا القوة والاندفاع في الأداء الجاد، وذلك بناء على اقتناعنا الراسخ بأن تدريس الفلسفة يعد أكثر من مناسبة تربوية، إنه أولا وقبل كل شيء موقف من الحياة، ومناسبة ثمينة للتفكير في التاريخ والتقدم.
منذ السبعينيات، توطدت دعائم المودة بيننا. ولأنني أريد أن تكون كلمتي في يوم احتفائنا به إنسانا وباحثا مقتدراً، أريد أن تكون مُقَطَّرة من عبْقِ الذكريات التي كانت بالأمس وقائع ومعطيات، صانعة لنسيج العلاقة التي أقمنا بيننا دون تدبير مسبق، بل لعلنا كنا نخضع -ونحن نقيمها- إلى سجايانا الذاتية وبدون حساب.
أتذكر اليوم، ونحن نستعرض ملامح معينة من سيرته التربوية ومساراته في البحث في سنواتنا الأولى معاً في التعليم، بأسئلتها وقلقها وصعوباتها،.. أتذكر جيدا، ونحن في غمرة حماسنا الذي لم ينقطع، حيث كنا نعاين بدايات بروز ظاهرة المتربصين بالفلسفة ودروسها،الأمر الذي كان يضاعف مسؤوليتنا في الحرص على أن يكون للفسلفة موطن موسع داخل برامج التعليم.. وأتساءل، متى يتاح للفلسفة متسع من الحضور، أمام مواقع التربص المتزايدة بأهلها ودروسها ومكاسبها؟
فوجئت في زمن لاحق بغيابه القسري، ليظل حاضرا بقوة في سنوات غيابه في أعمال جمعيتنا. وبعد عودته إلى العمل واستئنافه لنشاطه المعهود في أنشطة الجمعية، تبين لكافة الزملاء من جيلنا ممن كانوا على صلة به، أن الرجل عاد وهو يحمل في داخله مواقف جديدة من ذاته ومن التاريخ..
وبعد مرور عشر سنوات على لقائنا الأول، وجدنا أنفسنا معا في شعبة الفلسفة في نهاية السبعينيات، أمام مسؤوليات جديدة وبرامج جديدة في العمل، تحتاج إلى كثير من الجهد، وكان عدد طلبة الفلسفة إذ ذاك كبيراً. فزاد حماسنا، ويعرف المهتمون بالدرس الفلسفي في الجامعة نوعية العطاء الذي بلورته جهوده في الكتابة والتدريس. كنا نتعلم ونُعلِّم، ونواجه ندرتنا وصعوبات بانخراطنا ودون تردد في تدريس مواد ومقررات عديدة، كنا نواجه كل ذلك بالتكوين المتواصل الذي يؤهلنا للقيام بالأدوار المنوطة بنا، داخل مدرجات مملوءة بمئات الطلبة. ولعل حرصنا الرامي إلى ترسيخ بعض قواعد الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية، كان يلعب دور العنصر المحفز على بذل الجهود المطلوبة.
لنقف لحظة قصيرة ونتأمل كيف نجح الأخ سالم يافوت، في الجمع بين حقول معرفية متعددة، من البحث في الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، إلى البحث في الفلسفة المعاصرة، ثم إنجاز أطروحة في الفكر الإسلامي، إلى القيام بترجمات شاقة في الفلسفة المعاصرة، فهذه العناصر مجتمعة تظهر مقدار انخراطه المخلص في العمل والإنتاج.
ويبدو لي أن أعماله التي بنى خلال ما يقرب من أزيد من ثلاثة عقود من الزمن تحتاج إلى ندوة فكرية يتم فيها تقييم جهوده وعطاءاته بالصورة التي تبرز حرصه على العمل الجاد، وتؤكد أن دوره في تعليم الفلسفة يدرج دون تردد في أفق المؤسسين لدرس الفلسفة في الفكر المغربي المعاصر.
ولم تنقطع صلتي به طيلة 30 سنة داخل الشعبة، وظل الأخ يافوت ، كما شاهدته لأول مرة وهو يدير نشاط الجمعية في غابة المعمورة 1970، ظل يعمل في شعبة الفلسفة وينجز أطروحته الجامعية، ويعمل على أن يكون له مجرى فكري متنوع، كما حصل في المسار الفكري الذي اختاره، وبذل في مضماره جهودا أثمرت أبحاثه ومصنفاته ومترجماته المعروفة برصانتها في الفكر المغربي المعاصر.
عندما أتذكر بعناية صورته، نمط حضوره، نمط مداخلاته في بداية السبعينيات، ثم أربط هذه الصورة بأشكال حضوره بعدها في ثمانينيات القرن الماضي، وما تلاها من عقود، وأقف على حضوره النوعي وإسهامه النقدي، في مختلف الندوات التي شارك فيها داخل المغرب وخارجه، أتأكد من رسوخ اقتناعه بقيم الفلسفة ومآثرها في الفكر الإنساني، ومن رسوخ اقتناعه أيضا بدورها في فكرنا ومجتمعنا. لكنني أتذكر في الوقت نفسه آدميته ونبله رغم كل ما لحقه من غبن سواء زمن اختفائه القسري، أو في الأزمنة التي واصل فيها عطاءه وإخلاصه للفلسفة وقيمها، أجد نفسي أمام اثنين في واحد، الأول، الباحث المتحمس للعمل، والمرتبط بنظرة متفائلة للتاريخ، و إمكانية التقدم في دروب صناعة مجتمع، قادر على تملك ما يسعفه بتملك مصيره. أما الثاني، فهو الأخ سالم بعد خروجه من غيابه القسري والتحاقه بالجامعة، وما ترسب في ذهنه من سنوات القمع، بل وما رسخ في وعيه سنوات التكوين الجامعي، حيث قلص من تفاؤله، واتخذ صورة الرجل الساخر.
تبدو الصورة الثانية في لحظات صفائه، واطمئنانه لمن معه وحوله. أقول هذا لأن وشائج من القربى الودية الموصولة بيننا دون كلمات، تسمح لي أنا الذي صاحبته قبل الحدث المذكور، ثم رافقته في زمالتنا في الجامعة أزيد من ثلاثين سنة، تسمح لي رسم الصورة التي أحدثكم عنها، كما تسمح لي بالقول إنه رجل من عيار نادر.
صحيح أننا نجد سالم يافوت واحدا في الصورتين، من حيث قدراته على العمل، و من حيث منجزاته في الفكر وفي الكتابة وفي الترجمة، إلا أن تجارب الحياة ومرارة هذه التجارب تحولنا أحيانا إلى كائنات متعددة.
لم يعد الأخ يافوت يتكلم كثيرا، لكنه أصبح يضحك ساخرا بصوت عال، لكن أرجو أن لا تعتقدوا أن صمته بدون كلمات، إنه صمت ناطق بدون كلمات ولعله يفصح عن جوانب من مكنوناته دون كلام، بعد أن حنكته التجارب وبدأ يعاني من تأثير أفعال الزمن.
يحضر سالم يافوت في كل ما سردت من ذكريات، باحثا صبورا قادرا على إنجاز المهمات الفكرية الشاقة، بعناية وتفان وإخلاص. وقد عاين الذين يعرفونه ذلك طيلة سنوات رئاسته للشعبة، كما عاينوه في مسؤولية تأطيره للأبحاث الجامعية، التي أشرف عليها، حيث تضم شعب الفلسفة اليوم في كليات الآداب الجديدة، مجموعة من طلبته، وقد أصبحوا يواصلون العمل مستندين إلى روح التزاماته المعرفية والأخلاقية.
يتيح لي كل ما سبق، أن يتضمن عنوان كلمتي في هذه المناسبة، التي نحتفي فيها بزميل نعده من مؤسسي الدرس الفلسفي في بلادنا، مفردة الزمن الجميل، لأنها تمنحني أحاسيس افتقدها اليوم، في كثير مما يحيط بي، وليسمح لي المحتفى به، أن أختم هذه الكلمات بالتعبير مرة ثانية عن سعادتي الغامرة، وأنا أنخرط في حفل يروم تقديم رسالة في الوفاء لزميل نسي نفسه في غمرة العمل المخلص منذ ما يزيد عن أربعين سنة.
6/1/2012
الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي
تعود علاقتي بالصديق الأستاذ سالم يافوت إلى نهاية الستينيات. فقد تعرفت عليه في إطار ندوة في موضوع منهجيات قراءة الفكر الإسلامي التي نظمتها الجمعية المغربية لمدرسي الفلسفة في غابة المعمورة.
تطورت معرفتي بالمحتفى به، عندما عينت في مطلع السبعينيات، أستاذا للفلسفة بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء.
كان يهمنا ونحن في بداية عهدنا بالتدريس، أن يكون للفلسفة ودروسها وقيمها مكانة متميزة في برامج التعليم. وزاد من أهمية هذا الطموح فيض الحماس الذي كنا نتحلى به، ويهبنا القوة والاندفاع في الأداء الجاد، وذلك بناء على اقتناعنا الراسخ بأن تدريس الفلسفة يعد أكثر من مناسبة تربوية، إنه أولا وقبل كل شيء موقف من الحياة، ومناسبة ثمينة للتفكير في التاريخ والتقدم.
منذ السبعينيات، توطدت دعائم المودة بيننا. ولأنني أريد أن تكون كلمتي في يوم احتفائنا به إنسانا وباحثا مقتدراً، أريد أن تكون مُقَطَّرة من عبْقِ الذكريات التي كانت بالأمس وقائع ومعطيات، صانعة لنسيج العلاقة التي أقمنا بيننا دون تدبير مسبق، بل لعلنا كنا نخضع -ونحن نقيمها- إلى سجايانا الذاتية وبدون حساب.
أتذكر اليوم، ونحن نستعرض ملامح معينة من سيرته التربوية ومساراته في البحث في سنواتنا الأولى معاً في التعليم، بأسئلتها وقلقها وصعوباتها،.. أتذكر جيدا، ونحن في غمرة حماسنا الذي لم ينقطع، حيث كنا نعاين بدايات بروز ظاهرة المتربصين بالفلسفة ودروسها،الأمر الذي كان يضاعف مسؤوليتنا في الحرص على أن يكون للفسلفة موطن موسع داخل برامج التعليم.. وأتساءل، متى يتاح للفلسفة متسع من الحضور، أمام مواقع التربص المتزايدة بأهلها ودروسها ومكاسبها؟
فوجئت في زمن لاحق بغيابه القسري، ليظل حاضرا بقوة في سنوات غيابه في أعمال جمعيتنا. وبعد عودته إلى العمل واستئنافه لنشاطه المعهود في أنشطة الجمعية، تبين لكافة الزملاء من جيلنا ممن كانوا على صلة به، أن الرجل عاد وهو يحمل في داخله مواقف جديدة من ذاته ومن التاريخ..
وبعد مرور عشر سنوات على لقائنا الأول، وجدنا أنفسنا معا في شعبة الفلسفة في نهاية السبعينيات، أمام مسؤوليات جديدة وبرامج جديدة في العمل، تحتاج إلى كثير من الجهد، وكان عدد طلبة الفلسفة إذ ذاك كبيراً. فزاد حماسنا، ويعرف المهتمون بالدرس الفلسفي في الجامعة نوعية العطاء الذي بلورته جهوده في الكتابة والتدريس. كنا نتعلم ونُعلِّم، ونواجه ندرتنا وصعوبات بانخراطنا ودون تردد في تدريس مواد ومقررات عديدة، كنا نواجه كل ذلك بالتكوين المتواصل الذي يؤهلنا للقيام بالأدوار المنوطة بنا، داخل مدرجات مملوءة بمئات الطلبة. ولعل حرصنا الرامي إلى ترسيخ بعض قواعد الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية، كان يلعب دور العنصر المحفز على بذل الجهود المطلوبة.
لنقف لحظة قصيرة ونتأمل كيف نجح الأخ سالم يافوت، في الجمع بين حقول معرفية متعددة، من البحث في الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم، إلى البحث في الفلسفة المعاصرة، ثم إنجاز أطروحة في الفكر الإسلامي، إلى القيام بترجمات شاقة في الفلسفة المعاصرة، فهذه العناصر مجتمعة تظهر مقدار انخراطه المخلص في العمل والإنتاج.
ويبدو لي أن أعماله التي بنى خلال ما يقرب من أزيد من ثلاثة عقود من الزمن تحتاج إلى ندوة فكرية يتم فيها تقييم جهوده وعطاءاته بالصورة التي تبرز حرصه على العمل الجاد، وتؤكد أن دوره في تعليم الفلسفة يدرج دون تردد في أفق المؤسسين لدرس الفلسفة في الفكر المغربي المعاصر.
ولم تنقطع صلتي به طيلة 30 سنة داخل الشعبة، وظل الأخ يافوت ، كما شاهدته لأول مرة وهو يدير نشاط الجمعية في غابة المعمورة 1970، ظل يعمل في شعبة الفلسفة وينجز أطروحته الجامعية، ويعمل على أن يكون له مجرى فكري متنوع، كما حصل في المسار الفكري الذي اختاره، وبذل في مضماره جهودا أثمرت أبحاثه ومصنفاته ومترجماته المعروفة برصانتها في الفكر المغربي المعاصر.
عندما أتذكر بعناية صورته، نمط حضوره، نمط مداخلاته في بداية السبعينيات، ثم أربط هذه الصورة بأشكال حضوره بعدها في ثمانينيات القرن الماضي، وما تلاها من عقود، وأقف على حضوره النوعي وإسهامه النقدي، في مختلف الندوات التي شارك فيها داخل المغرب وخارجه، أتأكد من رسوخ اقتناعه بقيم الفلسفة ومآثرها في الفكر الإنساني، ومن رسوخ اقتناعه أيضا بدورها في فكرنا ومجتمعنا. لكنني أتذكر في الوقت نفسه آدميته ونبله رغم كل ما لحقه من غبن سواء زمن اختفائه القسري، أو في الأزمنة التي واصل فيها عطاءه وإخلاصه للفلسفة وقيمها، أجد نفسي أمام اثنين في واحد، الأول، الباحث المتحمس للعمل، والمرتبط بنظرة متفائلة للتاريخ، و إمكانية التقدم في دروب صناعة مجتمع، قادر على تملك ما يسعفه بتملك مصيره. أما الثاني، فهو الأخ سالم بعد خروجه من غيابه القسري والتحاقه بالجامعة، وما ترسب في ذهنه من سنوات القمع، بل وما رسخ في وعيه سنوات التكوين الجامعي، حيث قلص من تفاؤله، واتخذ صورة الرجل الساخر.
تبدو الصورة الثانية في لحظات صفائه، واطمئنانه لمن معه وحوله. أقول هذا لأن وشائج من القربى الودية الموصولة بيننا دون كلمات، تسمح لي أنا الذي صاحبته قبل الحدث المذكور، ثم رافقته في زمالتنا في الجامعة أزيد من ثلاثين سنة، تسمح لي رسم الصورة التي أحدثكم عنها، كما تسمح لي بالقول إنه رجل من عيار نادر.
صحيح أننا نجد سالم يافوت واحدا في الصورتين، من حيث قدراته على العمل، و من حيث منجزاته في الفكر وفي الكتابة وفي الترجمة، إلا أن تجارب الحياة ومرارة هذه التجارب تحولنا أحيانا إلى كائنات متعددة.
لم يعد الأخ يافوت يتكلم كثيرا، لكنه أصبح يضحك ساخرا بصوت عال، لكن أرجو أن لا تعتقدوا أن صمته بدون كلمات، إنه صمت ناطق بدون كلمات ولعله يفصح عن جوانب من مكنوناته دون كلام، بعد أن حنكته التجارب وبدأ يعاني من تأثير أفعال الزمن.
يحضر سالم يافوت في كل ما سردت من ذكريات، باحثا صبورا قادرا على إنجاز المهمات الفكرية الشاقة، بعناية وتفان وإخلاص. وقد عاين الذين يعرفونه ذلك طيلة سنوات رئاسته للشعبة، كما عاينوه في مسؤولية تأطيره للأبحاث الجامعية، التي أشرف عليها، حيث تضم شعب الفلسفة اليوم في كليات الآداب الجديدة، مجموعة من طلبته، وقد أصبحوا يواصلون العمل مستندين إلى روح التزاماته المعرفية والأخلاقية.
يتيح لي كل ما سبق، أن يتضمن عنوان كلمتي في هذه المناسبة، التي نحتفي فيها بزميل نعده من مؤسسي الدرس الفلسفي في بلادنا، مفردة الزمن الجميل، لأنها تمنحني أحاسيس افتقدها اليوم، في كثير مما يحيط بي، وليسمح لي المحتفى به، أن أختم هذه الكلمات بالتعبير مرة ثانية عن سعادتي الغامرة، وأنا أنخرط في حفل يروم تقديم رسالة في الوفاء لزميل نسي نفسه في غمرة العمل المخلص منذ ما يزيد عن أربعين سنة.
6/1/2012
الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي